![]() |
مناهج أئمة الجرح والتعديل
:بس:
:سل: مناهج أئمة الجرح والتعديل قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (11|82): «ونحن لا ندعي العصمة في أئمة الجرح والتعديل. لكنهم أكثر الناس صواباً وأندرهم خطأً وأشدهم إنصافاً وأبعدهم عن التحامل. وإذا اتفقوا على تعديلٍ أو جرحٍ، فتمسك به واعضض عليه بناجذيك، ولا تتجاوزه فتندم. ومن شذ منهم فلا عِبْرة به. فخَلِّ عنك العَناء، وأعط القوس باريها. فو الله لولا الحفاظ الأكابر لخطبت الزنادقة على المنابر. ولئن خطب خاطبٌ من أهل البدع، فإنما هو بسيف الإسلام وبلسان الشريعة وبجاه السنة وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول r. فنعوذ بالله من الخذلان». قال ابن حجر في نزهة النظر (ص192): «وليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل. فإنه إن عدل أحداً بغير تثبت، كان كالمثبت حكماً ليس بثابت، فيخشى عليه أن يدخل في زمرة "من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب". وإن جرح بغير تحرز، فإنه أقدم على الطعن في مسلم بريء من ذلك، ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عاره أبداً. والآفة تدخل في هذا تارة من الهوى والغرض الفاسد –وكلام المتقدمين سالم من هذا غالباً– وتارة من المخالفة في العقائد». ينبغي لطالب علم الحديث أن يعرف أن العلماء في الجرح والتعديل على أربع مراتب: المتشددون: أبو حاتم الرازي (195-277هـ)، يحيى بن سعيد القطان (120-198 أو 168هـ)، العُقَيْلي (322هـ)، أبو الفتح الأزدي (374هـ)، ابن حِبَّان (في كتابه المجروحين) (354هـ)، أبو نعيم الفضل بن دكين المُلائي (130-219هـ)، عفان بن مسلم الصَفّار (ت220هـ)، ابن خراش الرافضي (يتعنت مع أهل السنة) (283هـ). المعتدلون مع بعض التشدد: البُخاري (194-256هـ)، مُسلم (201-261هـ)، يحيى بن معين (158-233هـ)، أبو زُرعة الرازي (200-264هـ)، النَّسائي (215-303هـ)، علي بن المَديْني (261-234هـ)، مالِك (93-179هـ)، شُعْبة بن الحجاج (82-160هـ)، عبد الرحمان بن مهدي (135-198هـ)، أبو إسحاق إبراهيم الجُوزجاني السعدي (قد يتشدد مع الكوفيين) (259هـ)، أبو الحسن بن القطان الفاسي (قد يتشدد مع المجاهيل) (628هـ)، عثمان بن أبي شيبة (156-239هـ)، ابن حزم الأندلسي (384-456هـ). المعتدلون مع بعض التساهل: محمد الذهلي (172-258هـ)، أحمد بن حنبل (164-241هـ)، أبو داود (202-275هـ)، أبو الحسن الدّارَقَطْني (306-385هـ)، ابن عدي (277-365هـ)، ابن سعد (168-230هـ)، دحيم (170-245هـ)، ابن يونس المصري (281-347هـ)، ابن نمير الكوفي (165-234هـ)، الخطيب البغدادي (392-463هـ)، ابن عبد البر (368-463هـ)، ابن منده (310-395هـ)، سُفيان بن سعيد الثَّوري (97-161هـ)، بقي بن مخلد الأندلسي (201-276هـ)، الذهبي (673-748هـ)، ابن حجر (773-852هـ). المتساهلون: ابن خُزَيْمة (223-311هـ)، ابن حِبَّان (بذكره بكتاب "الثقات" أو بصحيحه) (354هـ)، الحاكم (321-405هـ)، البَيْهُقي (384-458هـ) (وهم تلامذة بعض)، العِجلي (181-261هـ)، أبو عيسى التِّرمِذِي (209-279هـ)، ابن السكن (294-353هـ)، أبو بكر البزّار (215-292هـ)، ابن جرير الطبري (224-310هـ)، أبو جعفر أحمد بن صالح المصري (170-248هـ)، وتلميذه يعقوب بن سُفْيَان الفسوي (277هـ)، أبو حفص بن شاهين (297-385هـ). ========= أهم المراجع لهذا البحث: "ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل" للذهبي (ص158-159). وذكر الذهبي قريباً من هذا في "الموقظة" (ص83). وأشار إلى ذلك ابن ناصر الدين في "الرد الوافر" (ص10)، وابن حجر في "النكت" (ص482). إضافة إلى الاستقراء وإلى الأقوال الكثيرة المتفرقة التي أشرنا لبعضها في كل رجل من هؤلاء. وهذا التقسيم لا يرجع له عموماً إلا عند اختلاف الجرح والتعديل. وقد رسم الحافظ الذهبي في ذلك السبيل الواضح لمن وجد اختلافاً في الكلام على الرجل الواحد من الأئمة النقاد، وكان منهم متشدد وآخر متساهل. فقال في رسالته القيمة "ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل" (172) عن الرواة: «قسم منهم متعنت في الجرح متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ويلين بذلك حديثه. فهذا إذا وثق شخصاً فعض على قوله بناجذيك وتمسك بتوثيقه. وإذا ضعف رجلاً فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه: فإن وافقه ولم يوثق ذاك أحد من الحذاق، فهو ضعيف. وإن وثقه أحد، فهذا الذي قالوا فيه لا يقبل تجريحه إلا مفسراً». قال المعلمي في مقدمة الفوائد المجموعة: «ما اشتهر من أن فلاناً من الأئمة مسهل وفلاناً متشدد ليس على إطلاقه. فإن منهم من يسهل تارة ويشدد تارة، بحسب أحوال مختلفة. ومعرفة هذا وغيره من صفات الأئمة التي لها أثر في أحكامهم لا تحصل إلا باستقراء بالغ لأحكامهم، مع التدبر التام». وعليه : فلا يعني وصف الإمام بالتشديد إهدار تضعيفه ، ولا وصفه بالتساهل إهدار توثيقه ، ولا وصفه بالإنصاف اعتماد حكمه مطلقاً . وإنما فائدة هذه الأوصاف اعتبارها قرينة من قرائن الترجيح عند التعارض. هذا كله في حال أن الرجل الراوي كثير الحديث. وأما إذا كان قليل الحديث فاختلف العلماء على مذاهب: 1) مذهب توثيق المجاهيل، حتى لو كانوا لا يعرفون عنهم شيئاً. وهو مذهب ابن حبان والعجلي وابن خزيمة والحاكم. 2) مذهب توثيق قليل الحديث، من ليس بالمشهور حتى لو لم يكن له إلا حديثٌ واحد. وهو مذهب ابن سعد وابن معين و النسائي والبزّار والطبري والدارقطني. 3) مذهب الجمهور: لا يوثقون أحداً حتى يطلعون على عدة أحاديث له تكون مستقيمة. وبذلك يجزمون بقوة حفظ هذا الراوي. وهو مذهب غالب علماء الجرح والتعديل وبخاصة علي بن المديني والبخاري وأبي حاتم الرازي. 4) مذهب التضييق في هذا والتشديد في ذلك. كما يفعل ذلك ابن حزم وابن القطان الفاسي حتى أنهم قد يجهّلون أناساً من الثقات أو أناساً لا بأس بهم. |
:بس:
:سل: كتب الحديث ومراتبها : قَسَّمَ الشيخ وليُّ الله الدّهلوي –رحمه الله تعالى– في كتابه الشهير "حُجَّة الله البالغة" (1|107): كتب الحديث إلى خمس طبقات. جعل الأولى للصحيحين والموطأ. والثانية للسنن الثلاثة: أبي داود والنسائي والترمذي. والثالثة قال فيها: «والطبقة الثالثة: مسانيد، وجوامع، ومصنَّفات. صُنّفت قبل البخاري ومسلم، وفي زمانهما، وبعدهما. جمعت بين الصحيح والحسن، والضعيف والمعروف، والغريب والشاذ والمنكر، والخطأ والصواب، والثابت والمقلوب. ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار، وإن زال عنها اسم النكارة المطلقة. (قال ابن الصلاح: فلهذا تأخرت مرتبتها –وإن جلَّت لجلالة مؤلّيفيها– عن مرتبة الكتب الخمسة وما التحق بها من الكتب المصنّفة على الأبواب). ولم يتداول ما تفرَّدت به الفقهاءُ كثير تداول. ولم يفحص عن صحَّتها وسقمها، المحدثون كثير فحص. ومنه ما لم يخدمه لغوي ٌّ بشرح غريب، ولا فقيهٌ بتطبيقه بمذاهب السلف، ولا محدّثٌ ببيان مشكله، ولا مؤرّخ بذكر أسماء رجاله. ولا أريد المتأخرين المتعمقين، وإنما كلامي في الأئمة المتقدمين من أهل الحديث. فهي باقية على استتارها واختفائها وخمولها. (فلا يباشرها للعمل عليها والقول بها إلا النحاريرُ الجهابذة الذين يحفظون أسماء الرجال وعلل الأحاديث. نعم ربما يؤخذ منها المتابعات والشواهد). كـ"مسند أبي يعلى" و "مصنف عبد الرازق" و "مصنَّف أبي بكر بن أبي شيبة" و "مسند عبد بن حُميد" و "مسند الطيالسي"، وكتب البيهقي والطحاوي والطبراني. وكان قصدهم جمع ما وجدوه، لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل. والطبقة الرابعة: كتبٌ قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في الطبقتين الأوليين. وكانت في المجاميع والمسانيد المختفية، فنوَّهوا بأمرها. وكانت على ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون، ككثير من الوعاظ المتشدقين وأهل الأهواء والضعفاء. أو كانت من آثار الصحابة والتابعين. أو من أخبار بني إسرائيل. أو من كلام الحكماء والوعاظ، خلطها الرواة بحديث النبي (r) سهواً أو عمداً. أو كانت من محتملات القرآن والحديث الصحيح، فرواها بالمعنى قومٌ صالحون لا يَعرفون غوامض الرواية، فجعلوا المعاني أحاديث مرفوعة. أو كانت معاني مفهومة من إشارات الكتاب والسنة، جعلوها أحاديث مستبدة برأسها عمداً. أو كانت جُملاً شتى في أحاديث مختلفة، جعلوها حديثاً واحداً بنسقٍ واحدٍ. ومظنة هذه الأحاديث: "كتاب الضعفاء" لابن حبان، و "كامل" ابن عدي، وكتب الخطيب، وأبي نعيم، والجوزقاني، وابن عساكر، وابن النجار، والديلمي. وكاد مسند الخوارزمي يكون من هذه الطبقة. وأصلح هذه الطبقة: ما كان ضعيفاً، ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار». ======= كتب الفضائل قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (7|178 مختصراً): «النسائي صنف "خصائص علي" وذكر فيه عدَّة أحاديث ضعيفة. وكذلك أبو نُعيم في "الفضائل"، وكذلك الترمذي في "جامعه" روى أحاديث كثيرة في فضائل علي، كثير منها ضعيف». وقريباً من ذلك في (8|195) مع إضافة ابن عبد البر. وفي موضع آخر منه (7|312): «من الناس من قصد رواية كلّ ما رُوي في الباب، من غير تمييز بين صحيح وضعيف. كما فعل أبو نُعيم في "فضائل الخلفاء"، وكذلك غيره ممن صنَّف في الفضائل. ومثل ما جمعه أبو الفتح بن أبي الفوارس، وأبو علي الأهوازي وغيرهما في "فضائل معاوية". و مثل ما جمعه النسائي في "فضائل علي"، و كذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" في فضائل عليّ وغيره». |
:بس:
:سل: اختلاف المناهج في الحكم على الرجال : قال الترمذي في "العلل": «وقد اختلف الأئمة في تضعيف الرجال كما اختلفوا في سوى ذلك من العلم». كان ابن حِبَّان مُتساهلاً في التعديل، ومتشدداً في الجرح! وكان يوثِّق المجهولين من القدماء الذين ذكرهم البخاري في "تاريخه"، وإن لم يعرف ما روى و عمن روى و من روى عنه. و لكن ابن حبان يشدد، و ربما تعنت فيمن وجد ما استنكره، و إن كان الرجل معروفاً مكثراً. وقد نقل ابن حجر في الميزان (1\14) عن ابن حبان ما يثبت عن نفسه هذا المنهج. ثم انتقده ابن حجر بقوة وبخاصة نظريته في تعديل المجاهيل برواية الثقات عنهم. وابن حبان قد يتساهل في إدراج الراوي المجهول في كتاب "الثقات". ولعله يقصد مجرد العدالة. ولكنه -بالاستقراء- لا يطلق كلمة ثقة إلا على من هو جدير بها كما يظهر. فتوثيقه معتبر إن كان صريحاً. وهو متعنت في الجرح كما تجده في كتابه "المجروحين". وكثيراً من الناس يخطئ فيقول وثقه ابن حبان، مع أن ابن حبان ذكره في كتابه الثقات ولم يوثقه. وقد ظهر لك الفرق الشاسع بين الاثنين. ولكن هذا الخطأ شاع كثيراً حتى صار هو الأصل. أما العجلي فمنهجه مطابق لمنهج ابن حبان في توثيق المجاهيل. و كذلك محمد بن سعد (خاصة مع المدنيين)، وإلى حد ما النسائي وأبو نعيم والبزّار وابن جرير الطبري (خاصة في كتابه "تهذيب الآثار") و آخرون، يوثِّقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابعٌ أو مشاهد، و إن لم يرو عنه إلا واحد و لم يبلغه عنه إلا حديث واحد. وألحق السخاوي: الدارقطني والبزار في توثيق المجهول إذا روى عنه اثنان، كما يفعل ابن خزيمة وابن حبان. أما البزار، فقد عرف تساهله. وأما الدارقطني فقد وجدته كذلك: يوثق أحياناً تابعين مجاهيل قليلي الحديث لم يوثقهم أحدُ قبله. وقليل الحديث إن كان من قدماء التابعين، فهو -إن لم يكن فيه توثيق- بالنسبة للدارقطني بمثابة المجهول أو شبه المجهول. ولذلك اعتبره الذهبي من المتساهلين في بعض أحيانه. قال الذهبي في "الموقظة": «والمتساهلُ كالترمذيِّ، والحاكم، والدارقطنيِّ في بعض الأوقات». وعلى التفصيل: فإنه معتدل مع كثير الحديث، متساهل مع قليل الحديث. يقول المعلمي في "التنكيل": «ينبغي أن يبحث عن معرفة الجارح أو المعدل بمن جرحه أو عدله. فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به، بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً أو حديثاً واحداً، وفيمن عاصره ولم يلقه ولكنه بلغه شيء من حديثه، وفيمن كان قبله بمدة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه. ومنهم من يجاوز ذلك! فابن حبان قد يذكر في "الثقات" من يجد البخاري سماه في "تاريخه" من القدماء، وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه (قال الألباني: يؤيد ذلك أنني رأيته قال في بعض المترجمين عنده : "لا أعرفه، ولا أعرف أباه"! وعلى مثل هذا التوثيق أقام كتابه "الصحيح" المعروف به). ولكن ابن حبان يشدد -وربما تعنت- فيمن وجد في روايته ما يستنكره، وإن كان الرجل معروفاً مكثراً. والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء، وكذلك ابن سعد. وابن معين والنسائي وآخرون غيرهما، يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو مشاهد، وإن لم يرو عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد. فممن وثقه ابن معين من هذا الضرب: الأسقع بن الأسلع، والحكم بن عبد الله البلوي، ووهب بن جابر الخيواني، وآخرون. وممن وثقه النسائي: رافع بن إسحاق، وزهير بن القمر، وسعد بن سمرة، وآخرون. وقد روى العوام بن حوشب عن الأسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد عن عبد الله بن عمرو بن العاص حديثاً، ولا يُعرف الأسود وحنظلة إلا في تلك الرواية. فوثقهما ابن معين! وروى همام عن قتادة بن قدامة بن وبرة عن سمرة بن جندب حديثاً، ولا يُعرف قدامة إلا في هذه الرواية. فوثقها ابن معين! مع أن الحديث غريب، وله علل أخرى. راجع سنن البيهقي (3|248). ومن الأئمة من لا يوثق من تقدمه حتى يطلع على عدة أحاديث له تكون مستقيمة وتكثر، حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي. وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي...». قال المعلمي (1|67): «وكان ابن معين إذا لقي في رحلته شيخاً فسمع منه مجلساً، أو ورد بغدادَ شيخٌ فسمع منه مجلساً، فرأى تلك الأحاديث مستقيمة، ثم سُئِلَ عن الشيخ وثَّقه! وقد يتفق أن يكون الشيخ دجَّالاً استقبل ابنَ معين بأحاديث صحيحة، ويكون قد خلط قبل ذلك أو يخلط بعد ذلك. ذكر ابن الجنيد أنه سأل ابنَ معين عن محمد بن كثير القرشي الكوفي فقال: "ما كان به بأس" (وهو توثيق باصطلاحه). فحكى له أحاديث تُستنكر، فقال ابن معين: "فإن كان هذا الشيخ روى هذا فهو كذَّاب، وإلا فإني رأيتُ حديث الشيخ مستقيماً". وقال ابن معين في محمد بن القاسم الأسدي: "ثقة وقد كتبت عنه". وقد كذّبه أحمد وقال: "أحاديثه موضوعة". وقال أبو داود: "غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة"». قلت: والأسدي هذا كذبه أحمد وأبو داود والدارقطني، وضعفه علماء الحديث كلهم إلا العِجلي! ويظهر أن ابن معين قد اكتفى بسماع أحاديث قليلة عن القاسمي، ومن المحتمل أن القاسمي لم يحدثه بمنكراته عن عمد. وهذا كله من أسباب الاختلاف الكبير الذي نجده أحياناً في أحكام ابن معين على الرجال. وقال المعلمي: «فقد عرفنا في الأمر السابق رأي بعض من يوثق المجاهيل من القدماء إذا وجد حديث الراوي منهم مستقيماً، ولو كان حديثاً واحداً لم يَروِه عن ذاك المجهول إلا واحد. قإن شئت فاجعل هذا رأياً لأولئك الأئمة كابن معين. وإن شئت فاجعله اصطلاحاً في كلمة "ثقة" كأن يراد بها استقامة ما بلغ الموثق من حديث الراوي، لا الحكم للراوي نفسه بأنه في نفسه بتلك المنزلة». وضرب أمثلة كثيرة ثم قال (1|69): «ابن معين كان ربما يطلق كلمة "ثقة"، لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمد الكذب». أما أغلب علماء الحديث فلا يوثقون -في العادة- أحداً حتى يطلعون على عدة أحاديث له تكون مستقيمة، و تكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملَكةً لذلك الراوي. ولذلك تجد البخاري دقيقٌ جداً في أحكامه، وإلا سكت عن الرجل. فإذا جاءك الحكم من البخاري بالتوثيق أو التضعيف فحسبُكَ به. وكذلك كان أبو حاتم شديدٌ في نخل الروايات. فإن لم يجتمع له عدد كافٍ لإصدار حكم على الراوي فإنه قد يسميه شيخاً أو يسكت عنه عادةً. وليس معنى ذلك أنهم لا يوثقون من كان قليل الحديث، لكن المقصود أنهم يحاولون استيعاب ما استطاعوا جمعه من حديثه قبل الحكم عليه. فالمنهج قد يختلف كما شاهدنا عند كثير من العلماء بحسب إكثار الراوي أو إقلاله. وقد يتغير الحكم بحسب مذهبه. فتجد تشدداً عند الحنبلي والشافعي في أحكامه على الأحناف. وانظر ترجمة أبي حنيفة في "تاريخ بغداد" للخطيب أو عند "كامل" ابن عدي، حيث حاول تضعيف أبي حنيفة معتمداً على ما رواه عنه أباء بن جعفر النَّجيرمي الكذاب (قال عنه ابن حبان: فرأيته قد وضع على أبي حنيفة أكثر من 300 حديث). وقد تجد تعنتاً من الحافظ الجُوزجاني الدمشقي في من اتهم بالتشيع، بخاصة من الكوفيين. وبالمقابل نجد الحافظ عبد الرحمن بن يوسف بن خراش (283هـ) (وهو رافضيٌّ من غلاة الشيعة)، يتعنت في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد. كما قد تجد تساهلاً لإبن سعد (صاحب الطبقات وكاتب الواقدي) مع مجاهيل المدنيين مع تشدد مع غيرهم، خاصة أهل العراق. وأغلب مادته من الواقدي المتروك كما ذكر ابن حجر في "مقدمة الفتح" عند ترجمة عبد الرحمن بن شريح. ومن أمثال ذلك تعصب الخطيب البغدادي (436هـ) صاحب "تاريخ بغداد" على الأحناف والحنابلة. قال الحافظ ابن عبد الهادي الحنبلي (ت909هـ) في "تنوير الصحيفة": «لا تَغتَرّ بكلام الخطيب، فإن عنده العصبية الزائدة على جماعةٍ من العلماء كأبي حنيفة وأحمد وبعضِ أصحابه. وتحاملَ عليهم بكل وجه. وصنَّف فيه بعضُهم "السهم المصيب في كَبِد الخطيب"». ونقل العيني الحنفي في "البناية" (1\628) عن ابن الجوزي الحنبلي أنه قال: «والخطيبُ لا ينبغي أن يُقبَل جرحُه ولا تعديلُه، لأن قولَه ونقلَه يدل على قِلَّةِ دين». أما ابن الجوزي (597هـ) فقد كان كثير الأوهام، لذلك وجب ترك ما تفرد به من جرح الثقات. وقد عجِبَ سبطُ ابن الجوزي من جده إذ تابع الخطيب البغدادي، فقال في "مرآة الزمان": «وليس العجَبُ من الخطيب، فإنه طعن في جماعة من العلماء. وإنما العجبُ من الجدِّ كيف سلك أسلوبه وجاء بما هو أعظم!». ولكن السبط هذا جاء بما هو أعظم من جده إذ كان رافضياً، جازاه الله بما يستحق. يقول الشيخ حسان عبد المنان في كتابه "حوار مع الشيخ الألباني" (ص159): «إن ما يجبُ أن يُعلَمَ أولاً أنَّ التصحيح والتضعيف في الحديث أمرٌ اجتهادي. وليس يقومُ في الغالب إلا على التصوُّر وسَبْرِ الطرقِ وسبر أحاديث الراوي. فقد يكون الراوي عند أحمد وأبي حاتم مثلاً مجروحاً، ولا يوافقُه فيه يحيى بن معين والبخاري وغيرُهما. على أن السَّبرَ في مثلِ هذه الأحاديث قد يكونُ عندهم جميعاً، ولكن المقاييس تختلف، والمناهج الأصولية عندهم أحياناً لا تنطبق. بل قد يخرج عن ذلك كله إلى قناعةِ الإمام المحدِّث بضعف أو بتصحيح، دون إبداء بينة واضحة. والأمثلة كثيرة على هذا». وبشكل عام فإن تمييز الرواة الثقات من الضعفاء يتم بإحدى ثلاث طرق (على الأقل): معاصرة الراوي ومشاهدة أحواله واختبار حفظه وسؤال الناس عنه. وواضح أن هذا لا يصلح إلا مع الإدراك والمعاصرة. سبر حديثه ومقارنته مع أحاديث الثقات. وغالب أحكام الرواة مبنية على السبر. الموازنة بين أقوال العلماء في الراوي. وهذا هو عمل المتأخرين كالذهبي وابن حجر وغيرهما. ولكن أن تقول أن هذا تلخيص لحال الراوي، ليس فيه حكم جديد عليه. والمقصود أن من اتفق المتقدمون على تضعيفه، لا يجوز للمتأخر توثيقه. وكذلك من اتفق المتقدمون على توثيقه، لا يجوز للمتأخر تضعيفه. اللهم إلا إذا كان التوثيق غير معتبر (كتوثيق ابن حبان) فيمكن أن يطلق المتأخر حكم الجهالة، كما يفعل ابن القطان. فالقاعدة العامة أنه لا عِبرة بما تفرد به متأخر من حكم. كأمثال ابن حزم الأندلسي (456هـ)، وابن عبد البر (341هـ)، فمن بعدهم، إلا عندما يعتمد على الاستقراء وهو نادر بينهم. |
:بس:
:سل: منهج البخاري : محمد بن إسماعيل البخاري رحمة الله صحيح البخاري ورواته اسم صحيح البخاري كما رجحه ابن حجر: "الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه". ويقال (والله أعلم) أن البخاري (194-256هـ) قد عرض صحيحه على أهم علماء عصره مثل أحمد بن حنبل (241هـ\855م) وابن معين (233هـ\847م) وابن المديني (234هـ\848م)، أي أن البخاري انتهى من تأليف صحيحه عام (232هـ\846م)، ثم أمضى 24 سنة من حياته يرحل في بلاد المسلمين ويُحدّث بصحيحه. وفي كل مدينة يزورها، يجتمع عليه آلاف من الناس يستمعون لصحيحه. وبهذا تعلم أن تشكيكات المستشرقين في احتمال تَغيّر أحاديث البخاري بعد وفاته، هي محض أوهام، لأن صحيحه قد تواتر عنه في حياته، فلو غلط عنه واحد من الرواة فسينكشف ذلك لكل الناس. خلال تلك الفترة الطويلة (24 سنة)، قام البخاري بعدة تعديلات طفيفة في صحيحه، خاصة في أسماء الأبواب. فكل رواية سُمّيت باسم راويها. وذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه "النكت على ابن الصلاح" أن عدد الأحاديث في كل الروايات هو نفسه لم يختلف. وقد سمع منه الصحيح قرابة تسعون ألفاً، ورواه عنه عدد من الرواة الثقات، أشهرهم محمد بن يوسف الفربري (231 - 320هـ\846 - 932م)، وقد سمع الصحيح مرتين: سنة 248هـ وسنة 252هـ. ومنهم إبراهيم بن معقل النسفي (295هـ\907م) و حمّاد بن شاكر النسوي (290 أو 311هـ\923م)، وآخرهم حسين المَحامِلي (330هـ\942م) و منصور بن محمد البزدوي (329هـ\941م). شرط البخاري في صحيحه لم يشترط البخاري ذكر كل حديث صحيح عنده في صحيحه، بل صرح بخلاف ذلك، وقد سأله تلميذه الترمذي عن عدة أحاديث لم يروها في صحيحه فصححها. لكنه جمع في حديثه أصح الأحاديث وفق شروط لم ينص عليها، لكن العلماء حالوا باجتهادهم معرفتها. وذكر ابن حجر في كتابه النكت: أن أكثر هؤلاء الرجال الذين تكلم فيهم من المتقدين يخرج البخاري أحاديثهم غالباً في الاستشهاد والمتابعات والتعليقات بخلاف مسلم، فإنه يخرج لهم الكثير في الأصول والاحتجاج ولا يعرج البخاري في الغالب على من أخرج لهم مسلم في المتابعات. فأكثر من يخرج لهم البخاري في المتابعات يحتج بهم مسلم، وأكثر من يخرج لهم مسلم في المتابعات لا يعرج عليهم البخاري. هل يصح قولنا: احتج به البخاري؟ وهل هذا توثيق؟ أي راوٍ أخرج له الشيخان في صحيحيهما فهو يحتمل أن يكون ذلك في الأصول ويحتمل أن يكون ذلك في الشواهد. ولا بد من الاستقراء لحسم الأمر. فإن قال واحد "إنما أخرجا له في الشواهد"، فلا يصح اعتراض من قال "بل احتجا له في الأصول" حتى يبيّن ذلك الحديث. فإذا بيّن، فالقول قوله، حتى يُثبِتَ الطرفُ الآخر أن لهذا الحديث شواهد ومتابعات، فيَخرجُ الراوي من طَور المحتجّ بهم. وفي كلّ حالٍ فمن المعلومِ أن الشيخان قد يحتجّان بالمليّن حديثه بما علِما أنه من صحيح حديثه. فما عُلِم أن الشيخان قد احتجا به، فهذا يقوّي شأنه ويثبت عدالته، لكنه دون التوثيق الكامل. قال ابن القيم في زاد المعاد (1|364): «وعلّله ابن القطان بمطر الوراق، وقال: "كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعيب على مسلم إخراج حديثه". انتهى كلامه. ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه. كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه. فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة، ومن ضَعَّفَ جميع حديث سيئ الحفظ. فالأُولى طريقة الحاكم وأمثاله. والثانية طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله. وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن. والله المستعان». ونقل الترمذي في العلل الكبير (2|978 حمزة ديب، ص 394 السامرائي) عن شيخه البخاري قوله: «وكل رجل لا أعرف صحيح حديثه من سقيمه، لا أروي عنه ولا أكتب حديثه». من علامات الاستشهاد عند البخاري عبارة "قال لنا". لا يخفى على أحد دقة البخاري في اختياره لمفرداته. وقد احتاط لصحيحه ما لم يحتط لغيره من مصنّفاته. فتراه يقول في صحيحه: "وقال لي علي بن عبد الله" يعني شيخه ابن المديني. وفي تاريخه يقول في القضية الواحدة: "حدثنا علي بن عبد الله". والسرّ في ذلك أنه لا يعبّر في صحيحه بقوله "قال فلان" إلا في الأحاديث التي يكون في إسنادها عنده نظر، أو التي تكون موقوفة، أو التي رواها مُسنَدةً في موضعٍ آخر. وزعم بعضهم أنه يعبّر في ذلك فيما أخذه في المذاكرة أو المناولة. قال ابن حجر: وليس عليه دليل. بل نقل عن شيخه أبو الفضل نقضه لذلك بأنه وجد في الصحيح عدة أحاديث يرويها البخاري عن بعض شيوخه قائلا "قال فلان"، ويورِدَها في موضعٍ آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ. قال ابن حجر في فتح الباري (5|ص3): «وهذه الصيغة هي "قال لنا" يستعملها البخاري –على ما استقرأت من كتابه– في الاستشهادات غالباً، وربما استعملها في الموقوفات». وقال صالح بن سعيد عومار الجزائري في كتابه "التدليس وأحكامه" (ص255): «وباستقرائي للجامع الصحيح، مع ملاحظة المواضع التي استعمل فيها البخاري هذه الصيغة، ثم الاستعانة بكلام الحافظ ابن حجر في توضيحها، تبين لي أن البخاري رحمه الله، استعمل صيغة "قال لنا" غالباً في الآثار الموقوفة، التي يكون ظاهرها الوقف لكنها تحتمل الرفع وليست بصريحة فيه. واستعملها أيضاً –ولكن في مواضع نادرة– لأغراض أخرى كفائدة في إسناد –نحو التصريح بالسماع من مدلس– أو قصورٍ في السند –كوجود راوٍ فيه ليس على شرطه– أو في المتابعات». وقال ابن حجر في الفتح (1|188): «وقد ادعى ابن مندة أن كل ما يقول البخاري فيه "قال لي" فهي إجازة، وهي دعوى مردودة. بدليل أني استقريت كثيراً من المواقع التي يقول فيها في "الجامع": "قال لي" فوجدته في غير الجامع يقول فيها: "حدثنا". والبخاري لا يستجيز في الإجازة إطلاق التحديث، فدل على أنها عنده من المسموع. لكن سبب استعماله لهذه الصيغة: ليفرق بين ما بلغ شرطه وما لا يبلغ». وقال الشيخ عبد العزيز الطريفي: «وإذا قال البخاري: "قال فلان"، وهو من شيوخه، كما حكاه عن هشام بن عمار وعلي بن المديني وعبدالله بن صالح وغيرهم، فيظهر أنه أراد أنه دون شرطه في الصحيح، مع ثبوت الاتصال في هذا الخبر لأن البخاري ليس من أهل التدليس. والله أعلم». ومن هنا سمى الدمياطي: ما يعلقه البخاري عن شيوخه "حوالة". ومثالها حديث المعازف الشهير، الذي علقه البخاري عن شيخه هشام بن عمار، رغم أنه سمعه منه، والسبب هو ضعف حفظ أحد رواة الحديث (عطية بن قيس الشامي). طرق التحمل والأداء عند البخاري: السماع من لفظ الشيخ: لم يفرق البخاري بين قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا. القراءة والعرض على المحدث: رجح البخاري أنه لا فرق بين السماع من العالم والقراءة عليه (العرض) وأنهما متساويان. بمعنى إذا قرئ الرجل على المحدث فلا بأس أن يقول: "حدَّثَني". لا البخاري يرى صحة الرواية بالإجازة المطلقة وإنما يرى صحة الإجازة المقترنة بالمناولة أو المكاتبة. وقد ذكر العلماء للمناولة ثلاثة أنواع هي: 1 – المناولة المقرونة بالإجازة مع التمكين من النسخة والرواية بها صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين. 2 – المناولة مع الإجازة من غير تمكين من النسخة، يرى الفقهاء والأصوليون أنه لا تأثير لها، ولا فائدة فيها بينما شيوخ الحديث يرون لذلك مزية معتبرة. 3 – المناولة المجردة من الإجازة أجازها طائفة من أهل العلم، وصححوا الرواية بها، وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على من أجازها وسوّغ الرواية بها. والإمام البخاري يعتبر النوع الأول فقط. وأما النوعين الآخرين (وما يتفرع عنهما كالإعلام والوصية والوجادة) فهما من توسع المتأخرين بعد عصر الرواية محافظة على بقاء الإسناد. ملاحظة: هناك الكثير جداً من الكتب والرسائل التي كتبت عن منهج البخاري في الحديث والفقه، لكن أنفعها وأكثرها فائدة هي رسالة ماجستير من إعداد الشيخ "أبو بكر كافي" بإشراف الدكتور حمزة عبد الله المليباري طبع دار ابن حزم بعنوان "منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح". سكوت البخاري في كتابه التاريخ عن راو لا يعد توثيقا له قال الألباني في السلسلة الضعيفة (11|#5186): «وجدت عديداً من الرواة جرحهم (البخاري) في كتابه "الضعفاء الصغير" (وهو مخصص عادة للجرح الشديد)، ومع ذلك سكت عنهم في "التاريخ الكبير". فهذا مثلا في المجلد الذي بين يدي أَورد فيه (4|2|106): "نصر بن حماد الوراق، أبو الحارث البجلي، عن الربيع بن صبيح"، وسكت عنه، مع أنه أورده في "الضعفاء" وقال (ص35): "يتكلمون فيه"». وقد يسكت أيضاً عن الراوي الثقة، مثل خالد بن مهران الحذاء، وقد أكثر عنه في صحيحه. متفرقات وفوائد عن البخاري وصحيحه: 1- الإمام البخاري كان من أئمة الفقه المجتهدين. وتبويبه يدل على فقه واسع وذكاء مفرط. وكم من حديث تظنه لا يتعلق بالباب ولكن بعد التأمل تجد أن فيه إشارة ولو بعيدة إليه. لكن هذا التفنن صار سيئة في صحيح البخاري لصعوبة الوصول إلى حديث معين. ولذلك تفوق صحيح مسلم على صحيح البخاري بحسن تبويبه. 2- الإمام البخاري كان لا يحب الحنفية. ولذلك كان حريصاً على إيراد أي حديث يرد على الأحناف إن وافق شرطه. لذلك أي حديث يرد على الأحناف لا تجده في صحيح البخاري لا مسنداً ولا معلقاً، فهو قطعاً ليس على شرطه. وغالباً يكون ضعيفاً. إنظر نصب الراية (1|355). وليس معنى هذا أن البخاري صنف صحيحه للرد على الحنفية، بل هو يرد عليهم في مسائل معدودة خالفوا فيها السنة الصحيحة التي تبين لدى البخاري صحتها. وهي إشارات خفية وبعضها صريحة. وقد سبق الى مثل هذا ، فقوله "قال بعض الناس" أول من استعمله هو الشافعي. ومن أسباب حملة البخاري على الحنفية دون غيرهم من أهل الرأي (كالمالكية)، هو تأثره بشيوخه، وخاصة بالحميدي الذي صنف كتاباً في الرد على الحنفية سمعه منه الكبار (كأبي زُرعة). والسبب الآخَرُ هو انتشار الحنفية في دياره وخصوصا في بلاد ما وراء النهر وفي بلاد خراسان وشدة تعصبهم لمذهب أبي حنيفة. فكان لا بد من الرد عليهم وتنبيههم. ولهذا صنّف "جزء في رفع اليدين" و "جزء في القراءة خلف الإمام". ويُكثر من الاستدلال بابن المبارك، لأنه مُعَظَّمٌ لدى سائر المسلمين من أهل الرأي وأهل الحديث. وكان ابن المبارك عند أهل خراسان هو شيخ الاسلام، وقد كان كذلك رحمه الله. والشاهد أن إشارات البخاري في الرد على أبي حنيفة وأتباعه، تدل على شدة معرفته بالحديث والفقه وتدل على معرفته بدقائق الفقه، على خلاف عادة كثير من المحدثين. 3- أخرج البخاري لعدد من المبتدعة الدعاة في صحيحه، لكن ليس فيما ينشر بدعتهم. فأخرج للخوراج وللمرجئة وللقدرية وللشيعة وللنواصب من الدعاة ومن غير الدعاة. ولكن لا أعلم له حديثاً أخرجه لمبتدع يدعو فيه لبدعته. 4- وشرط البخاري في الرجال أشد من شرط مسلم، وهو أعلم منه بالعلل وبالفقه. وطريقته في العلل بصرية بحتة، وهي طريقة شيخه ابن المديني (إمام العلل). وأحمد ينهج نهجاً وسطاً بين الكوفيين والبصريين. ومسلم خراساني قريب من منهج أحمد (وهو من تلامذة أحمد الملازمين له)، ويحبذ نهج الكوفيين في العلل على نهج البصريين. والمنهج الكوفي يمتاز بالمرونة. وربما يصح أن نطلق عليه المتساهل المتشدد في آنٍ واحد أمام المنهج البصري. وأحياناً يكون المنهج الكوفي أشد، وخصوصاً في الرجال. وإمام المنهج الكوفي هو ابن معين. 5- البخاري قد يروي بالمعنى (وهذا نادرٌ للغاية كما ثبت بالمقارنة وكما أشار الصنعاني في كلامه عن اختلاف أحاديث البخاري ومسلم). ومسلم شديد العناية باللفظ ولا يحدث إلا من أصوله. فإذا اختلف اللفظ بينهما عن نفس الشيخ، كان لفظ مسلم هو الراجح. وقد يكون غير ذلك إن اختلف الشيخ. 6- لا بُدّ من التفريق بين ما علقه البخاري في صحيحه بصيغة جزم (وهو صحيح لكن على غير شرط كتابه)، وبين ما علقه بصيغة التمريض (وهو من نوع الحسن الضعيف الذي يحتمل الصحة إن لم يبين علته)، وبين ما أسنده في كتابه في قسم الأحكام (وهو الصحيح على شرط البخاري). 7- غالب ألفاظ الأحاديث التي انتقدوها على البخاري قد أخرجها بلفظها الصحيح في موضع آخر من كتابه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (ص86)، وهو في "مجموع الفتاوى" (1|256): «ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري. بل كتاب البخاري أجلُّ ما صُنِّف في هذا الباب. والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعِلله، مع فقهه فيه. وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحداً أعلم بالعلل منه. ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثاً اختُلِفَ في إسناده أو في بعض ألفاظه، أن يذكر الاختلاف في ذلك، لئلا يغترَّ بذكره له بأنه إنما ذكره مقروناً بالاختلاف فيه. ولهذا كان جمهور ما أُنكر على البخاري مما صحّحه، يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه. بخلاف مسلم بن الحجّاج، فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه». ثم ضرب أمثلة. 8- وهو أيضاً يتساهل في غير الأحكام تساهلاً خفيفاً مثل باقي أئمة الحديث، كما ثبت لي بالاستقراء وكما أشار إليه بعض الحفاظ. مثال ذلك: حديث الإستخارة في إسناده ضعف يسير وتفرد، ولكنه دعاء في أي حال! ومثاله: حديث من عادى لي ولياً فقد آذنني بالحرب، حديث فيه ضعف بكل شواهده كما بين الذهبي في "الميزان" وابن رجب في "جامع العلوم والحكم". لكن ليس فيه أحكام فقهية، ومعناه حسن. ومثاله: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وهو حديث جميل جداً لكن إسناده فيه ضعف يسير. وغالب ما كان عند البخاري وليس عند أحمد أو عند مسلم فهو حديث فيه علة. وقد تكون العلة غير قادحة إلا أنها تنزله من مرتبة أعلى الصحيح. ذلك أن شرطيهما أسهل بكثير من شرطه، فتأمل. فمن هذا حديث "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. وحديث الاستخارة، فيه عبد الرحمن بن أبي الموال، وفيه كلام. وقد أنكروا عليه حديث الاستخارة هذا. وانظر ما كتبه ابن عدي في الكامل عنه. وحديث "من عادى لي ولياً" غريبٌ جداً. إنظر جامع العلوم والحكم (1|357). قال الحافظ المزي في تهذيب الكمال (26|97): «هو من غرائب الصحيح، مما تفرد به شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. وتفرد به خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال عن شريك». وكلاهما فيه ضعف. وشرط البخاري في أحاديث الأحكام، أنه لا يأخذ إلا الطبقة الأولى في أصل الباب من أصحاب المحدثين الكبار. فيأخذ مالك ومعمر عن الزهري، ويترك الكثير من الثقات ممن حدثوا عن الزهري لكن لم يلازموه طويلاً. وقد تفرد شريك -على لينه- عن عطاء. مع أنه لو كان للحديث أصل لرواه الحفاظ ولتناقلوه فرحوا به، لشدة جماله ولأنه ممن يرفعهم قدراً بين الناس. وقد قال عنه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1\360): «إنه أشرف حديث في ذكر الأولياء». فهذه الأحاديث على التسليم بصحتها، فإنها ليست على شرطه قطعاً. وهو لم يُعَلّقها حتى نقول أنها خارج شرط الصحيح. وقد ترك في الأحكام أصح منها بكثير. فمثل هذه الأحاديث مجرد أمثلة على أن ما يخرجه البخاري في غير الأحكام ليس على نفس شرطه، بل يتساهل. وأرى أن هذا مذهب مقبول منه. والله أعلم. 9- الشائع أن البخاري لم يخرج في صحيحه عن الأحناف. لكن يظهر أن ذلك ليس على إطلاقه، فقد خرّج لمعلى بن منصور وحفص بن غياث (وفي نسبة الأخير لأبي حنيفة خلاف). 10- نقل ابن حجر عن الكرماني قوله: «مع أن البخاري في جميع ما يروده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم. وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة من الشافعي وأبي عبيد وأمثالهما. وأما المسائل الكلامية فأكثرها من الكرابيسي وابن كلاب ونحوهما». أقول: أما نقله في تفسير الغريب عن كبار النحويين كأبي عبيدة والفرّاء، فهذا مقبول لا بأس به، لأن اللغة إنما تكون بالتلقي لا بالاستنباط. وأما أنه يقلد الشافعي في المباحث الفقهية، فهذا باطل. لأن البخاري أحد أئمة الفقه المجتهدين، بل هو من كبار الفقهاء. وقد فضله جماعة على أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. فالإمام البخاري لا يقلد أحداً (لا الشافعي ولا أحمد ولا أبا عبيد ولا غيرهم). وصحيحه -وما تضمنه من أختيارات- يدور فيها مع النص، يخالف فيها الأئمة أو بعضهم. وأما أن يقلد المبتدعة كالكرابيسي وابن كلاب في الاعتقاد، فحاشاه. بل هو على معتقد أهل السنة والجماعة كما يظهر ذلك جلياً لمن قرأ الصحيح في مسائل الإيمان والتوحيد وغيرها. ومن أراد أن يعرف الفرق بين مذهب الإمام البخاري وبين ابن كلاب والكرابيسي وغيرهما، فليقرأ في "درء تعارض العقل والنقل" (1|ص270–276). 11- لا يبالغ البخاري في ألفاظ الجرح والتعديل. إذ يلاحظ تورعه عن استعمال ألفاظ حادة في الجرح. فغالباً ما يقول: فيه نظر، يخالف في بعض حديثه، وأشد ما يقول: منكر الحديث. وكذلك لا يبالغ في ألفاظ التوثيق، بل يكتفي بقول: ثقة، أو حسن الحديث، أو يسكت عن الرجل. |
:بس:
:سل: منهج مسلم نسبه الإمام مسلم عربي أصيل من بني قشير، وهو ليس من الموالي كما يعتقد بعض طلبة العلم اليوم. شرط الإمام مسلم قسم الإمام مسلم مجموع ما أُسند إلى رسول الله r إلى ثلاثة أقسام: 1- روايات الحفاظ المتقنين وقد التزم بتخريج رواياتهم. 2- من ليس موصوفا بالحفظ والإتقان ممن يشملهم اسم الستر والصدق. فهؤلاء يتبع رواياتهم أهل القسم الأول. 3- المتهمون بوضع الحديث ومن الغالب على حديثه المنكر أو الغلط، فهؤلاء يمسك عن حديثهم. وقد بنى مسلم صحيحه بناءً على القسم الأول في الأصول، ثم قد يتبع الحديث بشواهد من القسم الثاني. أما القسم الثالث فلم يذكره في كتابه. وقد تحدث الحازمي في "شروط الأئمة الخمسة" (ص150) عن "معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم". قال: «ولنوضح ذلك بمثال، وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على طبقات خمس، ولكل طبقة منها مزية على التي تليها وتفاوت. فمن كان في الطبقة الأولى فهو الغاية في الصحة، وهو غاية مقصد البخاري. والطبقة الثانية شاركت الأولى في العدالة، غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري، حتى كان فيهم من يُزامله في السفر ويُلازمه في الحضر، والطبقة الثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى، وهم شرط مسلم. والطبقة الثالثة: جماعة لزموا الزهري مثل أهل الطبقة الأولى، غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح، فهم بين الرد والقبول، وهو شرط أبي داود والنسائي». فائدة: نقل مسلم في مقدمة صحيحه الإجماع على أن الإسناد المعنعن -السالم صاحبه من وصمة التدليس- له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعِن والمعنعَن عنه، وإن لم يثبت اجتماعهما -أي إذا أمكن اللقاء فحسب- بشرط أن لا تكون هناك أي قرينة على عدم التقائهما. وهذا إجماع صحيح، ولم تثبت مخالفة البخاري وابن المديني له، كما توهم بعض العلماء. بيان اعتماد مسلم على البخاري وأحمد قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: «لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء». وقال أيضاً: «إنما أخذ مسلم كتاب البخاري فعمل فيه مستخرجاً وزاد فيه أحاديث». وقال الحاكم أبو أحمد: «رحم الله محمد بن إسماعيل الإمام، فإنه الذي ألف الأصول وبَيَّن للناس. وكُلُّ من عَمِلَ من بعده، فإنما أخذه من كتابه. كمسلم، فرق كتابه في كتابه، وتجلَّد فيه حق الجلادة، حيث لم ينسبه إليه». و انظر هدي الساري مقدمة فتح الباري (ص514). لقد استفاد الإمام مسلم الكثير من الإمام البخاري فقد سار على طريقة البخاري في إفراد الأحاديث الصحيحة المسندة دون غيرها، في صحيحه. ولم يكن الإمام مسلم مجرد مقلد للإمام البخاري، بل كان إماماً مجتهداً له آراؤه الخاصة في التصحيح والتعليل والتجريح والتعديل. فنراه في صحيحه يخرج لرواة تركهم البخاري، ويصحح أحاديث أعلها البخاري، ويعل أحاديث صححها البخاري، ويترك رواة روى لهم البخاري. كما استفاد منه في كتابه الكنى. (المزيد من الكلام عن أحمد) مسلم لا يحتج بالوحدان ليس في صحيح مسلم حديث أصل من رواية من ليس له إلا راو واحد أبداً. وليس في صحيح البخاري إلى حديث واحد عن تابعية من الوحدان. منهج مسلم في ترتيب صحيحه من عادة مسلم أن يرتب الروايات في كل باب بحسب صحتها. فيبدأ بأصح العبارات لفظاً وسنداً، ثم يتبعها بالروايات الأخرى التي تشهد لها. وقد تكون تلك الشواهد صحيحة لكن من مخارج أخرى (كاختلاف الصحابي)، أو تكون حسنة الإسناد (كرواية المستور والليّن)، أو تكون ضعيفة ذكرها مسلم للتنبيه عليها (وهذا قليل). وأحياناً يذكر الإسناد فقط ويقول "بنحوه"، ويكون هناك اختلاف طفيف في اللفظ، أو يكون هناك اختصار وإجمال، لكن تبينه الرواية المتقدمة الصحيحة. قال المعلمي في "الأنوار الكاشفة" (ص23): «من عادة مسلم في صحيحه أنه عند سياق الروايات المتفقة في الجملة يقدم الأصح فالأصح. فقد يقع في الرواية المؤخرة إجمال أو خطأ تبينه الرواية المقدمة في ذاك الموضع». وقال: «عادة مسلم أن يرتب روايات الحديث بحسب قوتها: يُقدّم الأصح فالأصح» تبويب صحيح مسلم ليس من صنعه لم يقم مسلم بكتابة عناوين أبواب صحيحه بنفسه كما فعل ذلك غيره. والعناوين التي نعرفها إنما وضعها النووي أو جمعها من علماء قبله. |
:بس:
:سل: منهج أحمد بن حنبل رحمة الله منهج أحمد في توثيق الرجال معتدل، وهو أسهل من ابن معين في التوثيق. قيل ليحيى بن معين (كما في العلل ومعرفة الرجال 1|114): «لو أمسكت لسانك عن الناس فإن أحمد يتوقى ذلك؟ فقال: هو والله كان أشد في الكلام في الرجال، ولكنه هو ذا اليوم يمسك نفسه». الإمام أحمد لم يشترط الصحة في مسنده جاء في خصائص المسند لأبي موسى المديني (ص27): إن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال لأبيه: «ما تقول في حديث ربعي عن حذيفة؟». قال: «الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد؟». قال (عبد الله): «يصح؟». قال: «لا، الأحاديث بخلافه. وقد رواه الحفاظ عن ربعي عن رجل لم يُسمّه». قال (عبد الله): «قد ذكرتَهُ في المسنَد!». فقال (أحمد): «قصدت في المسند الحديث المشهور، وتركت الناس تحت ستر الله. ولو أردت أن أقصد ما صحّ عِندي، لم أروِ هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء. ولكنك –يا بُنَيّ– تعرف طريقتي في الحديث: لست أُخالِفُ ما فيه ضعف، إذا لم يكن في الباب شيءٌ يدفعه». ونقل ابن الجوزي في "صيد الخاطر" من خط القاضي أبي يعلى الفراء في مسألة النبيذ، قال: «إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم». وفي فهرسة ابن خير: «قال عبد الله: هذا المسند أخرجه أبي رحمه الله من سبع مئة ألف حديث. وأخرج فيه أحاديث معلولة، بعضها ذكر عللها، وسائرها في كتاب العلل، لئلا يخرج في الصحيح». وفي "منهاج السنة" لابن تيمية: «وشرطه في المسند أن لا يروى عن المعروف بالكذب عنده، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف». وقال ابن الجزري في "المصعد الأحمد" «وقد عاجلته المنية قبل تنقيح مسنده». قال الشيخ حمزة المليباري في "نظرات جديدة في علوم الحديث" (71): «وكذلك وُجِدت الموضوعات في جملة من الأحاديث التي أمر الإمام أحمد ابنه عبد الله بالضرب عليها، فضرب عليها عبد الله، في حين نسي جملة منها». وهناك رواة صرّح الإمام أحمد بأنّه لا يكتب حديثهم ولا يفرح به، مثل: عبد الرحمن بن زياد الأفرقي و ابن أبي ليلى والليث بن أبي سليم. في حين نجد أنّ لهم روايات في المسند. قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: «لم كرهت وضع الكتب وقد عَمِلتَ المُسْنَد؟ فقال: «عَمِلتُ هذا الكتاب إماماً: إذا اختَلفَ الناسُ في سنّةٍ عن رسول الله r، رُجِعَ إليه». وقال أحمد كذلك: «إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمِئَةٍ وخمسينَ ألفاً (750,000). فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله r، فارجعوا إليه. فإن كان فيه، وإلا ليس بحجة». قال ابن كثير: فاتهُ أحاديث كثيرة جدًّا، بل قيل: إنَّه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في «الصَّحيحين» قريبًا من مئتين.... قال العِرَاقيُّ: ولا يلزم من ذلك أن يكون جميع ما فيه صحيحاً، بل هو أمثله بالنسبة لما تركه، وفيه الضَّعيف. أقول: بل أقر الفقيه الحنبلي ابن الجوزي بأن فيه الموضوع كذلك. أحاديث استنكرها أحمد وهي مروية في مسنده قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري (1|132): «فأما حديث "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان". فقد خرجه أحمد (3|68) والترمذي وابن ماجه من حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعاً. قال أحمد: "هو حديث منكر، ودراج له مناكير"». وقال الحافظ في (2|87): «وفي رواية للإمام أحمد "لا يصلى في شعرن"، وقد أنكره الإمام أحمد إنكارا شديدا». وهذا الحديث في المسند (6|101). قال الحافظ (2|433): «وفي المسند (2|98) من حديث ابن عمر مرفوعا "من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم تقبل له صلاة ما دام عليه". وقد ضعف الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي طالب، وقال: "هذا ليس بشيء. ليس له إسناد"». قال الحافظ (7|42): «عن أبي مجلز عن ابن عمر أن النبي (r) سجد في الركعة الأولى من صلاة الظهر، فرأى أصحابه أنه قرأ {تنزيل} السجدة. خرجه الإمام أحمد (2|83) وأبو داود، ولم يسمعه التيمي عن أبي مجلز... وقال الإمام أحمد: "ليس له إسناد". وقال أيضاً: "لم يسمعه سليمان من أبي مجلز، وبعضهم يقول فيه عن ابن عمر"، يعنى مرسلا». جاء في المنتخب من العلل للخلال (ص50) حديث عمران بن حصين مرفوعا "ما شبع آل محمد من خبز بر". أمر أحمد بالضرب عليه، وهو موجود في المطبوع من المسند (4|441). وكذلك (ص90) حديث أنس: "إن هذا الدين متين". قال أحمد: «هو منكر». وهو موجود في المسند (3|199). وكذلك (ص163) أمر أحمد بالضرب عليه. وهو في المسند (2|202). وهو عند البخاري (6|612 فتح) ومسلم (2917). وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (6|615): «هو من غرائب شعبة». وكذلك (ص191). قال أحمد: «اضرب عليه، فإنه حديث منكر». وهو في المسند (4|154). وكذلك (ص206) قال: «أحاديث الكوفيين هذه مناكير». وهناك أمثلة أخرى ومن كتب أخرى: حديث: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". قال الترمذي في السنن: قال أحمد بن حنبل: «لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد». حديث: "كنّا نعدّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة". قال أبو داود في سؤالاته: قال أحمد: «لا أصل له». أحاديث شرب النبي (r) النبيذ. قال الإمام أحمد: «لا يصح في شرب النبيذ حديث». حديث: "إذا قام إلى صلاة الليل كبر ثم يقول سبحانك اللهمّ وبحمدك ...الحديث". قال الترمذي في السنن: قال أحمد: «لا يصحّ هذا الحديث». ملاحظة: معنى قول بعض الأئمة "استنكر حديثه أحمد"، هي لأن الإمام أحمد غالبا ما يخص خطأ الرواة في الإسناد أو المتن بالنكارة، وإن كانوا من كبار الثقات. وهذه الصيغة ليست بالضرورة جرحاً في الراوي، فالثقة قد يُخطئ ويُستنكر له بعض الأحاديث. انظر كلام طارق عوض الله في مقدمته للمنتخب من العلل للخلال (ص 14-27). حجة النافين لاحتجاج أحمد بالحديث الضعيف لقد اشتهر عن الإمام أحمد أنه قال: «الحديث الضعيف أحبُّ إليَّ من رأي الرجال». وعيّر بعض الناس أهل الحديث بأنهم يبنون اختياراتهم الفقهية بناءً على الأحاديث الضعيفة والباطلة، بدلاً من القياس وفق القواعد الفقهية المتينة. ويرى بعض المحققين أن هذا خطأ على أهل الحديث. فليس هذا نص قوله، ولا هذا مقصوده. جاء في تاريخ بغداد (13|448) وفي كتاب "السنة" المنسوب لعبد الله بن أحمد (1|180) قال: سألت أبي عن الرجل يريد أن يسأل عن الشيء من أمر دينه مما يبتلى به من الأيمان في الطلاق وغيره. وفي مِصْرِهِ قومٌ من أصحاب الرأي ومن أصحاب الحديث لا يحفظون ولا يعرفون الحديث الضعيف الإسناد والقوي الإسناد. فمَن يسأل: أصحاب الرأي أو أصحاب الحديث على ما كان من قلة معرفتهم؟ قال: «يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي. ضعيف الحديث خيرٌ من رأي أبي حنيفة». قال ابن حزم في "الإحكام" (6|226): «صدق رحمه الله. لأن من أخَذَ بما بَلَغهُ عن رسول الله (r) وهو لا يدري ضعيفه، فقد أُجِرَ يقيناً على قصده إلى طاعة رسول الله (r) كما أمره الله تعالى». فهذا جواب الإمام أحمد في مسألة قد يواجهها سائلٌ مضطرٌّ في ظروفٍ لا يجد فيها عالماً بسنة رسول الله (r) يعرف الحديث الصحيح من الحديث الضعيف. ففي هذه الظروف الصعبة فقط، يجيز الإمام أحمد – لِمَن هذه حاله– أن يسأل أهل الحديث الذين تنقصهم المعرفة بالصحيح والضعيف، ولا يجيز له أن يسأل أصحاب الرأي (الذين كذلك وصفهم في السؤال بعدم معرفة الصحيح من الضعيف). هذا والمعروف عن الإمام أحمد شدته على الأحناف لِما حصل أيام الفتنة، فرأى أن يذهب الرجل إلى صاحب حديث أحسن بتقديره من الشيخ الحنفي. أما ما يفعله الإمام الترمذي من سرد الحديث الضعيف وبيان ضعفه وعدم ثبوته، ثم قوله أن العمل عليه، فليس معنى هذا أنه يحتج به. وكيف يحتجُّ بقولٍ يُثْبْتُ بنفسِهِ أن النبي (r) ما قاله؟! بل يقصد أن معنى الحديث صحيح لما يدل عليه القياس وقواعد الشريعة، وقد عمل به فلان وفلان، لكن الحديث لا يصح. أما من قال أن الحديث الضعيف أفضل من رأي الرجال. فنقول إن الحديث إذا لم تثبت نسبته لرسول الله (r) فهو قطعاً من رأي الرجال. وليس هو كالاجتهاد المرتكز على القياس وفق القواعد الفقهية الثابتة، بل هو عادة خطأ من راوٍ أو كذبة من وضّاع أو رأيٍ محض من أحد الرواة. فكيف تستبدل ما هو خير بالذي هو أدنى؟! والمذهب المبني على حديث ضعيف هو بدوره مذهب ضعيف. فنسبة هذا المذهب الرديء إلى الإمام أحمد فيها نظر. ويوضحه ما جاء في مسائل عبد الله (3|1311) قال: سألت أبي عن الرّجُل: يكون له الكتب المصنَّفة فيها قول رسول الله (r) واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصَرٌ بالحديث الضعيف المتروك منها، فيفتي به ويعمل به؟ قال: «لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمرٍ صحيحٍ يسألُ عن ذلك أهل العلم». قلت: فهذا نصٌّ صريحٌ من الإمام أحمد أنه لا يجوز –لمن ليس له بصر بالحديث– أن يعمل به، حتى يسأل من يميز من أهل العلم بين الصحيح والضعيف. أفيُعقَلُ بعد هذا أن نقول عن من يعرف ويميّز بين الصحيح والضعيف في الحديث –مثل الإمام أحمد– أنه يُفتي أمة محمد (r) بحديثٍ ضعيفٍ عنده غير صحيح؟! والصواب أن الضعيف الذي يحتجون به أو يستأنسون به أو يقدمونه على الرأي، هو الحديث الذي لم يتبيّن صوابه ولا خطؤه، وذلك لاحتمال أن يكون قولاً للنبي (r). وقد يطلقون عليه بالضعف أو يطلق عليه المتأخرون بالحسن. وأما ما تبين فيه الخطأ، وثبت أنه قول صحابي أو تابعي وليس قولاً للنبي (r)، فلا يحتج به، ولا مجال لتقديمه على رأيٍ آخر، لتساويهما في الأمر. مع العلم أنه ثبت من خلال الاستقراء أن هذه الأحاديث التي يحتجون بها، هي عند المتأخرين من قبيل الحديث الحسن، هذا إذا لم يأت خلافها. والمتأخرون يحتجون بهذا مطلقاً ويتوسعون فيه حتى لو عارضه حديثٌ صحيح! قال الأثرم: سُئِلَ أبو عبد الله (أحمد بن حنبل) عن عَمْرِو بن شُعَيْب، فقال: «أنا أكتب حديثه وربما احتججنا به، وربما وجس في القلب منه شيء». وقال الأثرم (كما في شرح العلل ص188): «كان أبو عبد الله، ربما كان الحديث عن النبي (r)، وفي إسناده شيء فيأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، مثل حديث عمرو بن شعيب وإبراهيم الهجري. وربما أخذ بالحديث المرسل إذا لم يجيء خلافه». أما المتأخرون فيحسّنون حديث عمرو بن شعيب ويحتجون به مطلقاً. ومثال آخر: قال الدوري في تاريخه (231): «سمعت أحمد بن حنبل وقيل له: "يا أبا عبد الله، ما تقول في موسى بن عبيدة الربذي وفي محمد بن إسحاق؟". فقال: "أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث -كأنه يعني المغازي ونحوها-. وأما موسى بن عبيدة الربذي فلم يكن به بأس، ولكنه حدث بأحاديث مناكير عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. فأما إذا جاء الحلال والحرام، أردنا أقواما هكذا". وقبض على أصابع يديه الأربع». فدل على أنه يُفصّل في أحاديث ابن إسحاق والربذي، فيأخذ به في المغازي والسير وفي المتابعات، وأما إذا تفرد بحكم فقهي فلا يأخذ به. أما المتأخرون فيحسنون تلك الأحاديث ويحتجون بها. وفي ضوء هذه النصوص يمكن القول بأن احتجاج أحمد بتلك الأحاديث الضعيفة التي لم يتبين فيها الخطأ كان على سبيل الاحتياط لاحتمالها أن تكون مما قاله النبي (r)، وليس احتجاجه بها كما يحتج بجميع أنواع الأحاديث الصحيحة وما يقاربها. حجة المثبتين لاحتجاج أحمد بالضعيف قال المثبت: يأخذ الإمام أحمد بالضعيف إذا لم يكن في الباب ما يدفعه، أو لم يكن في الباب غيره. وهذا على تفصيل فيما يبدو بعد استقراء صنيعه. 1) فمثلاً قال عن عبد الرحمن ابن إسحاق الواسطي: «متروك الحديث»، «ليس بشيء. منكر الحديث» (كما في موسوعة أقوال الإمام أحمد 2|317 لأبي المعاطي). ثم احتج به في وضع اليدين تحت أو على السرة، في أثر علي المشهور. * والجواب أن: أثر علي (ر) لم يحتج به الإمام أحمد: جاء في (مسائل أبي داود 220 طارق): «قال: وسمعته سئل عن وضعه، فقال: "فوق السرة قليلاً، وإن كان تحت السرة فلا بأس"». فانظر –بارك الله فيك– لم يقل: «فوق السرة قليلاً، وتحت السرة». فالسنة عنده فوق السرة قليلاً، وقال: «وإن كان تحت السرة فلا بأس». ولو كان أثر علي الذي في سنده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، سنة عنده، لما قال: «فلا بأس». ولقدَّمَه علَى قوله: «فوق السرة قليلاً». فتفكر. ومما يؤيد أنه لم يأخذ بحديثه، أن ابنه عبد الله قال: «رأيت أبي إذا صلى، وضع يديه إحداهما على الأخرى فوق السرة». 2) قال المثبت: وقال أحمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل: «منكر الحديث» (كما في الموسوعة 2|285) ثم أخذ بروايته في الصدقة بوزن شعر المولود (كما نقله عنه ابن القيم في تحفة المودود). * والجواب: قال صالح بن أحمد: قال أبي: «إن فاطمة (ر) حلقت رأس الحسن والحسين، وتصدقت بوزن شعرهما ورقاً». قلت: هذا قول الإمام أحمد. وهل جميع الطرق في سندها عبد الله بن محمد بن عقيل، حتى نقول أن الإمام أحمد أعتمد عليه وأخذ بروايته فقط؟ 3) قال المثبت: قول: «رب اغفر لي، رب اغفر لي» بين السجدتين في حديث حذيفة (ر). فإنه لم يثبت في الباب شيء، حتى روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم أن كان لا يقول شيئاً، و أن طاووساً كان يقرأ القرآن بينهما. وقد أخرج مسلم حديث حذيفة (782) من رواية أبي معاوية وابن نمير وجرير كلهم عن الأعمش بدون ذكر هذا الدعاء. وقد تفرد بذكره حفص بن غياث عن الأعمش دون سائر أصحابه كما عند ابن خزيمة (684). وقد أخذ بهذه الزيادة الإمام أحمد كما في مسائل أبي داود (رقم 240 – طارق): «قال: قلت لأحمد ما يقول بين السجدتين؟ قال: "رب اغفر لي"». * الجواب: هذا صحيح. وجاء في المغني (1|309): «قال رحمه الله: يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي، رب اغفر لي" يكرر ذلك مراراً. والواجب منه مرة، وأدنى الكمال ثلاث». وهذا يدل على أنه صحيح عنده أو حسن، وإلا لما أفتى به. وأخذ به أيضاً: ابن خزيمة والحاكم. وأحمد يتساهل في مثل هذه الأمور. 4) قال المثبت: في مسائل عبد الله (85) عن أبيه قال في التسمية على الوضوء: «لا يثبت عندي هذا، ولكن يعجبني أن يقوله». وفي مسائل أبي داود (30) عن أحمد قال: «إذا بدأ يتوضأ يقول: "بسم الله"». وفيها (31) عن أحمد قال: «ولا يعجبني أن يتركه خطأًً ولا عمداً، وليس فيه إسناد». هذا فيه أخذ بالضعيف. * الجواب: البسملة مطلوبة في الوضوء وفي غيره. والإمام أحمد قد يستدل بعموميات في مثل هذا. 5) قال المثبت: وفي مسائل عبد الله (112) أن أباه نهاه عن كثرة الوضوء، وقال له: «يقال: إن للوضوء شيطاناً يقال له: الولهان». وحديث "الولهان" تفرد به حبيب بن أبي حبيب، وعنه قال أحمد: «ليس بثقة»، «كان يحيل الحديث ويكذب»، «كذاب» (الموسوعة 1|223). وانظر كلام ابن حبان عنه في المجروحين (1|323 #272). * الجواب: هذا الحديث قد رواه الترمذي في جامعه وقال: «وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن قوله». وفي تاريخ ابن معين (رواية الدوري) (3|343) قال: سمعت يحيي يقول: «قد روي سفيان الثوري عن بيان عن الحسن "إن للوضوء شيطان يقال له الولهان". هذا بيان بن بشر». فالظاهر أن الاعتماد على مرسل الحسن البصري. وانظر –بارك الله فيك– قول الإمام أحمد حيث قال «يقال» ولم يقل «قال رسول الله (r)». ولو كان ثابت عنده عن النبي (r) لما قال: «يقال إن للوضوء...». 6) قال المثبت: وفي مسائل أبي داود (1001) عن أحمد: «المرأة تكفن في خمسة أثواب». وحديث تكفين المرأة في خمسة أثواب في المسند (6|380) عن ليلى الثقفية، وفيه مجهول وانظر نصب الراية (2|258). * الجواب: حديث تكفين المرأة في خمسة أثواب، رواه أحمد وأبو داود. قال العظيم آبادي في "عون المعبود شرح سنن أبي داود" (8|434): «قال الحافظ في التلخيص: والحديث أعله ابن القطان بنوح وأنه مجهول –وإن كان محمد بن إسحاق قد قال إنه قارئاً للقرآن–. وداود حصل له فيه تردد: هل هو داود بن عاصم بن عروة بن مسعود، أو غيره. فإن يكن بن عاصم فثقة. فيعكر عليه بأن ابن السكن وغيره قالوا: إن حبيبة كانت زوجاً لداود، فحينئذ لا يكون داود بن عاصم لأم حبيبة عليه ولادة، أي لأنه زوج ابنتها. وما أعله به ابن القطان ليس بعلة. وقد جزم ابن حبان بأن داود هو: ابن عاصم، وولادة أم حبيبة مجازية إن تعيّن ما قاله ابن السكن. وقال بعض المتأخرين: إنما هو ولدته بتشديد اللام، أي قبلته انتهى. قلت: فالحديث سنده حسن صالح للاحتجاج. والله أعلم». قلت: وممن قال بتكفين المرأة بخمسة أثواب: ابن عمر (ر) والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين. وكثيراً ما يفتي أحمد بن حنبل بقول من سبقه من الصحابة والتابعين، إن لم يكن في الباب ما يناقضه، وإن لم يكن دليله ثابتاً. 7) قال المثبت: في مسائل أبي داود (40) قال في اللحية: «يخللها. قد روي فيه أحاديث ليس يثبت فيه حديث». * الجواب: تخليل اللحية من النظافة. 8) قال المثبت: وفيها أيضاً (178) أن: «الحائض لا تقرأ القرآن». وساق حديث: «إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع...». ونقل الشيخ طارق في الحاشية عن الإمام أحمد أنه أنكره. 9) وفي كتاب الترجل للإمام أحمد (ص10 #18): أن الإمام أحمد قال في الاكتحال: «وتراً، وليس له إسناد». أي ليس له إسناد يصح. وإلا فيه عن ابن عباس مرفوعاً من رواية عباد بن منصور المشهورة عن ابن أبي يحيى. 10) وفيه (#69) استدلال الإمام أحمد على كراهة حلق القفا بحديث مرسل. * الجواب: ذلك لأن فيه تشبهاً بالمجوس. 11) قال ابن الجوزي في العلل المتناهية (657): قال أحمد بن حنبل: «ليس في قطع السدر حديث صحيح»، وكان بعد هذا يكره قطعه. * أقول: وهذا حق، وليس من جواب عليه إلا أن أحمد كان يعمل بالضعيف أحياناً. وقد تعقب الشاطبي الإمام أحمد في هذا، كما في الاعتصام (2|16). فهذا منهج مستغرب من الإمام أحمد. فكيف الذي يعرف ويميز بين الصحيح والضعيف في الحديث -مثل الإمام أحمد- يفتي أمة محمد (r) بحديث ضعيف عنده غير صحيح؟ ومن العجيب أن ابن القيم قد تحمس لهذا الرأي فقال في إعلام الموقعين (1|31) (في زعمه بوجوب الأخذ بالحديث الضعيف): «وليس أحدٌ من الأئمة إلا وهو موافقُهُ (أي لأحمد بن حنبل) على هذا الأصل من حديث الجملة. فإنه ما منهم أحدٌ إلا وقد قدَّم الحديث الضعيف على القياس». وهذا باطلٌ ومخالفٌ لما قرره شيخه ابن تيمية، واحتجاج بعض الأئمة مثل مالك والشافعي بأحاديث ضعيف أو مرسلة، قد يكون لقرائن معها (مثل عمل المدينة) أو تكون قد صحت عندهم. وهل من أحد يقبل أن يفتي المسلمين في حديث منكر عنده لا يثبت عن النبي (r)؟ احتجاج أحمد بالصحابة اختلف منهج الإمام أحمد حول الاحتجاج بمذهب الصحابي إن لم يأت خلافه، فأحياناً يحتج به وأحياناً يُعرض عنه. فمثلاً: جاء في مسائل إسحاق بن هانئ (165): «قلت لأبي عبد الله (أحمد بن حنبل): "حديثٌ مرسلٌ عن رسول الله (r) برجالٍ ثبتٍ أحبُّ إليك، أو حديثٌ عن الصحابة أو عن التابعين متصلٌ برجال ثبت؟". قال أبو عبد الله: "عن الصحابة أعجب إلي"». وهذا دليل صريح على أن أحمد يُقدّم قول الصحابي على الحديث المرسل. فلو كان الحديثُ المرسَلُ عنده صحيحاً، لما جاز أن يقدّم أحداً على رسول الله (r). بل الحديث المرسل ضعيفٌ عنده وعند الشافعي وعند أبي حنيفة وعند جمهور العلماء المتقدمين. وهذا التقديم يقتضي أن قول الصحابي حجة إن لم يكن في الباب حديث. لكن جاء في مسائل أبي بكر الخلال (59): أخبرني عبدالله بن أحمد، قال: سمعت أبي يقول: «لا ينظر العبد إلى شعر مولاته»، وكرهه. قال أبي: «وروي عن ابن عباس أنه قال: "لا بأس أن ينظر العبد إلى شعر مولاته"، فكأنه تأول: {أو ما مَلَكَتْ أيْمَانُهُنَّ}. وقال سعيد بن المسيب: "لا تغرنكم هذه الآية التي في سورة النور: {أو ما مَلَكَتْ أيْمَانُهُنَّ}، إنما عنى بها الإماء". لا ينبغي للمرأة أن ينظر عبدها إلى جبينها، ولا إلى قرطها، ولا إلى شعرها، ولا إلى شيء من محاسنها». وجاء في (65): أخبرني محمد بن علي، قال: حدثنا الأثرم،قال: سألت أبا عبدالله عن العبد ينظر إلى شعر مولاته، فقال: «لا ينظر إلى شعر مولاته»، وذكر حديث سعيد بن المسيب. قلت له: فما قوله (تبارك وتعالى) {أو ما مَلَكَتْ أيْمَانُهُنَّ}؟ قال: «يقول: من النساء». قيل لأبي عبد الله: الخصي ينظر إلى شعر مولاته؟ قال: «لا». قيل: الخصي وغير الخصي عندك في هذا سواء؟ قال: «نعم»، وجعل يستعظم ما يستجيز بعض الناس من إدخال الخصيان على نسائهم. وذكرت لأبي عبد الله حديث ابن عباس: "لا بأس أن ينظر إلى شعر مولاته"، فقال: «ابن عباس كان له تأويل في القرآن كثير»، ثم قال: «وهذا من أي وجه هو؟». قلت له: السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس. فقال: «نعم». قلت: أفليس هذا إسناد؟ قال: «ليس به بأس». فهنا رد تفسير حِبر القرآن ابن عباس برأيه من غير حديث ولا رأي صحابي، بل احتج بقول تابعي تلميذ لابن عباس. مما دل على أن قول الصحابي ليس بحجة عند أحمد. والله أعلم. |
:بس:
:سل: منهج أبو عبد الرحمن النسائي رحمه الله بيان اعتدال النسائي وبعده عن التشدد النسائي يعد من المتشددين في التوثيق والتعديل من جهة استعماله بعض العبارات في درجة أرفع مما هي عليه في اصطلاح المتأخرين. مثل عبارة: "ليس به بأس" فإن أكثر الذين وصفهم بها هم ثقات مطلقاً، بل إنه قال في جماعة كبيرة منهم في موضع آخر: "ثقة". وقد ظهر تشدده في إطلاقه عبارة: "ليس بالقوي" وشبهها على جماعة كبيرة من الصدوقين والمقبولين، ما أنه أطلق كثيراً بعض عبارات الجرح الأخرى في رجال هم أخف ضعفاً أو أرفع رتبة مما حكم عليهم به. ولا يمنع اشتهار النسائي بالتشدد في الجرح والتليين أن يتساهل أحياناً في الحكم على بعض الرجال، فقد قال في رشيد الهجري: "ليس بالقوي" مع أنه هالك. وينظر ترجمة جارية بن هرم، والحكم بن عبد الله بن مسلمة الخراساني، وداود بن المحبر، وغيرهم. والله أعلم. فهو إذاً يستعمل عبارات ليس فيها توثيق قوي، في رجال يحتج بهم. ويطلق في صدوقين خفيفي الضبط، ألفاظ يستعملها غيره في المتروكين. لكن لو فهمنا مصطلحاته الحديثية، لوجدنا أنه معتدل في أحكامه. وقد اشتهر بين أهل العلم أن النسائي ينسب إلى التشدد، وهو غير صحيح على إطلاقه كما تبيّن. وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن المعلمي في كتابه "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" (1|66): أن النسائي متساهل في جانب توثيق المجاهيل من القدماء. وقال كذلك: «ومن عادة النسائي توثيق بعض المجاهيل، كما شرحته في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد». وإن كان في مقام آخر من الكتاب نفسه (1|463) وصفه بالتشدد، يعني مع الرواة المشهورين. والحقيقة أن من سبر أحكام النسائي، لوجده يكثر من توثيق كبار التابعين ممن لم يرو عنهم إلا واحد، رغم تأخر زمانه عنهم. مثال على ذلك سعد بن سمرة بن جندب الفزازي. واحتج من يرى تشدد النسائي بقول أبي طالب أحمد بن نصر بن طالب البغدادي الحافظ: «من يصبر على ما يصبر على ما يصبر عليه أبو عبد الرحمن النسائي؟ كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة، فما حدث بها. وكان لا يرى أن يحدث بحديث ابن لهيعة». قلت: قال المزي في تهذيب الكمال: «روى النسائي أحاديث كثيرة من رواية ابن وهب و غيره يقول فيها: عن عمرو بن الحارث، و ذكر آخر: و هو فلان، و ذكر آخر، و نحو ذلك. و جاء كثير من ذلك مبيناً في رواية غيره أنه ابن لهيعة». أقول: هذا مع قول النسائي عن ابن لهيعة: "ليس بثقة"، وهي لفظة تفيد جرح العدالة. فهذه حجة لنا في أن النسائي غير متشدد. واحتج هؤلاء أيضاً بأن النسائي قد ليّن بعض من أخرج لهم البخاري ومسلم. قال محمد بن طاهر المقدسي في "شروط الأئمة الستة" (ص104): «سألت الإمام أبا القاسم سعد بن علي الزنجاني بمكة عن حال رجل من الرواة فوثقه، فقلت: إن أبا عبد الرحمن النسائي ضعفه، فقال: يا بُني إن لأبي عبد الرحمن في الرجال شرطاً أشد من شرط البخاري ومسلم». وشرح الذهبي هذا بأن النسائي قد لين رجالاً احتج بهم الشيخان. لكن ابن كثير اعترض على هذا الحكم بقوله في "اختصار علوم الحديث" (ص25): «وقول الحافظ أبي علي بن السكن وكذا الخطيب البغدادي في كتاب "السنن" للنسائي: "إنه صحيح"، فيه نظر. و "إن له شرطاً في الرجال أشد من شرط مسلِم"، غير مُسَلَّم. فإنه فيه رجالاً مجهولين إما عيناً أو حالاً، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة كما نبهنا عليه في "الأحكام الكبير"». وقال ابن الصلاح في "المقدمة" (ص39): «حكى أبو عبد الله الحافظ أنه سمع محمد بن سعد الباوردي بمصر يقول: كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أن يُخرج عن كل من لم يُجمع على تركه». وهذا كذلك يدل على تساهل من النسائي، ولذلك فقد غلط من قال بأن كل من أخرج له النسائي في سننه فإنه قد احتج به. ففي سننه رواة مجاهيل ورواة جرحهم بنفسه فضلاً عن غيره. عموماً هناك دراسة جيدة حول هذا الأمر، وهي رسالة في خمسة مجلدات لقاسم علي سعد بعنوان "منهج الإمام أبي عبدالرحمن في الجرح والتعديل وجمع أقواله في الرجال". وقد نقلت الكثير من نتائجها بحروفها في هذا البحث. وقد قام الشيخ قاسم سعد بجمع واستقراء كلام الإمام النسائي في الجرح والتعديل ومقارنتها بكلام العلماء. وقد ذكر كل قسم بمفرده، فمن وثقهم النسائي بمفردهم، ومن جرحهم ولينهم بمفردهم، ومن جهلهم بمفردهم. وقال في الخاتمة (5|2321): «فالنسائي -رحمه الله- من النقاد المتبصرين المتوسعين الذين ختم بهم عهد المتقدمين، بل حاز قصب السبق في أهل عصره. وامتاز على أترابه وأقرانه، بالاستقلال والاتساع والدقة. ومازال أئمة النقد من المتأخرين يتوقفون عند قوله استحساناً له واختياراً . ونفَسُهُ في الجرح والتعديل هو نفس المتثبـِّتين المتحرّين من المتقدمين، مع مرونة حسنة. وهو في الجرح أشد منه في التعديل. ولو روعيت الاصطلاحات الخاصة به والعامة عند المتقدمين، لكان أقرب إلى الاعتدال -في التوثيق والتعديل- من التشدد». والمقصود أن ظاهر استعماله لاصطلاحات الجرح والتعديل أنه متشدد. لكن لو روعيت الاصطلاحات الخاصة به، لوجدناه أقرب للاعتدال من التشدد. وهو عين ما ذكرناه أعلاه. اصطلاحات النسائي الحديثية وأكثر عبارات التوثيق والتعديل استعمالاً عند النسائي هي كلمة: ثقة، ثم "ليس به بأس"، ثم "لا بأس به". وقد وضعت العبارتين الأخيرتين في درجة أعلى من درجة: "صدوق" لأن أكثر الذين قال فيهم النسائي: "ليس به بأس" و "لا بأس به" هم ثقات مطلقاً. بل إنه قال في جماعة كبيرة منهم في موضع أخر ثقة. ورغم هذا فإني لا أجرؤ على وضع هاتين العبارتين في وصف كلمة ثقة. وقد قدمت كلمتي: "لا بأس به صدوق" و"صدوق لا بأس به" على "ليس به بأس" و"لا بأس به" لأن كل الذين قال فيهم النسائي العبارتين الأوليين أو إحداهما، قد حكم عليهم في موضع أخر بكلمة: "ثقة". وإطلاق كلمة: صالح في الأصل ينصرف إلى الصلاح في الدين لكن النسائي، وجماعة آخرين قصدوا بها الحكم على الرواية. وقد أشار إلى ذاك الأصل ابن حجر فقال في "النكت على كتاب ابن الصلاح" (2|680): «من عاداتهم إذا أرادوا وصف الراوي بالصلاحية في الحديث قيدوا ذلك فقالوا: صالح الحديث. فإذا أطلقوا الصلاح فإنما يريدون به في الديانة. وقد كان النسائي قليل الاعتناء بوصف الحفاظ، والفقهاء، والعباد، والزهاد، بما عرفوا به من حفظ وفقه، وعبادة، وزهد عند كلامه فيهم جرحاً وتعديلاً. كذلك لم يعتن حالة حكمه على الرجال بذكر ما نسبوا إليه من بدع. فأما كلمة "ليس بالقوي" وما شابهها فإن النسائي يستعملها غالباً في الصدوقين ومن دونهم من أهل العدالة. ورغم كثرة استعمال النسائي لتلك العبارة في الصدوقين والمقبولين، فإنه يريد بها التليين كما يفيد قوله: "ليس بجرح مفسد". ولأنه حكم بها على رجال كثيرين في كتابه المختص بالضعفاء. وهذا ليس مصطلحاً خاصاً بالنسائي، بل هو ما عليه أهل الشأن. قال الذهبي في الموقظة (ص83): «وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم: "ليس بالقوي". يريد بها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت». قال الذهبي أيضاً: «والبخاري قد يطلق على الشيخ: ليس بالقوي. ويريد أنه ضعيف». وقد تقدم في ترجمة سعد بن طريف وغيره أن البخاري وأبا أحمد الحاكم استعملا كلمة: "ليس بالقوي عندهم" في جماعة من المتروكين. والأمر نفسه بالنسبة لكلمة "ضعيف" أو "ضعيف الحديث"، فقد يراد منها مجرد التليين، لكنها تستعمل أيضاً مع الرواة المتروكين. فإذا وصف إمامٌ لأحد الرواة بأنه كذاب، فلا يناقض هذا وصف إمام ثان له بأنه ضعيف. توثيقه للمجاهيل أكثر عبارات التجهيل استعمالاً عند النسائي هي: لا نعلم أحداً روى عنه غير فلان، نحوها، ثم لا أعرفه، ثم ليس بالمشهور، وكذلك مجهول، ثم ليس بمعروف، وكذلك ليس بذاك المشهور، وكذلك ليس بمشهور، وكذلك لا أدري ما هو. وخلاصة القول: إن من اقتصر النسائي على ذكرهم فيمن لم يرو عنه إلا واحد، ومن أفرد فيهم إحدى العبارات التالية: "ليس بالمشهور" و: "ليس بمشهور" و: "ليس بذاك المشهور"، وعامة من أطلق فيهم عبارة: "مجهول"، وغالب الذين قال فيهم: "لا أعرفه"، هم مجهولو العين عنده. ويبدو أنه يستعمل العبارات التالية: "لا أدري ما هو" و: "لا علم له به" و: "ليس لي به علم" في مجهولي الحال. وليست رواية الرجل الواحد عن رجل مستلزمة لجهالة عينه عند النسائي، لأنه لا يتحرج عن توثيق من لم يرو عنه إلا واحد إذا تبينت له ثقته من خلال سبر حديثه، مثل رافع بن إسحاق المدني. والله أعلم. وقد ذكر الذهبي في "الموقظة" أن النسائي وابن حبان يوثقان المجاهيل. قال: «وقولهم: "مجهول"، لا يلزمُ منه جهالةُ عينِه. فإن جُهِلَ عينُه وحالُه، فأَولَى أن لا يَحتجُّوا به. وإن كان المنفردُ عنه من كبارِ الأثبات، فأقوى لحاله، ويَحتَجُّ بمثلِه جماعةٌ كالَّنسائي وابنِ حِباَّن». وقال الذهبي في "الميزان" (4|583) في بعض التابعين: «لا يُعرف، لكن احتج به النسائي على قاعدته». وقال الزيلعي في "نصب الراية" (1|333): «والنسائي وابن حبان وغيرهما يحتجون بمثل هؤلاء، مع أنهم ليسوا مشهورين بالرواية، ولم يرو واحد منهم حديثاً ليس له شاهد ولا متابع حتى يجرح بسببه، وإنما رووا ما رواه غيرهم من الثقات». وقال المعلمي في "التنكيل" (2|164) في كلام له في بعض الرواة: «وتوثيق النسائي معارض بطعن البخاري. على أن النسائي يتوسع في توثيق المجاهيل كما تقدم في "القواعد"». وهذا يدل على تساهله في توثيق المجاهيل، وإن لم يصل لمستوى ابن حبان، لكنه قارب. وحتى الألباني على تساهله، يقر بأن النسائي من المتساهلين في توثيق المجاهيل. سأل أبو الحسن: «نلاحظ من صنيع الحافظ ابن حجر أنه إذا انفرد النسائي –وأحيانا ابن معين– بالتوثيق فإنه يقول: "وثقه النسائي" ويهرب من العهدة، أو يقول فيه "صدوق". ونادراً ما يعتمد توثيقه. وإذا خالف النسائي أحد، فإن الحافظ يجنح للمخالف، سواءاً تعلق الأمر بتوثيق أو تجريح. وكذا يصنع الحافظ مع الدراقطني ومطين وابن عبد البر. فهل هذا لتساهله كما قال الشيخ المعلمي، بأن ابن معين والنسائي ربما وثقا بعض المجاهيل؟». فأجاب الألباني: «النسائي كالعجلي تقريباً في التساهل. فهو يوثق بعض المجاهيل، ولكنه لا يكثر من ذلك. فإذا انفرد النسائي بالتوثيق، فإننا إلى الرواة وصفاً وعدداً وكذلك من أخرج لهذا الراوي محل البحث ممن عرف بالانتقاء أو التشدد. وكذا ننظر في علو الطبقة ونزولها، وغير ذلك من القرائن». منهجه في السنن قال الحافظ ابن رجب في "شرح علل الترمذي" عن سنن النسائي: «تجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث، بدأ بما هو غلط، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له». وهذا تجده في السنن الكبرى أكثر من الصغرى. وهذه الملاحظة من الحافظ هي في غاية الأهمية، لأن منهج النسائي في الترتيب هو بعكس منهج مسلم. لذلك قال المعلمي في "الأنوار الكاشفة": «عادة مسلم أن يرتب روايات الحديث بحسب قوتها: يُقدّم الأصح فالأصح». وللفائدة: زوائد النسائي على الصحيحين لسيد بن كسروي حسن، تبلغ 3227 وزوائد النسائي على الصحيحين وعلى الترمذي وأبي داود حوالي 2400 حديثاً. وهو أصح السنن وأكبرها. تشيع النسائي و النّسائي هو أحمد بن شعيب: فارسي ولد في فارس ببلدة نساء. وقد قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (14|133): «فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي كمعاوية وعمرو». وعلى أية حال فتشيع النسائي كان خفيفاً لا يترتب عليه تبديع، وليس فيها طعن في العدالة. بل قد انتسب إليه بعض أهل السنة. وقد أنكر أهل السنة على النسائي أنه كتب كتاباً في فضائل علي t دون أن يذكر الشيخين. وقد اعتذر عن ذلك بأنه كتبه للنواصب فقط! والغريب أنه كتب فيه الكثير من الأحاديث الضعيفة. قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (7|178): «النسائي صنف "خصائص علي" وذكر فيه عدَّة أحاديث ضعيفة». ثم إنه اضطرّ –تحت وطأة ضغوط أهل السنة– إلى تصنيف "فضائل الصحابة"، لكنه لم يذكر فيه الأحاديث في فضل معاوية t. فقيل له ألا تخرج فضائل معاوية t؟ فقال: «أي شيء أخرج؟ حديث اللهم لا تشبع بطنه؟». فسكت السائل. قلت: والعجيب أن النسائي قد فهم هذا الحديث على أنه مذمة مع أن النسائي معدود من الأكلة المشهورين. فلا أكاد أقرأ له ترجمة إلا ويذكرون بها ولعه بالنساء والطعام. فقد ذكر المِزِّي على سبيل المثال في تهذيب الكمال (1|337): «وكان يكثر الجماع مع صوم يوم وإفطار يوم. وكان له أربع زوجات يقسم لهن. ولا يخلو مع ذلك من جارية واثنتين يشتري الواحدة خامسيه ونحوها، ويقسم لها كما يقسم للحرائر. وكان قوته في كل يوم رطل خبز جيد يؤخذ له من سويقة العرافين لا يأكل غيره كان صائماً أو مفطرا. وكان يكثر أكل الديوك الكبار تشترى له وتُسَمّن ثم تذبح فيأكلها، ويذكر أن ذلك ينفعه في باب الجماع!!». ثم إنه ذهب مرة إلى دمشق، فسئل بها عن معاوية وما جاء في فضائله، فقال: «لا يرضى رأساً برأس حتى يفضل؟». فضربه أهلها تعزيراً له، ثم خرج منها وتوفي في الرملة. كل هذا يظهر أنه كان عنده تشيع، لكن ذلك محل شك عندي. فإن له أقوالاً أخرى يثبت فيها فضائل معاوية ويترضى عنه. قال الحافظ أبو القاسم: «وهذه الحكاية لا تدل على سوء اعتقاد أبي عبد الرحمن في معاوية بن أبي سفيان. وإنما تدل على الكف في ذكره بكل حال». ثم روى بإسناده: سئل أبو عبد الرحمن النسائي عن معاوية بن أبي سفيان صاحب رسول الله r، فقال: «إنما الإسلام كدار لها باب. فباب الإسلام الصحابة. فمن آذى الصحابة، إنما أراد الإسلام. كمن نقر الباب، إنما يريد دخول الدار. فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة». فهو إذاًَ لم يرَ من الحكمة أن يحدث النواصب بفضائل معاوية t فيزيدهم تمسكاً ببدعتهم. وكذلك لا يصح تحديث الشيعة بفضائل علي t، ولا الخوارج بأحاديث الوعيد، ولا المرجئة بأحاديث النجاة. وقد ظن بعض المعاصرين أن النسائي يضعّف هذه الأحاديث، وليس ذلك بسديد. فقد أخرج في "فضائل الصحابة" أحاديث أضعف من هذه الأحاديث التي أخرجناها في فضائل معاوية. فتأمل ذلك وتدبره يا رعاك الله. هل مجتبى النسائي من تأليفه؟ كتاب النسائي هو "السنن الكبرى"، وهو عدّة روايات استعمل منها المزّي في "التحفة" تسع روايات. وقد طبع الكتاب في دار الكتب العلمية (الحرامية)، 1991، بتحقيق: الدكتور عبد الغفار البنداري، وسيد كسروي، وهي طبعة ملفقة من عدّة روايات. وفيها من التصحيف والتحريف والسقط ما لا يخفى على أدنى طالب علم. وكتاب "المجتبى" –الذي طبع قديماً وهو المشهور المتداول، وإليه العزو عند الإطلاق– قيل أنه ليس من اختيار النسائي، بل هو من اختيار تلميذه أبي بكر أحمد بن محمد بن السني. نصّ على هذا الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (3|940)، وفي "السِّير" (14|131). فيما اعتبر ابن الأثير في "جامع الأصول" (1|196) أن المجتبى من اختيار النسائي، وأنّه أهدى السنن لأميرٍ فقال: «أصحيح كلّه؟». قال: «لا». قال: «فاكتب لنا منه الصحيح»، فجرّد المجتبى. وقد ردَّ الذهبي هذا في "السير " (14|131) فقال: «هذا لم يصحّ. بل المجتبى اختيار ابن السني». قال الدكتور فاروق حمادة (69): «وأما الجانب الآخر فيرى أن المجتبى هو من صنع النسائي نفسه من السنن الكبرى، وابن السني مجرد راوية له. ويقف في هذا الجانب فريقٌ كبيرٌ جداً من الأعلام والمحدّثين. وهو المعروف المشهور بين الناس. وهو الرأي الذي أصوّبه وأرتضيه، لدلائل عديدة. منها: 1- لم يقدم لنا الذهبي دليلاً على قوله هذا الذي جاءنا به، لا نقلاً ولا استنباطاً. وإن كان هو من الأعلام، لكنه خولف. والوهم لا يخلص منه إنسان. 2- وجود مثبتات على ذلك: ما نقله ابن خير الإشبيلي المتوفى سنة 575هـ بسنده عن أبي محمد بن يربوع قال: قال لي أبو علي الغساني رحمه الله: كتابي "الإيمان والصلح" ليسا من المصنف، إنما هما من المجتبى له -بالباء- في السنن المسندة لأبي عبد الرحمن النسائي، اختصره من كتابه الكبير المصنَّف. وذلك أن أحد الأمراء سأله عن كتابه في السنن: أكله صحيح؟ فقال: لا. قال: فاكتب لنا الصحيح مجرَّداً. فصنع المجتبى. فهو المجتبى من السنن. ترك كل حديث أورده في السنن، مما تكلم في إسناده بالتعليل. روى هذا الكتاب عن أبي عبد الرحمن: ابنه عبد الكريم بن أحمد، ووليد بن القاسم الصوفي. ورواه عن أبي موسى عبد الكريم من أهل الأندلس: أيوب بن الحسين قاضي الثغر، وغيره... انتهى. وهذا نصٍّ ظاهر في الموضوع. 3- كما أنني وجدت مجلدين من المجتبى قديمين جداً، كتبت عليها سماعات بين سنة 530هـ و561هـ، فيها نص ظاهر أنها من تأليف النسائي. وقد جاء في صدر أحدهما: الجزء الحادي والعشرون من السنن المأثورة عن رسول الله r. تأليف أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن بحر النسائي. رواية أبي بكر أحمد بن إسحاق بن السني عنه. رواية القاضي أبي نصر أحمد بن الحسن بن الكسار عنه. رواية الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن محمد الدوني عنه. رواية أبي الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري عنه. رواية الشيخ الإمام زين الدين أبي الحسن علي بن إبراهيم بن نجاد الحنبلي الواعظ. وفيها نص ظاهر على أنها من تأليف النسائي، وابن السني مجرد رواية لها. وإن كان أحد المجلدَين قد أكلت أكثره الأرضة، فالآخر لا يزال أكثره صالحاً واضحاً بخط مشرقي جيد يحمل رقم 5637 بالخزانة الملكية بالرباط. وعلى ظهر هذه النسخة كتب بخط قديم قدمها: "قال الطبني: أخبرني أبو إسحاق الحبال: سأل سائل أبا عبد الرحمن... بعض الأمراء عن كتابه السنن: أصحيح كله؟ فقال: لا. قال: فاكتب لنا الصحيح مجرداً. فصنع المجتبي (بالباء) من السنن الكبرى، ترك كل حديث أورده في السنن ما تكلم في إسناده بالتعليل". وأبو إسحاق الحبال الذي ينقل عنه الطبني، هو الحافظ المتفنن محدث مصر إبراهيم بن سعيد بن عبد الله التجيبي. كان من المتشددين في السماع والإجازة، يكتب السماع على الأصول... وكذلك نجد أن ابن الأثير الذي جرد الأصول الخمسة وضم إليها الموطأ، جرّد المجتبى وليس السنن الكبرى. وساق إسناده بالمجتبى. وفيه بالنص الواضح على أن المجتبى من تأليف النسائي ذاته. يقول ابن الأثير انه قرأه سنة 586هـ على أبي القاسم يعيش بن صدقة الفراتي إمام مدينة السلام الذي قراه على أبي الحسن علي بن أحمد بن الحسن بن محمويه اليزيدي سنة 551 والذي قرأه على أبي محمد عبد الرحمن بن حمد بن الحسن الصوفي الدوني سنة 500هـ في شهر صفر والذي قرأه على أبي نصر أحمد بن الحسين الكسار بخانكاه دون سنة 433هـ والذي قرأه على ابن السني سنة 363هـ والذي قال: حدثنا الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله بكتاب السنن جميعه. وهذا نص واضح قبل ما يزيد على قرن ونصف من الزمن. ونص أبي علي الغساني أسبق من هذا كذلك... كما أن ابن السني ذاته قد نص أنه سمع المجتبى من مصنفه بمصر في أكثر من موضع منه. انظر المطبوع 7|171 صدر كتاب الصيد والذبائح. وقد وجدت نسخاً مخطوطة ينص على سماعها من النسائي بمصر في صدر المجتبى. منها نسخة في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم 1877ك و2408ك». انتهى كلام الدكتور فاروق حمادة. ومن أراد المزيد فليرجع إلى بحث الدكتور فاروق في أول كتاب "عمل اليوم والليلة". ومما يقوي القول بأن المجتبى من تصنيف النسائي: 1- أبو إسحاق الحبال مصري، وهو أعلم بالنسائي وبكتاب النسائي. وقوله أولى بالقبول من قول غيره. والخبر -وإن كان فيه انقطاع- فهو أولى بالاعتماد من تخمينٍ لا دليل عليه. 2- القول بأن ابن السني هو من صنف المجتبى، هذا يجعل ابن السني من كبار حفاظ الحديث. والذي يتلخص من ترجمته ومن كتابه "عمل اليوم والليلة" لا يفيد سوى أنه حافظ من حفاظ الحديث، ليس من جهابذة الفن. وإن اختيار هذه الأحاديث وتصنيف كتاب ككتاب المجتبى يحتاج إلى معرفة بالعلل والسنن. وابن السني لم يشتهر بذلك. ولمعترض أن يقول: وهذا يصح لو أن كل ما في كتاب المجتبى صحيح، أو أنه لم يترك أحاديث صحيحة في السنن الكبرى ليست في الصغرى. وإلا فعمله ليس فيه عبقرية! وأي طالب علم في الجامعة يستطيع أن يلخص لك كتاب حديثي معلل بحذف الأحاديث التي تكلم عليها صاحب الكتاب، لكن هذا لا يضمن لك أن يترك بعض الأحاديث الصحيحة، وينقل بعض الأحاديث الضعيفة، لأنه ليس من أهل هذا الشأن. والله أعلم. لكن من الممكن أن نجيب: أنه في الصغرى نفَس النسائي رحمه الله الجامع بين علمي الفقه والعلل. فتجده يقول بعد سرد بعض الأحاديث "ذكر الاختلاف على شعبة"، ويعلل تلك الروايات بنفَسٍ حديثي قوي. وأهم الاعتراضات على نظرية كون النسائي صاحب السنن الصغرى: 1- توجد أحاديث نصّ النسائي على ضعفها في "المجتبى". فيدلّ ذلك على أنّه لم يجتبِ الأحاديث الصحيحة من الكبرى. ومن المستبعد بالاستقراء أن يكون كل ما في الصغرى صحيح. وفي الصغرى أحاديث أعلّها النسائي في الكبرى ببيان الاختلاف على بعض رواتها. مثل حديث كفارة إتيان الحائض. وأحياناً يورد الرواية ويبين انقطاعها وعلتها. فكيف تكون صحيحة؟ والجواب: أن هذا لا يعني أن الكتاب ليس من تأليف النسائي. فالحديث الذي أعله ليس على شرطه، وإنما ذكره لغرض ما. وهذا كتاب الجامع الصحيح للبخاري، يورده فيه أحاديث معلقة أو مرسلة ليبين علتها. فهل وجود حديث في صحيح البخاري -ويكون قد أعله خارج الصحيح- يجعل الكتاب ليس من تصنيف المؤلف؟ بل ينبغي دارسة منهج النسائي في سننه الصغرى، ولماذا أورد الأحاديث التي أعلها في موضع آخر. 2- الحكايات التي ذكرها الدكتور فاروق (عما ذكره الغساني والتجيبي)، تبقى احتمالاً لأنها منقطعة. والجواب: أن هذه الحكايات المنقطعة، أولى من جزم الذهبي الذي ليس له مستند ولاشيء منصوص، سوى احتمالات ظنية. والذهبي رغم أنه من أهل الاستقراء التام، إلا أنه يجزم في مواطن كان ينبغي له أن يتثبت قبل أن يجزم. ومن ذلك نفيه أن يكون الإمام أحمد صنف التفسير، وقد رد عليه بعض الحنابلة. 3- من الممكن القول بأن "المجتبى" هو رواية ابن السنّي للسنن الكبرى. وقد يقال: كم من كتاب لم يرويه إلا شخص واحد، وقد يكون سمعه عشرات ولكن الراوي واحد. أقول: نعم، لكن عدم وجود راو للمجتبى من غير طريق ابن السني يجعل احتمال كون ابن السني هو المؤلف، أمراً وارداً. أما ما ذكره ابن الكثير من سماع ابن السني للسنن من النسائي، فهذا أمر لم ننكره أصلاً. نعم، سمع السنن الكبرى، وسمع غيرها، ثم اجتبى من حديث شيخه بعضه. 4- لماذا هناك أحاديث ضعيفة في المجتبى (رغم أنه من المفروض أن يكون كله صحيح) مع علمنا أن النسائي متعنت في توثيق الرجال كما يزعمون؟ والجواب أن: الغالب أن الذي في السنن الصغرى أو المجتبى أنه صحيح على شرط النسائي. هذا الغالب. وأحياناً يخرج عن هذا الشرط لسبب أو لآخر. والإنسان نفسه قد يشترط شرطاً ويخالفه. ثم أغلب الأحاديث التي فيها ضعف، ينبه عليها النسائي. وشرط غيره لا يلزمه، فالنسائي له منهج خاص. وأما القول بأن هناك أحاديث أعلها النسائي في المجتبى، فالقول: الحكم للغالب. فالبخاري قد يذكر حديث فيه ضعف أو زيادة. فهل معنى ذلك أنه لم يشترط في كتابه الصحة؟ وكذا الأحاديث التي ذكرها النسائي، لعل بعضها ذكرها عرضاً. وهذه المسألة تحتاج مزيد بحث وتوسع. هذا مع الفارق الشاسع بين صحيح البخاري ومجتبى النسائي. 5- الإشكال أن أمير الرملة قد طلب من النسائي تجريد الصحيح من "السنن الكبرى"، لكن: هناك أحاديث في "الصغرى" ليست صحيحة. وهذه وإن كانت قليلة لكنها موجودة. فإن قال معترض أن مسلم أخرج في صحيحه أحاديث ضعيفة، فلنا أن نقول أن النسائي لم يلتزم بأمر أمير الرملة بتجريد الصحيح فحسب. هذا الإشكال جوابه: كيف حكم على الحديث بالضعف؟ هل ضعفه النسائي وأورده في السنن؟ إن كان كذلك صح هذا الإشكال. وإلا فتضعيف غيره ليس بحجة عليه. 6- هناك أحاديث صحيحة كثيرة، بل كتب بأكملها في "الكبرى" مثل كتاب "التفسير" و "خصائص علي" و "الطب" و "فضائل الصحابة"، ليس منها شيء في "الصغرى". والجواب أنه: اختلف في نسبة بعض هذه الكتب إلى السنن الكبرى. ولو ثبتت، فإن كتابه السنن الصغرى اقتصر في ذلك على ما ورد في السنن والأحكام على أصل الكتاب. أي أن النسائي قد جرد صحيح أحاديث الأحكام فحسب. 7- هناك كتب في "الصغرى" مثل كتاب "الإيمان وشرائعه" و "الصلح" ليست في "الكبرى". وهناك أحاديث في "الصغرى" ليست في "الكبرى". فلعل النسائي قد غفل عنها في "الكبرى"، فأضافها هنا؟ 8- توجد ألفاظ وتراجم وأبواب في "الصغرى" لا وجود لها في "الكبرى". والجواب: بل مجرد ثبوت وجود أحاديث في المجتبى ليست في الكبرى، تدل على أن الكتاب للنسائي وليس لابن السني. وإلا كان الكتاب لابن السني، وليس للنسائي فيه مدخل. أو يقال حينها: زيادات ابن السني على النسائي، كما قالوا في زيادات عبد الله. ولابد أن يكون سندها واضحاً كما هي في مسند أحمد. وما سمعنا بأحد قال ذلك. لكن يبقى مجتبى النسائي (السنن الصغرى) أفضل وأعلى طبقة من كثير من الكتب التي ادعت الصحة وفشلت فيها، مثل صحيح (!) ابن حبان، ومستدرك الحاكم، والمختارة، والمنتقى، والسلسلة الصحيحة، وأمثال ذلك. والله أعلم بالصواب. |
:بس:
:سل: منهج أبو داود رحمه الله سكوت أبي داود قال أبو داود في "رسالته في وصف تأليفه لكتاب السنن" (ص6): «وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح». قال السيوطي في "تدريب الرواي" (ص97): «فعلى ما نُقل عن أبي داود يُحتمل أن يريد بقوله "صالح": الصالح للاعتبار دون الاحتجاج، فيشمل الضعيف أيضاً». وقال النووي: «في سنن أبي داود أحاديثُ ظاهِرَة الضعف، لم يُبيّنها مع أنه متفقٌ على ضعفها. فلا بد من تأويل قوله: "وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح"». ثم ناقض النوويّ نفسَه في "شرح المُهذّب"، واحتج فيه بما سكت عليه أبو داود إطلاقاً، كعادة المتأخرين من تبيِيْنِ ضعف الحديث إن أيد خصومهم، مع السكوت عنه إن أيد مذهبهم. قال ابن حجر في "النكت على مقدمة ابن الصلاح" (1\438): «ومن هنا يظهر ضعفُ طريقة من يحتج بكل ما سكت عليه أبو داود. فإنه يُخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج، ويسكت عنها، مثل ابن لَهيعة، وصالحٍ مولى التّوأمة، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وموسى بن وَردان، وسَلَمة بن الفَضل، ودَلْهَم بن صالح، وغيرهم. فلا ينبغي للناقد أن يقلّده في السكوت على أحاديثهم». ثم قال ابن حجر عن أبي داود: «وقد يُخرج لمن هو أضعفُ من هؤلاء بكثير، كالحارث بن وجيه، وصَدَقة الدقيقي، وعثمان بن واقد العمري، ومحمد بن عبد الرحمان البَيْلَماني، وأبي جَنَاب الكلبي، وسليمان بن أرقم، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وأمثالِهم من المتروكين (وبعضهم كذابين). وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة، وأحاديث المدلسين بالعنعنة، والأسانيد التي فيها من أُبهمَت أسماؤهم. فلا يتجه الحكمُ لأحاديث هؤلاء بالحُسْنِ من أجل سكوت أبي داود». قلت: ثم إنّ أبا عبيد الآجري في سؤالاته ينقل كثيراً من تضعيف أبي داود لبعض الأحاديث، وهو قد سكت عنها في سننه. فهذه أدلة قاطعة على أن ما سكت عنه أبو داود ليس بحجة. منهجه في كتابه "السنن" قال أبو داود: «كتبت عن رسول الله r خمس مئة ألف حديث. انتخبت منها ما ضمّنته هذا الكتاب (يعني كتاب السنن). جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمئة حديث. ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه». قال الإمام أبو داود في "رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه" (ص22): «فإنكم سأَلتُم أن أذكُرَ لكم الأحاديث التي في كتاب السنن، أهي أصحّ ما عرفت في الباب؟ ووقفت على جميع ما ذكرتم. فاعلموا أنه كذلك كله، إلا أن يكون قد رُوِيَ من وجهين صحيحين: فأحدُهما أقومُ إسناداً، والآخر صاحبه أقدم في الحِفظ. فربما كتبت ذلك. ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث. ولم أكتب في الباب إلا حديثاً أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح. فإنه يكثر، وإنما أردت قرب منفعته». وله كلامٌ أصرحُ من هذا في أنه قصد استيعاب الأحاديث الفقهية. فقال (ص26): «وقد ألفته نَسَقاً على ما وقع عندي. فإن ذُكِرَ لك عن النبي r سُنّةٌ ليس مما خرّجته، فاعلم أنه حديثٌ واهٍ، إلا أن يكون في كتابي من طريقٍ آخر. فإني لم أُخْرج الطرق، لأنه يكبُر على المتعلّم». وقال كذلك (ص27): «وهو كتابٌ لا تَرِدُ عليك سُنّةٌ عن النبي r بإسنادٍ صالحٍ، إلا وهي فيه. إلا أن يكون كلاماً استُخرِجَ من الحديث، ولا يكاد يكون هذا». ومن هنا قال بعض أهل العلم أن ما أورده أبو داود في سننه هو أصحّ ما وقف عليه في الباب. فإذا لم يورد في الباب سوى حديثاً ضعيفاً دلّ ذلك على أنّ كلّ الأحاديث الأخرى في ذلك الباب ضعيفة عنده. وأبو داود فقيهٌ ضليعٌ لا يُستهان به. وهو أفقه صاحب الكتب الستة بعد البخاري. فإن معرفته الفقهية تجعله كفئاً لأن يجمع ويستوعب الأحاديث التي احتج بها الفقهاء. فتراه يقول (ص28): «وأما هذه المسائل –مسائل الثوري ومالك والشافعي– فهذه الأحاديث أصولها». وصرّح في آخر رسالته بأنه ما استوعب إلا الأحاديث الفقهية، فقد قال (ص34): «وإنما لم أصنّف في كتاب "السنن"، إلا الأحكام. ولم أصنف كتب الزهد وفضائل الأعمال وغيرها. فهذه الأربعة آلاف والثمانمئة (التي احتواها كتابه)، كلها في الأحكام. فأما أحاديث كثيرة في الزهد والفضائل وغيرها، هذا لم أخرجه». لكن فيه بعض أبواب لا تتعلق أصالة بالأحكام نحو "الحروف والقراءات" و"الملاحم" و"السنة" وغيرها. وهذا في الأحاديث المشهورة وليس الغريبة. فقد قال (ص29): «الأحاديثُ التي وضعتها في كتاب السنن، أكثرها مشاهير. وهي عند كلّ من كَتَبَ شيئاً من الحديث. إلا أن تمييزها، لا يقدر عليه كل الناس. والفخر بها أنها مشاهير. فإنه لا يُحتجّ بحديثٍ غريبٍ، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العِلم». كتابه له روايات عدة، ورواية اللؤلؤي هي المقدَّمة عند علماء المشرق. وسبب ذلك أن اللؤلؤي أطال ملازمة أبي داود، وكان هو الذي يقرأ السنن حينما يعرض أبو داود كتابه السنن على طلبة العلم إلى أن توفي أبو داود. أما رواية ابن داسة فإنها مشتهرة في بلاد المغرب أكثر من شهرتها في بلاد المشرق، وسبب تقديمهم لها أنها أكثر أحاديثاً من رواية اللؤلؤي فهي أكمل من رواية اللؤلؤي -حسب رأيهم-، لكن في الحقيقة أن الزيادات التي في رواية ابن داسة حذفها أبو داود في آخر حياته لشيء كان يريده في إسنادها. ذكر ذلك أبو عمر الهاشمي الراوي للسنن عن اللؤلؤي، والله أعلم. هل صحيح أنه لا يروي إلا عن ثقة؟ يلهج الكثير من طلبة العلم بمقولة "أبو داود لا يروي إلا عن ثقة". على أن هذه ليست قاعدة مُطردة. لذلك قال الحافظ ابن القطان (وهو أول من وضع هذه القاعدة) في "بيان الوهم والإيهام" (5|39): «هذا لم نجده عنه نصاً، وإنما وجدناه عنه توقياً في الأخذ». والدليل على ما نقوله أبا داود نفسه ضعَّف وتكلم وغمز بعضاً من شيوخه الذين حدَّث عنهم في السنن. ومنهم: إبراهيم بن العلاء بن الضحاك، قال أبو داود: «ليس بشيء». الحسين بن علي بن الأسود العجلي، قال أبو داود: «لا ألتفت إلى حكاياته، أراها أوهاماً». هشام بن عبد الملك بن عمران اليزني، قال أبو داود: «شيخ ضعيف»، وقال مرة: «شيخ مغفل». شعيب بن أيوب بن زريق الصريفيني، قال أبو داود: «إني لأخاف الله في الرواية عن شعيب بن أيوب». وكذلك سهل بن محمد بن عثمان السجستاني و حكيم بن سيف بن حكيم الأسدي. وقد يكون ممن ضعّفه غيره كذلك. سليمان بن عبد الحميد البهراني، قال النسائي: «كذاب ليس بثقة ولا مأمون». الحسين بن علي بن الأسود العجلي، قال ابن عدي: «يسرق الحديث، وأحاديثه لا يتابع عليها»، وقال الأزدي: «ضعيف جداً، يتكلمون في حديثه»، وقال ابن المواق: «رمي بالكذب وسرقة الحديث». |
:بس:
:سل: منهج الدراقطني رحمه الله أبو الحسن الدّارَقَطْني (385هـ) من كبار حفاظ الحديث. ورغم تأخر زمانه، إلا أنه محسوب على متقدمي المحدّثين: لسلوكه طريقتهم، و لأن اعتماده في علم العلل على كتبهم في العلل، مثل "علل ابن المديني" وغيرها. فأما كتابه في "العلل" الذي أملاه على تلميذه من حافظته، فهو من أجود كتب العلل وأكبرها وأسهلها وضوحاً. إلا أن الإشكال في كتابه "السنن"، الذي يظن بعض الفقهاء أنها من جنس "سنن" الترمذي أو "سنن" النسائي، فينقلون منها دون تحقيق، كأنما ينقلون من الصحيحين! والحق أن سنن الدارقطني أشبه بكتب العلل، وإن كانت تختلف عنها كذلك في الإسلوب. قال شيخ الإسلام في الرد على البكري (1\78): «الدارقطني صَنّفَ سُننه ليذكر فيها غرائب السُّنَن. وهو في الغالب يبيّن ما رواه، وهو من أعلم الناس بذلك». قال هذا شيخ الإسلام رداً على البكري الجاهل الذي ظن أن الدراقطني يحتج بكل الأحاديث في سننه! وقال في الفتاوى الكبرى (5\299): «أبو الحسن (الدراقطني) –مع إتمام إمامته في الحديث– فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه، ويجمع طرقها. فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله». فإن أنت اعتبرت سنن الدارقطني مثل باقي كتب السنن، فهي أكثرهم على الإطلاق احتواءً للأحاديث الضعيفة والغريبة والموضوعة. قال الذهبي : «سنن الدارقطني بيت المنكرات». ووصف هذا الكتاب الزيلعي بأنه «مجمع الأحاديث المعلولة، ومنبع الأحاديث الغريبة». وكذلك وصفه ابن رجب. قال الإمام ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": «بل إنما رواه مثل الدارقطني الذي يجمع في كتابه غرائب السنن، ويكثر فيه من رواية الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة». وإذا أنت اعتبرتها من كتب العلل، فأسلوبها من أصعب الأساليب في كتابة العلل. فالملاحظ على الدارقطني في كتاب السنن ما يلي: بعض تلك الأحاديث يبين الدارقطني عللها بكلمات موجزة مختصَرة، مثل: "هذا مرسل" و "فلان مجهول" وشيء من هذا. وأحياناً يبين العلة باصطلاح له هو "حديث حسن". وهو لا يطلقه عادة إلا على الحديث المعلول. بل تراه يقول: "رواته ثقات وإسناده حسن"، وهو يريد الإشارة لعلة كانقطاع في السند أو خطأ من أحد الرواة الثقات. وأحياناً لا يذكر العلة، لكنه يذكر الروايات التي تبين العلة، حيث يكتفي بذلك وكأن كتابه خاص بالمتبحرين بعلم العلل، الذين سيفهمون مقصوده بسرعة. وأحياناً يذكر رواية ضعيفة، ليس لبيان ضعفها، لكن لأن بعض ألفاظها تشرح الغموض في الرواية الصحيحة، التي قد يذكرها وقد لا يذكرها. وأحياناً يذكر رواية ضعيفة، ولا يذكر ما يدل على ضعفها، كأنه قصد جمع هذه الروايات المستغربة في الفقه. ومن الأمور التي أنكرها العلماء على الحافظ الدراقطني، كثرة توثيقه للمجاهيل. بل قد عده الحافظ الذهبي في كتابه "الموقظة" ممن يتساهل أحياناً في التوثيق، والظاهر أنه يقصد توثيق المجاهيل. قال العلامة المعلمي في "الأنوار الكاشفة" عن قصة أنكرها: «سند الحكاية غير صحيح، تفرد بها عن مالك رجل يقال له "عبد الوهاب بن موسى" لا يكاد يُعرف، وليس من رجال شيء من كتب الحديث المشهورة، ولا ذُكِرَ في تاريخ البخاري ولا كتاب ابن أبي حاتم. بل قال الذهبي في الميزان: "لا يدرى من ذا الحيوان الكذاب". وفي مقدمة صحيح مسلم "الذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شار ك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبل منه". وهذا الرجل لم يُمعن في المشاركة فضلاً عن أن يكون ذلك على الموافقة. لكن هذا الشرط لا يتقيد به بعض المتأخرين كابن حبان والدارقطني. ومن ثم –والله أعلم– وثّق الدارقطني عبد الوهاب هذا، وزعم أن الخبر صحيح عن مالك». |
:بس:
:سل: منهج ابن حبان رحمه الله : قال الذهبي في ميزان الاعتدال (1|441): «ابنُ حِبّان ربما جَرَح الثقة حتى كأنه لا يَدري ما يَخرج من رأسه!». وقال الذهبي في ترجمة "محمد بن الفضل السَّدُوسي عارم" في الميزان (6|298): «وقال الدارقطني: "تغير بآخره، وما ظهر له بعد اختلاطه حديثٌ مُنكَرٌ، وهو ثقة". قلت (أي الذهبي): فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النَّسائي مثله. فأين هذا القول من قول ابن حبان الخَسَّاف المتهوِّر في عارم؟! فقال: "اختَلَط في آخر عمره وتغيّر، حتى كان لا يدري ما يُحدّثُ به. فوقع في حديثه المناكير الكثيرة. فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون. فإذا لم يُعلَم هذا من هذا، تُرِكَ الكل ولا يُحتجّ بشيءٍ منها". قلتُ (أي الذهبي): ولم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثاً منكراً. فأين ما زعم؟!». وقال كذلك في السير (10|267): «فانظر قول أمير المؤمنين في الحديث أبي الحسن (الدارقطني). فأين هذا من قول ذاك الخَسَّاف المتفاصِح أبي حاتم ابن حبان في عارم؟!». أقول: وهذا يظهر بوضوح أن ابن حبان يطلق الأقوال بغير تحقيق ولا تدقيق، حيث أساء فهم أقوال كبار أئمة الجرح والتعديل، فجاء بهذا الحُكم المتعسّف. بعكس الدارقطني الذي حقّق واستقرئ. وشتان بين الاثنين. وقال الذهبي في الميزان (1|460): «ابن حبان صاحب تشنيع وشغب»، مشيراً إلى عدم الاعتداد ببعض ما ينقله. وقال أبو عمرو بن الصلاح في طبقات الشافعية : «غلط ابن حبان الغلط الفاحش في تصرفاته». وقال الذهبي في الميزان: «وقد بدت من ابن حبان هفوة فطعنوا فيه بها. قال أبو إسماعيل الأنصاري شيخ الإسلام: سألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم بن حبان فقال: نحن أخرجناه من سجستان. كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين. قدم علينا، فأنكر الحد لله، فأخرجناه». وهذا إضافة لموقف ابن حبان من التبرك بالقبور، إنما يدل على أن عقيدته لم تكن سلفية خالصة. و ابن حبّان قد يذكر الرجل في كتابه "الثّقات" مع أنه لا يعرفه. وقد ظن بعض العلماء أن هذا توثيق له، وهو خطأ فادح. فقد يذكر رجلاً في كتابه الثقات ثم يجرحه في كتابه المجروحين. وإنما قصد العدالة وحدها التي هي الأصل في المسلمين. والعدالة وحدها تكفي عنده -بخلاف الجمهور- في الاحتجاج بالراوي دون الضبط، وذلك يخرج حديث المجاهيل في صحيحه. وظن البعض أن هذا يرفع جهالة العين وتبقى جهالة الحال. وهذا أيضاً خطأ. فقد يذكر الرجل ويصرح بأنه لا يعرف عنه شيء. وقد صرح بذلك في مقدمة كتابه بقوله: «فمن لم يعلم يجرح فهو عدل، إذا لم يبين ضده. إذ لم يُكلّف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم»، أي كل رجل لم يعرف فيه جرحاً (واعتماده الأساسي على تاريخ البخاري الكبير الذي قلّما يذكر الجرح) فهو ثقة عنده! قال ابن حجر في مقدمة "لسان الميزان" (1|208 تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة): «وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان، من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه، كان على العدالة إلى أن يتبين جَرحُه، مذهبٌ عجيب، والجمهور على خلافه». وإليك بعض الأمثلة من الرّجال الذين أوردهم ابن حبّان في (الثقات) مع تصريحه بعدم معرفته لهم، بما في ذلك من وصفهم بـ "شيخ": أبان: شيخٌ يروي عن أُبي بن كعب، روى عنه محمد بن جحادة، لا أدري مَن هو ولا ابن من هو. إبراهيم بن إسحاق: شيخٌ يروي عن ابن جريج، روى عنه وكيع بن الجراح، لست أعرفه ولا أباه. أحمد بن عبد الله الهمداني: يروى عن يزيد بن هارون عن إسماعيل بن أبى خالد عن الشعبي عن أيمن بن خريم بن فاتك قال أبي وعمي شهدا بدراً. روى عنه الحضرمي إن لم يكن بن أبي السفر فلا أدري من هو. أسير بن جابر العبدي الكوفي: يروي عن عمرو بن مسعود. روى عنه البصريون قتادة وأبو عمران الجوني وأبو نضرة. في القلب من روايته من أويس القرني. إلا أنه حكى ما حكى عن إنسان مجهول. لا يدرى من هو والقلب أنه ثقة أميل. أمية القرشي: شيخ يروى عن مكحول. لست أدري من هو. روى عنه ابن المبارك. أيوب الأنصاري: يروي عن سعيد بن جبير. روى عنه مهدي بن ميمون. لا أدري من هو ولا ابن من هو. بكير أبو عبد الله: يروي عن سعيد بن جبير. روى عنه أشعث بن سوار. إن لم يكن الضخم فلا أدري من هو. جميل: شيخ يروى عن أبى المليح بن أسامة روى عنه عبد الله بن عون لا أدري من هو ولا ابن من هو. حاجب: يروي عن جابر بن زيد، لا أدري من هو ولا ابن من هو، روى عنه الأسود بن شيبان. حِبّان: يروي عن أبيه عن علي، لست أعرفه ولا أباه. حبيب الأعور: يروي عن عروة بن الزبير. روى عنه الزهري. إن لم يكن ابن هند بن أسماء فلا أدري من هو. حبيب بن سالم: يروي عن أبي هريرة، روى عنه محمد بن سعيد الأنصاري، إن لم يكن مولى النّعمان بن بشير، فلا أدري من هو. الحسن أبو عبد الله: شيخ يروي المراسيل. روى عنه أيوب بن النجار. لا أدري من هو ولا ابن من هو. الحسن القردوسي: يروي عن الحسن. روى عنه عكرمة بن عمار. لا أدري من هو ولا ابن من هو. الحسن الكوفي: شيخ يروي عن ابن عباس. روى عنه ليث بن أبي سليم. لا أدري من هو ولا ابن من هو. الحسن بن مسلم الهذلي: يروي عن مكحول. روى عنه شعبة. إن لم يكن ابن عمران فلا أدري من هو. حماد أبو يحيى: يروي عن الحسن وابن سيرين. عداده في أهل البصرة. روى عنه التبوذكي والربيع بن صبيح. لا أدري من هو. حنظلة: شيخ يروي المراسيل. لا أدري من هو. راشد: شيخ يروي عن سليك الفزاري. روى عنه سفيان الثوري. إن لم يكن الأول فلا أدري من هو. رباح: شيخٌ يروي عن ابن المبارك، عِداده في أهل الكوفة، روى عنه إبراهيم بن موسى الفرّاء، لست أعرفه ولا أباه. رباح: شيخٌ يروي عن أبي عبيدالله عن مجاهد، روى عنه سفيان الثوري، لست أعرفه ولا أدري من أبوه. رمى: شيخ يروي عن القاسم بن محمد. روى عنه سليمان التيمي. لا أدري من هو ولا ابن من هو. الزبرقان: شيخ يروي عن النواس بن سمعان. روى داود بن أبى هند عن شهر بن حوشب عنه. لا أدري من هو ولا ابن من هو. زياد: شيخٌ يروي عن زر عن ابن مسعود، روى عنه إسماعيل السدّي، ولا أدري من هو. سبرة: شيخ يروي عن أنس. روى عنه السدي. لا أدري من هو. سعيد بن أبي راشد: يروى عن عطاء عن أبى هريرة في المسح على الخفين. روى عنه مروان بن معاوية. إن لم يكن سعيد بن السماك فلا أدري من هو. فان كان ذاك فهو ضعيف. سلام: شيخ يروي عن الحسن. روى عنه سعيد بن أبى عروبة. وإن لم يكن سلام بن تميم فلا أدري من هو. سلمة: يروي عن بن عمر. روى عنه ابنه سعيد بن سلمة. لا أدري من هو ولا ابن من هو. سليم بن عثمان أبو عثمان الطائي: يروي عن جماعة من أهل الشام، روى عنه سليمان بن سلمة الخبائري الأعاجيبَ الكثيرةَ، ولست أعرفه بعدالة ولا جرح. سميع: شيخ يروي عن أبي أمامة. روى عنه عمرو بن دينار المكي. لا أدري من هو ولا ابن من هو. سهل: شيخٌ يروي عن شدّاد بن الهادي، روى عنه أبو يعفور، ولست أعرفه ولا أدري من أبوه. سهيل بن عمرو: شيخ يروي عن أبيه. روى عنه همام بن يحيى. لا أدري من هو ولا من أبوه. شعبة: شيخٌ يروي عن كريب بن أبرهة، روى عنه سليط بن شعبة الشعباني، لست أعرفه ولا أباه. شهاب: شيخ يروي عن أبى هريرة. روت عنه القلوص بنت علية. لا أدري من هو. شيبة: شيخ يروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين. روى عنه بن جريج. إن لم يكن بن نصاح فلا أدري من هو. صيفي: شيخ يروي عن أبي اليسر كعب بن عمرو. روى عنه عبد الله بن سعيد بن أبى هند. إن لم يكن الأول فلا أدري من هو ولا ابن من هو. عباد بن الربيع: إمام بجيلة كوفي يروي عن علي. روى هشيم عن أبي محمد عنه. إن لم يكن أبو محمد هو الأعمش فلا أدري من هو. عبّاد القرشي: يروي عن عائشة، روى عنه عقبة بن أبي ثبيت. إن لم يكن عباد بن عبد الله بن الزبير فلا أدري من هو. عبد السلام: يروي عن أبي داود الثقفي عن ابن عمر، روى عنه سعيد بن بشير، إن لم يكن ابن سليم فلا أدري من هو. عبد العظيم بن حبيب شيخ يروى عن بهز بن حكيم روى عنه سليمان بن مسلمة الخبائري إن لم يكن الأول فلا أدري من هو. عبد الكريم: شيخ يروى عن أنس بن مالك. روى الليث بن سعد عن إسحاق بن أسيد عنه. لا أدري من هو ولا بن من هو. عزرة: شيخ يروى عن الربيع بن خثيم. عداده في أهل الكوفة. روى عنه أبو طعمة. إن لم يكن بعزرة بن دينار الأعور فلا أدري من هو. عطاء المدني: يروي عن أبي هريرة في صلاة الجمع، روى عنه منصور، لا أدري من هو ولا ابن من هو. عقبة الرفاعي يروى عن عبد الله بن الزبير روى عنه ابنه محمد بن عقبة إن لم يكن بن أبى عتاب فلا أدري من هو عكرمة: شيخٌ يروي عن الأعرج، لست أعرفه ولا أدري من أبوه، روى عنه إبراهيم بن سعد. عمارة: شيخ من بني حارث بن كعب، يروي عن ابن عباس، روى عنه ابنه عبد الله، إن لم يكن ابن خزيمة بن ثابت فلا أدري من هو. عمر الدمشقي: شيخٌ يروي عن أم الدرداء الصغرى، روى عنه سعيد بن أبي هلال، لا أدري من هو ولا ابن من هو. عيسى الأنصاري: يروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، روى عنه زيد بن أبي أنيسة، لست أدري من هو ولا ابن من هو. فزع: شهد القادسية. يروي عن المقنع. وقد قيل إن للمقنع صُحبة. ولست أعرف فزعاً ولا مقنعاً، ولا أعرف بلدهما، ولا أعرف لهما أباً. وإنما ذكرتهما للمعرفة لا للاعتماد على ما يرويانه. فُضيل: شيخٌ يروي عن سالم بن عبد الله، إن لم يكن بن أبى عبد الله صاحب القاسم بن محمد فلا أدري من هو. فُضيل: شيخٌ يروي عن معاوية، روى عبيد الله بن أبي جعفر عن صفوان بن سليم عنه، إن لم يكن الهوزني فلا أدري من هو. النضر: شيخ يروى عن عطاء بن يسار روى عنه الدراوردي. لا أدري من هو ولا ابن من هو. مالك: شيخ يروى عن سلمان. روى عنه أبو إسحاق السبيعي. إن لم يكن مالك بن مالك فلا أدري من هو. متوكل: شيخ يروى عن أبى هريرة. روى عنه خالد بن معدان. لا أدري من هو. محمد أبو عبد الله الأسدي: لا أدري من هو، يروي عن وابصة بن معبد، روى عنه معاوية بن صالح. محمد الزهري الكوفي: قوله روى عنه بن عون. إن لم يكن محمد بن محمد بن الأسود فلا أدري من هو. محمد بن أفلح: يروي عن أبي هريرة، روى عنه يعلى بن عطاء وحميد الطويل، إن لم يكن الأول فلا أدري من هو. محمد بن سعيد: شيخ يروى عن عمر بن الخطاب. روى عنه قتادة. لا أدري من هو. محمد مولى بنى هاشم: قال رأيت ابن عمر وابن عباس يمشيان بين يدي الجنازة. روى عنه قتادة. لا أدري من هو. مروان: شيخ يروي عن بن مسعود. روى عنه عمران بن أبى يحيى. لا أدري من هو ولا ابن من هو. مضارب العجلي: من بكر بن وائل يروي المراسيل. روى عنه قتادة. إن لم يكن مضارب بن حزن فلا أدري من هو. مقاتل: شيخٌ يروي عن أنس بن مالك، روى عنه سعيد بن أبي عروبة، لا أدري من هو. مهاجر: شيخٌ يروي عن عمر، روى عنه محمد بن سيرين، لا أدري من هو ولا ابن من هو. نبتل: شيخٌ يروي عن أبي هريرة، روى عنه يعقوب بن محمد بن طحلاء، لا أدري أبو حازم هو أو غيره. وقّاص: شيخٌ يروي عن أبي موسى الأشعري، رَوَتْ عنه ابنته منيعة، لا أدري من هو. الوليد: شيخٌ يروي عن عثمان بن عفان. روى عنه بكير بن عبد الله بن الأشج. لا أدري من هو. يعقوب بن غضبان: شيخ يروى عن بن مسعود. روى عنه شيخ يقال له ضرار. لا أدري من هو. فالصواب أن من ذكره ابن حبان في كتابه الثقات وصرح بعدم معرفته له، فليس مراده في ذلك تعديله أو قبول روايته، بل مقصده هو من أجل معرفة من كانت له رواية فحسب، لا من أجل الاعتماد عليه فيما يرويه. والدليل على ذلك ما ذكره ابن حبان نفسه في كتاب "الثقات" (7/326) في ترجمة الفزع: «شهد القادسية، يروي عن المقنع، وقد قيل: إن للمقنع صحبة، ولست أعرف فزعاً، ولا مقنعاً، ولا أعرف بلدهما، ولا أعرف لهما أباً، وإنما ذكرتهما للمعرفة لا للاعتماد على ما يرويانه». فعُلِمَ من ذلك أن إيراد ابن حبان للمقنع، وللفزع، ولمن كان على شاكلتهما لا يريد بذلك التعديل، أو الاعتماد على مروياتهم؛ بل مجرد المعرفة بهم فحسب. وهذه الفائدة قد ذكرها الشيخ الألباني في مقدمته لصحيح موارد الظمآن (1|19)، وعلق عليها: «وهذا نصٌّ هامٌّ جداً جداً، وشهادة منه –لا أقوى منها– على أن كتابه الثقات ليس خاصاً بهم، وإنما هو لمعرفتهم، ومعرفة غيرهم من المجهولين والضعفاء، ونحوهم. غير أن هذا النص زاد عليه أنه أعلمنا أنه يذكر هؤلاء للمعرفة، لا على أنهم من الثقات الذين يحتج بخبرهم عنده». قال أسعد سالم تيم في "علم طبقات المحدثين" (ص160): «كتاب الثقات نفسه يكاد يكون مُنتَزَعاً من "التاريخ الكبير". فقد قارنت مئات التراجم في الكتابين، فوجدت ابن حبان ينقل كلام البخاري بنصه أو باختصار، وقَلّما يأتي بشيءٍ جديدٍ من عنده في تراجم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. إلا أن تراجم الطبقة الرابعة (في المجلدين الثامن والتاسع) من تأليفه. وهذان المجلدان من أثمن ما في الكتاب وأكثره فائدة، وفيهما تتجلى عبقرية ابن حبان. أما مبحث السيرة والتاريخ الإسلامي اللذين شغلا المجلدين الأوليين، فلا فائدة فيهما بالمرة! إذ اختصر ابن حبان الأسانيد، وخلط الغث بالسمين بالصحيح بالمنكر. وشتان ما بين ما كتبه ابن سعد في مقدمة كتابه، وبين ما كتبه أبو حاتم إمام الأئمة!». وهو ما أقر به بشكل غير مباشر، فقال في مقدمة الثقات (ص11): «وأقنع بهذين الكتابين المختصرين عن كتاب "التاريخ الكبير" الذي خرجنا، لعلمنا بصعوبة حفظ كل ما فيه من الأسانيد والطرق والحكايات، ولأن ما نمليه في هذين الكتابين (أي الثقات والمجروحين) -إن يسر الله ذلك وسهله- من توصيف الأسماء بقصد ما يحتاج إليه، يكون أسهل على المتعلم إذا قصد الحفظ...». قال ابن عبد الهادي: «وقد وقع له مثل هذا التناقض والوهم في مواضع كثيرة. وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح أنه غلط الغلط الفاحش في تصرفه. ولو أخذنا في ذكر ما أخطأ فيه وتناقض، من ذكره الرجل الواحد في طبقتين متوهماً كونه رجلين، وجمعه بين ذكر الرجل في الكتابين كتاب الثقات وكتاب المجروحين، ونحو ذلك من الوهم والإيهام، لطال الخِطاب». انظر كتابه "الصارم المنكي" ص (103-105). وقال: «وينبغي أن ينتبه لهذا، ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق». وقال: «وطريقة ابن حبان في هذا (أي تعديل المجاهيل) قد عُرِفَ ضعفها. مع أنه قد ذكر في كتاب الثقات خلقاً كثيراً، ثم أعاد ذكرهم في المجروحين وبَيَّن ضعفهم. وذلك من تناقضه وغفلته، أو من تغير اجتهاده». قلت أيما كان السبب فهو دليلٌ على ضعف توثيقه. ولقد حاول الدكتور مبارك الهاجري أن يجمع الرواة الذين ذكرهم ابن حبان في المجروحين وأعادهم في الثقات فكان مجموعهم (159) راوياً. واستدرك عليه بعض الباحثين في موقع ملتقى أهل الحديث (25) راوياً. فيكون ابن حبان قد حكم على نفسه بالتناقض في (184) راوياً على الأقل. وممن انتقد ابن حبان أيضاً -غير ابن عبد الهادي-: ابن الصلاح وابن تيمية والذهبي وابن حجر وابن رجب وكثير غيرهم. بل جعله السخاوي قريباً من مرتبة الحاكم الذي هو مضرب المثل في التساهل البالغ. قال السخاوي في "فتح المغيث" (1|35): «وابن حبان يداني الحاكم في التساهل. وذلك يقتضي النظر في أحاديثه أيضاً. لأنه غير متقيد بالمعدَّلين، بل ربما يخرج للمجهولين، ولا سيما ومذهبه إدراج الحسن في الصحيح». ولذلك يئس البعض من الاستفادة من توثيق ابن حبان. فيقول عداب الحمش في "رواة الحديث الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل" (ص72): «والفصل في الرواة الذين سكت عليهم ابن حبان، هو عرضهم على كتب النقد الأخرى. فإن وجدنا فيها كلاماً، أخذنا بما نراه صواباً مما قاله أصحاب كتب النقد. وإن لم نجد فيها كلاماً شافياً، طبقنا قواعد النقاد عليهم، وقواعد ابن حبان نفسه». وقد حاول المعلمي في التنكيل الدفاع عن توثيق ابن حبان رداً على الكوثري (مع أنه لم يعتد به في المواضع الأخرى)، فقال: «التحقيق أن توثيقه على درجات: الأولى: أن يصرح به كأن يقول "كان متقنا" أو "مستقيم الحديث" أو نحو ذلك. الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخبرهم. الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث بحيث يعلم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة. الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه قد عرف ذاك الرجل معرفة جيدة. الخامسة: ما دون ذلك. فلأولى لا تقلّ عن توثيق غيره من الأئمة، بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم (!) والثانية قريب منها، والثالثة مقبولة، والرابعة صالحة، والخامسة لا يؤمن فيها الخلل». وكلام العلامة المعلمي نظري بحت، وقليل الفائدة من حيث التطبيق. فالمرتبة الأولى نسبة عدد رواتها (أقل من 300) إلى عدد كل الرواة (16,500) تقارب الصفر، وأكثرهم من شيوخ شيوخه، وفيهم الضعفاء كذلك، أي ليس توثيقاً قوياً. والمرتبة الثانية لا تكاد تكون، لأن ابن حبان لا يكاد يذكر شيوخه في "ثقاته". وهؤلاء لا يكاد يذكرهم في "ثقاته" وإنما تجدهم في "صحيحه". وشرطه في "صحيحه" أحسن من شرطه في "ثقاته"، فيكون توثيقه مقبولاً إن لم يكن له معارض. وأما المرتبة الثالثة فيعكر على كلام المعلمي إخراج ابن حبان لضعفاء مشهورين في ثقاته، وبعضهم جرحهم بنفسه في كتابه المجروحين. أما المرتبة الرابعة، فنعم إن نص ابن حبان على أنه قد سبر مروايات الراوي كما فعل مع بقية الحمصي فيعتبر توثيقه، لكن هذا نادر للأسف. أما المرتبة الخامسة وهي التي تشمل عامة كتابه، فقد اعترض الألباني على حكم المعلمي عليها وقال: «غير قد ثبت لدي بالممارسة أن من كان منهم من الدرجة الخامسة فهو على الغالب مجهول لا يعرف». فالخلاصة أن مجرد ذكر ابن حبان للرجل في كتابه "الثقات" لا يفيد توثيقاً يعتد به، والله أعلم. |
:بس:
:سل: منهج الطحاوي والبيهقي رحمهما الله الطحاوي (ت321) قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ (3|809): «وكان أولاً شافِعياً، يقرأ على المزني (صاحب الشافعي). فقال له يوماً: "والله لا جاء منك شيء". فغضِبَ من ذلك، وانتقل إلى ابن أبي عمران (قاضي مصر الحنفي). فلما صنّف مختصره، قال: "رحم الله أبا إبراهيم، لو كان حيّاَ لكفّر عن يمينه"». وقد أعاد ابن حجر هذه القصة في لسان الميزان (1|275)، لكن مع تطويلٍ ولمزٍ وغمز في الطحاوي، كعادته في تراجم علماء الأحناف. فيما يغض النظر عن أخطاء أبناء مذهبه –الشافعية– وإن عظمت. قال مسلمة بن قاسم الأندلسي في كتاب "الصلة" عن الطحاوي: «كان ثِقَةً، جليل القدر، فقيه البدن، عالماً باختلاف العلماء، بصيراً بالتصنيف. وكان يذهب مذهب أبي حنيفة. وكان شديد العصبية فيه». وقال عنه أبو بكر محمد بن معاوية بن الأحمر القرشي: «وكان يذهب مذهب أبي حنيفة، لا يرى حقاً في خِلافه». قلت: رحم الله الطحاوي، فلو أراد أن يكون إماماً مجتهداً لفعل، فقد جمع بين علمي الفقه والحديث. وما يجتمع ذلك إلا للقليل. ولكن حملته عصبيته على خاله المزني إلى التعصب لمذهب أبي حنيفة. ولو أنه تعصب لسنة رسول الله r لكان ذلك خيرٌ له عند ربه. قال البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (1|353) –بعد أن ذكر كلاماً للطحاوي في حديث "مس الذكر"، فتعقّبه– قال: «أردت أن أُبيّن خطئه في هذا. وسَكَتّ عن كثيرٍ من أمثال ذلك. فبيّنَ في كلامه أن علم الحديث لم يكن من صناعته. وإنما أخذ الكلمة بعد الكلمة من أهله، ثم لم يُحكِمها»، وهذا عندي فيه مبالغة. ويتهمه أيضاً (1|219) بـ«تضعيف أخبار صحيحة عند أهل العلم بالحديث حين خالفها رأيه، وتصحيح أخبار ضعيفة عندهم حين وافقها رأيه... وتسوية الأخبار على مذهبه، وتضعيف -ما لا حيلة له فيه- بما لا يضعف به، والاحتجاج بما هو ضعيف عند غيره». كما يذكر أنه «يحتج في كتابه بمن قد أجمع أهل العلم بالحديث على ضعفه في الرواية». قلت: هذا حق لكن لم يكن البيهقي بأحسن منه، بل هو نظيره عند الشافعية. فكان الطحاوي لو وجد حديثاً يستدل به الشافعية، بالغ في رده وفي تبيين عِلَله، مع سكوته على الأحاديث التي تؤيد الأحناف. وكان البيهقي يفعل العكس. وكم من حديثٍ موضوعٍ سكت عنه البيهقي لأنه يؤيد مذهب الشافعية. هذا مع معرفة كلاهما بالفقه والحديث واللغة وعلوم الدين. قال ابن الجوزي في "التحقيق" (1|23): «و ألوم عندي ممن قد لُمتَهُ من الفقهاء جماعة من كبار المحدثين، عرفوا صحيح النقل وسقيمه وصَنّفوا في ذلك. فإذا جاء حديثٌ ضعيفٌ يخالف مذهبهم، بَيّنوا وجه الطعن فيه. وإن كان موافقاً لمذهبهم، سكتوا عن الطعن فيه. وهذا يُنبئ عن قِلة دينٍ وغَلبةِ هوى». قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (8|195): «الطحاوي ليست عادته نقد الحديث كنقد أهل العلم. ولهذا روى في "شرح معاني الآثار" الأحاديث المختلفة. وإنما يرجّح ما يرجحه منها -في الغالب- من جهة القياس الذي رآه حجة، ويكون أكثرها مجروحاً من جهة الإسناد لا يثبت. ولا يتعرض لذلك، فإنه لم تكن معرفته بالإسناد، كمعرفة أهل العلم به. وإن كان كثير الحديث فقيهاً عالماً». وقال الحافظ ابن رجب في "شرح العلل" (1|332 همام): «الطحاوي من أكثر الناس دعوى لترك العمل بأحاديث كثيرة. وعامة هذه الأحاديث قد ذكرناها في مواضعها من الكتاب». فترك العمل بالحديث قد يكون بالقول بنسخه بدون دليل واضح، كما فعل الطحاوي في شرح معاني الآثار (1|493) في مسألة الصلاة على الجنازة في المسجد. فقد ذهب إلى نسخ حديث عائشة (الذي أخرجه مسلم في صحيحه #973) بحديث أبي هريرة (مع ضعفه). قال الطحاوي: «فصار حديث أبي هريرة أولى من حديث عائشة رضي الله عنها لأنه ناسخ له»! وهو أمر لا يصح لا دراية ولا رواية. البيهقي (384-458هـ) قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (5|510): «البيهقي يروي في الفضائل أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة، كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم». قلت: قبّح الله هذه العادة الذميمة. وقال كذلك (في تلخيص كتاب الاستغاثة ص78 ط. الغرباء) في الرد على البكري: «والبيهقي... من أقلهم استدلالاً بالموضوع. لكن يروي في الجهة التي ينصرها من المراسيل والآثار ما يصلح للاعتضاد، ولا يصلح للاعتماد. ويترك في الجهة التي يضعفها ما هو أقوى من ذلك الإسناد». وقال شيخ الإسلام كذلك في مجموع الفتاوى (24|154): «وإن كان البيهقي روى هذا، فهذا مما أُنكِرَ عليه. ورآه أهل العلم: لا يستوفي الآثار التي لمخالفيه، كما يستوفي الآثار التي له. وأنه يحتج بآثار لو احتج بها مخالفوه، لأظهر ضعفها وقدح فيها. وإنما أوقعه في هذا -مع علمه ودينه- ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي موافقة لقول واحد من العلماء دون آخر. فمن سلك هذه السبيل، دحضت حججه، وظهر عليه نوع من التعصب بغير الحق. كما يفعل ذلك من يجمع الآثار ويتأوّلها -في كثير من المواضع- بتأويلات يَـبـيـنُ فسادها، لتوافق القول الذي ينصره. كما يفعله صاحب "شرح الآثار" أبو جعفر (الطحاوي)، مع أنه يروي من الآثار أكثر مما يروي البيهقي. لكن البيهقي ينقي الآثار ويميز بين صحيحها وسقيمها، أكثر من الطحاوي». ولذلك انتقده الزيلعي في "نصب الراية" (1|19) ورماه بالتحامل. وكان البيهقي متأثراً بمذهب الأشاعرة. قال المعلمي في التنكيل (1|345): «وإني والله ما آسى على ابن فورك، وإنما آسى على مسحوره البيهقي الذي امتلأ من تهويلات ابن فورك وغيره رعباً، فاستسلم لهم وانقاد وراءهم». وأما عن مرتبة البيهقي في معرفة الحديث، فبالرغم من معرفته بمنهج المتقدمين، لكنه متأثر كذلك بمنهج المتأخرين. لذلك يقول المعلمي (1|477): «ابن حبان والخطيب أعرف بالفن ودقائقه من البيهقي». وذكر الذهبي في "السير" (18|165) و "تذكرة الحفاظ" (3|1132)، وكذا الحافظ ابن عبد الهادي في "طبقات علماء الحديث" (3|329): أن البيهقي لم يكن عنده السنن الثلاث: الترمذي والنسائي وابن ماجة. وقال زاهد الكوثري في حاشية كتابه "إحقاق الحق": «مع أن البيهقي لم يكن عنده من الأصول الستة غير: الصحيحين وسنن أبي داود، ولا كان عنده مسند أحمد. ومن يكون حاله هكذا في الحديث، لا يكون بالمنزلة التي يعتقدها أهل مذهبه له». لكن وقع للبيهقي عدد من الكتب القيمة والموسوعات الكبيرة (مثل مستدرك الحاكم)، فلعل هذا يغني بعض الشيء، والله أعلم. وأما كتب الشافعي فقد كانت له معرفة كاملة بها. وقال أحمد الغُمَاري في كتابه "المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير" (ص6): «المؤلّف (أي السيوطي) يعتمد كثيراً على قول البيهقي: إنه لا يُخرج في كتبه حديثاً يعلم أنه موضوع. وليس كذلك، بل يخرج الموضوعات بكثرة». وقال في (ص48) عند حديث "الدنيا سبعة آلاف، أنا في آخرها ألفاً" الذي أورده السيوطي عن البيهقي في "الدلائل" (واستدل به السيوطي على أنه آخر المجددين!): «قال الحفاظ: موضوع. ولو كان المؤلفُ (السيوطيّ) في عصرنا، لاستحى أن يذكره. وكذلك البيهقي الذي زعم أنه لا يخرج حديثاً يعلم أنه موضوع». وقال في (ص73) عند حديث "العرب للعرب أكفاء، والموالي للموالي، إلا حائكاً أو حجاماً" الذي رواه السيوطي عن البيهقي في "السُّنن": «عجباً للبيهقي الذي يُخرج هذا الباطل في "سننه"، ويزعم أنه لا يخرج في كتبه حديثاً يعلم أنه موضوع! مع أنه لا يَشكّ في وضعه طالبُ حديث!». وقد نبه في كتابه المذكور إلى طائفة من الأحاديث التي رواها البيهقي في كتبه وهي موضوعة، تجدها في: (ص9، 26، 35، 77، 79، 102). |
:بس:
:سل: منهج ابن جرير الطبري أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام الفقيه المفسر المؤرخ. كان من كبار أئمة المسلمين. تشيع الطبري فقد قال فيه الذهبي في ميزان الاعتدال في نقد الرجال (6\90): «فيه تشيع يسير وموالاة لا تضر». إذاً فرمي ابن جرير الطبري بالتشيع أمر صحيح، وهو لا يخالف أنه من أئمة أهل السنة. فالتشيع غير الرفض. ومن الأسباب التي دلت على تشيعه اليسير: 1- تصنيفه في فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 2- إثباته الأسانيد و الروايات لحديث غدير خم. 3- مناظرته مع إمام الحنابلة في عصره داود (أو ابن أبي داود) الذي نتج عنها أن صنّف كتاباً في الرد على الطبري، رماه بالعظائم والرفض، كما ذكر ذلك عوام الحنابلة في بغداد. 4- اشتباه اسمه باسم أحـد الروافض وهو محمد بن جرير بن رستم أبو جعفر الطبري الرافضي، صاحب فتوى المسح على الرجلين. أما صاحبنا ابن جرير بن يزيد، فهو إمام سني فيه تشيع خفيف، وليس فيه رفض البتة. 5- إكثاره من الرواية عن أبي مخنف لوط بن يحيى، حيث روى عنه خمسمئة وسبعاً و ثمانين رواية. وهو مؤرخ رافضي كذاب. منهج ابن جرير في تهذيب الآثار مع العلم بأن الظاهر من كلام المترجمين للطبري أن "تهذيب الآثار" صنفه ابن جرير بعد "جامع البيان " (تفسير الطبري المشهور). وذلك أنه توفي ولم يتمه كما ذكر الذهبي في السير. قال الأَلْبَانِيُّ في كِتَابِهِ سِلْسِلَةُ الأَحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ و المَوْضُوعَةِ (5\173) : «إِنِّي لأَعْجَبُ أشدَّ العجَبِ من أسلوبِ الإمامِ الطَّبريِّ في تَصْحِيْحِ الأحاديثِ في كتابِهِ المذكور (تَهْذِيْبُ الآثَارِ). فَقَدْ رأيتُ له فيهِ عشَرَاتُ الأحاديثِ يُصَرِّحُ بِصِحَّتِها عندَهُ، و لا يَتَكَلَّمُ على ذلك بِتَوْثِيْقٍ. بل يُتْبِعُهُ بحكايته عن العلماءِ الآخرينَ تَضْعِيْفَهم و بكلامِهِم في إعلاَلِهِ، و لا يردُّهُ. بحيثُ أنَّ القَارِئَ يَمِيْلُ إلَيْهِم دُونَهُ! فما أشْبَهَهُ فيهِ بأسلوبِ الرَّازِي في رَدِّهِ على المُعْتَزِلَةِ في تَفْسِيْرِهِ: يَحْكِي شُبُهَاتِهِم عَلَى أَهْلِ السُنَّةِ، ثُمَّ يَعْجِزُ عَنْ رَدِّهَا». قال الشيخ عبد الله السعد في تقديمه لدراسة حديث أم سلمة في مبحث الجهالة: وابن جرير الطبري كذلك (في تصحيح حديث المجهول). فقد روى في "تهذيب الآثار" في مسند علي (ص 118) من طريق أبي إسحاق عن سعيد بن ذي حدّان عن علي... ثم قال: «وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح لعلل...». إلى أن قال: «والثالثة: أن سعيد بن ذي حدان عندهم مجهول، ولا تثبت بمجهول في الدين حجة». قلت: قال ابن المديني عنه: «وهو رجل مجهول، لا أعلم أحداً روى عنه إلا أبو إسحاق». وذكره ابن حبان في "الثقات" (4| 282) على عادته، وقال: «ربما أخطأ». وصحح أيضاً لحلام الغفاري، فقد روى في مسند علي من "تهذيب الآثار" (ص 158) من طريق شقيق بن سلمة عنه عن أبي ذر... ثم قال: «وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح لعلل...». إلى أن قال: «والثانية: أن حلّاما الغفاري عندهم مجهول غير معروف في نقله الآثار، ولا يجوز الاحتجاج بمجهول في الدين». قلت: وحلاّم هذا مجهول فيما يظهر، وقد ترجم ابن أبي حاتم لحلام بن حزل وقال: «يقال هو ابن أخي أبي ذر، روى عن أبي ذر، روى عنه أبو الطفيل، سمعت أبي يقول ذلك». وذكره البخاري في "التاريخ" (3| 129) و سمّاه: حلاب بن حزل. وسكت عنه. وصحح أيضا لهانئ مولى علي، وفيه جهالة. فقد روى في مسند علي من "تهذيب الآثار" (ص170) من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عنه عن علي... ثم قال: «وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح لعلل...». إلى أن قال: «والثانية: أن هانئاً مولى علي غير معروف في أهل النقل، فلا يجوز الاحتجاج بنقله في الدين حجة». قلت: ترجم له البخاري في "تاريخه" (8| 229) وابن أبي حاتم (9|100) وسكتا عنه. وذكره ابن حبان في "الثقات" (5| 509) على عادته. وترجم له ابن حجر في "التهذيب" ولم يذكر فيه توثيقا سوى ما جاء عن ابن حبان. ولذلك قال الذهبي في "الميزان" (4| 291): «لا يعرف». وصحح أيضا لمسور بن إبراهيم كما في مسند باقي العشرة (ص 102). وقد قال عنه الذهبي في "الميزان" (4| 113): «لا يعرف حاله، وحديثه منكر». وعندما ترجم له ابن حجر في "التهذيب" لم ينقل توثيقه عن أحد. ولم يذكره حتى ولا ابن حبان في "الثقات" فيما يظهر. وصحح أيضا لنوفل بن إياس الهذلي كما في مسند باقي العشرة (ص120)، و هو ممن تجهل حاله. قال الذهبي في "الميزان" (4| 280): «لا يعرف». وذكره ابن حبان في "الثقات" (5| 479) كعادته في ذكر مثله. وصحح أيضاً لأبي الرداد الليثي، كما في مسند باقي العشرة (121) وفيه جهالة (تنظر ترجمته في "الميزان" و "اللسان"). ومن صحح له أيضا عبيد الله بن الوازع، كما في مسند باقي العشرة (ص550). فقد روى من طريقه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال الزبير... ثم قال: «وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح لعلتين...». إلى أن قال: «والثانية: أنه من رواية عبيد الله بن الوازع... وعبيد الله عندهم غير معروف في نقلة الآثار». وعبيد الله هذا مجهول، لم يترجم له البخاري في "تاريخه"، ولا ابن أبي حاتم. وعندما ترجم له ابن حجر في "تهذيب التهذيب" لم ينقل توثيقه عن أحد، ولم يذكر في الرواة عنه سوى حفيده عمرو بن عاصم، ولذلك قال في "التقريب": «مجهول». وذكره الذهبي في "الميزان" (3| 17) وقال: «ما علمت له راويا غير حفيده». ولم يذكر فيه توثيقا. وأما قوله عنه في "الكاشف": «صدوق» فهذا فيه نظر لما تقدم. وذكره ابن حبان في "الثقات" (8|403) وطريقته في مثله معروفة. وممن صحح أيضا: ابن أبي عمرة الأنصاري، فقد روى في باقي مسند العشرة (531) من طريق المسعودي عن ابن أبي عمرة عن أبيه... وقد قال قبل ذلك ( ص 526): «وقد وافق الزبير في رواية هذا الخبر عن رسول الله r جماعة من أصحابه، نذكر ما صح عندنا من ذلك سنده». ثم ذكر أحاديث منها هذا الحديث. و ابن أبي عمرة هذا مجهول فيما يظهر، وقد اختلف على المسعودي في تسميته، فمرة سماه: أبو عمرة، ومرة: رجل من آل أبي عمرة، ومرة أخرى: ابن أبي عمرة كما تقدم وهذا يؤكد جهالته، والله أعلم. وتنظر ترجمته في: "التهذيب" و " الميزان" (4| 558) و " الكاشف"، وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": «مجهول من السادسة، وإلا فالصواب أنه الأنصاري والد عبد الرحمن». قلت: الأنصاري والد عبد الرحمن صحابي، وقد مات في خلافة علي t، فهو ليس هذا جزماً. تبين مما تقدم ما يلي: 1. أن أبا جعفر بن جرير صحّح لجمع من المجهولين، وتقدم أيضا ذكر الأدلة من أقوال الأئمة على جهالتهم. 2. أن بعض هؤلاء الرواة نص أبو جعفر على جهالتهم عند الآخرين، فعلى هذا لا يقال: إنه خفي على أبي جعفر جهالة هؤلاء الرواة، وعندما ذكر مخالفته لمذهب الآخرين في عدم جهالتهم لم يذكر ما يدلُّ على توثيقهم. 3. أن أبا جعفر نص على تصحيح الأسانيد التي فيها هؤلاء الرواة لذاتها، فعلى هذا لا يقال: إنه صحح هذه الأحاديث لشواهدها، خاصة أن بعض هذه الأسانيد منكرة، مثل تصحيحه لحديث سعيد بن ذي حدان، فإن الصواب وقفه على علي t، وإن كان المتن جاء من حديث صحابة آخرين. ومثل تصحيحه لحديث المسور بن إبراهيم، وحديثه منكر فرد، لم يتابع عليه، قال أبو حاتم الرازي في "العلل" لابنه (1| 452) عنه: «هذا حديث منكر، و مسور لم يلق عبد الرحمن، وهو مرسل أيضا». وقال الذهبي في "الميزان" (4| 113): «لا يعرف حاله، وحديثه منكر». 4. أن أبا جعفر بن جرير وإن كان يشترط لصحة الخبر أن يكون رواته ثقات –كما في مسند ابن عباس من "تهذيب الآثار" (ص: 26، 342، 623، وغيرها)– وأحياناً ينص على اشتراط العدالة –كما في مسند عمر (ص280) ومسند علي (272) ومسند ابن عباس (ص770) وغير ذلك– ولكنه يتوسع في حد الثقة كما تقدم في تصحيحاته، والله تعالى أعلم. انتهى كلام الشيخ السعد وفقه الله. وهناك مواضيع متعددة في "تهذيب الآثار" يصرح فيها الطبري بأن له منهج مستقل غير منهج المحدثين (ويسميهم الآخرين). وهذه بعضها: تهذيب الآثار (1|55): «وهذا خبر عندنا صحيح سنده وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح لعلل: إحداهما أنه خبر قد حدث به عن خالد عن عكرمة غير من ذكرت فأرسله ولم يجعل بين عكرمة والنبي ابن عباس. والثانية أنه من رواية عكرمة وقد ذكرت قولهم في عكرمة فيما مضى من كتابنا هذا. والثالثة أن راويه عن عكرمة خالد وكان شعبة يغمص عليه». تهذيب الآثار (1|90): «وهذا خبر عندنا صحيح سنده وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح لعلل: إحداها أنه من رواية عكرمة عن ابن عباس وقد ذكرنا قولهم في عكرمة وفيما روى فيما مضى قبل فكرهنا إعادته. والثانية أنه خبر قد رواه عن عكرمة غير خالد فأرسله ولم يصله ولم يجعل بينه وبين النبي أحداً. والثالثة أنه من نقل خالد عن عكرمة، وخالد عندهم في نقله نظر». تهذيب الآثار (1|188): «وهذا خبر عندنا صحيح سنده وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح لعلل: إحداها أنه خبر لا يعرف له مخرج من حديث خالد عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا إلا من هذا الوجه. والخبر إذا انفرد به عندهم منفرد وجب التثبت فيه. والثانية أنه من رواية عكرمة عنه وفى نقل عكرمة عندهم نظر. والثالثة أنه من رواية خالد عنه وفى نقل خالد عندهم ما ذكرنا قبل. والرابعة أنه خبر قد رواه عن عكرمة غير خالد فأرسله عن ابن عباس ولم يرفعه إلى النبي وخالفه أيضا في اللفظ والمعنى. والخامسة أنه قد رواه أيضا بعضهم عن عكرمة فأرسله ولم يجعل بينه وبين النبي أحدا وخالفه في اللفظ والمعنى. ذكر من روى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس ولم يرفعه إلى النبي وجعله من كلام ابن عباس وخالفه في اللفظ والمعنى». تهذيب الآثار (1|217): «وهذا خبر عندنا صحيح سنده لا علة فيه توهنه ولا سبب يضعفه وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح لعلل: إحداهما أنه خبر قد حدث به عن عكرمة أيوب السختياني، فأرسله عنه ولم يجعل بينه وبين النبي أحدا. وإن كان بعض رواته قد وصله عنه. والثانية أنه خبر قد حدث به عن خالد الحذاء غير من ذكرت، فأرسله عنه عن عكرمة ولم يجعل بين عكرمة وبين النبي ابن عباس. والثالثة أنه من نقل عكرمة، وفى نقله عندهم نظر لأسباب قد بيناها قبل. والرابعة أنه من رواية خالد عن عكرمة وفى رواية خالد عندهم ما قد تقدم بيانه قبل». تهذيب الآثار (1|240): «وهذا خبر عندنا صحيح سنده وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح لعلتين: إحداهما أن بعض ما فيه من معانيه لا مخرج له يصح عن ابن عباس عن النبي إلا من هذا الوجه. والخبر إذا انفرد به عندهم منفرد وجب التثبت فيه. والثانية أنه من نقل عكرمة عن ابن عباس وفى نقل عكرمة عندهم نظر يجب التوقف فيه». تهذيب الآثار (1|317): «وهذا الخبر صحيح عندنا سنده وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح لعلل: إحداها أنه خبر لا يعرف له مخرج يصح عن ابن عباس إلا من هذا الوجه. والثانية لأنه من نقل عكرمة عن ابن عباس وفى نقل عكرمة عندهم نظر يجب التثبت فيه من أجله. والثالثة أن المعروف عن ابن عباس من روايته القنوت في الصبح إنما هو عن عمر t دون الرواية عن النبي r». |
:بس:
:سل: منهج ابن خراش وابن عقدة الرافضيان ابن خراش عبد الرحمن بن يوسف بن خراش (283هـ). كان من الحفاظ الكبار الذين كانت تعقد لهم مجالس التحديث والمذاكرة. وقال الخطيب في تاريخ بغداد (10|280): «كان أحد الرحالين في الحديث إلى الأمصار، وممن يوصف بالحفظ والمعرفة». وقال ابن المنادي: «كان من المعدودين المذكورين بالحفظ والفهم للحديث والرجال». لكن ابن خراش شيعي خبيث متهم بالرفض. قال الحافظ عبدان الأهوازي (306هـ)، (فيما نقله عنه تلميذه ابن عدي): «وحمل ابن خراش إلى بندار عندنا جزأين صنفهما في مثالب الشيخين، فأجازه بألفي درهم. فبنى بذلك حجرة ببغداد ليحدث فيها. فما متع بها، ومات حين فرغ منها». وقال ابن عدي في الكامل (4|321): «سمعت أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن عقدة يقول: كان ابن خراش في الكوفة إذا كتب شيئا من باب التشيع يقول لي: "هذا لا ينفق إلا عندي وعندك يا أبا العباس"». قال الذهبي في السير (13|510) عنه: «هذا مُعَثَّرٌ مخذول. كان عِلمهُ وبالاً، وسعيه ضلالاً، نعوذ بالله من الخِذلان». وقال في الميزان عنه (4|330): «هذا والله: الشيخ المعثّر الذي ضلّ سعيه. فإنه كان حافظ زمانه، وله الرحلة الواسعة والاطلاع الكثير والإحاطة. وبعد هذا فما انتفع بعلمه. فلا عتب على حمير الرافضة». وأشار كذلك في عدة مواضع لعدم الاعتداد بهذا الرافضي. فقال في السير (12|487) رادّاً على تكذيب ابن خراش للحافظ أحمد بن الفرات: «من الذي يُصَدّق ابن خراش –ذاك الرافضي– في قوله؟!». وقال في الميزان (ص259) في ترجمة "أحمد بن عبدة": «وقال ابن خراش: "تكلم الناس فيه"، فلم يَصدُق ابن خراش في قوله هذا». قال الذهبي في الميزان (6|536) في ترجمة "موسى بن إسماعيل": «لم أذكر أبا سلمة لِلِينٍ فيه، لكن لقول ابن خراش فيه "صدوق، وتكلم الناس فيه". قلت: نعم، تكلموا فيه بأنه ثقة ثبت، يا رافضي!». والتشيع ثابت عليه ظاهر، أما الرفض فيظهر أنه لم يكن يظهره في بغداد، وإلا لفضحه نقاد الحديث فيها. وإنما صنف كتابه في الرفض في بندار، والظاهر أنه لم يشتهر عنه في غيرها. والله أعلم. فلذلك يؤخذ برأيه في الرجال، إلا إن شذ أو تفرد برأي، فهنا يتهم بذلك ويرد قوله ولا كرامة، كما في كلامه على مالك بن أوس. ابن عقدة رافضي مجروح في دينه ونقله. قال المعلمي في التنكيل (1|170): «الذي يتحرر من هذه النقول وغيرها أن ابن عقدة ليس بعمدة. وفي سرقة الكتب والأمر بالكذب وبناء الرواية عليه، ما يمنع الاعتماد على الرجل فيما ينفرد به». وقال الخطيب في "تاريخ بغداد" (2|237): «في الجرح بما يحكيه أبو العباس بن سعيد (ابن عقدة) نظر. حدثني علي بن محمد بن نصر قال: سمعت حمزة السهمي يقول: سألت أبا بكر بن عبدان عن ابن عقدة إذا حكى حكاية عن غيره من الشيوخ في الجرح، هل يقبل قوله أم لا؟ قال: لا يُقبل». وفي سؤالات السُّلمي (ص3 #41) قال الدار قطني وقد سُئِل عن ابن عقدة: «حافظ محدّث. ولم يكن في الدين بالقوي. ولا أزيد على هذا». |
:بس:
:سل: أبو حنيفة بين الجرح والتعديل : أبو حنيفة –رحمه الله– إمامٌ فحلٌ صاحب مدرسة فقهية كبيرة لها وقعها الكبير قديماً و حديثاً. و قد اختار ابن تيمية كثيراً من أقواله، جمعها أحد الاخوة في جزء. وهو من أذكياء العالم، لا يستريب في هذا أحد! وأبو حنيفة هو إمام علم في الفقه والاستنباط، وإمام في الزهد والورع. ولا يعيبه أن تكون بضاعته في الحديث مُزجاة، أو أنه لم يُذكر في عداد أهل الصناعة والدراية. ومن قال ذا يعيبه؟ فهذا الشأن لكل من انصرف لفن دون آخر. وأما كونه ضعيفاً في الحديث فلا يجرح في إمامته في الفقه والدين. فكم من فقيه جليل لا يعتد بروايته للحديث، كما أنه كم من محدث جليل لا يقيم الفقهاء لرأيه واستنباطه وزناً. وكل علم يسأل عنه أهله. وإذا كان الراوي أحياناً يكون ثقة في روايته عن شيخ، وضعيفاً في روايته عن شيخ آخر، أو يكون ثقة في روايته عن أهل بلد، وضعيفا في روايته عن أهل بلد آخر، فكذلك يكون الرجل ثقة في روايته لعلم، وضعيفاً في روايته لعلم آخر. قال الذهبي في السير (5|260) في ترجمة عاصم: «وما زال في كل وقت يكون العالم: إماماً في فن، مقصراً في فنون. وكذلك كان صاحبه حفص بن سليمان ثبتاً في القراءة واهياً في الحديث. وكان الأعمش بخلافه: كان ثبتاً في الحديث، ليّناً في الحروف. فإن للأعمش قراءة منقولة في كتاب "المنهج" وغيره، لا ترتقي إلى رتبة القراءات السبع، ولا إلى قراءة يعقوب وأبي جعفر. والله أعلم». والأحناف في كل كتاب حديث تقريبا يضيعون مساحة شاسعة منه للدفاع عن أبي حنيفة وإثبات أنه ثقة. بل ويغيرون كل علم الجرح والتعديل حتى يحصلون على تعديل إمامهم. وكل من جرح أبا حنيفة يصبح متعنت أو مجروح. والعكس بالعكس. يا من تنشدون الكمال لأبي حنيفة من كل وجه، لقد سودتم الصحيفة بِرَميِكُم المحدّثين بالتعصب والحسد. وبهذا أسقطتم كبار القوم للدفاع عن رجل واحد، اعترف له الكل بفضله وتقدمه في فنه، ونطق المحدثون بضعفه في الحديث، وفق ما تقتضيه الأمانة والديانة، ودلّ على ذلك الشواهد والواقع. أمانة حملوها فوق أعناقهم، لم يسعهم السكوت عنها. ما أتوا ظلماً ولا هضماً. بل أنزلوا أبا حنيفة منزلة غيره من المحدثين، ممن لا يُحصون عدداً، مروا جميعهم على ميزان النقد. لم يحابوا والداً ولا ولداً، شريفاً ولا وضيعاً، أميراً ولا وزيراً. إنها الأمانة والعدالة، صيانة لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فلماذا ترون هذا واجباً في حق جميع الرواة دفاعاً عن السنة، وترونه ظلماً وحسداً في حق فردٍ واحد؟ أليس هذا هو التعصب؟ الثناء على أبي حنيفة: أبو نعيم الحافظ، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن علي (أبو بكر العطار، ثقة)، قال: سمعت حمزة بن علي البصري يقول: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: «الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه». وقال حرملة بن يحيى: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: «من أراد أن يتبحر في الفقه، فهو عيال على أبي حنيفة». قال: و سمعته -يعني الشافعي- يقول: «كان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه». وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (6|404): قال حفص بن غياث: «كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر، لا يعيبه إلا جاهل». وقال الذهبي أيضاً: وروي عن الأعمش أنه سئل عن مسألة، فقال: «إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت، وأظنه بورك له في علمه». وقال جرير: قال لي مغيرة: «جالس أبا حنيفة تفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حيا لجالسه». قلت –أي الذهبي–: «الإمامة في الفقه ودقائقه، مسلّمة إلى هذا الإمام. وهذا أمر لا شك فيه». انتهى. وقال الذهبي عنه: «برع في الرأي، وساد أهل زمانه في التفقه، وتفريع المسائل، وتصدر للاشتغال، وتخرج به الأصحاب». ثمَّ قال: «وكان معدوداً في الأجواد الأسخياء، والأولياء الأذكياء، مع الدين والعبادة والتهجد وكثرة التلاوة، وقيام الليل رضي الله عنه». وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (10|110): «الإمام أبو حنيفة... فقيه العراق، وأحد أئمة الإسلام، والسادة الأعلام، وأحد أركان العلماء، وأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة، وهو أقدمهم وفاة». وقال ابن العماد في "شذرات الذهب" (1|228): «وكان من أذكياء بني آدم. جمع الفقه والعبادة، والورع والسخاء. وكان لا يقبل جوائز الدولة، بل ينفق ويؤثر من كسبه». ويروى عن سفيان الثوري –كما في الفقيه والمتفقه (2|73)– قوله: «كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه». وقال محمَّد بن مُزاحِم: سمعت ابن المبارك يقول: «أفقَهُ الناس أبو حنيفة. ما رأيتُ في الفقه مثله». وقال ابن المبارك أيضاً: «لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان، كنت كسائر الناس». توثيق أبي حنيفة: لم أجد من وثق أبا حنيفة من المحدثين إلا ابن معين (ولم يصح) وابن المديني، وسائر ما يذكر في ترجمته من الثناء إنما هو في علمه وفضله ورأيه. وقد جاء عن ابن معين وابن المديني تضعيفها لأبي حنيفة، وهو ما يخفيه الأحناف ولا يذكرونه! وإليكم كلامهما: ففي تهذيب التهذيب (1|401): قال محمد بن سعد العَوْفي (ضعيف) سمعت ابنَ معين يقول: «كان أبو حنيفة ثقةً لا يُحدِّث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يُحدِّث بما لا يحفظ». وقال صالح بن محمد الأسدي الحافظ (مجهول): سمعت يحيى بن معين يقول: «كان أبو حنيفة ثقة في الحديث». و قال أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز (لم أجد فيه توثيق)، عن يحيى بن معين: «كان أبو حنيفة لا بأس به». وقال ابن عبد البر في "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء" (ص127): قال عبد الله بن أحمد الدَّورقي (مجهول): سئل يحيى بن مَعين وأنا أسمع عن أبي حنيفة؟ فقال ابنُ مَعين: «هو ثقةٌ ما سمعتُ أحداً ضعَّفه (!!). هذا شعبةُ بن الحجاج يكتب إليه أن يُحدِّث، ويأمُرُه. وشعبةُ شعبة». وهذا الدورقي قد قال ابن حزم عنه في "حجة الوداع": «لا أعرفه». نقل هذا الذهبي في ميزان الاعتدال (8|132) مقراً له. وقال الحسيني في الإكمال (1|237): «فيه جهالة». والمقولة منكرة لما نعلم من ذم شعبة لأبي حنيفة. فإذا عرفنا أن توثيق ابن معين لأبي حنيفة لم يصح، نذكر أنه قد صح عنه تضعيف حديث أبي حنيفة. قال ابن أبي مريم –كما في الكامل لابن عدي (8|236)–: سألت يحيى بن معين عن أبي حنيفة، فقال: «لا يكتب حديثه». وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة –كما في الضعفاء للعقيلي (4|285)–: سمعت يحيى بن معين وسئل عن أبي حنيفة، قال: «كان يضعف في الحديث». وقال محمد بن حماد المقرئ –كما في تاريخ بغداد (13|445)–: وسألت يحيى بن معين عن أبي حنيفة، فقال: «وإيش كان عند أبي حنيفة من الحديث حتى تسأل عنه؟!». وعلى فرض صحة روايات التوثيق (وقد رأيت أنها لا تصح مطلقاً)، فيجاب عليها بأن ابن معين مشهور ميله لأبي حنيفة واستحسانه لرأيه، ولعل هذا التوثيق كان في أول أمر يحيى بن معين، ثم اطلع بعد ذلك على ما له من أوهام وأخطاء فضعفه في الحديث. قال الإمام علي بن المديني: «أبو حنيفة روى عنه الثوري وابن المبارك، وهو ثقة لا بأس به». وقد جاء عنه التضعيف كذلك. إذ قال عبد الله بن علي بن عبد الله المديني –كما في تاريخ بغداد (13|450)–: وسألت –يعني أباه– عن أبي حنيفة صاحب الرأي، فضعفه جداً، وقال: «لو كان بين يَدَيّ ما سألته عن شيء». وروى خمسين حديثاً أخطأ فيها. انتهى. قال المعلمي في التنكيل (1|358) جواباً عن توثيق علي بن المديني لأبي حنيفة: «كان من دعاة المحنة حنفية، وكانوا ينسبون مقالتهم التي امتحنوا الناس فيها إلى أبي حنيفة، ويدعون إلى مذهبه في الفقه، كما مرت الإشارة إلى طرف منه في ترجمة سفيان الثوري، فكأنهم استكرهوا ابن المديني على أن يثني على أبي حنيفة ويوثقه فاضطر إلى أن يوافقهم. وقد يكون ورّى فقصد بكلمة "ثقة" معنى أنه لم يكذب، ثم لما سأله ابنه أخبره بما يعتقد». تضعيف أبي حنيفة: يجب من الأول أن نفهم سبب تشدد السلف على الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. فإن من منهج أهل السنة والجماعة أن الرجل إذا زل في بعض المواضع فإننا نستر عليه ذلك فإذا اشتهر نحذر من تلك الأخطاء والزلات دون أن نهدر عدالته. لكن زاد الكثير من العلماء على هذا أن من كثرت زلاته وجب إسقاطه مهما بلغت مكانته العلمية لأن هذا أسهل من التحذير من هذه الأخطاء. وكثير من هذا الطعن في أبي حنيفة تجد مثله في غيره من العلماء بما فيهم مالك والشافعي. لكن الذي حمى مالك من أن يسقطه أهل الحديث كونه يحتاج إليه جداً في الكثير من الأحاديث. وهذا أوضحه ابن عبد البر ببحث طويل في "جامع بيان العلم وفضله" وكذلك في "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء" ليس هذا مكان ذكره. نقل العلامة المعلمي اليماني في كتابه "التنكيل بما في مقالات الكوثري من الأباطيل" مواقف شديدة لبعض أئمة السلف من الإمام أبي حنيفة والتي كان يستدل بها الكوثري، وعلق عليها المعلمي اليماني أن من مذاهب السلف في إسقاط أخطاء الفقهاء: مذهب بإسقاط صاحب الأخطاء الكثيرة وتنفير الناس منه حتى لا يتبعوه، حتى لو كانوا يقرون بفضله على الأمة. وهذا ما نقمه الكوثري على بعض الأئمة المتقدمين لكون بعضهم عمل على إسقاط الإمام أبي حنيفة رحمه الله. ومذهب آخر بالترحم على أهل الفضل من العلماء الذين يقعون في أخطاء علمية، مع تعقب أخطائهم فقط حتى لا يقع فيها الناس. إلا أن هذا المذهب قد يشتد في الإنكار لعظم الخطأ في بعض المسائل، مع إبقاء أصل الاحترام مع نقل ذلك. فالصحابة رضي الله عنهم أجمعين ومن بعدهم من أئمة التابعين وغيرهم من السلف، لم ينقطع بينهم الولاء والقتال في صف واحد. ومع ذلك كانوا لا يتساهلوا فيما يمكن أن يحرف دين الأمة. ومثال ذلك و الأمثلة كثيرة: ما جاء في صحيح مسلم من قول ابن الزبير لابن عباس –وهو من هو– حبر الامة، وفضله على الأمة جاري حتى الآن، وعلم ابن الزبير لا يقارن بعلم ابن عباس. قال له بخصوص مسألة زواج المتعة: «أفعل بنفسك (يقصد زواج المتعة) ولأرجمنك بأحجارك». رضي الله عنهم أجمعين. و قد كان يحدث بينهم ذلك لان الأمر كان عندهم دين يجب صيانته من التحريف. لكن لا يأتي أحد ويقيم ابن عباس من قول ابن الزبير عنه. فهذا غلط. وبهذا نفهم سبب حدة بعض العلماء القدامى على الإمام أبي حنيفة رحمه الله. ثم استقر الأمر على إمامته في الفقه. لذلك لا تجد الفقهاء السلفيين كالذهبي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير والمزي وابن عبد الهادي وابن عبد الوهاب إلا ويذكرونه بالخير. قال ابن عبد البر في التمهيد (14|13) عن حديث "المتبايعان بالخيار": «وقد روي عن أبي حنيفة أنه كان يرد هذا الخبر، باعتباره إياه على أصوله، كسائر فعله في أخبار الآحاد: كان يعرضها على الأصول المجتمع عليها عنده، ويجتهد في قبولها أو ردها. فهذا أصله في أخبار الآحاد. وروي عنه أنه كان يقول في رد هذا الحديث: "أرأيت إن كانا في سفينة؟ أرأيت إن كانا في سجن أو قيد؟ كيف يفترقان؟ إذن فلا يصح بين هؤلاء بيع أبداً"! وهذا مما عيب به أبو حنيفة. وهو أكبر عيوبه وأشد ذنوبه عند أهل الحديث الناقلين لمثالبه، باعتراضه الآثار الصحاح، ورده لها برأيه. وأما الإرجاء المنسوب إليه، فقد كان غيره فيه أدخل وبه أقوَل، لم يشتغل أهل الحديث من نقل مثالبه ورواية سقطاته مثل ما اشتغلوا به من مثالب أبي حنيفة. والعلة في ذلك ما ذكرت لك. وذلك ما وجدوا له من ترك السنن وردها برأيه، أعني السنن المنقولة بأخبار العدول الآحاد الثقات، والله المستعان». أهم الكتب التي ذكرت جرح أبي حنيفاً مسنداً هي: 1- تاريخ بغداد للخطيب. 2- المجروحون لابن حبان. 3- الكامل لابن عدي. 4- السنة لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل. وأظنها استوعبت الجرح كله، وبخاصة الأول. وبعض تلك الأقوال منصف وكثير منها غير منصف. 1– فقوم طعنوا في روايته وقلة حفظه وضبطه، وأن أبا حنيفة لا يميز بين صحيح الحديث وضعيفه. وهذا أمر صحيح أجمع عليه علماء الحديث قاطبة، وذكروا أدلته. وسبب ذلك أنه كان اهتمامه منصباً على الفقه والاجتهاد والعبادة. وإذا روى الحديث رواه بالمعنى على إسلوب شيخه حماد. وقد اعترف الإمام به بنفسه. إذ أخرج الإمام ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8|449): عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، عن أبي عبد الرحمان المقرئ، قال: كان أبو حنيفة يُحدثنا، فإذا فرغ من الحديث، قال: «هذا الذي سمعتم كله ريحٌ وباطلٌ». وقال الترمذي: سمعت محمود بن غيلان، يقول: سمعت المقرئ، يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: «عامة ما أحدثكم خطأ». وهذا سند صحيح كالشمس. وهو موافقٌ لكلام النقاد، واعترافٌ من الإمام بأنه ليس ضابطاً لحديثه. وهذا حمله عليه ورعه ومعرفته بقدر نفسه في الحديث، لأنه ليس من فرسان الأسانيد والعلل. وقد اعترف الإمام الزيلعي (وهو من أكبر الحفاظ الحنفية) بضعف أبي حنيفة في حديث "نهى عن بيع وشرط". وهناك رسالة نوقشت قديماً بعنوان "الإمام أبو حنيفة بين الجرح والتعديل" نوقشت في جامعة أم القرى. وانتهى -كما قيل لنا- إلى أن أبا حنيفة من حيث الحفظ في مرتبة الصدوق. وأظنه بنى ذلك على تخريج الأحاديث المروية من طريق أبي حنيفة. 2– وقوم طعنوا فيه لما يرجع إلى العقائد و الكلام في الأصول. وهذا باطل. ولم يخالف أبو حنيفة السلف الصالح إلا في مسألة الإرجاء، إذا وافق شيخه حماد في ما يسمى بمذهب مرجئة الفقهاء في الإيمان. وقد أوضح شيخ الإسلام أن هذا كان في ذلك الوقت خلافاً لفظياً فحسب. ثم تطور لاحقاً على يد الماتريدية والأشاعرة فصار حقيقياً. و والله تجد اليوم أقوام غالوا في الإرجاء الحقيقي مع الحكام الطواغيت، بل فاقوا الجهمية أنفسهم، ومع ذلك يلمزون الإمام أبا حنيفة. ولا نقول إلا: رمتني بدائها وانسلت. يقول شيخ الإسلام في كتاب الإيمان (ص337): «إنه لم يكفر أحد، من السلف من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد، فإن كثيراً من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنَّة هو الصواب». وقال في مجموع الفتاوى (7|297): «ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنَّة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلاَّ فالقائلون بأن الإيمان قول من فقهاء -كحماد بن أبي سليمان وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم- متفقون مع جميع علماء السنَّة أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا: إن إيمانهم كما كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب كما تقوله الجماعة. ويقولون أيضاً: إن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة». وبه قال الذهبي وابن أبي العز إذ قال في شرح العقيدة الطحاوية (ص362): «الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنَّة صوري فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزء من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد». لكن القوم أصروا على أن يفتروا عليه أقوال ومسائل بهدف التشنيع، وظاهرها الكفر والضلال. قال الإمام ابن تيمية في المنهاج (2|619): «كما أن أبا حنيفة –وإن كان الناس خالفوه في أشياء وأنكروها عليه– فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه. وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه، وهي كذب عليه قطعاً». ومن ذلك اتهامه –والعياذ بالله– بالقول بخلق القرآن. واتهامه بأنه استتيب من الكفر مرتين! روى عبد الله في "السنة" (ص192) قال: «سمعت أبي –رحمه الله– يقول (عن أبي حنيفة): أظن أنه استتيب في هذه الآية {سبحان ربك رب العزة عما يصفون}. قال أبو حنيفة: "هذا مخلوق". فقالوا له: "هذا كفر". فاستتابوه». قال الشيخ الدكتور محمد بن سعيد القحطاني معلقاً: «لا يقام حكم بظن». ثم إن الإمام أحمد، قد ظهر له خطأ ظنه، وثبت عنده أن أبا حنيفة ما قال بخلق القرآن قط. قال أبو بكر المروزي (كما في تاريخ بغداد 13|378): سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: «لم يصح عندنا أن أبا حنيفة كان يقول: القرآن مخلوق». وهذا يكذب كل الروايات التي تتهم الإمام أبا حنيفة بالكفر، والعياذ بالله. بل إن الإمام أحمد حصل له نوع من التعاطف والتقدير لموقف أبي حنيفة المشرف من السلاطين الظلمة. فقال إسماعيل بن سالم البغدادي (كما في تاريخ بغداد 13|327): «ضرب أبو حنيفة على الدخول في القضاء، فلم يقبل القضاء». قال: «وكان أحمد بن حنبل إذا ذكر ذلك بكى، وترحم على أبي حنيفة، وذلك بعد أن ضُرِبَ أحمد». وبالنسبة لمسألة استتابته من الكفر فقد رد الأئمة الأحناف على هذه الفرية. قال الفقيه المحقق علي بن محمد القاري في مناقب الإمام: قال أبو الفضل الكرماني: لما دخل الخوارج الكوفة مع الضحاك –ورأيهم تكفير كل من أذنب وتكفير كل من لم يكفَّر مرتكب الذنب– قيل لهم: هذا شيخ هؤلاء. فأخذوا الإمام أبا حنيفة وقالوا له: تب من الكفر. فقال: أنا تائب من كل كفر. فقيل لهم: إنه تائب من كفركم، فأخذوه فقال لهم: أبعلم قلتم أم بظن؟ قالوا: بظن، قال إن بعض الظن إثم، والإثم ذنب فتوبوا من الكفر. قالوا: تب أنت أيضاً من الكفر، فقال أنا تائب من كل كفر. فهذا الذي قاله أهل الضلال من إن الإمام استتيب من الكفر مرتين، ولبّسوا على العامة من الناس. ا.هـ 3– وقوم طعنوا لقوله الرأي فيما يخالف الأحاديث الصحاح. وهذا تجد تفصيله في "التنكيل". 4– وقوم طعنوا فيه بأمور باطلة أو أنها ليست جرحاً. مثل قول يزيد بن زريع: «كان أبو حنيفة نبطياً»، وهذه جاهلية عنصرية وفوق ذلك فالقول خطأ لأن أبا حنيفة فارسي. 5- وقوم ما ذكروا طعناً، لكنهم أفحشوا في السب واللعن والاستهزاء (مثل تسميته بأبي جيفة). وليس المؤمن بلعان ولا فاحش ولا بذيء. إنما صفة المنافق أنه إذا خاصم فجَر. وأما عن تحامل الكثيرين عليه فهذا لا ريب فيه. قال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2|149): قال يحيى بن معين: «أصحابنا (أي أهل الحديث) يُفْرِطون في أبي حنيفة وأصحابه». وبعض الذين انتقدوا أبي حنيفة هم فعلاً أصحاب تعصب مذهبي. فالخطيب البغدادي كان شافعياً متعصباً على الأحناف والحنابلة، كما ذكر ابن عبد الهادي. وقد رد عليه ابن الجوزي الذي لم يكن أقل منه تعصباً وحدّة (لمذهب الحنابلة). وكثير من الأقوال التي نقلها الخطيب في ذم أبي حنيفة لا تصح. قلة حديث أبي حنيفة: ولا بد من التنبيه أن ما قيل من قلة أحاديث أبي حنيفة ليس على إطلاقه. نعم، لم يصله الكثير جداً من الأحاديث الصحيحة. وليس معنى ذلك أنه ليس عنده حديث. قال العلامة المعلمي في "الأنوار الكاشفة": «لزم أبو حنيفة حماد بن أبي سليمان يأخذ عنه مدة، وكان حماد كثير الحديث. ثم أخذ عن عدد كثير غيره كما تراه في مناقبه. وقلة الأحاديث المروية عنه لا تدل على قلة ما عنده، ذلك أنه لم يتصدى للرواية. وقد قدمنا أن العالم لا يكلف جمع السنة كلها. بل إذا كان عارفاً بالقرآن وعنده طائفة صالحة من السنة بحيث يغلب على اجتهاده الصواب كان له أن يفتي، وإذا عرضت قضية لم يجدها في الكتاب والسنة سأل من عنده علم بالسنة، فإن لم يجد اجتهد رأيه. وكذلك كان أبو حنيفة يفعل. وكان عنده في حلقته جماعة من المكثرين في الحديث كمسعر وحبان ومندل. والأحاديث التي ذكروا أنه خالفها قليلة بالنسبة إلى ما وافقه. وما من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء. ولم يدع هو العصمة لنفسه ولا ادعاها له أحد. وقد خالفه كبار أصحابه في كثير من أقواله. وكان جماعة من علماء عصره ومن قرب منه ينفرون عنه وعن بعض أقواله. فإن فرض أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجة بينة، فليس معنى ذلك أنه زعم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم. بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة. بل ذهب إلى أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعاً لحديث ضعيف (وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين مسائل أخرى لأبي حنيفة من هذا القبيل وكذلك غيره). ومن ثُمّ، ذكر أصحابه أن من أصله تقديم الحديث الضعيف –بله الصحيح– على القياس». |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]أبو يوسف وزفر صاحبي أبي حنيفة[/SIZE][/COLOR] [COLOR="Red"][SIZE="6"]توثيق أبو يوسف صاحب أبي حنيفة[/SIZE][/COLOR] قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (8\535): «هو الإمام المجتهد العلامة المحدث قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم». وقال إبراهيم بن أبي داود البرلسي: سمعت ابن معين يقول: «ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث ولا أحفظ ولا أصح رواية من أبي يوسف». وقال أحمد بن حنبل: «أول ما كتبت الحديث، اختلفتُ إلى أبي يوسف. وكان أميَلَ إلى المحدِّثين من أبي حنيفة ومحمد». وكان أحمد بن حنبل كذلك يحفظ كتب أبي يوسف ومحمد بن الحسن عن ظهر قلب. وفي سير أعلام النبلاء (11\306): قال ابنه عبد الله: «كتب أبي عن أبي يوسف ومحمد الكتب، وكان يحفظها. فقال لي مهنى: كنت اسأله، فيقول: "ليس ذا في كتبهم". فأرجع إليهم، فيقولون: "صاحبك أعلم منا بالكتب"». وقال ابن معين: «أبو يوسف: صاحب الحديث، صاحب سنة». وروى الدوري (4\474) عن ابن معين عن أحمد قوله: «اختلفت إلى أبي يوسف، ثم اختلفت إلى الناس بعد». وقد درس ابن معين الفقه على أبي يوسف، وبقي له محباً، حتى أن الذهبي بالغ فجعل ابن معين من الحنفية الغلاة. وقد حدث خلاف وتنافس بين أبي يوسف ومحمد بن الحسن على زعامة الأحناف، فهذا سبب حمل ابن معين الشديد على محمد. روى الذهبي في تذكرة الحفاظ (1\293): أن يحيى بن معين قال: «ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثاً ولا أثبت من أبي يوسف». وقال علي بن الجعد سمعت أبا يوسف يقول: «من قال "إيماني كإيمان جبريل" فهو صاحب بدعة». وقال المزني (صاحب الشافعي): «أبو يوسف أتبَعُ القوم للحديث». وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (8\537): قال أحمد (بن حنبل): «كان أبو يوسف مُنصِفاً في الحديث». وابن حبان رغم تعصبه ضد الأحناف تجده يقول عن أبي يوسف في كتابه "مشاهير علماء الأمصار" (ص171): «من الفقهاء المتقنين». وقال عنه في "الثقات" (7\645): «وكان شيخاً مُتقِناً». واعترف بأنه سلفي العقيدة، ثم قال: حدثني الحسن بن محمد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم القاص، ثنا قتيبة بن سعيد، قال: سمعت أبا يوسف يقول: «الإيمان قولٌ وعملٌ يزيد وينقص». وقال ابن عدي: «لا بأس به». وقال النسائي في طبقات الحنفية: «وأبو يوسف ثقة». فهؤلاء على كراهيتهم الشديدة للأحناف وثقوه، وهو من إنصافهم. ولو لم يكن ثبتاً لطعنوا فيه فوراً، لما بينهم وبين الأحناف. ومع إقرار أحمد بعلم أبي يوسف وقوة حفظه للحديث، فإنه قليل الرواية عنه. كما أنه إذا روى عن أبي حنيفة، دلس اسم أبي حنيفة وجعله "أبا فلان"! بل إنه قال لإبنه كما في الجرح والتعديل عن أبي يوسف: «صدوق، ولكن من أصحاب أبي حنيفة، لا ينبغي أن يُروى عنه شيء!». فهذا يظهر لك شدة حمل الحنابلة على الأحناف. فهم يروون عن غلاة الشيعة ورؤوس المرجئة ودعاة الخوارج والكثير من القدرية، لكنهم يمتنعون عن الرواية عن الأحناف. مع أن أبا يوسف كان ثقةً فقيهاً سلفي العقيدة، وكان يقول: «الإيمان قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص». ومن المؤسف أن يظل البعض اليوم على هذا المنوال. قال محمد بن جرير الطبري: «وتحامى حديثه قوم من أهل الحديث من أجل: غلبة الرأي عليه، وتفريعه الفروع والأحكام، مع صحبة السلطان، وتقلّده القضاء». قال ابن عبد البرّ: «كان أبو يوسف قاضي القضاة، قضى لثلاثة من الخلفاء، ولّيَ القضاء في بعض أيام المهدي ثم للهادي ثم للرشيد. وكان الرشيد يكرمه ويجلّه، وكان عنده حظياً مكيناً. لذلك كانت له اليد الطولى في نشر ذكر أبي حنيفة وإعلاء شأنه لما أوتي من قوة السلطان، وسلطان القوة». [COLOR="Red"][SIZE="6"]زفر بن الهذيل[/SIZE][/COLOR] كان زفر بن الهذيل (ت158هـ) من أصحاب أبي حنيفة الثقات، وكان معروفاً بإنصافه وسرعة رجوعه إلى الحق. قال ابن حبان في "الثقات" (7\646): «لسنا ممن يوهم الرعاع ما لا يستحله، ولا ممن يحيف بالقدح في إنسان، وإن كان لنا مخالفاً. بل نُعطي كل شيخٍ حظه مما كان فيه. ونقول في كل إنسان ما كان يستحقه من العدالة والجرح. أدخلنا زفراً وأبا يوسف بين الثقات، لما تبين عندنا من عدالتهما في الأخبار. وأدخلنا من لا يشبههما في الضعفاء، مما صح عندنا مما لا يجوز الاحتجاج به». جاء في تاريخ ابن معين (رواية الدوري) (3\503): سمعت يحيى يقول: «زفر صاحب الرأي ثقة مأمون». وقال أبو نعيم (الفضل بن دكين، وهو متشدد): «زفر ثقة مأمون»، نقله ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. قال ابن حبان في "مشاهير علماء الأمصار" (ص170): «زفر بن الهذيل القياس أبو الهذيل: من متورعة الفقهاء، لم يسلك سبيل صاحبيه (أبي حنيفة ومحمد بن الحسن) في الروايات (أي في الإفراط في التأويل). وكان إذا لاح له الحق، يرجع إليه من غير أن يتمادى في باطله». |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]منهج أبو الفرج ابن الجوزي : [/SIZE][/COLOR] ابن الجوزي رجل واسع الاطلاع كثير التأليف جداً، لكنه قليل التحقيق صاحب أوهام كثيرة. فهو يحتج بروايات موضوعة بكثرة في أكثر كتبه (كصيد الخاطر وغيرها)، لكن ربما ينسب (في كتب أخرى) إلى الوضع أحاديث صحيحة ربما أخرجها مسلم وغيره. مع انحراف في العقيدة وتبديع وتشنيعٍ شديد على أهل السنة، وافتراءٍ على الإمام أحمد بن حنبل. فقد ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة (1\144): «ابن الجوزي –رحمه الله– تأثر بشيخه أبو الوفاء علي ابن عقيل الذي كان يتردد على ابن التبان وابن الوليد شيخي المعتزلة. وكان يقرأ عليهما في السر عِلم الكلام. فظهر منه بعض الأحيان انحرافٌ عن السنة وتأوّلٌ لبعض الصفات، إلى أن مات رحمه الله». ورغم تأثره الواضح بالمعتزلة، فإنه فقد أكثر في كتابه "صيد الخاطر" من ردوده على الإمام الأشعري وأتباعه. مما دعا علي الطنطاوي الأشعري لأن يتتبع ابن الجوزي في تحقيقه، ويدافع بشدة عن الأشعري، ويشنِّع على ابن الجوزي تعصباً للأشعري. والسبب هو شدة اضطرابه في اعتقاده، بل في سائر علومه. فقد قال بقول أهل التأويل لا سيما في كتابه "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه". وقال بالتفويض في كتابه "تلبيس إبليس". فتأمل كيف يجمع بين النقيضين ويرد على نفسه في موضعٍ آخر حتى لكأنه شخص مختلف. ولذلك قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4\169): «لم يَثبت على قدم النفي، ولا على قدم الإثبات. بل له من الكلام في الإثبات نظماً ونثراً ما أثبت به كثيراً من الصفات التي أنكرها في هذا المُصنَّف». وقال في "درء التعارض" (9\160): «فيوجد له من المقالات المتناقضة بحسب اختلاف حاله، كما يوجد لأبي حامد (الغزالي) والرازي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم». والأسوء من ذلك أنه أضاف لكل تلك الأوهام ولكل ذلك الإضطراب، لساناً حاداً على غيره من العلماء، مع أنه الأولى بالتشنيع. ومن ذلك مثلاً تهكمه بابن عبد البر الأندلسي الذي هو خير من ملء الأرض من ابن الجوزي فِقهاً في الدين وسُنةً ودِرايةً بالحديث ونقده. والعجيب أنه هو الذي كان يهاجم الخطيب البغدادي في تطاوله على الأئمة الكبار. وقد عجِبَ سبطُ ابن الجوزي (يوسف بن قزغلي الحنفي الرافضي) من جده إذ تابع الخطيب البغدادي، فقال في "مرآة الزمان": «وليس العجَبُ من الخطيب، فإنه طعن في جماعة من العلماء. وإنما العجبُ من الجدِّ كيف سلك أسلوبه وجاء بما هو أعظم!». وأما عن علم ابن الجوزي، فلا يخفى كثرة مآثرة ومؤلفاته. ولكن من كان لديه بالعلم والتحقيق العلمي دراية، يعلم أن ابن الجوزي لم يكن من أئمة الفقه ولا الحديث، وإن ألف فيهما ما ألّف. وإنما حصل له ذلك بكثرة اطلاعه وبحثه. قال السيوطي في طبقات الحفاظ (1\480): قال الذهبي في التاريخ الكبير: «لا يُوصَفُ ابن الجوزي بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة، بل باعتبار كثرة اطلاعه وجمعه». ورغم كثرة تآليفه في شتى العلوم، فقد ضَعُفَ من ناحية التحقيق في أكثر العلوم التي ألّف فيها، ولا سيما في الحديث. فتجد كلامه مخالفاً كثيراً لكلام حُفّاظِ الحديث. فالمفترض أن تكون كتبه مراجع يستعملها طالب العلم المتمكن الذي يستطيع التمييز بين الصواب و الخطأ، فلا تُنشر على العامة وصغار المتفقّهة. قال الإمام موفق الدين عن ابن الجوزي: «كان حافظاً للحديث، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة ولا طريقته فيها». وقال عنه الموفق عبد اللطيف: «وكان كثير الغلط فيما يصنفه. فإنه كان يخلو من الكتاب ولا يعتبره». ذكر ذلك الحافظ ابن عبد الهادي في طبقات علماء الحديث (4\122). فقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (21\378): «هكذا هو: له أوهامٌ وألوانٌ من ترْك المراجعة، وأخذ العِلم من صُحُف». قال الحافظ سيف الدين بن المجد: «هو كثير الوهم جداً، فإن في مشيخته –مع صِغرها– أوهاماً». وقيل لإبن الأخضر: ألا تجيب عن بعض أوهام بن الجوزي؟ قال: «إنما يُتتبع على من قل غلطه، فأما هذا فأوهامه كثيرة». قال السيف: «ما رأيت أحداً يُعتمد عليه في دينه وعلمه وعقله، راضياً عنه». وقد عابه الكثير من أهل السنة فأصر على بدعته. وعاتبه أبو الفتح بن المني في أشياء. ولما بان تخليطه أخيراً رجع عنه أعيان السنة، وذمّوه وتركوه. وقال ابن حجر لسان الميزان (2|83) بترجمة ثمامة بن الأشرس البصري بعد قصة: «دلّت هذه القصة على أن ابن الجوزي حاطب ليلٍ لا ينتقد ما يحدّث به». قلت: فمثل هذا الرجل لا يوثق بنقله ولا بكلامه. |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]منهج الحافظ الذهبي :[/SIZE][/COLOR] الإمام الذهبي لما لخص مستدركه، كان ذلك في شبابه الذهبي كان في متوسط عمره عندما ألف كتاب تلخيص المستدرك. وهذا استنتجته من عدة أمور: 1) التلخيص عادة يكون في أوائل الطلب، لا في أواخره. 2) تلخيص المستدرك ذكره الذهبي في غالب كتبه، مما يجعلنا نجزم بأنه من قديم تصنيفه. 3) بعض عباراته في التلخيص فيها بعد الشدة مقارنة مع عباراته في الميزان والسير وغير ذلك. 4) فاتته عدة أحاديث وهِم بها الحاكم وقد أخرجها الشيخان. ولم ينبه الذهبي إلا على قليل منها. 5) تصحيحه لأحاديث قد ضعفها فيما بعد أو في مواضع أخرى. ومثل هذا التناقض أستبعده على الذهبي الذي نعرفه في آخر عمره. 6) كتاب التلخيص قال عنه الذهبي في السير: وبكلّ حالٍ فهو -أي مستدرك الحاكم- كتابٌ مفيدٌ قد اختصرته، ويعوز عملاً وتحريراً. وإجمالاً فالأمرين الأول والثاني هما السببين الأساسيين لترجيحي بذلك. وهناك الكثير من الكتب التي كتبها مؤلفوها في شبابهم فكانت دون مستواهم الذي نجده في كتبهم المشهورة الأخرى. الذهبي لا يوثق كل النساء كما يزعم بعض طلبة العلم قال الذهبي في ميزان الاعتدال (7\465): «فصل في النسوة المجهولات. وما علمت في النساء من اتُّهِمت، ولا من تركوها». قال السيوطي في تدريب الراوي (1\321): «من ضَعُف منهنّ إنما هو للجهالة». وظن بعض طلبة العلم أن مقولة الذهبي تشمل كل النساء. وهذا ليس على إطلاقه، بل قوله هذا هو خاص بمن يذكرهن في هذا الفصل فحسب. وقد صيّر كثيرٌ من طلاب العلم هذا القول حكماً عاماً في كل راوية لم يأت فيها توثيق، أو لم يحكم عليها أحد بجهالة. فنفوا عنهن أن يكن قد مُسِسْنَ بأيِّ ضربٍ من ضروب التجريح! 1- فماذا عن حكامة بنت عثمان؟ أليست متهمة متروكة؟ فقد روت عن أبيها أحاديث موضوعة، وهو قد وُثّق. فقد قال ابن حبان في الثقات (7\194): «عثمان بن دينار، أخو مالك بن دينار. يروى عن مالك بن دينار. روت عنه ابنته حكامة بنت عثمان بن دينار. وحكامة لا شيء». وقال العقيلي في ضعفاءه (3\200): «عثمان بن دينار أخو مالك بن دينار، تروي عنه حكامة –ابنته– أحاديث بواطيل ليس لها أصل». وسرد بعض تلك الأحاديث ثم قال: «أحاديث حكامة تشبه حديث القصاص: ليس لها أصول». وقال الذهبي في "المغني في الضعفاء" (2\425): «عثمان بن زائدة، عن نافع: صدوق. لكن له حديثٌ منكَرٌ خولِفَ فيه، ذكره العقيلي. رواه عنه متروك (أي ابنته) فالآفة من صاحبه (أي منها)». وأيد ذلك قال ابن حجر في لسان الميزان (2\331). فمقولة الذهبي ليست على إطلاقها. 2- أم عمر بنت أبي الغصن: قال ابن معين (رواية ابن محرز 1\58، ومن طريقه الخطيب في تاريخه 14\433): «ليست بشيء». 3- كريمة بنت سيرين، أخت محمد بن سيرين: قال ابن معين (كما في لسان الميزان 6\71): «يحيى وكريمة ابنا سيرين: ضعيفا الحديث». 4- هند الأنصارية: قال الذهبي في السير (3\465): «كانت شيعية». 5- زينب: ترجم لها الحافظ ابن حجر في اللسان (3\365)، وقال: «الكذابة». 6- رابعة: قال أبو داود (رواية الآجري 1\416، ونقله الذهبي في الميزان 2\62): «كان (رياح بن عمرو القيسي) رجُل سوء، هو وأبو حبيب، وحيان الجريري. ورابعة رابعتهم في الزندقة». سكوت الذهبي في تلخيص المستدرك لايعد موافقة منه للحاكم كثر في هذا العصر استعمال بعض الأفاضل اصطلاح: "صححه الحاكم، ووافقه الذهبي"، فيما أورده الإمام الذهبي في كتابه: "تلخيص المستدرك" من كلام أبي عبد الله الحاكم النيسابوري. معتبرين أن مجرد سكوت الذهبي على كلام الحاكم، هو موافقة منه له. وهذا غلط في غاية البعد عن الصواب للأسباب التالية: 1. موضوع كتاب "تلخيص المستدرك" ما هو إلا تلخيص للأحاديث –إسناداً ومتناً– مع تلخيص أقوال الحاكم في أقواله على مروياته فحسب، إضافة إلى بعض التعقبات التي يوردها الذهبي على هذه الأقوال. هذا لا خلاف فيه عند أحد. 2. الإمام الذهبي لَمْ يحقق المستدرك، بَلْ اختصره كَمَا اختصر عدداً من الكتب. وَكَانَ من صنيع هَذَا الإمام العظيم أنْ يعلّقَ أحياناً عَلَى بَعْض الأحاديث، لا أنّه يريد تحقيقها والحكم عَلَيْهَا وتتبعها جميعهاً. 3. لم يذكر الذهبي أبداً –ولا أحد من تلامذته– أن ما سكت عليه فهو مقر للحاكم. ولا ذكر أن كتابه استدراك وتعقّب. 4. إذا اتفقنا أن شرط الذهبي تلخيص، فكونه يتعقب هو أمرٌ زائدٌ على شرطه لم يلتزمه. بل إن استدراكه قليل جداً، فلا نجعل من تعقبه في بعض المواضع لازم آخر –وهو الموافقة–. 5. الذهبي ضعّف كثيراً من الأحاديث التي في المستدرك في كتبه الأخرى كالميزان وغيره، مع أنه سكت عليها في اختصاره للمستدرك. هل يعني هذا أنه اضطرب؟ طبعا لا، لأنه في المستدرك يلخص لا يعقب ويوافق. وإلا للزم من هذا أن كل مؤلِّف شَرَح أو عَلَّقَ على كتابٍ أخر فتعقّب في موضعٍ على حديث، أنه موافقٌ فيما ترك. 6. مجرّد اختصاره لمقولة الحاكم عقب الأحاديث "صحيح على شرط البخاري ومسلم" أو "على شرط البخاري" أو "شرط مسلم"، لا يعني أنه مؤيد، بل هو ناقل. وإلا فالذهبي ينتقد جزءً كبيراً جداً من المستدرك كما في ترجمة الحاكم من تاريخه، ومن ذلك قوله في السير: «في المستدرك شيء كثير على شرطهما. وشيء كثير على شرط أحدهما. ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب، بل أقل. فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما، وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة. وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد. وذلك نحو ربعه. وباقي الكتاب مناكير وعجائب. وفي غضون ذلك أحاديث نحو المئة يشهد القلب ببطلانها، كنت قد أفردت منها جزءاً». فكيف يوافقه؟ 7. قال الذهبي عن كتابه "تلخيص المستدرك" في ترجمته للحاكم في "سير أعلام النبلاء" (17|176): «وبكل حال فهو –أي المستدرك– كتاب مفيد قد اختصرته. ويعوز عملاً وتحريراً». فلو أنه وافق الحاكم على جميع ما سكت عليه لما قال ذلك. 8. كتاب تلخيص المستدرك ألفه الذهبي في شبابه. فهو ليس في مستوى كتبه الأخرى. وقد سبق بيان ذلك. 9. لم يكن شائعاً بين أهل العلم المتقدمين من بعد عصر الذهبي مثل هذه المسألة في قوله "صححه الحاكم ووافقه الذهبي". وأول من تساهل وأطلق هذه العبارة هو المناوي صاحب "فيض القدير". وتجوز فيها أيضاً جماعة كصديق حسن خان والصنعاني. ثم شهرها ونشرها الشيخ أحمد شاكر، ثم طفحت بها كتب الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ شعيب الأرنؤوط، حتى عمت عند أغلب الباحثين. ولو كانت هذه المقولة صحيحة لاستخدمها الحافظ ابن الملقن و العراقي والهيثمي و ابن حجر العسقلاني والبقاعي والسخاوي والسيوطي وهم من الذين أكثروا التخريج. وقد جمعت بعض أقوال الزيلعي صاحب "نصب الراية" –وهو تلميذ الذهبي– وكيف تصرفه في المسالة هذه. قال في (3|3): «وأخرجه الحاكم في المستدرك في تفسير آل عمران وسكت عنه، ولم يتعقبه الذهبي في مختصره بالانقطاع». وقال في (3|80): «ووهم الحاكم في المستدرك فرواه وقال "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ولم يعقبه الذهبي في ذلك». وقال (3|38): «ورواه الحاكم في المستدرك وقال "حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه"، ولم يعقبه الذهبي في مختصره». فعبارة الزيلعي عبارة دقيقة فهم فيها كلام شيخه الذهبي وقصده في التصنيف. وللزيلعي نقولات عديدة عن مختصر المستدرك نقل فيها تعقب الذهبي على الحاكم. وعلى سبيل المثال (3|459،464،38،39،63،73،80،153،311،340،347) و(1|275، 261،134) وغيرها. ويستغرب من فهم بعض المعاصرين لمعنى آخر غير الذي يفهمه تلاميذ الذهبي. فعلى هذا فلا تقل: "صحّحه الحاكم وأقره الذهبي"، بل تقول: "صححه الحاكم وسكت عنه الذهبي" ومن المرويات التي تؤيد من سبق: 1- قال الحاكم في المستدرك (1|545): «هذا حديث صحيح الإسنادـ فإن رواته كلهم مدنيون ثقات». اختصر الذهبي هذه المقولة في التلخيص إلى: «صحيح رواته ثقات». ثم ترجم في الميزان (1|136) لأحمد بن محمد بن داود الصنعاني وقال: «أتى بخبر لا يحتمل». ثم أورد حديثه هذا، ثم قال: «قال الحاكم: "صحيح الإسناد". قلت: "كلاّ". قال: "فرواته كلهم مدنيون". قلت: "كلا". قال: "ثقات". قلت: "أنا أتهم به أحمد". 2- قال الحاكم (2|545): «صحيح الإسناد ولم يخرجاه». فاختصر الذهبي كلام الحاكم في التلخيص بقوله: «صحيح». ثم أورد هذا الحديث في الميزان لما ترجم لعمر بن إبراهيم العبدي بقوله: «صححه الحاكم، وهو حديث منكر كما ترى». 3- قال الحاكم (1|473): «صحيح الإسناد إن سلم من الجارودي، ولم يخرجاه». وكذا نقل الذهبي قول الحاكم في التلخيص، دون جملة: «ولم يخرجاه». ثم أورد الذهبي في الميزان (3|185) هذه الرواية بهذا الإسناد وقال: «فإنه بهذا الإسناد باطل، ما رواه ابن عيينة قط. بل المعروف حديث عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر مختصراً». 4- قال الحاكم (1|169): «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذا اللفظ». اختصر الذهبي كلام الحاكم في التلخيص بقوله: «على شرط م». ثم أورد في السير (4|491) هذه الرواية من طريق ثور، ثم قال: «إسناده قوي، وخرجه الحاكم فقال: على شرط مسلم، فأخطأ: فإن الشيخين ما احتجا براشد، ولا ثور من شرط مسلم». 5- قال الحاكم (1|28): «صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر». اختصر الذهبي كلام الحاكم في المختصر بقوله: «احتج م بكلثوم». ثم لما ترجم الذهبي لكلثوم بن جبر في الميزان (3|413) أورد هذا الحديث في مناكيره. 6- قال الحاكم (1|492): «هذا حديث صحيح، فإن محمد بن الحسن هذا هو التل... صدوق في الكوفيين». اختصر الذهبي كلام الحاكم هذا بكلمة: «صحيح» فقط! ثم لما ترجم الذهبي للتل في الميزان (3|513) قال: «ومن مناكيره...»، ثم أورد له هذا الحديث، ثم قال: «أخرجه الحاكم وصححه، فيه انقطاع». 7- صحح الحاكم في مستدركه (2|200، 235، 327، 386) مرويات كثيرة من طريق سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، وجعلها على شرط الشيخين، ولم يعقب عليه الذهبي بشيء. ثم قال الذهبي في السير (5|248) لما ترجم لسماك بن حرب: «تجنب البخاري إخراج حديثه، وقد علق له البخاري استشهادًا به. فسماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس نسخة عدة أحاديث، فلا هي على شرط مسلم، لإعراضه عن عكرمة، ولا هي على شرط البخاري، لإعراضه عن سماك. ولا ينبغي أن تعد صحيحة، لأن سماكًا إنما تُكلم فيه من أجلها». ومن عجائب أحد المعاصرين (وهو الشيخ أبو إسحاق الحويني) أنه بنى على هذه المسألة كتابا أسماه "إتحاف الناقم بأوهام الذهبي مع الحاكم". ولعله انتبه لهذا مؤخراً، وهو حسن الظن به. |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]منهج جلال الدين السيوطي :[/SIZE][/COLOR] قال العلامة أبو الحسنات، محمد عبد الحيّ اللكنوي الهندي (1264 هـ - 1304 هـ) في كتاب: "الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة"، ص 126، ط. أولى: 1384 هـ/1964 م، بعناية عبد الفتاح أبي غدّة، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، سوريا: «أما السيوطي: فهو الحافظ المطلع الجمّاع المنقطع النظير، وهو أوسع العلماء الأجلّة الذين ذكرتهم، تساهلاً في إيراد الحديث الضعيف، والتالف، والموضوع وشبهه في كتبه ورسائله. وإن كان قد عزم رحمه الله تعالى أن يصون كتابه الخيِّر: "الجامع الصغير من حديث البشير النذير" عن الحديث الموضوع حيث قال في فاتحته: "...وصنته عما تفرد به وضّاع أو كذّاب". فإن هذا العزم لم يتم له الوفاء به، فقد وقع منه في: "الجامع الصغير" نفسه -وفي غيره من كتبه أيضاً- أحاديث كثيرة هي من الحديث الموضوع، كما نبه عليها شراحه كالشيخ المناوي في شرحه: "فيض القدير شرح الجامع الصغير"». وأضاف اللكنوي: «والأحاديث الموضوعة التي وقعت للحافظ السيوطي رحمه الله في "الجامع الصغير" كثيرة غير قليلة كما سيأتي بيان عددها، وبعضها قد حكم السيوطي نفسه بوضعه في كتابه: "ذيل اللآلئ"». ونبه اللكنوي إلى عيب قاتل في مؤلف: "الجامع الصغير" بقوله (ص 127): «وأما ما يوجد في بعض النسخ من الرمز إلى "الصحيح"، و"الحسن"، و"الضعيف"، بصورة رأس: (ص)، و(ح)، و(ض): فلا ينبغي الوثوق به، لغلبة تحريف النُّسّاخ!». وقد ألف أحمد بن الصديق الغماري كتاباً خاصاً بما وقع من حديث موضوع في: "الجامع الصغير" سماه: "المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير"، ط. أولى: 1402 هـ، دار الرائد العربي، بيروت. فقال في مقدمته (ص 3): «فقد أورد (السيوطي) فيه أحاديث تفرد بها الكذابون، وأخرى ظاهرة الوضع وإن لم يتفردوا بها، لأنها من رواية الكذابين أمثالهم، الذين يسرقون الأحاديث ويركبون لها أسانيد أخرى لقصد ترويج ذلك الحديث الموضوع، لغرض الإغراب!، أو الاحتجاج!، أو غير ذلك من الأغراض. بل من الأحاديث التي ذكرها فيه ما جزم هو نفسه بوضعه!، إما بإقراره حكم ابن الجوزي بوضعه، وذلك في: "اللآلئ المصنوعة"، وإما باستدراكه هو إياه على ابن الجوزي، وذلك في: "ذيل اللآلئ" له...». وقد عد ابن الصديق عدد الأحاديث الموضوعة المتبادرة الوضع فبلغت عنده 456 رواية، بدون تقصي. (قال المعلق: وهي أكثر من ذلك بكثير لمن رام الاستقصاء بشروط النقد الموضوعي الصارم المتعددة التخصصات، على ما دأبنا على انتهاجه في غير ما مؤلف من مؤلفاتنا في مثل هذه الموضوعات. وأنظر لمزيد "الأجوبة الفاضلة..."، ص 128-129). لذلك لا يجب الاعتماد على الرموز التي يوردها السيوطي في كتابه "الجامع الصغير" ولا على أقواله عامة في الموضوع للعوار الذي يعتريها من هذين الجانبين: جانب الحكم على الأخبار، وجانب تصحيفات وتحريفات النساخ. وإيرادنا لها إنما هو استئناساً لنحكم عليها نحن بما تستحقه فعلاً. |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]منهج داود الظاهري :[/SIZE][/COLOR] أبو سليمان الفقيه داود بن علي الأصبهاني الكوفي الظاهري (200-270 هـ). قال أبو الفتح الأزدي: «لا يُقنع برأيه ولا بمذهبه. تركوه». وكان من المتعصبين للشافعي وهو أول من صنف كتاباً في مناقبه. قال الإمام السلفي ابن أبي حاتم عنه: «ثم ترك ذلك ونفى القياس. وألّف كتباً شذ فيها عن السلف. وابتدع طريقة هجره أكثر أهل العلم عليها. وهو مع ذلك صدوق في روايته ونقله واعتقاده، إلا أن رأيه أضعف الأراء، وأبعدها عن طريق الفقه، وأكثرها شذوذاً». وقد ذكرنا جملة عن حياته في بحثنا حول المذهب الظاهري. ونقل وراق داود عن أبي حاتم أنه قال في داود: «ضالٌّ مُضِلٌّ، لا يُلتَفت إلى وساوِسِه وخَطَراته». وقال المروذي حدثنا محمد بن إبراهيم النيسابوري أن إسحاق بن راهويه لما سمع كلام داود بن علي في بيته، وَثبَ وضربه وأنكر عليه. وقد كان داود أراد الدخول على الإمام أحمد فمنعه وقال: كتب إليَّ محمد بن يحيى الذُّهلي في أمره وأنه زعم أن القران مًحدَثُ، فلا يَقرَبني. وتفصيل المسألة وأقوال معاصريه مبسوطة في ترجمته في تاريخ بغداد (8|373) وفي لسان الميزان (2|423). والخلاصة أنه صار يتكلم في مسالة اللفظ بكلام مبهم على الناس، ولم يرجع عنه، فنهى أئمة الإسلام عنه. أما في مسائل الصفات وبقية مسائل الاعتقاد فلم يخالف فيها السلف (كما فعل ابن حزم). ابنه هو: محمد بن داود أبو بكر الأصبهاني. ترجمته في تاريخ بغداد (5|256 #2750). كان عالما أديبا شاعرا ظريفا، له كتاب في شعر الغزل اسمه كتاب الزهرة. لكن له عملٌ فاحشٌ شديد القبح. ذلك أنه كان يعشق غلاماً، ويتغزل به، ويستحل ذلك! فيا غوثاه من مكايد إبليس. قال الخطيب البغدادي: حدثني مكي بن قال أنشدنا بن كامل الدمشقي لأبي بكر محمد بن داود بن علي في حبيبه محمد بن زخرف: يا يوسف الحسن تمثيلا وتشبيها * يا طلعة ليس إلا البدر يحكيها * من شك في الحور فلينظر إليك * فما صيغت معانيك إلا من معانيها * ما للبدور وللتحذيف يا أملي * نور البدور عن التحذيف يغنيها * إن الدنانير لا تجلى وإن عتقت * ولا يزاد على النقش الذي فيها. قال الخطيب: أنبأنا أبو سعد الماليني حدثنا الحسن بن إبراهيم الليثي حدثني الحسين بن القاسم قال: كان محمد بن داود يميل إلى محمد بن جامع الصيدلاني وبسببه عمل كتاب الزهرة، وقال في أوله: وما ننكر من تغير الزمان وأنت أحد مغيريه ومن جفاء الإخوان وأنت المقدم فيه من عجيب ما يأتي به الزمان السهو يتظلم وغابن يتندم ومطاع يستظهر وغالب يستنصر. قال الحسن: وبلغنا أن محمد بن جامع دخل الحمام وأصلح من وجهه وأخذ المرآة فنظر إلى وجهه فغطاه وركب إلى محمد بن داود فلما رآه مغطى الوجه خاف أن يكون لحقته آفة فقال ما الخبر فقال رأيت وجهي الساعة في المرآة فغطيته وأحببت أن لا يراه أحد قبلك فغشي على محمد بن داود. قال الليثي: وحدثني محمد بن إبراهيم بن سكرة القاضي قال: كان محمد بن جامع ينفق على محمد بن داود، وما عُرِفَ فيما مضى من الزمان معشوقٌ ينفق على عاشق إلا هو. ومات بسبب عشقه الشاذ من غير توبة. نسأل الله حسن الختام. فهذا ابن إمام الظاهرية الذي أسس مذهبهم. |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]منهج الترمذي:[/SIZE][/COLOR] تساهل الترمذي قال الذهبي ميزان الاعتدال (7\231): «فلا يُغتَرّ بتحسين الترمذي. فعند المحاقَقَةِ غالبُها ضعاف». وفي نصب الراية (2\217): قال ابنُ دِحْيَة في "العَلَم المشهور": «وكم حَسّن الترمذي في كتابه من أحاديث موضوعة وأسانيد واهية!». وقال الذهبي في السير (13\276) عن سنن الترمذي: «"جامعه" قاضٍ له بإمامته وحفظه وفقهه. ولكن يترخّص في قبول الأحاديث، ولا يُشدّد. و نفَسهُ في التضعيف رَخو». وقال ابن القيم في "الفروسية" (ص243): «الترمذي يصحّح أحاديثَ لم يتابعه غيره على تصحيحها. بل يصحّح ما يضعّفه غيره أو ينكره»، ثم ضرب عدة أمثلة. وأخرج الترمذي حديث: «المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حرماً». قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». لكن في إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه، وهو مُجمعٌ على ضعفه كما قال ابن عبد البر. وقال فيه الشافعي وأبو داود: هو ركنٌ من أركان الكذب. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة. وضرب أحمد على حديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال الدارقطني وغيره: متروك. وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (5\493): «وأما الترمذي فروى من حديثه الصلح جائز بين المسلمين، وصحّحه. فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي». قلت: فقد نقل الذهبي (وهو من أهل الاستقراء التام كما يصفه الحفاظ) عن جمهور العلماء: عدم الاعتماد على تصحيح الترمذي، وهو الصواب إن شاء الله. وليس ذلك معناه إسقاط الإمام الترمذي وتجاهل أحكامه، بل المقصود أن تصحيحه في بعض التساهل، فيجب إعادة النظر فيه. وقد اعترض أحد المعاصرين على مقولة الذهبي، فرد عليه الألباني في السلسلة الضعيفة (3|30) وقال: «تساهُل الترمذي، إنكارُه مكابرةٌ، لشهرته عند العلماء. وقد تتبعتُ أحاديث "سننه" حديثاً حديثاً، فكان الضعيفُ منها نحو ألف حديث، أي: قريباً من خُمس مجموعها، ليس منها ما قَوّيتُه لمتابعٍ أو شاهد». قال الدكتور بسام فرج في كتابه عن نقد الفكر السياسي عند ابن تيمية (ص137): «وقد دافع نور الدين عتر عن الترمذي في رسالته الدكتوراه (ص264-269) بغير حق. وادعى بأن الترمذي كالإمام البخاري ومسلم وقع في بعض الأخطاء كما وقعا. وبما أنه لم يحط ذلك من مرتبتهما العلمية، فكذلك لا يحط من مرتبته. ونحن لا نوافقه في الشق الأول من ادعاءه، إذ أن وقوع الترمذي وتساهله مشهور عند العلماء كما قال الذهبي، وليس الأمر كذلك مع البخاري ومسلم فإن أخطاءهما قليلة جداً بالنسبة لغيرهم من المحدثين. وأما بالنسبة لإمامة الترمذي وتقدمه في علم الحديث، فهذا لا يخالِفُ فيه إلا من جَهِل قدر العلم والعلماء عموماً وقدر الترمذي خصوصاً، وليس هو موضوعنا. وللأسف أن بعض الباحثين في الأشخاص يجند نفسه للدفاع عمن يكتب عنه من بداية البحث، مما يبعده عن الحقيقة العلمية كما فعل د. العتر هنا». مصطلح الترمذي: "حديث غريب" هناك رسالة للدكتور عداب الحمش بعنوان "الإمام الترمذي، ومنهجه في كتابه الجامع، دراسة نقدية تطبيقية" تقع في ثلاثة مجلدات. قال (1|427): أطلق الترمذي مصطلحات متعددة كلها تدل على الغرابة والتفرد، وقبل عرض هذه المصطلحات يحسن عرض رأي الترمذي في مفهوم الغريب، واستعراض خلاصة الجهود السابقة في الموضوع، حتى لا نقع في تكرار أو إنكار، ويحسن أن أعرض أوجه الغرابة عند الترمذي في مسائل: المسألة الأولى: رواية الحديث من وجه واحد (ثم ذكر كلام الترمذي عن حديث أبي العشراء). المسألة الثانية: زيادة الراوي ألفاظا في المتن (ثم ذكر حديث مالك). المسألة الثالثة: استغراب راو في السند (ثم ذكر حديث أبي موسى). وذكر بعد ذلك (1|441-442) نتائج رسالة علمية لأحد تلاميذه وكانت بعنوان "الحديث الغريب - مفهومه وتطبيقاته في جامع الترمذي"، وقال إنه يوافقه فيما وصل إليه من نتائج. حيث ذكر أن الترمذي حكم على (1081) بالغرابة،وأن معناها التفرد بقسميه المطلق والنسبي. وكانت هذه الأحكام على أقسام: منها ما هو مطلق عن أي قيد. ومنها ما هو مقرون بمصطلح الصحة والحسن أو أحدهما. ومنها ما هو تفسير للغرابة، أو قيود إضافية في الحكم على الحديث. وقال: إنه لم يدرس ما أطلق عليه غريب مع الوصف بالصحة أو الحسن، لأن الغرابة هنا إشارة وصفيَّة وليست عِليَّة، إذ لو كانت علَّة لما صحح الحديث وحسَّنه. ثم قال: لقد كانت أحاديث مصطلح "غريب" كلها ضعيفة عند الترمذي إلاَّ خمسة أحاديث: أحدها أخرجه الترمذي والبخاري ومسلم، والآخر أخرجه الترمذي ومسلم. بالإضافة إلى ثلاثة أحاديث خالف المزِّي الجماعة في نقل حكم الغرابة عليها، وكان الصواب مع الشيخين. مصطلح الترمذي في التصحيح أعلى اصطلاح له في التصحيح هو "حسن صحيح" ثم يليه "صحيح"، ثم "جيد"، ثم "صحيح غريب حسن"، ثم "غريب حسن صحيح" و"صحيح حسن غريب"، ثم "صحيح غريب". وقد أولع العلماء بمصطلحات الترمذي، وكثرت الكتب التي تتحدث عنه. ومن الأبحاث المعاصرة المفيدة بحث الطريفي (ضمن شرح حديث جابر في الحج) وبحث الدكتور الشايجي، لكنه للأسف وهو متأثر ببحث شيخه الدكتور نور الدين عتر صاحب كتاب "الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه والصحيحين". |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]منهج أبو عبد الله الحاكم :[/SIZE][/COLOR] قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (1\97): «إن أهل العلم متفقون على أن الحاكم فيه من التساهل والتسامح في باب التصحيح. حتى أن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدارقطني وأمثالهما (وهما من المتساهلين) بلا نزاع. فكيف بتصحيح البخاري ومسلم؟ بل تصحيحه دون تصحيح أبي بكر بن خزيمة وأبي حاتم بن حبان البستي وأمثالهما (وهما من أشد المتساهلين من المتقدمين نسبيا). بل تصحيح الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مُختارته، خيرٌ من تصحيح الحاكم. فكتابه في هذا الباب خيرٌ من كتاب الحاكم بلا ريب عند من يعرف الحديث. وتحسين الترمذي أحياناً (رغم تساهله الشديد) يكون مثل تصحيحه أو أرجح. وكثيراً ما يُصَحِّحِ الحاكمُ أحاديثَ يُجْزَمُ بأنها موضوعة لا أصل لها». وقال ابن القيم في "الفروسية" (ص245): «وأما تصحيح الحاكم فكما قال القائل: فأصبحتُ من ليلى –الغداةَ– كقابضٍ * على الماء خانته فروجُ الأصابع ولا يعبأ الحفاظ أطِبّاء عِلَل الحديث بتصحيح الحاكم شيئاً، ولا يرفعون به رأساً البَتّة. بل لا يعدِلُ تصحيحه ولا يدلّ على حُسنِ الحديث. بل يصحّح أشياء موضوعة بلا شك عند أهل العلم بالحديث. وإن كان من لا علم له بالحديث لا يعرف ذلك، فليس بمعيارٍ على سنة رسول الله، ولا يعبأ أهل الحديث به شيئاً. والحاكم نفسه يصحّح أحاديثَ جماعةٍ، وقد أخبر في كتاب "المدخل" له أن لا يحتج بهم، وأطلق الكذب على بعضهم هذا». انتهى. غفلة الحاكم قال الذهبي عن الحاكم في "ميزان الاعتدال" (6\216): «إمامٌ صدوق، لكنه يصحّح في مُستدرَكِهِ أحاديثَ ساقطة، ويُكثِرُ من ذلك. فما أدري، هل خفِيَت عليه؟ فما هو ممّن يَجهل ذلك. وإن عَلِمَ، فهذه خيانةٌ عظيمة. ثُم هو شيعيٌّ مشهورٌ بذلك، من غير تَعَرّضٍ للشيخين...». وذكر ذلك ابن حجر في لسان الميزان (5\232) ثم قال: «قيل في الاعتذار عنه: أنه عند تصنيفه للمُستدرَك، كان في أواخِر عمره. وذَكر بعضهم أنه حصل له تغيّر وغفلة في آخر عمره. ويدلّ على ذلك أنه ذَكر جماعةً في كتاب "الضعفاء" له، وقطع بترك الرواية عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم. ثم أخرج أحاديث بعضهم في "مستدركه"، وصحّحها! من ذلك أنه: أخرج حديثا لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وكان قد ذكره في الضعفاء فقال أنه: "روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا تخفى على من تأملها –من أهل الصنعة– أن الحِملَ فيها عليه". وقال في آخر الكتاب: "فهؤلاء الذين ذكرتهم في هذا الكتاب، ثبَتَ عندي صِدقهُم لأنني لا أستحلّ الجّرحَ إلا مبيّناً، ولا أُجيزُه تقليداً. والذي أختارُ لطالبِ العِلمِ أن لا يَكتُبَ حديثَ هؤلاءِ أصلاً"!!». قلت: و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيفٌ جداً، حتى قال عنه ابن الجوزي: «أجمعوا على ضعفه». وقد روى له الحاكم عن أبيه! وكذلك كان يصحّح في مستدركه أحاديثاً كان قد حكم عليها بالضعف من قبل. قال إبراهيم بن محمد الأرموي: «جمع الحاكم أحاديث وزعم أنها صِحاحُ على شرط البخاري ومسلم، منها: حديث الطير و "من كنت مولاه فعلي مولاه". فأنكرها عليه أصحاب الحديث، فلم يلتفتوا إلى قوله». ثم ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ (3\1042) أن الحاكم سُئِل عن حديث الطير فقال: «لا يصح. ولو صَحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد النبي r». قال الذهبي: «ثم تغيّر رأي الحاكم، وأخرج حديث الطير في "مُستدركه". ولا ريب أن في "المستدرَك" أحاديث كثيرة ليست على شرط الصحة. بل فيه أحاديث موضوعة شَانَ "المستدرك" بإخراجها فيه». قلت: ولا نعلم إن وصل التشيع بالحاكم لتفضيل علي على سائر الصحابة بعد تصحيحه لحديث الطير. لكن التخليط الأوضح من ذلك هو الأحاديث الكثيرة التي نفى وجودها في "الصحيحين" أو في أحدهما، وهي منهما أو في أحدهما. وقد بلغت في "المستدرك" قدراً كبيراً. وهذه غفلةٌ شديدة. بل تجده في الحديث الواحد يذكر تخريج صاحب الصحيح له، ثم ينفي ذلك في موضعٍ آخر من نفس الكتاب. ومثاله ما قال في حديث ابن الشخير مرفوعاً "يقول ابن آدم مالي مالي...". قال الحاكم: المستدرك على الصحيحين (2\582): «مسلم قد أخرجه من حديث شعبة عن قتادة مختصَراً». قلت: بل أخرجه بتمامه #2958 من حديث همام عن قتادة. ثم أورده الحاكم بنفس اللفظ في موضعٍ آخر (4\358)، وقال: «هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد، ولم يُخرِجاه». على أية هذا فلا يعني هذا حصول تحريف في إسنادٍ أو متنٍ، لأن رواية الحاكم كانت من أصوله المكتوبة لا من حفظه. وإنما شاخ وجاوز الثمانين فأصابته غفلة، فسبب هذا الخلل في أحكامه على الحديث. عدا أن غالب "المستدرك" هو مسودة مات الحاكم قبل أن يكمله. مع النتبه إلى أن الحاكم كان أصلاً متساهلاً في كل حياته، فكيف بعد أن أصابته الغفلة ولم يحرّر مسودته؟ قال المعلمي في التنكيل (2\472): «هذا وذِكْرُهُم للحاكم بالتساهل، إنما يخصّونه بالمستدرك. فكتبه في الجرح والتعديل لم يغمزه أحدٌ بشيءٍ مما فيها، فيما أعلم. وبهذا يتبين أن التشبّث بما وقع له في المستدرك وبكلامهم فيه لأجله، إن كان لا يجاب التروي في أحكامه التي في المستدرك فهو وجيه. وإن كان للقدح في روايته أو في أحكامه في غير المستدرك في الجرح والتعديل ونحوه، فلا وجه لذلك. بل حاله في ذلك كحال غيره من الأئمة العارفين: إن وقع له خطأ فهو نادرٌ كما يقع لغيره. والحكم في ذلك بإطراح ما قام الدليل على أنه أخطأ فيه وقبول ما عداه، والله الموفق». فالخلاصة أننا نصحح ضبط الحاكم للأسانيد، ولكننا نرفض أحكامه على الأحاديث في "المستدرك" كليّةً، ونعتبِرُ بغيرها خارج "المستدرك" دون الاحتجاج بتصحيحه. تشيع الحاكم قال الخطيب البغدادي : «كان ابن البيع (الحاكم) يميل إلى التشيع». وقال محمد بن طاهر المقدسي: «قال الحاكم: "حديث الطير لم يخرج في الصحيح و هو صحيح". بل هو موضوع لا يُروى إلا عن سقاط أهل الكوفة من المجاهيل، عن أنس. فإن كان الحاكم لا يعرف هذا فهو جاهل. و إلا فهو معاند كذاب». و لا بد من الإشارة هنا إلى أن أبا عبد الله الحاكم كان فارسياً نشأ في بلاد الفرس أيضاً في بيئة متشيعة. قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (17|168): «وكان يميل إلى التشيع». وقال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي عن أبي عبد الله الحاكم: «ثقةٌ في الحديث، رافضيٌّ خبيث». وقال عنه ابن طاهر: «كان شديد التعصب للشيعة في الباطن. وكان يظهر التسنن في التقديم والخلافة. وكان منحرفاً غالياً عن معاوية t وعن أهل بيته. يتظاهر بذلك ولا يعتذر منه. فسمعت أبا الفتح سمكويه بهراة سمعت عبد الواحد المليحي سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على الحاكم وهو في داره لا يمكنه الخروج إلى المسجد من أصحاب أبي عبد الله بن كرام. وذلك أنهم كسروا منبره ومنعوه من الخروج. فقلت له: لو خرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل حديثاً، لاسترحت من المحنة. فقال: لا يجيء من قلبي... لا يجيء من قلبي!». إذاً فهو لم يضعّف الحديث لكن قلبه لم يطاوعه بسبب تشيعه، فآثر السكوت عن معاوية. لكنه روى الحديث عنه وصححه على شرط الشيخان وترضى عنه. فتشيعه ليس شديداً، إلا إن كان يمارس التقية كما ادعى عليه ابن طاهر، لم يأت بدليل صريح. |
:بس:
:سل: [SIZE="6"][COLOR="Red"]منهج العجلي :[/COLOR][/SIZE] العجلي قريب من ابن حبان في توثيق المجاهيل من القدماء. وقد ذكر ابن الوزير اليماني (ت840هـ) في "العواصم والقواصم" (8|27) أنه يوثق الصدوق في روايته بغض النظر عن حاله في دينه. قال المعلمي اليماني في "الأنوار الكاشفة" (ص68): «توثيق العِجْلي –وجدته بالاستقراء– كتوثيق ابن حبان تماماً أو أوسع». والمعلمي من أهل الاستقراء. وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (7|633): «فالعجلي معروفٌ بالتساهل في التوثيق كابن حبان تماماً. فتوثيقه مردودٌ إذا خالف أقوال الأئمة الموثوق بنقدهم وجرحهم». وقال في فقال في "تمام المنة": «توثيق العجلي في منزلة توثيق ابن حبان». قال الشيخ السعد ما مختصره: «لا يخفى أن ابن حبان عنده أن الثقة الذي لم يُجرح. والعجلي قريب مذهبه من مذهب ابن حبان، وأنه يتوسع في توثيق المجاهيل وبالذات إذا كانوا من طبقة كبار التابعين وطبقة التابعين... وإذا تتبع الإنسان كلام العجلي: لو تتبع مئتين راوي أو ثلاثمئة راوي ممن ذكرهم العجلي في كتابه "الثقات" وحكم بتوثيقهم العجلي... سوف تجد هذا ظاهراً. ولذلك نص المعلمي على هذا. والعجلي لا شك أنه من كبار أهل العلم والفضل، لكن فيما يتعلق بتوثيق المجاهيل هو هذا الشيء يسلكه، نعم، ويتوسع فيه. وكذلك أيضا يتساهل ببعض الضعفاء فيوثقهم أيضاً. كما أنه أحياناً قد يكون الشخص لا يصل إلى درجة أن يقال عنه "ثقة ثبت" أو "ثقة"، يصل إلى درجة "الصدوق" أو "الثقة الذي له أوهام"، فيقول عنه مثلاً: "ثقة" أو "ثقة ثبت"، وما شابه ذلك. فهو عنده شيء من التساهل في هذا». ولا ريب أن المعلمي والألباني والسعد والوادعي من ذوي الاطلاع الواسع، فشهادتهم في الاستقراء معتبرة. ومن تأمل حال أئمة الجرح والتعديل من المتقدمين لوجد أنهم لا يعتدون بأقوال العجلي ويضربون عنها الذكر صفحاً، كأنها لم تكن. وإنما قام بعض المتأخرين باستعمال أقواله إذا وافق الحديث مذهبهم، لكن إذا خالفه، تجاهلوا قول العجلي كما كان يفعل المتقدمون. وهذا ما تجده عند ابن الجوزي، حيث غالباً ما يتجاهل قول العجلي ويحكم على الرواة بالجهالة، إلا في أحيان قليلة فتجده ينكر على الدارقطني تجهيله لراو بحجة توثيق العجلي له (رغم أن الدراقطني مسبوق بحكمه بالجهالة). وقد اضطرب المتأخرون كثيراً في شأن من لم يوثقه إلا العجلي وابن حبان. وسبب اضطرابهم هو قاعدة فلسفية واهية أخذوها من المتكلمين. قالوا: توثيق الإمام مقدم على جهل غيره من الأئمة لأن مع الموثق زيادة علم. كذا قالوا بإطلاق! ولا ريب في أن إطلاق هذا مخالف للعقل والواقع ومخالف لمنهج الأئمة المتقدمين. فإن الأئمة يختلفون مع بعضهم البعض في معايير التوثيق. فتجدهم أحياناً يختلفون في حكمهم على الراوي مع أنه ليس لواحد منهم زيادة علم على الآخر، كما تجده أحياناً في اختلاف الرازيين أو في اختلاف ابن مهدي مع القطان. وهذا راجع لاختلاف الاجتهاد وليس سببه جهل من الإمام أو زيادة علم من الإمام الآخر! فلذلك تجد إماماً كالذهلي يقول إن رواية ثقتين عن المجهول تكفي لرفع الجهالة عنه، بينما إمام آخر كأبي حاتم يرى أن هذا بإطلاق غير كافٍ فيحكم على الرجل بالجهالة. ولا يُقال أن أحدهما عنده زيادة علم على الآخر. ومثال هذا عند الأئمة المتقدمين ما قاله ابن عدي في الكامل (4|298): «إذا قال مثل ابن معين (عن رجل) "لا أعرفه"، فهو غير معروف. وإذا عرفه غيره، لا يعتمد على معرفة غيره، لأن الرجال بابن معين تُسبَرُ أحوالهم». طبعاً يستثنى من هذه القاعدة من كان في طبقة ابن معين خاصة من المصريين. والعجلي قد أدركه أغلب نقاد الحديث، وقد توفي بنفس السنة التي توفي بها مسلم (عام 261هـ). ومن تأمل أحوال الرجال، لوجد الأئمة المتقدمين قد أطلقوا الجهالة على عدد كبير جداً ممن وثقهم العجلي، رغم معرفتهم بلا شك بقوله. لكن لما عرفوا مذهبه في توثيق من لم يرو عنه إلا واحد حتى لو لم يكون عنده علم عن هذا الرجل (أي كما هو مذهب ابن حبان)، لم يعتدوا بقوله لأنه ليس فيه أن معه زيادة علمٍ عليهم. وقد عاش في بغداد عاصمة المحدّثين، قبل أن ينتقل إلى طرابلس في ليبيا. وقد ذكر أنه دخل على أحمد وهو محبوس في محنته. والنقاشات العظيمة بين أهل الحديث قد حدثت قبل ذلك الزمن، لأنه حصل وحشة بين أحمد وبين ابن معين وابن المديني بسبب موقفهما من الفتنة. فأين كان العجلي عن تلك المجالس التي يجتمع فيها الكبار أمثال أحمد والشاذكوني وابن المديني وابن معين وغيرهم من كبار الحفاظ فيتذاكرون الحديث ويتناقشون في علل الحديث؟ وكثير من هذه المجالس نقلها الخطيب والحاكم وأصحاب السؤالات وغيرهم، فلم نجد في أحد منها ذكراً للعجلي! ثم ما يزال الطلاب يسألون الحفاظ عن رواة الحديث ويذكرون لهم أحكام غيرهم، فما كان أحد يذكر قول العجلي وهو بلديهم يعيش بينهم. وأين من جمع المصنفات في أقوال الرجال، لم يذكر أقوال العجلي؟ إن قلت إن كتابه لم يصل إليهم، نعم لم يصل، لكن العمدة في نقل هذا على من يسأله لا على الكتب. ولم يكن لدى ابن معين أو ابن نمير أو ابن حنبل كتباً في الجرح والتعديل، بل كانت هناك كتب مسائل جمعها طلابهم من أسئلتهم إليها. فعدم وجود الكتاب لا يمنع من نقل أقواله إن كانت موجودة. ومعلوم أن العجلي كان قد اكتمل علمه في الحديث وأتم رحلاته قبل زمن المحنة بزمن. وقد كان بينهم بكامل علمه فما كانوا يسألوه ولا يذكرون أقواله، مع أنهم ذكروا قوماً كانت عقيدتهم وأحوالهم سيئة كالشاذكوني ثم ابن خراش وابن عقدة لاحقاً وأمثالهم. وكان هو بريئا من البدع صالح السيرة. وحتى عدد من المحققين من المتأخرين سلكوا نفس منهج المتقدمين في عدم الاعتداد بمنهج العجلي في توثيق المجاهيل (وهو نفس منهج ابن حبان). وعلى سبيل المثال: عمارة بن حديد. قال عنه أبو حاتم: «مجهول». وقال أبو زرعة: «لا يُعرف». وقال ابن عبد البر: «رجل مجهول». وقال ابن المديني: «لا أعلم أحداً روى عنه غير يعلى بن عطاء». وقال العجلي في "معرفة الرجال" (2\162): «حجازي تابعي ثقة»!! وذكره ابن حبان في ثقاته (5\141) وأخرج حديثه في صحيحه (11\62) رغم أنه لم يرو عنه إلا يعلى بن عطاء، وليس له أصلاً إلا حديثاً واحداً عن رجل مجهول اسمه صخر، زعم أنه صحابي. وهذا الحديث أشار الترمذي إلى ضعفه فقال عنه: «حسن غريب (كما في نسخة الذهبي. وهو تضعيف باصطلاح الترمذي)، و لا نعرف لصخر عن النبي r غير هذا الحديث». والحديث ضعفه أبو حاتم وابن الجوزي وابن القطان وكثير غيرهم. قال الذهبي في الميزان (5\211): «صخر لا يعرف إلا في هذا الحديث الواحد. ولا قيل إنه صحابي إلا به. ولا نَقَلَ ذلك إلا عمارة. وعمارة مجهول، كما قال الرازيان. ولا يُفرح بذكر ابن حبان له في الثقات، فإن قاعدته معروفة من الاحتجاج بمن لا يعرف». ومن الواضح أنه تجاهل ذكر العجلي أصلاً. منصور الكلبي وقد وثقه العجلي فقال: منصور الكلبي: «مصري، تابعي، ثقة». قلت: توثيق العجلي في منزلة توثيق ابن حبان، ولذلك لم يعتمده ههنا الذهبي وغيره من المحققين. فقال الذهبي في ترجمته من "الميزان" : «ما روى عنه سوى مرثد المزني (مفتي مصر) هذا الحديث. ولم يصححه عبد الحق». وقال عنه في الكاشف: «لا يُعرف». والحق مع الذهبي إذ حكمه موافق لحكم الأئمة الأوائل. قال ابن المديني عن منصور: «مجهول لا أعرفه». وقال ابن خزيمة: «لا أعرفه». وابن حجر مع ذكره لتوثيق العجلي له في "التهذيب" لم يتبن هذا التوثيق في "التقريب" حيث قال عنه: «مستور». ولهذا ضعف الخطابي في "المعالم" حديث منصور فقال: «ليس بالقوي، وفي إسناده رجل ليس بالمشهور». الجدير بالذكر أن كتاب العجلي قد سُمِّيَ بأسماء كثير مثل "معرفة الثقات" و "الجرح والتعديل" و "السؤالات" و "التاريخ" لكن التسمية الأصح هي "معرفة الرجال". لأنه لم يقتصر على الثقات فحسب، بل هناك جماعة جرحهم بالضعف أو الترك أو الكذب أو الزندقة. فهو كتاب عام في تواريخ الرجال تعرض فيه العجلي لكل أنواع الرواة. لكن بسبب شدة تساهله وفرطه في التوثيق، أدى ذلك إلى أن الغالبية العظمى من أحكامه على الرجال هي بالتوثيق، فغلب على الكتاب اسم "الثقات". |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]منهج أبو الفتح الأزدي[/SIZE][/COLOR] قال الذهبي في ميزان الاعتدال (1\117): «وأبو الفتح يسرف في الجرح. وله مُصنَّفٌ كبيرٌ إلى الغاية في المجروحين. جمع فأوعى، وجرح خلقاً بنفسهِ لم يسبقه أحدٌ إلى التكلم فيهم. وهو مُتَكَلَّمٌ فيه». وقال عنه في تذكرة الحفاظ (3\967): «له مصنَّفٌ كبيرٌ في الضعفاء. وهو قويّ النفس في الجرح. وهّاه جماعةٌ بلا مستندٍ طائل». وقال عنه في سير الأعلام (13\389): «ليت الأزدي عرف ضعف نفسه». وهناك دراسة قام بها الأستاذ الدكتور عبد الله مرحول السوالمة، وملخصه كما يلي: تهدف هذه الدراسة إلى جمع واستقراء ما وجه إلى الحافظ الناقد أبي الفتح الأزدي (ت 374هـ) من طعون وانتقادات كالتشيع والرفض والوضع والضعف والنكارة والتشدد والسرف في نقد الرجال وجرحهم، هذا إلى جانب معرفة ما له عند العلماء من منزلة ومكانة في العلم والحفظ والفهم، مما جعل كثيراً منهم يُثني عليه و يُعْوِلُ على أقواله في الرجال وغيرهم. وعلى ضوء هذه الأقوال المتضاربة فيه، وعلى ضوء جمع ما يقرب من 1080 قولاً له في الرجال، تم جمعها مما يزيد على 40 مجلداً، ثم مقارنتها بأقوال النقاد الآخرين لمعرفة موافقاته ومخالفاته لهم وانفراداته عنهم، وما انتقد عليه منها، وما كان منها سبباً في الطعون فيه. فعلى ضوء دراسة ذلك كله –مع الأخذ بعين الاعتبار معرفة الملابسات والقرائن التي تسببت في إفراز تلك الطعون والانتقادات المختلفة– قد توصل الباحث إلى نتائج منها: 1- استحالة كون الأزدي مبتدعا أو وضّاعاً. 2- من الخطأ الحكم عليه بالضعف المطلق، بل يحمل تضعيفه على أحوال خاصة. 3- الحافظ الأزدي من الأئمة المجتهدين في الجرح والتعديل. وأقواله في الرجال مقبولة بالجملة. إذ انه لمتعقب في حالتي التفرد وعدمه بأكثر من 5% مما ذكر له من أقوال. وبذلك يكن تصنيف أقواله وأحكامه على النحو التالي: 1- يُقبل قول الأزدي في التوثيق لأنه من المتشددين من جهة، ولأنهم لم يتعقبوه بحق فيما وقفت عليه من أقوال في التوثيق. 2- لا يُقبل جرحه منفرداً فيمن ثبتت عدالته واستقر عند العلماء توثيقه، ما لم يُبَيِّن ويُفَسِّر جرحه، وذلك لإسرافه في الجرح وتسرعه أحياناً. 3- يقبل قوله في المجروحين المشهورين بالضعف من غير بيان سبب. 4- يقبل قوله في المجهولين الذين لم يوجد فيهم كلام لغيره. إذ إعمال كلامه أولى من إهماله. اللهم إلاّ أن يكون المجهول من الكبار الذين تقادم العهد بهم ممّن لم يشتهروا بكثير رواية، ولم يطّلع العلماء على أحوالهم، فهؤلاء قد يتوقف أحياناً في قول الأزدي فيهم، لاحتمال أن يكون هؤلاء قد احتملهم الأئمة ورووا عنهم من جهة، ولاحتمال أن يكون الأزدي تشدَّدَ فيمن هذه حاله من جهة أُخرى. 5- إذا تعارض جرح الأزدي مع توثيق غيره، فإن كان هذا الغير من العلماء المشهورين بالنقد والاطلاع والاضطلاع فيه، والرجل المتكلم فيه من الثقات المشاهير، فلا يقبل قول الأزدي إلا ببيان الحجة على ما مر في (#2). وأما إذا كان الموثِّق ممن قد يتساهلون في التوثيق أحياناً –كابن حبان والعجلي مثلاً– فيُلجأ حينئذ إلى الترجيح على ضوء قرائن وملابسات. إذ قد يكون الرجل المتكلم فيه من المجاهيل ونحوهم، فيرجح قول الأزدي فيه. والله أعلم. |
:بس:
:سل: [SIZE="6"][COLOR="Red"]منهج ابن ماجه :[/COLOR][/SIZE] الثابت أن أكثر زوائد سنن ابن ماجة ضعيفة، وفي تصحيحها ما بقي منها خلاف. قال الحافظ المِزّي: «كل ما انفرد به ابن ماجة عن الخمسة فهو ضعيف». وقال ابن حجر: «إنه انفرد بأحاديث كثيرةٍ وهي صحيحة». قلت: لعلها قليلة جداً. قال ابن حجر في التهذيب (9\468): «كتابه في السنن جامعٌ جيدٌ كثير الأبواب والغرائب. وفيه أحاديث ضعيفة جداً، حتى بلغني أن المزي كان يقول: "مهما انفرد بخبر فيه فهو ضعيفٌ غالباً". وليس الأمر في ذلك على إطلاقه باستقرائي. وفي الجملة ففيه أحاديث منكرة، والله تعالى المستعان. ثم وجدت بخط الحافظ شمس الدين محمد بن علي الحسيني ما لفظه: سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: "كل ما انفرد به ابن ماجة فهو ضعيف"، يعني بذلك ما انفرد به من الحديث عن الأئمة الخمسة. انتهى ما وجدته بخطه. وهو (الحسيني) القائل: "يعني". وكلامه هو ظاهر كلام شيخه، لكن حمله على الرجال أولى. وأما حمله على أحاديث، فلا يصح، كما قدمت ذكره من وجود الأحاديث الصحيحة والحسان مما انفرد به عن الخمسة». أقول: يبعد جداً حمله على الرجال، لأن من رجال ابن ماجه الذين تفرد بهم، من كان فيهم توثيق من غير جرح، مثل أحمد بن منصور بن سيار الرمادي. والمزي أعلم بذلك بسبب عمله في تهذيب الكمال. ثم إن الحافظ الحسيني هو أعرف بكلام شيخه من ابن حجر. وقال ابن تيمية كما في زاد المعاد (1\435): «أفراد ابن ماجه في الغالب غير صحيحة». وقال المِزِّي: «كتاب ابن ماجه إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به. بخلاف صحيحي البخاري ومسلم، فإن الحفاظ تداولوهما واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما. ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف». |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]هل كان الحافظ الجوزجاني ناصبياً؟[/SIZE][/COLOR] لقد اتهم ابن حجر الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الخراساني الجوزجاني (شيخ النَّسائي) بأنه غالٍ في النصب. وأنا أقول: ليس كل من اتهموه بتهمة تثبت عليه. فالجرح لا يُقبل –مع التعديل– إلا إذا كان مُفَسَّراً. فأين دليله على نصبه؟ وابن حجر لم يجد على كلامه دليلاً سوى تعنت الجوزجاني –بنظر ابن حجر– على الكوفيين. قلت: وهذا لا يعني النصب كما لا يخفى على أحد. ولإثبات أنه ناصبي فلا بد من إثبات أنه يناصب علياً t وأهل البيت العداء. أي لا بد أن تجد له قولاً يطعن بعلي t. وإلا فالأمر مجرد عداوة شخصية بينه وبين الكوفيين (على فرض صحة كلام ابن حجر). وقد طالعت ترجمته في "تهذيب الكمال" فلم أر إلا ثناءً عليه. قال الحافظ المزي في ترجمة الجوزجاني في تهذيب الكمال (2\248): قال أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال: «إبراهيم بن يعقوب (الجوزجاني): جليلٌ جداً. كان أحمد بن حنبل يُكاتبه ويُكرمه إكراماً شديداً. وقد حدثنا عنه الشيوخ المتقدمون. وعنده عن أبي عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) جزءان مسائل». وقال النسائي (متشدد يقال فيه تشيع): «ثقة». وقال الدارقطني: «أقام بمكة مدة، وبالبصرة مدة، وبالرملة مدة. وكان من الحفاظ المصنفين، والمخرجين الثقات». وقال أبو أحمد بن عدي: «كان يسكن دمشق يحدث على المنبر. ومكاتبه أحمد بن حنبل، فيتقوى بكتابه، ويقرأه على المنبر». اهـ. ولم يذكر الحافظ المزي فيه أي جرح. قلت: فهذا النسائي –تلميذ الجوزجاني– أعرف الناس به. وقد وثّقه بإطلاق رغم ما يقال عن تشيعه (أي تشيع النسائي)، ورغم ما قيل عن تشدده في التوثيق، ورغم عدائه الشديد للنواصب، لدرجة تسببت بقتله. ولو كان الجوزجاني ناصبياً لما وثقه النسائي بإطلاق، أو على الأقل لنبّه الناس على نصبه. ثم نرى ابن العماد الحنبلي في"شذرات الذهب" (1\139) يقول: «الإمام إبراهيم بن يعقوب أبو إسحاق الجوزجاني صاحب التصانيف. كان من كبار العلماء، وجرّح وعدّل، وهو من الثقات». وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (11\31): «إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق الجوزجاني: خطيب دمشق وإمامها وعالمها. وله المصنفات المشهور المفيدة، منها المترجم فيه علوم غزيرة وفوائده كثيرة». وقال نحو ذلك الذهبي في "العبر في خبر من غبر" (2\24). وكيف يكون الجوزجاني ناصبياً مع إقرار العلماء أنه إمام من أئمة الحديث؟ ولماذا لا نجد أحداً نبذه بالنصب إلا بعض المتأخرين ممن لبعضهم ميولاً شيعية؟ وعلى فرض أنه ناصبي كما يزعمون، فعندما يجرح الشيعيَّ الثقة، يقول عنه زائغ أو مخذول أو مذموم أو مائل عن الحق، ولا يتهمه بضعف الحفظ. بل هو يحتج بحديثه في غير بدعته. وعلى سبيل المثال فإن الجوزجاني وثّق "حبة بن جوين" الشيعي مطلَقاً، رغم أن الجمهور ضعفه. وقد قال عنه ابن حبان: «كان غالياً في التشيع، واهياً في الحديث». فلم يمنع غلو "حبة بن جوين" في التشيع، من توثيق الجوزجاني له. وهذا من إنصافه رحمه الله. وإذا أراد أن يبين انحراف الراوية بيّن ذلك دون أن يرد حديثه كله. فقد قال مثلاً في إسماعيل بن أبان الوراق: «كان مائلاً عن الحق، ولم يكن يكذب». وقد نص الإمام الجوزجاني على هذا المنهج بنفسه، فقال في كتابه "أحوال الرجال" (ص32): «ومنهم زائِغٌ عن الحقّ، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثه: إذ كان مخذولاً في بدعته، مأموناً في روايته، فهؤلاء عندي ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرف، إذا لم يُقَوِّ به بدعته، فيُتَّهم عند ذلك». وهذا المذهب هو ما عليه جمهور المحدثين من أهل السنة والجماعة. وقد نقل ابن حجر هذه العبارة مُقِراً لها في لسان الميزان (1\11). ولم يجد ابن حجر مثالاً على غلو الجوزجاني في جرح الشيعة إلا مقولته في الأعمش الكوفي (ثقة فيه تشيع لكنه يدلس عن كذابين). فقد قال الجوزجاني في "أحوال الرجال" (ص192 - طبعة مؤسسة الرسالة 1405): «حدثني أحمد بن فضالة وإبراهيم بن خالد، عن مسلم بن إبراهيم، عن حماد بن زيد، قال: قال الأعمش حين حضرته الوفاة: أستغفر الله وأتوب إليه من أحاديث وضعناها في عثمان». وهذا إسنادٌ رجاله ثِقات، ولكن حمّاد بصْري أرسل الخبر ولم يحضر احتضار الاعمش. فيكون حمّاد قد سمع الخبر من رجُلٍ لم يُسمّه. فلا يصلح هذا جرحاً في الأعمش، ولا يُطعَنُ به في الجُوزجاني. أم بالقوة يريدون أن يكون الجوزجاني كذاباً لأجل أنه يُظَنّ أنه اتخذ موقفاً سياسياً من الشيعة؟! ولم يستطع أحدٌ من هؤلاء إثبات تهمة النصب للجوزجاني، فأين ما يدّعونه؟ وإنما اعتمد ابن حجر على قصة باطلة ذكرها السلمي عن الدارقطني –بعد أن ذكر توثيق الجوزجاني–: «لكن فيه انحرافٌ عن علي: اجتمع على بابه أصحاب الحديث، فأخرجت جارية له فروجة (أي دجاجة) لتذبحها، فلم تجد من يذبحها. فقال: سبحان الله! فروجة لا يوجد من يذبحها، وعلي يذبح في ضحوةٍ نيّفاً وعشرين ألف مسلم؟!»، يقصد قتل عليٍّ لمسلمي الشام في صفّين. أقول: وهذا يُسمى انحرافٌ عن علي، ولا يعني مناصبته العداء، ولا يعني شتمه أو سبه والعياذ بالله. إنما كان الحافظ الجوزجاني على مذهب أهل دمشق فى الميل على علي. وبين هذا وبين النصب فرقٌ كبير. وبذلك نفهم قول ابن حبان في "الثقات" عنه: «كان حريزي المذهب، و لم يكن بداعية». يقصد أنه يشبه حريز بن عثمان، وهذا الأخير كان ثقةً ثبتاً يترحم على عليٍّ وينكر على من شتمه، إلا أنه كان يقول: «لا أحبه. قتلت آبائي». ومقولة الحافظ الجوزجاني تصب في نفس المعنى. قال العلامة المعلمي في "التنكيل" في رده على الكوثري: «وأما الجوزجاني فحافظ كثير متقن عارف. وثّقه تلميذه النسائي جامع "خصائص علي" وقائل تلك الكلمات في معاوية. ووثقه آخرون. فأما ميل الجوزجاني إلى النصب فقال ابن حبان في "الثقات": "كان حريزي المذهب، ولم يكن بداعية. وكان صلبا في السنة... إلا أنه من صلابته ربما كان يتعدى طوره". وقال ابن عدي: "شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في النيل على علي". وليس في هذا ما يُبيّن درجته في الميل. فأما قصة الفروجة فقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب": "قال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه: لكن فيه انحراف عن علي. اجتمع علي بابه أصحاب الحديث فأخرجت جارية له فروجة...". فالسلمي هو محمد بن الحسين النيسابوري، ترجمته في "لسان الميزان" (5|140): تكلموا فيه حتى رموه بوضع الحديث! والدارقطني إنما وُلِدَ بعد وفاة الجوزجاني ببضع وأربعين سنة. وإنما سمع الحكاية –على ما في معجم البلدان "جوزجانان"– من عبد الله بن أحمد بن عدبس. ولابن عدبس ترجمة في "تاريخ بغداد" (9|384) و "تهذيب تاريخ ابن عساكر" (7|288) ليس فيها ما يبيّن حاله. فهو مجهول الحال، فلا تقوم بخبره حجة. وفوق ذلك، فتلك الكلمة ليست بالصريحة في البغض. فقد يقولها من يرى أن فعل علي –عليه السلام– خلاف الأولى، أو أنه اجتهد فأخطأ. وفي "تهذيب التهذيب" (10| 391) عن ميمون بن مهران قال: "كنت أفضّل علياً على عثمان. فقال عمر بن عبد العزيز (الخليفة الراشد): أيهما أحب إليك، رجل أسرع في المال، أو رجل أسرع في كذا –يعني الدماء–. قال: فرجعت وقلت: لا أعود". وهذا بَيِّنٌ في أن عمر بن عبد العزيز وميمون بن مهران، كانا يريان فعل علي خلاف الأَولى أو خطأ في الاجتهاد. ولا يعد مثل هذا نصباً، إذ لا يستلزم البغض، بل لا ينافي الحب. وقد كره كثير من أهل العلم معاملة أبي بكر الصديق لمانعي الزكاة معاملة المرتدين، ورأوا أنه أخطأ، وهم مع ذلك يحبونه ويفضلونه. فأما حط الجوزجاني على أهل الكوفة، فخاصٌّ بمن كان شيعياً يبغض الصحابة أو يكون ممن يظن به ذلك. وليس أبو حنيفة كذلك. ثم قد تقدم في القاعدة الرابعة من قسم القواعد، النظر في حط الجوزجاني على الشيعة، واتضح أنه لا يجاوز الحد، وليس فيه ما يسوغ اتهامه بتعمد الحكم بالباطل، أو يخدش في روايته ما فيه غض منهم أو فيهم. وتوثيق أهل العلم له يدفع ذلك البتة كما تقدم في القواعد. والله الموفق». [SIZE="6"][COLOR="Red"]هل كان حريز بن عثمان ناصبياً؟[/COLOR][/SIZE] قال الذهبي كما في السير (7\79): «الحافظ العالم المتقن، أبو عثمان الرحبي المشرقي الحمصي. محدث حمص، من بقايا التابعين الصغار». وقال عنه الإمام أحمد كما في الجرح والتعديل (3\289): «ليس بالشام أثبت من حريز إلا أن يكون بحير». قيل: «صفوان بن عمرو؟». قال: «حريز فوقه. حريز ثقة ثقة». وقال أحمد كما في سير أعلام النبلاء (7\80): «حريز ثقة ثقة ثقة، لم يكن يرى القدر». ولا أعلم الإمام أحمد قد وصف رجلاً بالتوثيق ثلاث مرات إلا حريز. وقال الأمام أحمد أيضاً كما في الكامل (2\451): «صحيح الحديث إلا أنه يحمل على علي». وقال معاذ بن معاذ كما في التاريخ الأوسط للبخاري (2\117): «لا أعلم أني رأيت أحداً من أهل الشام أفضّله عليه». ووثقه ابن معين كما في سؤالات ابن الجنيد (#399). وقال علي بن المديني كما في تهذيب التهذيب (1\376): «لم يزل من أدركناه من أصحابنا يوثّقونه». فقد نقل ابن المديني الإجماع على توثيق حريز والاحتجاج به. و وثقه كل من ابن شاهين ودُحيم (وهو أعلم الناس بالشاميين) والمفضل بن غسان وقال: «ثبت». واتهمه ابن حبان بسب علي سبعين مرة في الصباح وسبعين مرة في المساء. قال الذهبي في السير (7\81) معلقاً على كلام من اتهمه بسب علي: «هذا الشيخ أورع من ذلك». وقد استنكر الدكتور بشار عواد (في تحقيقه لتهذيب الكمال) كلامَ ابن حبان. وذكَر أن السمعاني تبعه في ذلك (أي في أن حريزَ يسب علياً). وقال الدكتور: «إن هذا الكلام ليس له سند، فلا يُعتبر ولا يعتدّ به». وقد نفى بنفسه (وهو الثقة الثبت) تهمة سب علي t. وجاء في السير (7\80): «ورُوِيَ عن علي بن عياش (وهو من تلاميذ حريز) عن حريز أنه قال: «أأنا أشتم علياً؟! والله ما شتمته». وصدق رحمه الله. وفي تاريخ ابن معين رواية الدوري (4\475): قال الدوري: سمعت يحيى يقول: سمعت علي بن عياش يقول سمعت: حريز بن عثمان الرحبي يقول لرجل: «ويحك، أما تتقي الله؟ تزعم أني شتمت علياً؟ لا والله ما شتمت علياً قط». وهذا إسنادٌ صحيحٌ كالشمس. وفي السير (7\80): قال شبابة سمعت رجلاً قال لحريز بن عثمان: «بلغني أنك لا تترحم على علي؟». قال: «اسكت. رحمه الله مئة مرة». وممن نفى عنه هذه التهمة أبو حاتم الرازي، فقال في الجرح والتعديل (3\289): «حريز بن عثمان حسن الحديث. ولم يصحّ عندي ما يُقال في رأيه. ولا أعلم بالشام أثبت منه. هو أثبت من صفوان بن عمرو وأبي بكر بن أبي مريم. وهو ثقةٌ مُتقِن». وقوله لم يصح، أي أنها ضعيفة لم تثبت. أما القصة التي في تاريخ بغداد (8\278) و تهذيب الكمال (5\578) من طريق عبد الوهاب بن الضحاك قال حدثنا إسماعيل بن عياش قال سمعت حريز بن عثمان قال: «هذا الذي يرويه الناس عن النبي r قال لعلي "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" حق. ولكن أخطأ السامع. قلت: فما هو؟ فقال: إنما هو "أنت مني مكان قارون من موسى". قلت: عن من ترويه؟ قال: سمعت الوليد بن عبد الملك يقوله وهو على المنبر». قال الحافظ أبو بكر الخطيب –ونقلها عنه المزي في التهذيب–: «عبد الوهاب بن الضحاك كان معروفاً بالكذب في الرواية، فلا يصح الاحتجاج بقوله». واتهمه الفلاس بعدم محبة علي. وجاء عن حريز في ذلك أنه قال: «لا أحبه. قتلت آبائي». وقال كذلك: «لنا إمامُنا، ولكم إماكم». وهذا قد رجع عنه كما سنرى. وقال العجلي في "معرفة الثقات" (1\291): «ثقةٌ يتحامل على علي». ويقصد بالتحامل الأقوال السابقة، وهي غير الشتم. قال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (8\258): «وحًكِيَ عنه من سوء المذهب وفساد الاعتقاد، ما لم يثبت عليه». فأسانيد ما ذُكِرَ عنه من انتقاصه ِلعَلي t ضعيفة كما قال الخطيب. وقال ابن ماكولا في الإكمال (2\86): «وجاء عنه بغضه لعلي t، وفي ذلك خلافٌ عنه». وتابعه على ذلك الدارقطني كما في "تاريخ دمشق" لابن عساكر (13\240) فقال: «وفي ذلك اختلافٌ عنه». وسبب الاختلاف أنه رجع عن أقواله التي فيها تحامل. قال ابن حزم في "الإحكام" (8\506): «حريز بن عثمان ثقة. وقد رُوينا عنه أنه تبرأ مما أنسب إليه من الانحراف عن علي t». وقال أبو اليمان (وهو من تلاميذه) كما في التاريخ الأوسط للبخاري (2\117) والكبير (3\104): «كان حريز يتناول من رجل ثم تركه». ويقصد علياً t. قال ابن حجر في "مقدمة الفتح" (1\415): «وهذا أعدل الأقوال فيه». وإن قيل كيف يقول أبو اليمان أنه كان يتناول رجلاً ثم تركه، وقد نفى ذلك عن نفسه؟ فيقال أن ما يقصده أبو اليمان مثل قوله: "لنا أمامنا ولكم أمامكم" و "قتل آبائي" وغيرها. وحتى هذه تركها، ورجع عنها. أما السب فلا. والله أعلم. وقد أخرج البخاري لحريز حديثين وأصحاب السنن أخرجوا له. وذكره الذهبي فيمن تكلم فيه بما لا يوجب الرد (#84). وهو ثقةٌ ثبتٌ حجة باتفاقهم. |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]المحدثون الحنفية :[/SIZE][/COLOR] الشائع أن الأحناف أصحاب رأي. وربما هم اليوم أبعد الناس عن الحديث وأكثرهم رداً له. ولكن في العصور الأولى كان منهم الكثير من المحدثين. ولا شك أن أغلب المحدثين هم من الشافعية فالحنابلة فالمالكية فالأحناف. وأئمة الشأن (بعد استقرار المذاهب) أغلبهم من الشافعية. فإن شككت في هذا فخذ كتاب "تذكرة الحفاظ" وعد عدد الشافعية منهم. والشافعية المشتغلين بالحديث على قسمين: هناك فقهاء المحدثين كابن خزيمة، وهناك محدثي الفقهاء كالنووي. صحيح أن الحفاظ في الشافعية أكثر، واهتمام الشافعية بالحديث أكثر، وصحيح أن أصحاب الرأي أقل الناس اشتغالاً بالحديث، ولكن هذا لا ينفي وجود حفاظ ممن كان يرى رأي أبي حنيفة. أبو يوسف: كان أكثر أصحاب أبي حنيفة حفظاً للحديث ومن أشدهم تعلقاً بالآثار. وهو أول من كتب عنه أحمد بن حنبل الحديث. محمد بن الحسن: اشتهر بملازمته لمالك ورواية الموطأ عنه. وقد وثقه الدارقطني وغيره في روايته للموطأ. الطحاوي: كان شافعياً ثم بسبب نزاع شخصي مع من تولى المذهب الشافعي من بعد الإمام، فإنه صار حنفياً متعصباً. وهو العمدة في الدفاع عن الأحناف فقهاً وحديثاً. أثنى عليه حفاظ الأندلس، كابن عبد البر وغيره، وسأله النسائي عن حديث. وقد قال البيهقي: «كم من حديث صححه لأجل مذهبه». وهذه المقولة تنطبق على البيهقي كذلك، وهما سواء في التعصب المذهبي. يحيى بن معين (الإمام المشهور): وكان متعصباً لرأي أبي حنيفة حتى أنه انتقص الشافعي، كما نقل عنه الحاكم! وجاء عن ابن معين أنه سئل: ترى أن ينظر الرجل في رأي الشافعي، أو رأي أبي حنيفة؟ قال: «ما أرى لأحد أن ينظر في رأي الشافعي. ينظر في رأي أبي حنيفة أحب إلي». قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (11|88) تعليقاً على تلك المقولة: «كان أبو زكريا رحمه الله (ابن معين) حنفياً في الفروع. فلهذا قال هذا. وفيه انحراف يسير عن الشافعي». والإمام الذهبي بعد أن دافع عن الإمام الشافعي من طعن الإمام ابن معين به، قال في كتابه "الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب" (1|30): «ابن معين كان من الحنفيّةِ الغُلاة في مذهبه، وإن كان مُحَدِّثاً». وقد جاء في تاريخ ابن معين (رواية الدوري) (4|461): «قال يحيى: قال ابن وهب عن مالك بن أنس في المرأة يكون وليها ضعيفا أو يكون غائبا أو لا يكون لها ولي فتولي أمرها رجلا فيزوجها، قال: "جائز". وقال ابن وهب: "لا إلا بولي". قلت ليحيى: "هذا يوافق قول أبي حنيفة؟". قال: "نعم"، يعني قول مالك». فهذا يدل على أن ابن معين كان عارفاً بمذهب أبي حنيفة حتى كانوا يسألونه عن ذلك. وقال الدوري في تاريخ ابن معين (4|283): سمعت يحيى يقول: «لا نكذب الله ربما سمعنا الشيء من رأي أبي حنيفة فاستحسناه فأخذنا به». وكان سيد الحفاظ الإمام يحيى بن سعيد القطان البصري، إمام المحدثين وشيخ الجرح والتعديل، يأخذ بأكثر أقوال أبي حنيفة. قال أحمد بن علي بن سعيد القاضي (ثقة حافظ): سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: «لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، و قد أخذنا بأكثر أقواله». قال يحيى بن معين: «و كان يحيى بن سعيد يذهب في الفتوى إلى قول الكوفيين، و يختار قوله (أي قول أبي حنيفة) من أقوالهم، و يتّبع رأيه من بين أصحابه». وفي تاريخ ابن معين (3|517): قال الدوري: سمعت يحيى يقول: قال يحيى بن سعيد القطان: «لا نكذب الله. ربما رأينا الشيء من رأي أبي حنيفة فاستحسناه فقلنا به». وكان إمام أهل الحفظ في عصره وكيع بن الجراح الكوفي، يفتي برأي الإمام أبي حنيفة. ففي "تذكرة الحفاظ" للحافظ الذهبي (1|307): (قال حسين بن حبان) قال يحيى بن معين عن وكيع: «ما رأيت أفضل منه، يقوم الليل ويَسرُدُ الصوم، ويُفتي بقول أبي حنيفة. وكان يحيى القطان يفتي بقول أبي حنيفة أيضاً». وقال يحيى بن مَعِين: ما رأيتُ أحداً أُقدِّمه على وكيع، وكان يُفتي برأي أبي حنيفة، وكان يحفظ حديثَه كلَّه، وكان قد سمع من أبي حنيفة حديثاً كثيراً. قلت: فهو حنفي إذاً. ولم يقل أحد بأن كل حنفي عليه أن لا يخالف أبا حنيفة في أي مسألة. فقد جاء عند الترمذي (3|249): سمعت يوسف بن عيسى يقول: سمعت وكيعاً يقول –حين روى هذا الحديث– قال: «لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا، فإن الإشعار سنة وقولهم بدعة». وهناك آخرون مثل: معلى بن منصور، بكار بن قتيبة، ابن أبي عمران (وهو من كبار الحفاظ وإن لم يكن مشهوراً). وهؤلاء شيوخ الطحاوي. وهناك أحمد بن عيسى البرتي صاحب مسند أبي هريرة، وهو من كبار الحفاظ. وهناك حماد بن شاكر الراوي عن البخاري، وإبراهيم بن معقل النسفي راوي صحيح مسلم. ومن بعدهم: ابن قانع والكلاباذي (وقد رضي فهمه الدارقطني) وهذه الطبقة. ومن بعدهم حفاظ الموصل، مثل أبي يعلى الموصلي صاحب المسند الكبير، قال عنه الذهبي: أخذ الفقه عن أصحاب أبي يوسف. وبعد هؤلاء يأتي ابن التركماني الذي رد على البيهقي. ويأتي من بعده تلميذه الحافظ الزيلعي، وهو أعلم المحدثين الأحناف. وهناك مغلطاي والعيني وكثير من محدثي الهند. وللكوثري الهالك رسالة في ذكر محدثي الحنفية، إلا أنه أدخل فيه من ليس من الحنفية، وهي مطبوعة مع نصب الراية. والأحناف كثيراً ما ينسبون الرجل إلى مذهب إمامهم بمجرد رواية الرجل عن أبي حنيفة. وهذا من العجب! وإلا كان كل من روى عن مالك هو مالكي. فهذا وكيع كوفي روى عن مالك. والوليد بن مسلم وهو شامي على مذهب الأوزاعي. ومن تأمل مذهب المتأخرين الأحناف لعلم أنهم أبعد الناس عن علم الحديث، والله أعلم. على أن هذا الحكم لا ينبغي أن يكون عاماً. ففي الهند من الحنفية أعلام في الحديث، وهم سيف حاد على التقليد. ولا ننسى أن علم الحديث بقي قروناً عند علماء الهند من الحنفية، وقد قاموا به خير قيام، في الوقت الذي كانت فيه بلادنا مغرقة في التقليد والتعصب. ومن أراد التوسع، فعليه بمراجعة كتاب "جهود علماء الهند في خدمة السنة النبوية" لعبد الرحمن الفريوائي. ولو ذهبنا نعدد أعيان هذا العصر من علماء الهند المحدثين المنتسبين إلى مذهب الإمام أبي حنيفة، لضاق المقام عن مجرد ذكر أسمائهم في طبقة شيوخنا وشيوخهم رحمهم الله ونفع بعلومهم. ومن الفوائد التي أحب أن أذكرها هنا حتى ينسب الفضل إلى أهله، أن التفريق بين منهجي المتقدمين والمتأخرين من المحدثين، والتنبه إلى طريقة حفاظ الحديث في التعليل بالنكارة والشذوذ، قد تلقاها بعض شيوخنا عن شيوخهم في الهند، كالحافظ محمد يونس الجونفوري وغيره، بشكل جلي وواضح في زمن مبكر، لم يكن يسمع فيه بهذه الأمور -على حد علمي المحدود- في محافلنا العلمية. والشيخ حمزة المليباري (الذي نقلها إلينا) إنما هو من باكستان. |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]محمد بن الحسن بين الجرح والتعديل : [/SIZE][/COLOR] المديح سير أعلام النبلاء (9|136): قال إبراهيم الحربي: قلت للإمام أحمد: «من أين لك هذه المسائل الدقاق؟». قال: «من كتب محمد بن الحسن». قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال (6|107): «وكان من بحور العلم والفقه، قوياً في مالك». قال علي بن محمد بن الحسن المالكي: أنبأنا عبد الله بن عثمان الصفار قال: أنبأنا محمد بن عمران بن موسى الصيرفي قال: نبأنا عبد الله بن علي بن المديني، عن أبيه قال: وسألته عن أسد بن عمرو والحسن بن زياد اللؤلؤي ومحمد بن الحسن؟ فضعف أسداً والحسن بن زياد، وقال: «محمد بن الحسن صدوق». ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي قال عن محمد بن الحسن: «دخلت عليه، فرأيت عنده كتاباً، فنظرت فيه، فإذا هو قد أخطأ في حديث وقاس على الخطأ. فوقَفته على الخطأ، فرجع، وقطع من كتابه بالمقراض عدة أوراق». قلت: هذا يدل على إنصافه وإرادته للحق. قال أحمد بن محمد بن الحسن بن عمر: سمعت الحجاج بن حمزة الخشابي يقول: سمعت هشام بن عبيد الله الرازي (صدوق يخطئ) يقول: لما سمعنا كتب محمد بن الحسن بالرقة، قلنا: قولك أرأيت إلى من ينسب وسؤالك عن من؟ قال: «إنما هو سواد في بياض. إن شئتم فخذوه وإن شئتم فدعوه». (النص فيه تحريف) قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: «أقمت على مالك ثلاث سنين، وسمعت من لفظه سبعمئة حديث» (وفي رواية ثمانمئة). قال ابن حجر: «وكان مالك لا يحدث من لفظه إلا نادراً». أقول: إنما كان مالك يطلب من أحد تلامذته أن يقرأ عليه. فهذا النص يدل على شدة ملازمة محمد بن الحسن لمالك. فقد لزمه أكثر من ثلاثة سنين. بينهما لزم الشافعي مالكاً حوالي ثمانية أشهر فقط. قال أبو بكر بن المنذر: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: «ما رأيت سميناً أخف روحاً من محمد بن الحسن، وما رأيت أفصح منه. كنت إذا رأيته يقرأ، كأن القرآن نزل بلغته. حمل جمل من العلم». وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: «حملت عن محمد وقر بعير كتباً». وقال الشافعي: «لو أشاء أن أقول أن القرآن نزل بلغة محمد بن الحسن، لقُلته، لفصاحته». وقال الشافعي: «ما رأيت أعقل من محمد بن الحسن». وقال الشافعي: «ما ناظرت أحداً إلا تَمَعَّرَ وجهه، ما خلا محمد بن الحسن». أقول: هذا يدل على قوته في المناظرة. وقال الربيع بن سليمان كذلك: وقف رجل على الشافعي، فسأله عن مسألة، فأجابه. فقال له الرجل: يا أبا عبد الله، خالفك الفقهاء. فقال له الشافعي: «وهل رأيت فقيهاً قط؟ اللهم إلا أن تكون رأيت محمد بن الحسن. فإنه كان يملئ العين والقلب. وما رأيت مُبدِناً قط أذكى من محمد بن الحسن». قال حرملة بن يحيى: نبأنا محمد بن إدريس الشافعي قال: «كان محمد بن الحسن الشيباني إذا أخذ في المسألة، كأنه قرآن ينزل عليه: لا يُقدِّمُ حرفاً ولا يُؤَخِّر». ونقل الكاساني في البدائع عن أحمد بن حنبل قوله: محمد أبصر الناس بالعربية. ونقل عن الأخفش: ما وضع شيء لشيء قط فوافق ذلك الشيء إلا كتاب محمد بن الحسن، فإنه وافق كلام الناس. يريد أنه موافق للعربية. وكان ثعلب يقول: محمد عندنا من أقران سيبويه. قال الجصاص في "الأصول" (1|30): «محمد بن الحسن حجة فيما يحكيه من اللغة. قد احتج به قوم من أئمة اللغة، منهم أبو عبيد في "غريب الحديث" وغيره. وحُكيَ لنا أن ثعلب قال: "محمد بن الحسن حجة في اللغة"». وفي "توالي التأسيس" (ص71) من طريق أبي حسان الحسن بن عثمان الزيادي قال: «كنت في دهليز محمد بن الحسن فخرج محمد راكباً، فنظر فرأى الشافعي قد جاء، فثنى رجله ونزِلَ وقال لغلامه: اذهب فاعتذر. فقال له الشافعي: لنا وقت غير هذا. قال: لا. وأخذ بيده فدخلا الدار. قال أبو حسان: وما رأيت محمداً يعظّم أحداً إعظام الشافعي». قال المعلمي في "التنكيل": «ومن تدبّر مناظرات الشافعي لمحمد، وجدها مناظرة الأكفاء، وعلم منها أن الشافعي كان حينئذ مجتهداً كاملاً، وأن محمداً كان –مع مكانته من الفقه والسن والمنزلة من الدولة وكثرة الأتباع– على غاية من الإنصاف في البحث والنظر. والإنصاف: أنه كان لتلك المناظرات أثرٌ في الرجلين، فاتفقا على مسائل رجع فيها الشافعي عما كان يتابع فيه مالكاً، أو رجع محمد عما كان يتابع فيه أبا حنيفة». قال ابن حجر في "رواة الآثار" (ص163): «وتكلم فيه يحيى ابن معين، فيما حكاه معاوية بن صالح. وعظّمه أحمد (!)، والشافعي قبله. وكان من أفراد الدهر في الذكاء. وعظمت منزلته عند الرشيد جداً. ولما مات وهو معه، وكذلك الكسائي بالري قال: "دفنت الفقه والعربية بالري"». وقال ثعلب: «توفي الكسائي ومحمد بن الحسن في يوم واحد. فقال الناس: "دُفِنَ اليوم اللغة والفقه"». قال البرقاني في سؤالاته (ص63): سألت أبا الحسن الدارقطني عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، فقال: «قال يحيى بن معين: "كذاب". وقال فيه أحمد -يعني بن حنبل- نحو هذا. قال أبو الحسن: "وعندي لا يستحق الترك"». والدارقطني هو الذي يذكر محمد بن الحسن في عداد الثقات الحفاظ حيث يقول في "غرائب مالك" عن حديث الرفع عند الركوع: «حدث به عشرون نفراً من الثقات الحفاظ منهم محمد بن الحسن الشيباني، ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي وابن وهب وغيرهم». تجد نص هذا النقل عنه في "نصب الراية" (1|408). حيث قرن محمد مع الحفاظ الثقات الأثبات. الذم في رأيه قال أحمد بن حفص: سمعت أبا بكر الأعين يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: «لا تكتب عن أحد منهم ولا كرامة لهم». يعني أصحاب أبي حنيفة. وقال ابن حماد: حدثني عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن محمد بن الحسن صاحب الرأي صاحب أبي حنيفة، قال: «لا أروي عنه شيئاً». أقول: ما أظن أن أحمد قد امتنع عن الرواية عن أصحاب أبي حنيفة، إلا لخلافه معهم في الرأي. حتى قال لإبنه كما في الجرح والتعديل عن أبي يوسف: «صدوق، ولكن من أصحاب أبي حنيفة، لا ينبغي أن يُروى عنه شيء!». قال ابن أبي حاتم (7|227): انا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلي قال: سألت أبي عن محمد بن الحسن صاحب الرأي قال: «لا أروي عنه شيئاً». وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: «كان أبو يوسف مُنصِفاً في الحديث. وأما محمد بن الحسن وشيخه (أبو حنيفة) فكانا مخالفين للأثر». وقال علي بن أحمد بن سليمان: ثنا بن أبي مريم: سألت أحمد بن حنبل عن محمد بن الحسن، فقال: «ليس بشيء، ولا يكتب حديثه». قال محمد بن أبي علي الأصبهاني: أنبأنا الحسين بن محمد الشافعي بالأهواز قال: أنبأنا أبو عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري قال: وسألته -يعني أبا داود السجستاني- عن محمد بن الحسن الشيباني فقال: «لا شيء، لا يكتب حديثه». محمد بن الحسين القطان قال أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق قال نبأنا أبو العباس سهل بن أحمد الواسطي (؟؟) قال نبأنا أبو حفص عمرو بن علي الصيرفي (الفلاس) قال: «محمد بن الحسن صاحب الرأي ضعيف». الذم في حفظه وقال الأحوص بن الفضل العلائي، عن أبيه : «حسن اللؤلؤي ومحمد بن الحسن ضعيفان». وقال البرقاني (#567) سألت الدارقطني عن أبي يوسف فقال: «هو أقوى من محمد بن الحسن». وقال السلمي (#302) قال الدارقطني: «أبو يوسف ومحمد بن الحسن ، في حديثهما ضعف». أحمد بن محمد بن سعيد يقول: سمعت محمد بن سعد العوفي (ضعيف) يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: «محمد بن الحسن كذاب». عباس الدوري (3|364)، عن يحيى قال: «محمد بن الحسن الشيباني ليس بشيء». أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدواليبي (حنفي فيه كلام)، ابن حماد، ثنا معاوية بن صالح (جيد)، عن يحيى قال: «محمد بن الحسن بغدادي ضعيف». أحمد بن عبد الله الأنماطي قال: أنبأنا محمد بن المظفر الحافظ: انا علي بن أحمد بن سليمان المصري قال: انا أحمد بن سعيد بن أبي مريم قال: وسألته -يعني ابن معين- عن محمد بن الحسن فقال: «ليس بشيء فلا تكتب حديثه». علي بن أحمد (بن سليمان البزار المعروف بعلان، جيد) ثنا أحمد بن سعد بن أبي مريم (جيد) قال: يحيى بن معين: «اجتمع الناس على طرح هؤلاء النفر، ليس يذاكر بحديثهم ولا يعتد بهم، منهم محمد بن الحسن». وذكره العقيلي في "الضعفاء". وقال: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة (ثقة)، سمعت العباس الدوري يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: «جهمي كذاب». ومن طريق أسد بن عمر (لم أعرفه وكأنه تصحيف) وقال: «هو كذاب». وقال ابن أبي حاتم: قرئ على العباس بن محمد الدوري قال: سئل يحيى بن معين عن محمد بن الحسن الشيباني فقال: «ليس بشيء». أخبرني عبد الله بن يحيى السكري قال: أنبأنا محمد بن عبد الله الشافعي قال: ثنا جعفر بن محمد بن الأزهر قال: ثنا بن الغلابي (المفضل بن غسان الغلابي) قال: قال يحيى بن معين: «محمد بن الحسن ليس بشيء». قال العتيقي حدثنا تمام بن محمد بن عبد الله الأذني أخبرنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله البجلي قال سمعت نصر بن محمد البغدادي (مجهول إلا إن كان هو مضر) يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: «كان محمد بن الحسن كذاباً وكان جهمياً، وكان أبو حنيفة جهمياً ولم يكن كذاباً». وقال عباس الدوري عن ابن معين: «كتبت "الجامع الصغير" عن محمد بن الحسن». وقد درس ابن معين الفقه على أبي يوسف، وبقي له محباً، حتى أن الذهبي بالغ فجعل ابن معين من الحنفية الغلاة. وقد حدث خلاف وتنافس بين أبي يوسف ومحمد بن الحسن على زعامة الأحناف، فهذا سبب حمل ابن معين الشديد على محمد. وأما التكذيب فالمقصود به الخطأ في نسبة الرأي إلى أبي يوسف (كما سيأتي). وأما التجهم فالمقصود به الإرجاء (كما سيأتي). وقال عمرو بن علي: «ضعيف». وكذلك قال النسائي. الجنيدي، ثنا البخاري، قال أحمد بن عبدة (ثقة)، عن عبدان، سمعت منصور بن خالد (مجهول) يقول: اطلعت إلى محمد بن الحسن، سمعته يقول: «لا ينظر أحد إلى كلامنا يريد به الله». قال: «فاكتفيت بذاك منه». أقول: هذا كذبة باهتة. قال ابن عدي (6|174): «ومحمد بن الحسن هذا، ليس هو من أهل الحديث، ولا هو ممن كان في طبقته يعنون بالحديث، حتى أذكر شيئاً من مسنده. على أنه سمع من مالك الموطأ. وكان يقول لأصحابه: "ما رأيت أسوأ ثناءً منكم على أصحابكم، إذا حدثتكم عن مالك ملأتم علي الموضِع. وإذا حدثتكم عن غيره تجيئوني متكارهين". وإنما أراد به أبو حنيفة وأصحابه. والاشتغال بحديثه شغل لا يحتاج إليه، لأنه ليس هو من أهل الحديث فينكر عليه. وقد تكلم فيه من ذكرنا. وقد استغنى أهل الحديث عما يرويه محمد بن الحسن وأمثاله». أقول: إنما استغنوا عنه لخلافهم معه في الرأي. وأما حديثه فلم يستطع ابن عدي أن يأتي بما يثبت ضعف محمد بن الحسن فيه. وهذا موطأه عن مالك يشهد له بالإتقان. ذكر حمزة بن إسماعيل الطبري (كذاب)، عن محمد بن أبي منصور (ليس بذاك)، عن أبي نعيم قال: قال أبو يوسف: «محمد بن الحسن يكذب علي». قرأت على الحسن بن أبي بكر عن احمد بن كامل القاضي قال أخبرني أحمد بن القاسم عن بشر بن الوليد (صدوق أصابه الخرف) قال: قال أبو يوسف: «قولوا لهذا الكذاب -يعني محمد بن الحسن-: هذا الذي يرويه عني، سمعه مني؟». قال أحمد بن محمد بن عبد الله الكاتب: أنبانا محمد بن حميد المخرمي قال: نبأنا علي بن الحسين بن حبان قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده: قال أبو زكريا -يعنى يحيى بن معين-: سمعت محمد بن الحسن صاحب الرأي، وقيل له: «هذه الكتب سمعتها من أبي يوسف؟». فقال: «لا والله، ما سمعتها منه. ولكني من أعلم الناس بها. وما سمعت من أبي يوسف إلا "الجامع الصغير"». أقول: هذا مما يكذب القصة الأولى، لأن محمد بن الحسن يخبر الناس بأنه لم يسمع من أبي يوسف إلا "الجامع الصغير" (وهو الذي كتبه عنه ابن معين). قال الكوثري: «نعم، سبق أن كَذَّب أبو يوسف محمداً في مسائل عزاها إليه. ولما بلغ الخبر محمداً قال: "كلا، ولكن الشيخ نسي". ثم تَبَيَّنَ أن قول محمد هو الصواب». الذم في عقيدته أحمد بن محمد بن غالب قال: حدثني محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الملك الأدمي قال: نبأنا محمد بن علي الأيادي قال: نبأنا زكريا الساجي قال: «محمد بن الحسن كان يقول بقول جهم وكان مرجئاً». أقول: قد كان محمد بن الحسن تبعاً لشيخه أبي حنيفة ولشيخ شيخه حماد بن أبي سليمان، وكلهم من مرجئة الفقهاء. بخلاف أبي يوسف القاضي، الذي كان سلفياً. الحسن بن أبي الحسن قال: حدثني محمد بن شاذان، ثنا إسحاق بن راهويه، سمعت يحيى بن آدم يقول: «كان شريك لا يجيز شهادة المرجئة. فشهد عنده محمد بن الحسن، فلم يجز شهادته. فقيل له: "هذا محمد بن الحسن". فقال: "أنا لا أجيز شهادة من يقول الصلاة ليست من الإيمان"». أقول: كان شريك شيعياً جلداً، وكان محمد بن الحسن أحسن منه، وإن كان مرجئاً. محمد بن الحسين بن محمد المتوثي قال" أنبأنا أحمد بن عثمان بن يحيى الأدمي قال: نبأنا محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل الترمذي قال: سمعت أحمد بن حنبل، وذّكَرَ ابتداء محمد بن الحسن فقال: «كان يذهب مذهب جهم». وقد روي هذا القول بلفظ قريب: «كان محمد بن الحسن في الأول يذهب مذهب جهم». وهذا يدل على أنه كان يذهب مذهب جهم ثم رجع. والظاهر أن المقصود هو بدعة الإرجاء، مع الفارق الكبير بين مرجئة الفقهاء وبين مرجئة الجهمية. البرقاني قال: نا يعقوب بن موسى الأردبيلي قال: نبأنا أحمد بن طاهر بن النجم الميانجي قال: نبأنا سعيد بن عمرو البرذعي قال: سمعت أبا زرعة يعنى الرازي يقول: «كان أبو حنيفة جهمياً، وكان محمد بن الحسن جهمياً، وكان أبو يوسف سليماً من التجهم». قلت: كانوا يطلقون التجهم على الإرجاء تخويفاً للناس منه. لكن جاء في سؤالات البرذعي المطبوعة (1|570): سمعت أبا زرعة يقول: «كان أبو حنيفة جهمياً، وكان محمد بن الحسن جهمياً، وكان أبو يوسف جهمياً بين التجهم». وهذا لا شك أنه غلط، فلم يكن أبو يوسف مرجئاً. أبو طالب عمر بن إبراهيم بن سعيد الفقيه قال: نا محمد بن العباس الخزاز قال: نا أبو طالب أحمد بن نصر بن طالب (ثقة) قال: نا أبو النصر إسماعيل بن ميمون العجلي قال: حدثني عمي نوح بن ميمون (ثقة) قال: «دعاني محمد بن الحسن إلى أن أقول القران مخلوق، فأبيت عليه. فقال لي: "زهدت في نصفك". فقلت له: "بل زهدت في كلك"». قلت: هذه أسطورة لا أصل لها. وقد قرَّر أبو جعفر الطحاوي عقيدة محمد بن الحسن، في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة (العقيدة الطحاوية المشهورة). وكان لا يرى الصلاة خلف من قال القرآن مخلوق، كما في "مختصر العلو" (ص113). ويأمر من صلَّى خلف من يقول: "القرآن مخلوق"، بالإِعادة، كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة (2|277). وذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن، كما في المصدر السابق (2|271). عبد الرحمن بن عثمان الدمشقي يذكر، أن خيثمة بن سليمان القرشي (الطرابلسي) أخبرهم قال: نبأنا سليمان بن عبد الحميد البهراني (ناصبي اتهمه النسائي بالكذب) قال: حدثنا عبد السلام بن محمد (الحضرمي) قال: سمعت بقية (شديد التدليس) يقول: قيل لإسماعيل بن عياش: «يا أبا عتبة. قد رافق محمد بن الحسن يحيى بن صالح من الكوفة الى مكة». قال: «أمَا أنه لو رافق خِنزيراً كان خيراً له منه». قلت هذه بذاءة يُجلّ عنها ابن عياش، ولا يصح الإسناد إليه. روى اللالكائي في "أصول السنة" عن محمد بن الحسن قال: «اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله r في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه. فمن فسّر اليوم شيئاً من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي r وفارق الجماعة. فإنهم لم يصفوا و لم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب و السنة ثم سكتوا». قلت: وهذا والله إجماع صحيح، فأين ما ينسبونه للتجهم؟ إنما يقصدون الإرجاء فحسب. الخلاصة يظهر مما سبق أن محمد بن الحسن ثقة في مالك، فضلاً عن أبي حنيفة وأبي يوسف. وأما عن غيرهم فربما فيه لين، ويكتب حديثه ويعتبر به. وليس له من الحديث المرفوع في الكتب الستة، لكن له كتب آثار مقبولة، وإن كان أكثر ما فيها عن أبي حنيفة عن حماد، وقد عرفت حالهما. وأما عقيدته فسلفية، إلا في باب الإيمان فقد كان من مرجئة الفقهاء. وأما في الفقه فقد كان ضليعاً به، منصفاً، محباً للمناظرة، وإن كان قد أفرط في الرأي وفي دقائق الأمور. |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"] منهج ابن عدي :[/SIZE][/COLOR] قال الذهبي في ترجمة ابن عدي: «وجرَّح وعدَّلَ وصحَّح وعلَّلَ، وتقدَّم في هذه الصناعة على لحنٍ فِيهِ، يظهَرُ في تأليفِهِ». قال الشيخ خلف سلامة: «من محاسن النقد عند ابن عدي هو جمعه واستقراؤه ما لعله يستنكر من حديث الراوي المتكلم فيه، ثم النظر في تلك الأحاديث وطرقها، وبيان من الذي حقه أن يكون الحمل عليه فيها إن وجد فيها ما يستنكره. ولكن ابن عدي في مواضع كثيرة من كتابه "الكامل" كثير الدفاع عن المضعفين وجماعة من الضعفاء بل وبعض المتهمين. ويظهر لي أن أكثر نظره عند اعتباره أحاديث الراوي وسبرها، إنما كان يتوجه إلى متونها دون أسانيدها. ثم هو فوق ذلك، قليل الاستنكار للمنكر من الأحاديث، بطيء جداً عن ادعاء النكارة فيها ووصفها بها. وهو لا يكاد يلتفت إلى الإغراب في السند أو النكارة الواقعة فيه، بل هو كثير الدفاع عن الأحاديث التي فيها غرابة بينة أو يسير من النكارة. أي يكثر منه أن يدافع عن الأحاديث التي لا تفحش نكارتها أو التي لا تكون نكارتها بينة واضحة. وهذا –كما هو بيّن– من أسباب التساهل في الأحكام على الرواة وتقوية بعض الضعفاء. ولا سيما أن عدم النكارة في حديث الراوي، يلزم منها عند ابن عدي قوته –في كثير من الأحيان– ولو وجد في ذلك الراوي تجريحاً صريحاً. وهكذا انتهى ابن عدي رحمه الله تعالى إلى تقويته طائفة كبيرة من المختلف فيهم، والدفاع عن جملة من المتهمين أو المجاهيل. هذا وقد تبين لي من متابعة كلمات ابن عدي في الرواة المتروكين والضعفاء في كتابه "الكامل"، أنه يريد بالنكارة، وبمشتقاتها من الكلمات أو مثيلاتها من العبارات، معنى هو أشد وأسوأ معانيها عند الجمهور». وقال الحويني في "النافلة" (2|145): «وزعم (أحد المعاصرين) أن ابن عدي مشهور بالإفراط في الجرح! مع أن ابن عدي معروف بأنه وسط. وجانب التسامح عنده أظهر جداً من جانب الجرح». وقال مصطفى بن إسماعيل في "إتحاف النبيل" (1|42): «إن ابن عدي يعد من المعتدلين، وإن كان فيه من التساهل في بعض المواضع». وقال عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (16|156): «وهو منصف في الرجال بحسب اجتهاده». قول ابن عديٍ عن الراوي: «أرجو أنه لا بأس به» ليست على بابها دائماً، بل هي كلمةٌ معناها واسعٌ عنده. فأحياناً يستعملها مع تضعيفه للراوي الذي قالها عنه. قال المعلمي في "الفوائد المجموعة" (ص51): «هذه الكلمة رأيت ابن عدي يطلقها في مواضع تقتضي أن يكون مقصوده: أرجو أنه لا يتعمد الكذب». وقال (ص430): «وقوله "هو عندي من أهل الصدق" يعني: أنه لم يكن يتعمد الكذب». وقد استعملها أيضاً في حقِّ من هو من الحفَّاظ الثقات. فقد قال عن الحكم بن عتيبة وسماك بن حرب (2|844): «ليس بهما بأس». ومن المعلوم أنَّ الحكم من الثقات الأثبات. ولذلك لا يلزم من قول ابن عدي في "الكامل" عن الراوي: «أرجو أنه لا بأس به» تعديلاً له منه. وظن البعض أن قول ابن عدي عن الراوي "لا بأس به" أنه توثيق، حتى قال السيوطي عن أحد المتروكين: "ووثقه ابن عدي فقال: أرجو أنه لا بأس به". وهذا غلط. وقد تعقبه المعلمي في تعليقه على "الفوائد المجموعة" للشوكاني (ص459): «ليس هذا بتوثيق. وابن عدي يذكر منكرات الراوي ثم يقول "أرجو أنه لا بأس به"، يعني بالبأس: تعمد الكذب». وقال كذلك (ص35): «وهذه الكلمة رأيت ابن عدي يطلقها في مواضع تقتضي أن يكون مقصوده: "أرجو أنه لا يتعمد الكذب". وهذا (الموضع الذي عليه هذا التعليق) منها، لأنه قالها (أي كلمة "أرجو أنه لا بأس به") بعد أن ساق أحاديث يوسف (بن المنكدر)، وعامتها لم يتابع عليها». وقال هناك أيضاً (ص501): «لفظ ابن عدي "هو من أهل الصدق" يعني لم يكن يتعمد الكذب». قال الألباني في ضعيفته (3|112): «إن قول ابن عدي "أرجو أنه لا بأس به" ليس نصاً في التوثيق. ولئن سلم، فهو في أدنى درجة في مراتب التعديل أو أول مرتبة من مراتب التجريح، مثل قوله "ما أعلم به بأساً، كما في "التدريب" (ص234)». وقال ابن عدي عن ابن قيراط: «منكر الحديث عن ثابت وغيره، ولا يتابع، وأحاديثه أفراد. وأرجو أنه لا بأس به. وهو خير من بشار بن قيراط». فعلق على ذلك الألباني في صحيحته (4|577): «ابن قيراط كذبه أبو زرعة وضعفه غيره. فكأن ابن عدي يعني بقوله أنه "لا بأس به": من جهة صدقه. أي أنه لا يتعمد الكذب. وإلا لو كان يعني من جهة حفظه أيضاً، لم يلتق مع أول كلامه "منكر الحديث...". وقال ابن حبان: "ينفرد عن ثابت بأشياء ليست من حديثه". قلت: فمثله إلى الضعف، بل إلى الضعف الشديد أقرب منه إلى الصدق والحفظ. والله أعلم». قال ابن القطان الفاسي في كتابه "الوهم والإيهام" (4|324): «فأما أبو أحمد بن عدي فإنه ذكر الرجل (موسى بن هلال) بهذا الحديث، ثم قال: "ولموسى غير هذا..." وهذا من أبي أحمد قولٌ صدر عن تصفُّح روايات هذا الرجل، لا عن مباشرةٍ لأحواله. فالحق فيه أنه لم تثبت عدالته». قال الشيخ عبد الله السعد (ص47): «وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه ابن القطَّان. وهذا بناءً على أنَّ قول ابن عديٍّ "أرجو أنه لا بأس به" تقوية له. ولكن الصحيح: أنَّ هذه الصيغة من ابن عديٍّ لا تفيد ذلك عنده. فقد أطلقها على رواةٍ ضعَّفهم هو وغيره». ثم ساق خمسة أمثلة على ذلك، منها المثال الخامس (ص51): وكذلك قالها في أناس ضعفاء، بل وفيهم من اتهم. فقد قال عن حبيب بن حسان بن أبي الأشرس (2|811): «ولحبيب بن حسان غير ما ذكرت من الحديث،. فأما أحاديثه وروايته فقد سبرته، ولا أرى به بأساً،. وأما رداءة دينه –كما حُكيَ عن يحيى القطان، وكما ذكر عمرو بن علي عن الأفطس– فهم أعلم. وما يذكرونه والذي قالوا محتمل. وأما في باب الرواية فلم أرَ في رواياته بأساً». كذا قال، وقد نقل هو في ترجمته قول ابن المثنى: «ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن حدثنا عن سفيان عن حبيب شيئاً قط». ونقل عن أحمد قوله: «متروك»، وعن البخاري: «منكر الحديث»، وعن يحيى –وهو ابن معين–: «ليس حديثه بشيء»، وأيضاً: «ليس بثقة. وكان له جاريتان نصرانيتان، وكان يذهب معهما إلى البيعة!»، وعن عبد الله بن سلمة الأفطس قوله عنه: «تزوج امرأة نصرانية كان عشقها، فتنصَّر»، وعن يحيى: «كان رديئاً»، وعن السعدي: «ساقط»، وعن النسائي: «متروك الحديث». وقال ابن حبان (1|264): «منكر الحديث جداً، وقد كان عشق امرأة نصرانية، وقد قيل إنه تنصر وتزوج بها. فأما اختلافه إلى البيعة من أجلها فصحيح». قال الشيخ (ص52): «تبيَّن مما تقدَّم أن هذا الراوي ضعيف جداً، بل بعضهم شكَّك في إسلامه. فالذي يبدو أنَّ كلام ابن عديٍّ ليس على ظاهره، والله تعالى أعلم». |
:بس:
:سل: [SIZE="6"][COLOR="Red"]منهج ابن حجر العسقلاني :[/COLOR][/SIZE] أخطاء ابن حجر العقائدية الحافظ ابن حجر العسقلاني من كبار العلماء، بلا أدنى ريب. ولا تكاد تجد عالماً بعده، إلا ويستفيد من كتبه، وبخاصة فتح الباري. وهذا لا يمنع أن يكون قد ارتكب أخطاءً لأنه غير معصوم. وأهم هذه الأخطاء أنه وافق الأشاعرة في العديد من المسائل العقائدية وخالف بها معتقد أهل السنة والجماعة، وإن كان في مواضع أخرى قد وافق أهل السنة وانتقد الأشاعرة كما في فتح الباري (1|71) و(4|135) و(6|290) و(7|409) وغيره. وقد كفانا في تبيين أخطاءه العقائدية في فتح الباري، كتاب الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل "التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري لابن حجر". وهو كتاب راجعه وأثنى عليه عدد من المشايخ مثل ابن باز وابن عثيمين والفوزان والراجحي والغنيمان وكثير غيرهم. فنفي بعض طلبة العلم لوقوع ابن حجر في أخطاء عقائدية هو غلو فيه، نعوذ بالله منه. ابن حجر ليس أشعرياً الحافظ ابن حجر كما يقول الشيخ سفر: «أقرب شيءٍ إلى عقيدة مفوضة الحنابلة كأبي يعلى ونحوه ممن ذكرهم شيخ الإسلام في "درء تعارض العقل والنقل" ووصفهم بمحبة الآثار، والتمسك بها، ولكنهم وافقوا بعض أصول المتكلمين، وتابعوهم ظانين صحتها عن حسن نية». وقال: «وكثيراً ما تجد في كتب الجرح والتعديل –ومنها "لسان الميزان" للحافظ ابن حجر– قولهم عن الرجل أنه وافق المعتزلة في أشياء من مصنفاته، أو وافق الخوارج في بعض أقوالهم، وهكذا، ومع هذا لا يعتبرونه معتزلياً أو خارجياً. وهذا المنهج إذا طبقناه على الحافظ وعلى النووي و أمثالهما، لم يصح اعتبارهم أشاعرة، وإنما يقال: وافقوا الأشاعرة في أشياء، ومع ضرورة بيان هذه الأشياء واستداركها عليهم». ا.هـ كلام الشيخ سفر. والملاحظ على منهج ابن حجر في العقيدة ما يلي: 1- كل الكتب التي تَرجمت للحافظ ابن حجر –وخاصة القديمة منها– لا تكاد تصرّح بشيءٍ فيما يتعلق بمذهبه العقدي. بل على العكس، هناك عبارة واحدة نقلها السخاوي (تلميذ ابن حجر) في "الجواهر والدرر" عن الجمال ابن عبد الهادي (السلفي المشهور) يقول فيها عن ابن حجر: «كان محباً للشيخ تقي الدين ابن تيمية، معظماً له، جارياً في أصول الدين على قاعدة المحدثين...». 2-كان أهل ذلك العصر –أعني عصر ابن حجر– أو ما يسمى عصر سلاطين المماليك، عصر انتشار التصوف وتقديس الأشياخ والاعتقاد فيهم. وقد كانوا في غاية التعصب لما هم عليه من العقائد المنحرفة. حتى أن ابن حجر يذكر في كتابه "إنباء الغمر" أن قراءة كتاب في العقيدة السلفية ككتاب الإمام الدارمي "الرد على الجهمية" يعد خروجاً على عقيدة الجماعة ويسجن صاحبه! تخيلوا يسجن المسلم بسبب قراءته لكتاب سلفي! أما الأخذ بآراء شيخ الإسلام في ذلك العصر فيؤدي بصاحبه للأذى والابتلاء ولمز الناس له بالتيمي! ولا يفوتنا ذكر ابتلاء وامتحان الإمام ابن أبي العز الحنفي المعاصر لابن حجر –كما يذكر ابن حجر في "إنباء الغمر"– حين رفض تقريض قصيدة للشاعر علي أيبك الصفدي التي غلا فيها بالنبي ، وانتقد فيها مواضع كالتوسل وغيرها، فسجن أكثر من ستة أشهر! 3- ومع ذلك فابن حجر خالف الأشاعرة في كتابه "فتح الباري" في أصول مذهبهم. وقد تتبع بعض الباحثين مخالفات ابن حجر في فتح الباري للأشاعرة ووجدوها كثيرة. 4- انتقد ابن حجر الأشاعرة مرات عديدة في كتبه. فمثلاً قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13|253): «وقد توسَّع من تأخّر (يقصد الأشاعرة) عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم. ولم يقتنعوا (أي الأشاعرة) بذلك، حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة: أصلاً يرُدّونَ إليه ما خالَفَهُ من الآثار بالتأويل، ولو كان مستكرهاً. ثم لم يكتفوا بذلك، حتى زعموا أن الذي رتّبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يَستعمِل ما اصطلحوا عليه، فهو عامِّيٌّ جاهلُ. فالسعيد من تمسَّكَ بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف (أي الأشاعرة)». تعصب ابن حجر ضد الحنفية وابن حجر شافعي كذلك، وقد حصل في عصره نزاع بين الشافعية والأحناف. فكان لهذا تأثير على مؤلفاته، أضف لذلك النزاع الشخصي الشهير بينه وبين فقيه الأحناف الحافظ العيني الذي كان يكتب في نفس الوقت شرحاً لصحيح البخاري. وقد ترى بعض ذلك في ردود العيني عليه، ولو أن الثاني متعصب لمذهبه أكثر من ابن حجر. والله أعلم. ومن دأب ابن حجر في كتبه –ولا سيما "فتح الباري"– أنه يغادر حديثاً في بابه مؤيداً للحنفية، مع علمه، ثم يذكره في غير مظانه، لئلا ينتفع به الحنفية. وقد نقل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة (ص9) من "الرفع والتكميل"، كلام الكشميري عن ابن حجر بأنه: «لا يريد أن ينتفع الحنفية من كلامه ولو بجناح بعوضة. فإن حصل، فذلك بلا قصد منه». وقال أبو غدة أن هذه الكلمة: «كلمة عادلة». وقال محمد أنور الكشميري كذلك عن ابن حجر أنه: «يتطلب دائمًا مواقع العلل، ويتوخى مواضع الوهن من الحنفية. ولا يأتي في أبحاثه ما يفيد الحنفية. ويقول شيئاً، وهو يعلم خلاف ذلك. ولا يليق بجلالة قدره ذلك الصنيع. وحاشايَ أن أغض من قدر الحافظ ابن حجر الذي يستحقه، وإنما هي حقائق ناصعة، ووقائع ثابتة، يجب على الباحث الناقد أن يعرفها. عفا اللّه عنه، وبدّل سيئاته حسنات». ثم إن ابن حجر ذكي جداً عندما يريد أن يطعن في غيره دون أن يبدو متعصباً عليه. فيقوم بنقل أقوال غيره في جرح هذا الرجل. فعلى سبيل المثال فإن ابن حجر نقل ترجمة الطحاوي التي ذكرها الذهبي في تذكرة الحفاظ (3\809)، فأعادها في لسان الميزان (1\275)، لكن مع تطويلٍ ولمزٍ وغمز في الطحاوي، كعادته في تراجم علماء الأحناف، مع التزام أن يكون الجرح منقولاً عن غيره حتى لا يُتّهم بالتعصب. فيما يغض النظر عن كثيرٍ من أخطاء أبناء مذهبه –الشافعية– وإن عَظُمَت. فهل تراه ترجم للبيهقي مثلاً بنفس هذا الإسلوب؟ رغم أن البيهقي نظير الطحاوي في انتصاره للشافعية مقابل انتصار الطحاوي للأحناف. تحامل ابن حجر على شيخ الإسلام ابن تيمية وقد فعل ذلك بترجمات الكثير من العلماء بما فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية. وتحامل ابن حجر على الإمام ابن تيمية رحمهما الله تعالى موجود وعليه دلائل كثيرة. وترجمته له في الدرر الكامنة تضمنت نقولاً –لا هو أسندها ولا بين مآخذها– في النيل منه وضعها بإزاء كلام الأئمة المعروفين فيه. ونقل أكاذيب كثيرة عن شيخ الإسلام نسبها لرَحّالة مجهول يسمى الآقشهري. قال محقق ترجمة الحافظ ابن حجر السيد محمد عزيز شمس بعد هذا النقل: «ما نقله الحافظ هنا عن الآقشهري أو غيره لم نجده في المصادر السابقة! ولم نجد ما يوافق ما ذكره في مؤلفات الشيخ رحمه الله. وجميع ما نقله الحافظ عن الآقشهري في "رحلته" مخالف لكل ترجمات الشيخ. ونحن نستغرب من الحافظ استرواحه لهذه الأخبار التي لا أساس لها من الصحة، واعتماده على الآقشهري مع تفرده بها». فهل هذه هي الأمانة؟! ولا يعكر على ذلك بعض عبارات يقف عليها الباحث في كلام ابن حجر رحمه الله في وصف شيخ الإسلام بالحفظ ونحو ذلك، فقد أُثِرَ عن السبكيان (الكبير والصغير) ما هو أبلغ في المدحة من هذه العبارات، مع كونهما من أشد خصومه وأكثر المتعصبين عليه. والذي يظهر لي كذلك أن ابن حجر كان في بداية حياته وأوائل مؤلفاته مائلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وذلك جلي في ترجمة شيخ الإسلام في كتابه "الدرر الكامنة". حيث غالب ما نقله عن غيره هو جرحٌ في ابن تيمية لا يصح أصلاً، وهو أدرى بذلك ولم ينبه عليه. وكأنه أراد بشكل خفي أن يطعن شيخ الإسلام بكلام غيره. وإلا فلم ينقل الجرح الباطل ولا يجيب عليه؟! كما أنك تلحظ في كتبه جفوة حين يذكر ابن تيمية، وكثيراً ما يتهمه بتهم باطلة. ولكنه قد تغيّر واعتدل في بعض كتبه الأخيرة، فأثنى عليه كما في كتاب ابن ناصر الدين. قال ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان (6\319) عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «وجدته كثير التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر (الزنديق الرافضي الشهير). وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه رد –في ردّه– كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها، لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره. والإنسان عامد للنسيان. وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي، أدّته أحياناً إلى تنقيص علي». أقول هذا كذبٌ على شيخ الإسلام. وأين انتقص علياً رضي الله عنه؟ بل كتبه طافحة في الثناء عليه وعلى بنيه. وهل يستطيع ابن حجر أن يأتينا بحديثٍ بين شيخ الإسلام ضعفه، ولم يسبقه أحد؟ أم أنها محاولة للطعن بشيخ الإسلام لغرضٍ في النفس؟ قال العثماني الحنفي تعليقاً على كلام ابن حجر: «ومما رذّه ابن تيمية من الأحاديث الجياد في كتابه "منهاج السنة"، حديثُ ردِّ الشمس لعلي t. ولمّا رأى الطحاويَّ قد حسّنه وأثبته، جَعَلَ يَجرح الطحاوي بلسانٍ ذَلْقٍ وكلامٍ طَلْق. و أيمُ الله إن درجةَ الطحاوي في علم الحديث، فوق آلافٍ من مثل ابن تيمية. وأين لإبن تيمية أن يكون كتُرابِ نعليه! فمثلُ هؤلاء المتشدّدين لا يُحتج بقولهم إلا بعد التثبت والتأمل». قلت: لا والله -والحق يُقال- بل إن درجة ابن تيمية في الحديث فوق الطحاوي بمرات. وأما حديث رد الشمس فهو موضوع لا يخفى ضعفه على أحد. بل إن الإمام أبا حنيفة نفسه استنكره. فما بالك بباقي الحفاظ؟ ولم لا نجد هذا الهجوم على من ضعف الحديث غير ابن تيمية مثل ابن كثير (الذي نقل تضعيفه عن أبي حنيفة)؟ تعاطف ابن حجر مع الشيعة وفيما نجد هذا الهجوم من جانب ابن حجر على شيخ الإسلام، نجد الثناء العطر على ذلك الرافضي الخبيث الذي لم يكد يترك صحابياً إلا ونال منه وطعن فيه. فيقول ابن حجر في لسان الميزان (2\317): «الحسين بن يوسف بن المطهر الحلي: عالم الشيعة وإمامهم ومصنفهم. وكان آية في الذكاء (!!) شرح مختصر بن الحاجب شرحاَ جيّداً سهل المآخذ، غايةً في الإيضاح. واشتهرت تصانيفه في حياته. وهو الذي رد عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية في كتابه المعروف بالرد على الرافضي (قلت: اسم الكتاب هو منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية). وكان ابن المطهر، مشتهر الذكر وحسن الأخلاق (!!!) ولما بلغه بعض كتاب ابن تيمية قال: "لو كان يفهم ما أقول، أجبته"». فما فعله ابن حجر بأن يذكر الرجل الزنديق المعادي للإسلام فيثني عليه ويقول عنه «مشتهر الذكر وحسن الأخلاق» (متناسياً إفحاشه في سب الصحابة) وأنه «آية في الذكاء» (رغم الحماقات التي وقع بها ورغم إغراقه في نصرة الخرافات المضحكة)، ثم يذكر رده على ابن تيمية. فهذا شيء سيئ للغاية. خاصة أنه في ترجمة ابن تيمية لم يُفوّت الفرصة على نفسه للنيل من شيخ الإسلام. فلم لم يطعن بالرافضي هنا؟ ثم أين الأمثلة التي فيها أن شيخ الإسلام تنقص فيها علياً؟ {قُلْ هاتوا بُرهانكُمْ إِنْ كُنتُمْ صادقينَ}. فالبينة على المدعي. يقولون أقوالاً ولا يثبتونها * وإن قيل هاتوا حقِّقوا، لم يُحقِّقوا فالحافظ ابن حجر رحمه الله لم يذكر في الرافضي الخبيث إلا الثناء العاطر دون أن يرد عليه، وذَكَر كتابه ولم يذكر ما ورد فيه من الطعن في الصحابة. فما حاجه لذلك؟ وهل هذا من الإنصاف في التراجم؟ إذ يذكرني بإسلوب الرازي الذي كان يسرد حجج الزنادقة ويطيل في بيان حججهم المقوية لبدعهم، ثم لا يرد عليهم إلا برد باهت. بينما طريقة الأئمة المؤرخين كالحافظ الذهبي -وهو من أفضل من كتب في علم الرجال- هي أنه عندما يترجم للرجل، يذكر ما فيه من مدح وذم، ولا يذكر فقط المدح ويترك الذم، خاصة مع مبتدع خبيث ما ترك شبهة للرافضة إلا ونصرها وقوّاها. ورغم أن الذهبي قد يحاول الاعتذار أحياناً لبعض أهل البدع، فهو لم يحابِ الرافضة أبداً. وانظر ما قال في ترجمة عمران بن مسلم الفزاري في الميزان (5|294). وليس ثناء ابن حجر على إبن المطهر الرافضي وحده، بل تجده لكثيرٍ من غلاة الرافضة وخبثائهم، مع تصريحه بأنه اطلع على تراجمهم في كتب الشيعة. فأين ميزان العدل يا ابن حجر؟ على أن هذا البحث لا يقصد به الطعن في الأشخاص أو القدح في العلم أو إسقاط المكانة العلمية. وحاشا لله أن يقوم أحد بذلك. وموقف الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى من الرافضة -عامة- أظنه واضحاً في تسفيه مذهبهم. والذي يظهر هو تعاطف مع الشيعة وليس ميلاً للرفض منه، وبين الأمرين بونٌ واسع. ولو قال باحث ما إنه عثر على تساهله مع بعضهم، فهذا ليس بأشد من تعاطف الحافظ مع غلاة الأشاعرة وأخص الذين يذهبون في اعتقادهم إلى ضرب من التجهم والاعتزال (وإن كان يخالفهم وينتقدهم في مواضع). ومع ذلك فابن حجر إمامٌ في العلم والتُّقى والورع، فلا يؤثر هذا في مكانته العالية عندنا. وعند المقارنة بين كتابي الميزان للإمام الذهبي وابن حجر، يبدو الفرق شاسعاً بين الكتابين. فقد أضاف ابن حجر ذماً لبعض تراجم الأحناف، وحذف كثيراً من الذم من تراجم الشيعة. وقد عرف الرافضة مقدار تقدير ابن حجر لهم مقارنة مع الذهبي. فقال الرافضي المدعو محمد رضا الحسيني الجلالي في كتابه "إيقاظُ الوَسْنان بالملاحظات على فتح المنّان في مقدّمة لسان الميزان": «إنّ علم الجرح والتعديل من المعارف الإسلاميّة المهمّة التي يبتني عليها المهمّ من أمر إحراز السنّة الشريفة، والاستيثاق منها، والتأكُّد من سلامة طرقها ووسائل إثباتها، وهي الأسانيد الحاوية لأسماء الرواة. وقد بذل علماء الاُمّة الإسلاميّة المجيدة قُصارى جهودهم في تحقيق هذا العلم. فحدّدوا معالمه، ونقّحوا مسائله، وألّفوها في كُتبٍ جامعة. ومن أشهر مؤلّفات «الجرح» هو كتاب «لسان الميزان» الذي ألّفه الحافظ، شيخ الإسلام، ابن حَجَر العسقلاني (ت 852) مُعقّباً ما أورده الذهبيّ التركماني (ت 748) في كتابه «ميزان الاعتدال». وبما أنّ الذهبي معروف بحنبليّته، فلذلك قد أبدى في كتابه كثيراً من التعصُّب، وخلّط في كثير من المواضع، وبالأخصّ عندما يتورّط بعلومٍ ـ غير التاريخ ـ ممّا لا عَهْدَ له بها، ولم تكن له فيها يدٌ أو باع أو شأن، كالكلام والفقه والعلوم العقلية، وحتّى فقه الحديث ومتن الحديث، وعلوم اللغة والأدب، فإنّ كلّ هذه المعارف لم يتعمّقْ فيها، وإنّما تخصّص بِعلم تاريخ الرجال، فلذلك وقع في مؤلّفاته ـ عندما يتعرّض لما لا يَعنيه ـ في كثير من الغلط والتجديف والتكلّف والتحكّم على الواقع والحقّ، مستخدماً أساليبَ القذف والتكذيب، سيّما إذا واجه واحداً من أولياء أهل البيت عليهم السّلام وأتباع مذهبهم، فإنّه يُغْرِقُ سهماً في المغالطة والإيهام، وإبراز الكراهيّة، وكَيْل الاتّهام، والإغراء لقرّائه بالحطّ والغضّ عن المكارم والمحاسِن، ويُحاول التشكيك والتهوين لها، مع التضخيم والتهويل لما يراهُ جرحاً وقدحاً، ولا يألُو جُهْداً في كلّ هذه الألوان من التصّرفات مع مَنْ يُخالفه في الرأي والهوى. وقد عُرِفَ الذهبيّ بما ذكرنا من التصّرفات عند أهل نحلته من علماء السنّة، فضجّوا منها ومنه، لمّا رأوهُ لا يتقيّد بحدٍّ في ذلك، ولا يردعهُ دين، أو موضوعيّة، أو وجدان، فتصدّوا له في مؤلّفاتهم، حَذَراً من ضياع الحق الذي أخفاه، وخوفاً من نفاذ الباطل الذي أبداه[1]. وفي مقدمة الذين عقّبوهُ بالاستدراك: الحافظ، الشافعيّ ابن حَجَر العسقلانيّ، فقد قابَلَ تصرّفات الذهبي، بالردّ والتصحيح مستخدماً أُسلوباً يتّسِمُ بالأدب والإنْصاف، مع الفَهم الجيّد والموضُوعيّة، مُحاولاً تعديل ما أوهمه الذهبي في ميزانه. وقد يعودُ اعتدال ابن حَجَر وإنصافه إلى علمه الزاخِر وموسوعيّته الشاملة لأكثر العلوم الإسلاميّة، كالفقه، والحديث، واللغة، مضافاً إلى تبحّره في علوم تاريخ الرواة وتراجم الرجال، مما جَعَلَه أقدر وأوْعَب، وأبرز وأعمق، في مواقفه مع الذهبيّ عندما يُؤاخذُهُ، ويُساجلِه. ومن أجل ذلك كان (لسان الميزان) أكبر فائدةً من (ميزان) الذهبيّ، وأكثر تدقيقاً، وأعمّ وأشملُ مساحةً واستيعاباً، ممّا حدا بالحافظ ابن حَجَر أنْ يُعلن عن أسَفه بالانشغال بكتاب الذهبي، فقال: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، لم أتقيّد بالذهبيّ، ولجعلتُه ـ يعني اللسان ـ كتاباً مبتكراً»[2]. ولكنّ عمل ابن حجر، هو الآخر، لا يخلو من بعض المخالَفات، سواء في المنهج، اُم في الأحكام القاسية». -------- 1 ـ لاحظ قاعدة في الجرح والتعديل، وقاعدة في المؤرخين للتاج السبكي (ص 14 و16 و31 و35 و36). 2 ـ نقله السخاوي في كتابه «الجواهر والدرر» عن الحافظ ابن حجر، لاحظ كتاب (تعريف أهل التقديس) المقدمة (ص 17). انتهى كلام الرافضي، والهوامش من عنده. نلاحظ أن هذا الرافضي يصنّف ابن حجر من ضمن "علماء الأمة الإسلامية المجيدة"، ويصفه بأنه "الحافظ، شيخ الإسلام". بينما يتهكم بالإمام الذهبي أن أصله تركماني (وقد اعتبر هذا في بقية الكتاب عيباً!). بل يقول عنه "معروف بحنبليّته" رغم أن هذا كذبٌ، وقد صرح الذهبي في ترجمة أبيه بأنه شافعي المذهب. ثم هذا الرافضي يصف الذهبي بالتعصب الكثير وبالتخليط والجهل و "الغلط والتجديف والتكلّف والتحكّم على الواقع والحقّ، مستخدماً أساليبَ القذف والتكذيب، سيّما إذا واجه واحداً من أولياء أهل البيت عليهم السّلام وأتباع مذهبهم..." إلى آخر هراءه أخزاه الله. لكنه يصف ابن حجر بالاعتدال، بل ويعتبر كتابه "لسان الميزان" بمثابة محاولة تعديل لقسوة الذهبي على الشيعة في كتابه "ميزان الاعتدال". ويصف الرافضيُّ ابنَ حجر "بالأدب والإنْصاف، مع الفَهم الجيّد والموضُوعيّة"!! هذا مع أنه كرافضي، لديه بعض الملاحظات على ابن حجر، وهو أمرٌ لا مفرّ منه. لكن الشاهد هنا هو مديح الرافضة لما فعله ابن حجر من تلميع لصورتهم وتحسين تراجمهم. وإن كان أحدٌ يعتقد أن مجرد نسبة ابن حجر للتشيع الخفيف طعناً به لا يجوز بأي حال، فما يقول عن وصف الإمام الذهبي لعدد من الأعلام بالتشيع مثل: أبي نُعَيم والنسائي وابن جريرٍ الطبري والحاكم؟ وماذا يقول عن وصف شيخ الإسلام للحاكم والنسائي وابن عبد البر (في منهاج السنة 7|373) بالتشيع؟ لم يتوهم أحدٌ أن هذا طعنٌ في عدالة هؤلاء. فلم ابن حجر استثناء، رغم أن هؤلاء المذكورون أحسن عقيدة منه وأقرب للسلف؟! وصدق الذهبي في قوله: الإنصاف عزيز. منهج ابن حجر الحديثي أما عن منهج ابن حجر الحديثي فيعاب عليه ميله لإصدار اصطلاحات جديدة، بخاصة في كتابه "نخبة الفكر". فإن قيل: أليس أنه لا مشاحة في الاصطلاح؟ قلنا نعم، ولكن ما الفائدة من المصطلحات الجديدة إن كانت ستسبب (وقد سبّبت) سوء فهم لأقوال كل الأئمة الذين من قبل ابن حجر، لأنه غير معاني المصطلحات؟ تساهل ابن حجر قال أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل في "إتحاف النبيل بأجوبة أسئلة المصطلح والجرح والتعديل" (1|45): «وأما ابن حجر -من جهة تصحيح الأحاديث والكلام عليها- فهو إلى التساهل أقرب. وقد بان لي هذا جلياً عند تحقيقي للفتح. فكم من حديث يضعف صاحبه في التقريب، ومع ذلك يحكم على سند الحديث –وهو من طريقه– بأنه حسن أو صحيح... والحافظ ابن حجر رحمه الله -على سعة اطلاعه وكثرة استفادة طلبة العلم منه ومن كتبه- يتساهل». وقال (1|156) ما خلاصته أن ابن حجر ذكر في "مقدمة فتح الباري" أن ما سكت عليه من الأحاديث التي يوردها في شرح أحاديث البخاري فهي شريطة الصحة أو الحسن، ولكنه ما وَفّى بذلك، وأنه بان له في أثناء اشتغاله بتحقيق "فتح الباري" أن ابن حجر سكت على أحاديث كثيرة وهي ضعيفة، بل صرح بحسن أحاديث ضعيفة، وصرح في بعض الأحاديث بأنها على شرط مسلم، وهي شاذة. انتهى معنى كلامه. وقال (1|132) في أثناء كلام له: «مع أنني أرى كثيراً من أحكام الحافظ الذهبي فيها تساهل، وكذلك الحافظ ابن حجر». قلت: تساهل الذهبي يجب حصره في كتاب "الكاشف" الذي كتبه في شبابه، ثم كتابه "السير". وحكمه في "الميزان" مقدَّمٌ عليه، وفيه اعتدال. أنواع تساهل ابن حجر: 1- تساهل مع التابعين، خاصة مع قدمائهم. 2- تساهل في توثيق من له إدراك، أو من ذُكِرَ في الصحابة ولم تثبت صحبته. 3- تساهل في إثبات الصحبة للمختلف فيهم. وهذا والذي قبله تراه واضحاً في "تحرير التقريب". 4- له رتبة جديدة سماها "المقبول" أكثر من فيها مجاهيل، وفيها صدوقين كذلك. وهو لا يحب إطلاق كلمة "مجهول" إن لم يكن له سلف في ذلك، لذلك تساهل في الحكم عليهم. 5- تساهل في تحسين (وأحياناً تصحيح) الأحاديث بمجموع طرقها –على نهج المتأخرين- مع أن المنكر عند المتقدمين دوماً منكر، كما قال الإمام أحمد. 6- تساهل في الحكم على الأحاديث الموضوعة حيث يستعمل ألفاظاً خفيفة مثل "ضعيف". 7- تشدد فقط في كتابه "التقريب" في مسألة إطلاق لفظ "صدوق" على جماعة من الثقات، حتى ذهب بعض الباحثين إلى أن لابن حجر مصطلح خاص بكلمة "صدوق" في هذا الكتاب. ومما يعاب عليه أيضاً فتوره في الحكم على الحديث الموضوع: بأنه موضوع. قال الشيخ أحمد الغُماري في كتابه "المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير" (ص7) بعد أن أورد حديثَ "آفةُ الدِّين ثلاثة: فقيه فاجر، وإمام جائر، ومجتهد جاهل"، قال: «قال الحافظ في "زهر الفردوس": "فيه ضعفٌ وانقطاع". قلتُ: بل فيه كذابٌ وضَّاع، وهو نَهْشَـل بن سعيد، فالحديث موضوع. والحافظُ (ابن حجر) وشيخُهُ العراقي متساهلان في الحكم للحديث. ولا يكادان يُصرِّحان بوضع حديثٍ إلا إذا كان كالشمس في رابعة النهار». وقد نص ابن حجر في "مقدمة الفتح" أن ما يسكت عنه فهو إما حسنٌ أو صحيح. والواقع أن ابن حجر لم يلتزم أبداً بهذا. وقد سكت عن الكثير من الأحاديث الضعيفة. بل إنه يسكت على الحديث في موضع، ويضعفه في موضِعٍ آخر. فقد سكت في الفتح (1\8) وفي تلخيص الحبير (1\76) عن حديث: «كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ بحمد الله، فهو أقطع». إلا أنه صرح بضعفه في الفتح (8\220). وكذلك حديث: «نية المؤمن خيرٌ من عمله». ذَكَره في (1\11) ساكتاً عليه، وصرّح بتضعيفه في (4\219). ومما يعاب عليه أيضاً تكلفه الشديد في محاولة تقوية الأحاديث الضعيفة التي تنصر التشيع. حتى قال عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في تعليقه على "الفوائد المجموعة" (ص317) ما نصه: «وتصدى الحافظ ابن حجر في "القول المسدد" و "الفتح" للدفاع عن بعض روايات الكوفيين. وفي كلامه تسامح. والحق أنه لا تسلم رواية منها عن وهن». ولم يتوقف الِأمر عند الأحاديث التي تنصر التشيع، بل وصل إلى تصحيح أحاديث تطعن في أصول الدين أيضاً. قال الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار (المجلد 28، الجزء 6، ص 474، صفر 1346 – أغسطس|آب 1927): «وإذا بحث بعض المشتغلين بالعلم منهم –على قلتهم– في هذه المسائل، فإنه يقبل في الجمع بين الحديثين، أو في دفع الإشكال الذي يَرِدُ على بعض الأحاديث، كل ما يقوله الباحثون في ذلك. كالكثير مما أورده الحافظ ابن حجر مما لا يكاد يعقل، حتى إنه قد يدافع عن الحديث الذي يعد من أقوى المطاعن على أصول الدين –كالتوحيد والرسالة– إذا كانت صناعة فن رواية الحديث تعده مقبولاً. كحديث الغرانيق الصريح في إقرار عبادة الأصنام والثناء على اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، والمجوز لإلقاء الشيطان في قراءة النبي r لسورة النجم في مدح هذه الأصنام الكبرى: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لتُرْتَجَى. دافع الحافظ –عفا الله عنه– عن هذا الحديث الذي يعترف بأنه لم يصح له سند، بأن تعدد طرقه يقويه!! و... قاعدة للمحدثين لم ينزلها الله تعالى في كتابه، ولا ثبتت في سنة عن رسوله r. وإنما هي مسألة نظرية غير مطردة. فتعدد الطرق في مسألة مقطوع ببطلانها شرعاً كمسألة الغرانيق أو عقلاً، لا قيمة له لجواز اجتماع تلك الطرق على الباطل. ولذلك حكم صفوة المحققين من أهل الحديث والأصول بأن حديث الغرانيق موضوع باطل». تناقض ابن حجر في أحكامه ومما يؤخذ على ابن حجر، كثرة تناقضه في أحكامه. قال صاحب "إتحاف النبيل" (1|46) عن ابن حجر: «وقد يحكم على الرجل في "التقريب" مثلاً بأنه صدوق، ويحكم عليه في "التلخيص الحبير" بأنه ضعيف جداً أو ضعيف... فلو جمعنا بين كلامه في "التلخيص" وفي "الدراية" وفي "الفتح"، وجدناه يخالف كلامه في "التقريب" في مواضع كثيرة». وقال مؤلفا "تحرير التقريب" (1|15): «ابن حجر يتناقض في أحكامه تناقضاً عجيباً. فهو يوثق الرجل هنا أو يضعفه، ويضعفه أو يوثقه في كتاب آخر». وقالا كذلك (1|31): «وقد اضطرب الحافظ ابن حجر اضطراباً شديداً في "التقريب" في موقفه من توثيق ابن حبان، أو ذكره لشخص ما في كتابه "الثقات". فهو تارة يعتد به، ولا يعتد به تارة أخرى». ثم ضربا أمثلة على ذلك، وكذلك على اضطرابه في توثيق العجلي وابن سعد. -------------------------------------------------------------------------------- فائدة عن ابن حجر: ما هو ترتيب كتب ابن حجر حسب تاريخ الانتهاء من كتابتها؟ فمثلاً، إذا حسن حديثاً في الفتح، وضعفه في التلخيص، فأي الرأيين له يكون الأخير؟ وهذه الدراسة معتمدة على ما ذكره الشيخ هيثم حمدان وعلى كتاب الدكتور شاكر عبد المنعم "ابن حجر العسقلاني مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة" وإن كان قد اعتمد كثيرا على كتاب السخاوي "الجواهر والدرر". مع العلم أن ابن حجر ربما فرغ من تصنيف الكتاب ثم زاد فيه ونقص منه. فلا يلزم من إيراد زمن الفراغ من التصنيف أن يكون الحافظ لم يغير فيه شيئاً بعد ذلك التاريخ. و لا ننسى أنّه قد يكون يصنّف كتابين أو أكثر في نفس الوقت. 1. لسان الميزان. لم أقف على زمن الفراغ من تصنيفه. وأحال فيه إلى تعجيل المنفعة وإلى الإصابة. 2. تغليق التعليق. كمل سنة (804هـ) كما قاله ابن حجر. وأحال فيه إلى تهذيب التهذيب ولسان الميزان. 3. تهذيب التهذيب. كان الانتهاء من تبييضه سنة (807هـ). وأحال فيه إلى لسان الميزان. 4. نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر. فرغ منها في سنة (812هـ) 5. التلخيص الحبير. فرغ منه في (21/10/812هـ) وفرغ منه تتبعاً في سنة (820هـ) 6. هدي الساري مقدمة فتح الباري. كملت في سنة (813هـ) 7. تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس. انتهى منه سنة (815هـ) ثم زاد بعد ذلك أسماء مختصرة. 8. تبصير المنتبه بتحرير المشتبه. فرغ من تحريره سنة (816هـ) 9. نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. فرغ منها في ذي الحجة سنة (818هـ) 10. القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد. فرغ منه شهور سنة (819هـ) 11. الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف. فرغ منه في شهور سنة (821هـ) 12. تقريب التهذيب. فرغ من تأليفه في شهور سنة (827هـ) 13. بلوغ المرام. فرغ منه في (11/3/828هـ) 14. الإيثار بمعرفة رواة الآثار. بدأ بتصنيفه سنة (813هـ) وفرغ منه في (19/12/833هـ) 15. تعجيل المنفعة. فرغ منه في (10/1/835هـ) 16. فتح الباري. ابتدأ تأليفه في أوائل سنة (817هـ) فرغ منه في رجب سنة (842هـ) أي استغرق تصنيفه 25 عاماً. 17. انتقاض الاعتراض. كمل في رجب سنة (842هـ) 18. الإصابة في معرفة الصحابة. ابتدأ في جمعه سنة (809هـ) وامتد تأليفه حوالي الأربعين سنة. فهو تصنيف متقدم متأخر، وقيل أنه لم يتمه. 19. نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار. ابتدأ في إملائه في يوم الثلاثاء (7/2/837هـ) واستمر إلى يوم الثلاثاء (15/11/852هـ) أهم الإحالات: (*) قال ابن حجر في (تلخيص الحبير 2|161) عند الكلام على بهز بن حكيم: "... وقد استوفيت ذلك في (تلخيص التهذيب)" اهـ. (*) وقال في (تلخيص الحبير 2|73) عند الحديث على اختلاف العلماء في تحديد ليلة القدر: "... بَلَغتها في (فتح الباري) إلى بضعة وأربعين قولاً " اهـ. (*) وقال في (فتح الباري 1|45): "... وقد أوضحت ذلك في كتابي (تغليق التعليق)" اهـ. (*) وقال في (تلخيص الحبير 1|279) حول حديث "الفخذ عورة": "... وقد ذكرت من وصلها في كتابي (تغليق التعليق)" اهـ. (*) وقال في (الفتح 1|51): "... وقد جمعتها في ترجمته في (تهذيب التهذيب)" اهـ. (*) وقال في (تغليق التعليق 2|470): "... أوضحتُ ذلك في (مختصر التهذيب) في ترجمته" اهـ. (*) وقال (الفتح 2|497): "... وقد بينت فساد ذلك كله في ترجمة أبى طالب من كتاب (الإصابة)" اهـ. (*) وقال في (التهذيب 3|51): "... وقد بينت ذلك في كتابي (الإصابة)" اهـ. (*) وقال في (لسان الميزان 2|171): " وقد ذكرتها بتمامها في ترجمة يغوث من كتابي (الإصابة في تمييز الصحابة)" اهـ. (*) وقال في (تهذيب التهذيب 1|122): "... وقد بينت خطأه في ذلك في (لسان الميزان)" اهـ. (*) وقال في (تغليق التعليق 3|475): "... وقد أشبعت الكلام عليه في ترجمته في (لسان الميزان)" اهـ. (*) وقال في (لسان الميزان 3|303): "... وقد بسطت ذلك... وفي (تعجيل المنفعة برجال الأئمة الأربع)" اهـ. (*) وقال في (تعجيل المنفعة 1|184): "وقد بسطت ترجمته في كتاب (الإصابة)" اهـ. |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]منهج ابن القيم الجوزية :[/SIZE][/COLOR] قال عنه الذهبي في المعجم المختصر: «عُني بالحديث بمتونه وبعض رجاله. وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره، وفي النحو ويدريه، وفي الأصلين. وقد حبس مدة لإنكاره على شد الرحيل لزيارة قبر الخليل (إبراهيم عليه السلام، والقبر مزوّر). ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم. لكنه معجب برأيه، جريء على أمور». قال ابن حجر في الدرر الكامنة: «غلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه، ونشر علمه». قال ابن كثير: «وكان مغرماً بجمع الكتب، فحصل منها ما لا ينحصر، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً، سوى ما اصطفوه لأنفسهم منها... وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف. وهو طويل النفس فيها، قصداً للإيضاح. ومعظمها من كلام شيخه، يتصرف في ذلك. وله في ذلك ملكة قوية، وهمة علوية. ولا يزال يدندن حول مفرداته، وينصرها، ويحتج لها». وقال ابن جبرين في شرحه على منهج السالكين للسعدي: «وابن القيم -رحمه الله- ولو كان معه أسلوب قوي، ولكن إذا مال إلى قول فإنه يتحامل على ذلك القول». وقد وجدت بحثاً قيماً للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة أحببت أن أنقله بكامله لجودته البالغة، قال: أما ابن القيم: فمع جلالة قدره، ونباهة ذهنه، ويقظته البالغة: فإن المرء ليَعجَب منه –رحمه الله تعالى– كيف يروي الحديث الضعيف والمنكر في بعض كتبه كـ"مدارج السالكين" من غير أن ينبه عليه؟! بل تراه إذا رَوَى حديثاً جاء على "مشربه" المعروف، بالَغَ في تقويته وتمتينه كلَّ المبالغة، حتى يُخَيَّل للقارئ أن ذلك الحديث من قسم المتواتر، في حين أنه قد يكون حديثاً ضعيفاً أو غريباً أو منكراً. ولكن لما جاء على "مشربه"، جمَع له جَرَاميزه، وهبَّ لتقويته وتفخيم شأنه بكل ما أوتيه من براعة بيان وقوة لسان. وأكتفي –على سبيل المثال– بالإشارة إلى حديثٍ واحدٍ من هذا النمط، رواه –رحمه الله تعالى– في كتابه "زاد المعاد في هدي خير العباد" أثناء كلامه عن وفد بني المنتفِق (3\674 ت الأرنؤوط)، فقد ساق هناك حديثاً طويلاً جداً جاء فيه من قول النبي (r): «... ثم تلبثون ما لبثتم، ثم تُبعَث الصائحة. فلعَمْرُ إلهك ما تدَعُ على ظهرها شيئاً إلا مات، والملائكةُ الذين مع ربّك. فأصبح ربُّك عزَّ وجلَّ يطوفُ في الأرض! وخلَتْ عليه البلاد...!». وبعد أن ساق الحديث المُشار إليه، أتبعه بكلامٍ طويلٍ في تقويته، استهلّه بقوله: «هذا حديث كبير جليل، تنادي جلالتُه وفخامتُه وعظمتُه على أنه قد خَرَج من مشكاة النبوة. لا يُعرَفُ إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني...». ثم استرسلَ في توثيق "عبد الرحمان" ومن رواه عنه استرسالاً غريباً! كما أنه سَرَد الكتبَ التي رُوي الحديث فيها، وهي كتب معروفة بشيوع الحديث الضعيف والمنكر والموضوع فيها، وهو من أعلم الناس بحالها. ولكن غلبتهُ عادتهُ ومشربه، فذهب يسردها ويطيل بتضخيم مؤلِّفيها، تهويلاً بقوة الحديث وصحته. مع أن الحديث حينما رواه صاحبه الحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" (5\82) أعقبه بقوله: «هذا حديثٌ غريبٌ جداً، وألفاظه في بعضها نكارة». وكذلك قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" في ترجمة "عاصم بن لقيط بن عامر بن المنتفِق العُقَيلي" (5\50) بعد أن أشار للحديث ومن رواه من المؤلِّفين: «وهو حديثٌ غريبٌ جداً». فحينما يقول الحافظ ابن كثير والحافظ ابن حجر في الحديث المشار إليه: «حديثٌ غريب جداً، وألفاظُه في بعضها نكارة» تَرى الشيخَ ابنَ القيم يُسهب ويُطنب في دَعمه وتصحيحه، حتى نَقَل مرتضياً قولَ من قال: «ولا يُنكِرُ هذا الحديثَ إلا جاحد، أو جاهل، أو مخالفٌ للكتاب والسنة»!! فصنيعُ ابن القيم هذا يدعو للبحث والفحص عن الأحاديث التي يرويها من هذا النوع ويُشيدُ بها في تآليفه، وهي من كتبٍ فيها الحديث الضعيف والمنكر والموضوع. انتهى كلام الأستاذ رحمه الله. |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]منهج ابن حزم الأندلسي الظاهري :[/SIZE][/COLOR] علم الحديث قال ابن حجر عن ابن حزم الأندلسي في لسان الميزان (4|198): «كان واسع الحفظ جداً. إلا أنه لثقته بحافظته كان يَهجُمُ على القول في التعديل والتجريح وتبيين أسماء الرواة، فيقع له من ذلك أوهام شنيعة». وقال أبو الحسن ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5|637): «محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي، وترمذ بخراسان. جهله بعض من لم يبحث عنه –وهو أبو محمد ابن حزم– فقال في كتاب الفرائض من "الإيصال" –إثْرَ حديثٍ أورده–: "إنه مجهول"». وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (11|77) عن الإمام الترمذي: «فإن جهالته لا تضع من قدره عند أهل العلم، بل وضعت منزلة ابن حزم عند الحفاظ». ويظهر أن هذا من تسرع ابن حزم. فابن حزم معروفٌ عنه التسرع في إطلاق الأحكام. قال ابن حجر في ترجمة الإمام الترمذي (صاحب "السنن") في تهذيب التهذيب (9|344): «قال الخليلي (عن الإمام الترمذي): "ثقةٌ متفقٌ عليه". وأما أبو محمد بن حزم فإنه نادى على نفسه بعدم الاطلاع، فقال في كتاب الفرائض من "الإيصال إلى فهم كتاب الخصال": محمد بن عيسى بن سَوْرة مجهول! ولا يقولنّ قائلٌ: "لعله ما عرَفَ الترمذيّ ولا اطلع على حفظه وتصانيفه". فإنّ هذا الرجل قد أطلق هذه العبارة في خَلْقٍ من المشهورين من الثقات الحُفّاظ كأبي القاسم البغوي (إمام ثبتٌ محدّث العراق في عصره، ت317هـ، جهله ابن حزم في "حجة الوداع" ص328)، وإسماعيل بن محمد بن الصفّار (314هـ)، وأبي العباس الأصمّ (محمد بن يعقوب، أخذ عنه أهل المشرق والمغرب ت346هـ)، وغيرهم. والعَجَبُ أن الحافظ ابن الفَرَضي (وهو قرطبيٌّ من بلد ابن حزم توفي قبله عام 403هـ) ذكرَهُ (أي للإمام الترمذي) في كتابه "المؤتلِف والمختلِف"، ونبَّه على قدْرِه. فكيف فات ابن حزم الوقوف عليه فيه؟!». وابن حزم قد اطلع على الكتاب الأخير كما في رسالته في "فضل الأندلس". وقيل عن ابن حزم أنه لم يطلع لا على سنن الترمذي ولا على العلل الكبير له، ولا حتى على سنن ابن ماجة. مع أن جامع الترمذي من مرويات ابن عبد البر الأندلسي (وهو قرين ابن حزم ورفيقه)، وكثيراً ما ينقل عن الترمذي في مصنفاته كالتمهيد والاستذكار، وهي الكتب التي اطلع عليها ابن حزم ونقل عنها. بل كيف لم يعرف ابن حزم من هو الأصم (راوي كتب الشافعي)، وهو في الأصل كان شافعياً قبل أن يصبح ظاهرياً؟ ومن الواضح أن ابن حزم لم يطلع أصلاً على سنن الترمذي بدليل أنه ذكر في كتابه المحلى (9|295) حديثاً من طريق أبي عيسى الترمذي، وضعفه برجلين بينه وبين أبي عيسى. وهذا الحديث مخرّجٌ في جامع الترمذي. فلو كان الكتاب عند ابن حزم، لما احتاج إلى رواية الحديث بمثل هذا الإسناد، ولا ضعفه بمن هو دون الترمذي. وليس في المحلى ذكرٌ للترمذي إلا هذا. مما يقوي أنه سمع بالترمذي وسننه، لكنه لم يبذل جهداً بأن يطلع عليها. وعلى الرغم من تفوقه في علم الحديث على الفقهاء المتأخرين، فكان مثلهم في المنهج، لا يعبئ شيئاً بعلل الحديث الذي عرفه الجهابذة من المتقدمين. بل يُنكر علم علل الحديث من أصله، مع أنه من أهم علوم الإسلام. قال ابن القيّم في "الفروسية" (ص246): «قالوا: وأما تصحيح أبي محمد بن حزم له، فما أجدره بظاهريته وعدم التفاته إلى العلل والقرائن التي تمنع ثبوت الحديث، بتصحيح مثل هذا الحديث وما هو دونه في الشذوذ والنكارة. فتصحيحه للأحاديث المعلولة وإنكاره لنقلتها، نظير إنكاره للمعاني والمناسبات والأقيسة التي يستوي فيها الأصل والفرع من كل وجه. والرجل يصحّح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه. وهذا بَيّنٌ في كتبه لمن تأمله». علم الفقه قال مؤرّخ الأندلس أبو مروان بن حَيّان: «كان ابن حزم حاملَ فنون... وكان لا يخلو في فنونه من غلطٍ، لجرأته في الصِّيال على كل فن. ولم يكن سالماً من اضطرابٍ في رأيه». ومن أمثلة هذا الاضطراب ما قاله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (33|46): «وكذلك إذا وقّت الطلاق بوقت، كقوله "أنت طالق عند رأس الشهر". وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعَلّق. ولم يُعلم فيه خلافاً قديماً. لكن ابن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق! وهو قول الإمامية (أي الرافضة). مع أن ابن حزم ذكر في كتاب "الإجماع": إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق». قال إمام الأندلس ابن عبد البر في الاستذكار (1|302) عن صاحبه ابن حزم: «وقد شذّ بعض أهل الظاهر، وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين، فقال: ليس على المتعمد في ترك الصلاة في وقتها، أن يأتي بها في غير وقتها». ويبيّن أنه يقصد واحداً بعينه (ص307): «والعجب من هذا الظاهري في نقضه أصله و أصل أصحابه». وبين ابن عبد البر أن هذا ليس مذهب الظاهرية، وذكر استدلالات ابن حزم بعينها. وقال بعد كل ذلك (ص309): «فما أرى هذا الظاهري، إلا قد خرج عن جماعةِ العلماءِ من السلف والخلف، وخالف جميع فرق الفقهاء وشذّ عنهم. ولا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذِّ من العِلم». قلت: صدق رحمه الله، فإن من تتبع زلات العلماء تزندق، فكيف بمن جمع موسوعة من الأقوال الشاذة التي لم يُسبق بها؟ قال الحافظ السلفي ابن كثير (تلميذ شيخ الإسلام) في "البداية والنهاية" (12|13): «كان ابن حزم كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقَلَمه، فأوْرثه ذلك حِقداً في قلوب أهل زمانه. ومازالوا به حتى بَغّضَوه إلى ملوكهم، فطردوه عن بلاده. والعجب –كل العجب– منه أنه كان ظاهرياً حائراً في الفروع، لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره. وهذا الذي وَضَعَهُ عند العلماء، وأدْخَلَ عليه خطأ كبيراً في نظره وتصرّفه. وكان –مع هذا– من أشد الناس تأويلاً في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات، لأنه كان أولاً قدْ تضلّع من علم المنطق، أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني. ففسُد بذلك حاله في باب الصفات». وقال ابن كثير أيضاً (14|332): «ورأيتُ في ليلة الإثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة ثلاث وستين وسبعمائة الشيخ محي الدين النووي رحمه الله فقلت له: يا سيدي الشيخ لِمَ لا أدْخلتَ في "شرحك المهذب" شيئاً من مصنفات ابن حزم؟ فقال ما معناه: أنه لا يحبه. فقلت له: أنت معذور فيه فإنه جمع بين طرفيْ النقيضين في أصوله وفروعه. أما هو في الفروع فظاهريّ جامد يابس. وفي الأصول قول مائع قرمطة القرامطة وهَرَس الهرائسة. ورفعت بها صوتي حتى سمعت وأنا نائم. ثم أشَرْتُ له إلى أرض خضراء تشبه النخيل بل هي أرْدأ شكلاً منه، لا يُنتفع بها في اسْتغلالٍ ولا رعي. فقلت له: هذه أرض ابن حزم التي زرعها. قال: إنظر، هل ترى فيها شجراً مثمراً أو شيئاً يُنتفع به؟ فقلت: إنما تصلح للجلوس عليها في ضوء القمر. فهذا حاصل ما رأيته. ووقع في خلدي أن ابن حزم كان حاضرنا عندما أشرْت للشيخ محيي الدين إلى الأرض المنسوبة لابن حزم، وهو ساكتٌ لا يتكلم». قال ابن حجر الهيتمي في "فصل الخطاب" (ص196): «ابن حزم حمله تعصّبه لمذهبه الفاسد الباطل في إباحة الأوتار وغيرها، إلى أن حكم على هذا الحديث (يعني حديث البخاري: ليكونن من أمتي قوم يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف) وكل ما وَرَدَ في الملاهي بالوضع. وقدْ كذَب في ذلك وافترى على الله وعلى نبيه وشريعته. كيف وقدْ صَرّح الأئمة الحفاظ بتصحيح كثير من الأحاديث الواردة في ذلك. ولقد قال بعض الأئمة الحفاظ أن ابن حزم إنما صَرَّح بذلك تقريراً لمذهبه الفاسد في إباحة الملاهي. وإن تعصّبه لمذهبه الباطل أوْقعه في المجازفة والاشتهار، حتى حَكَمَ على الأحاديث الصحيحة من غير شك ولا مَريّة بأنها موضوعة. وقد كذب وافترى. ومن ثُمّ قال الأئمة –في الحطّ عليه– أن له مجازفات كثيرة وأمور شنيعة نشأتْ من غلظه وجموده على تلك الظواهر. ومن ثم قال المحققون: أنه لا يُقام له وزن ولا يُنظر لكلامه ولا يُعوّل على خلافه. فإنه ليس مُراعياً للأدلة، بل لما رآه هواه وغلب عليه من عدم تَحَرِّيه وتقواه». كذا قال، وابن حزم أعلم من ابن حجر وخيرٌ منه بمرات، لكن ابن حجر ينقل عن غيره. وقال كذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي: «وفي زماننا يتعيّن كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد. وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم. فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة. وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم (يقصد ابن حزم)، وهو أشد مخالفة لها، لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ ما لم يأخذ به الأئمة من قبله». وقد بلغ الجمود الفكري والظاهرية الشديدة وتحريم القياس عند ابن حزم إلى أنه أنكر الواضحات، وصار يأخذ بالأقوال الشاذة والغريبة المخالفة للإجماع. كقول ابن حزم: أن بول الإنسان في الماء الراكد ينجسه، إلا في بول الإنسان، فلا يقاس عليه بول الحيوان ولو خنزيراً! وكذهابه إلى أن سؤر الكلب لا يكون التطهير للإناء الذي فيه إلا بعد غسله سبعًا إحداهن بالتراب الطاهر، لأن النص قد ورد بذلك، بينما يقرر أن سؤر الخنزير طاهر يصح شربه والوضوء منه لعدم ورود نص فيه (المحلى 1|132). وله تقريرات عجيبة لا يحتملها الناس. فذكر أنه لا يجب على المرأة خدمة زوجها، وبالتالي أوجب على الزوج جلب الطعام مطبوخاً، وأن يأتي بمرضعة لأطفالها! ومن ذلك ما ذكره في (المحلى (3|196) أنه يجب على من صلى ركعتي الفجر أن يضطجع على شقه الأيمن قبل صلاة الفجر، سواء صلاها في وقتها أو قاضيا لها من نسيان أو عمد نوم. فإن عجز عن الضجعة، أشار إلى ذلك حسب طاقت . ولم يجز له أن يصلي الصبح، إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن. ولا شك أن عدم الأخذ بالقياس يؤدي إلى الحرج في كثير من الأحكام، فإنه من المعقول أنه إذا تشابهت مسألتان واتحدتا في علة واحدة أن تأخذ الثانية حكم الأولى، ما دامت العلة واضحة، وإلا كان ذلك منافيًا للعقل ومجافياً للصواب. والذي لا شك فيه عند كل ذي عقل له معرفة بشيء من اللغة العربية، أنه أول ما يقرأ قوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} يفهم من أن النهي عن قول "أف" للوالدين، يستلزم كذلك النهي عن الأعظم من ذلك كالضرب واللعن والقتل. أما ابن حزم فيقول أن هذا النهي «ليس نهياً عن القتل ولا عن الضرب ولا عن القذف، وأنه إنما هو نهي عن قول "أف" فقط»! قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (1|327) وفي مجموع الفتاوى (21|207): «ومن لم يلحظ المعاني من خطاب الله ورسوله، ولا يفهم تنبيه الخطاب وفحواه من أهل الظاهر، كالذين يقولون إن قوله {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (الإسراء:من الآية23) لا يفيد النهي عن الضرب!! وهو إحدى الروايتين عن داود، واختاره ابن حزم. وهذا في غاية الضعف. بل وكذلك قياس الأَولى، وإن لم يدل عليه الخطاب، لكن عُرِفَ أنه أولى بالحُكم من المنطوق بهذا. فإنكاره من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم بها أحدٌ من السلف. فما زل السلف يحتجون بمثل هذا». علم أصول الفقه أما في الأصول فقد نحى ابن حزم منهجاً متأثراً بالفلاسفة، لكنه أيضاً كثير الشذوذ عن السلف. ومما يتضح جلياً في مذهب ابن حزم الاستدلالي، أخذه بمذهب الاستصحاب، وخاصة استصحاب البراءة الأصلية: فهو يكثر منه جداً، وهو عمدته في الاستدلال غالباً. ولم أرى له موضعاً قَبِلَ فيه قول المخالف، ولو مجرد قبول. بل إنه يعمد إلى هدمه جميعاً! وكثير من احتجاجات ابن حزم التي قد يراها المرء قوية، لا تخرج عن الحجج الخطابية. والسمة الظاهرة على منهج ابن حزم في الترجيح والاستدلال، أنه يميل إلى الأخذ بالنسخ أكثر منه إلى الجمع بين النصوص، وإن كان في كثير من الأحيان يوافق الصواب في الحكم بالنسخ. وهو في هذا على خلاف طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية. فإن السمة الغالبة على منهج شيخ الإسلام أنه يميل إلى الجمع أكثر منه إلى القول بالنسخ.هذا والشافعية والحنابلة بشكل عام يميلون إلى الجمع بين النصوص، بينما الأحناف يميلون أكثر للنسخ. لكن الجمع بين الأحاديث زاد كثيراً عند المتأخرين بسبب تحسينهم للأحاديث الضعيفة المعارضة للأحاديث الصحيحة. وتجد ذلك بشكل واضح في شرح المناوي. بل قد تجده عند الأحناف كذلك في الفتح للهمام وغيره، ولو أنهم أكثر قولاً بالنسخ. هذا وأحسن طريقة للتخلص من تعارض الأحاديث هو الاعتماد على الصحيح فقط. الإيمان والعقيدة وابن حزم ما عَذَرَ أئمة الإسلام والسنة في تركهم بعض الظواهر لدليل، كما هو شأن الصحابة و شأن من تكلم العربية، مع كون ما تركوه في مسائل متفرقة. أما هو: فيحق له صرف جميع الصفات –إلا قليلاً– عن ظاهرها، بأدلة ضعيفة متناقضة. والويل لمن أخذها على ظاهرها! وقد سرد شيخ الإسلام أقوالاً لابن حزم في إنكاره لصفات الله سبحانه وتعالى، ثم قال في "شرح العقيدة الأصفهانية" (ص107): «فهذا ونحوه، قرمَطَةٌ ظاهرةٌ من هؤلاء الظاهرية الذين يَدَّعون الوقوف مع الظاهر. وقد قالوا بنحو مقالة القرامطة الباطنية في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته، مع ادعائهم الحديث ومذهب السلف، وإنكارهم على الأشعري وأصحابه أعظم إنكار. ومعلومٌ أن الأشعري وأصحابه أقرب إلى السلف والأئمة ومذهب أهل الحديث في هذا الباب من هؤلاء بكثير». وقال: «فمن عَرَفَ مذهب الأشعري وأصحابه، ومذهب ابن حزم وأمثاله من الظاهرية في باب الصفات، تبين له ذلك. وعَلِمَ –هو وكُلّ من فَهِم المقالتين– أن هؤلاء الظاهرية الباطنية أقرب إلى المعتزلة –بل إلى الفلاسفة– من الأشعرية، وأن الأشعرية أقرب إلى السلف والأئمة وأهل الحديث منهم». أما عن دعوى بعض الظاهرية بانتساب ابن حزم للسلف فقد كذبها وأبطلها شيخ الإسلام في "الأصفهانية" (ص109) فقال: «إن كثيراً من الناس ينتَسِبُ إلى السنة أو الحديث أو اتباع مذهب السلف أو الأئمة أو مذهب الإمام أحمد أو غيره من الأئمة أو قول الأشعري أو غيره، ويكون في أقواله ما ليس بموافقٍ لقولِ من انتسب إليهم. فمعرفة ذلك نافعةٌ جداً. كما تقدم في الظاهرية الذين ينتسبون إلى الحديث والسنة، حتى أنكروا القياس الشرعي المأثور عن السلف والأئمة، ودخلوا في الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، حتى نفوا حقيقة أسماء الله وصفاته، وصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية. بحيث تكون مقالة المعتزلة في أسماء الله، أحسن من مقالتهم! فهم مع دعوى الظاهر، يقرمطون في توحيد الله وأسمائه. وأما السفسطة في العقليات فظاهرة». قلت: السَّفْسَطَةُ (كما في القاموس الوسيط): «قياسٌ مُركّبٌ من الوهميات، والغرض منه إفحام الخصم وإسكاته». والسُّوفِسْطائيّة هي فرقة فلاسفة إغريق يُنكِرون الحِسِّيَّاتِ والبَديهيّات وغيرها. بل إنه جزم بتفضيل مذهب الأشاعرة في الصفات على مذهب ابن حزم. فقال في "درء التعارض" (5|250): «ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته، أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم». والمسألتان الوحيدتان التي كاد ابن حزم يوافق بهما السلف الصالح، هما مسألة الإيمان ومسألة القدر. وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4|19): «الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل –ومن قَبله من الأئمة– في القرآن والصفات. وإن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث، وأكثر تعظيماً له ولأهله من غيره. لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات، ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك. فوافق (ابن حزم) هؤلاء (السلفيين) في اللفظ، وهؤلاء (الفلاسفة) في المعنى. وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث، باتباعه لظاهرٍ لا باطن له، كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب. مضموماً إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني، ودعوى متابعة الظواهر. وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة، ما لا يدفعه إلا مُكابر. ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال، والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة، ما لا يجتمع مثله لغيره. فالمسألة التي يكون فيها حديث، يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح. وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف، ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء». وأما مذهب ابن حزم في الإيمان فهو مرجئ، وله مذهب خاص في الإرجاء: فجميع فرق المرجئة تخرج العمل من الإيمان، أما ابن حزم فإنه يُخرج العمل من أصل الإيمان ويُدخله في الإيمان الواجب. وقد وهم البعض فظنه على مذهب أهل السنة، وقالوا: حمده ابن تيمية في الكفر والإيمان. وليس كذلك، إنما الموجود من كلام ابن تيمية ما ذكرناه آنفاً، من تفضيله في هذا الباب على الأشعري، وليس أنه موافق بشكل كامل لأهل السنة والحديث. أما الدليل على أنه يخرج العمل من أصل الإيمان: فقوله في "الفصل" (3|255): «فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له فهو: العقد بالقلب والإقرار باللسان. فإن الكفر ضد لهذا الإيمان»، وقوله: «الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له»، فهذه صفة أصل الإيمان. فأخرج العمل من أصل الإيمان وقَصَره على اعتقاد القلب وإقرار اللسان كقول مرجئة الفقهاء، خلافاً لأهل السنة. ويترتب على هذا أنه لا يكفُر أحدٌُ بشيء من العمل، وهذا ما يصرّح به ابن حزم فيقول في المحلى (1|40): «ومن ضيّع الأعمال كلها، فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان لا يكفر». ويدل على إرجائه أيضاً تجويزه قول "أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى" (كما في "الفصل" 3|271) هكذا بدون استثناء، بل على وجه القطع والجزم. وهذه كلها أقوال المرجئة بلا ريب. وأما الدليل على أنه يُدخل العمل في الإيمان الواجب والإيمان المستحب، فقوله في الفصل (3|255): «وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضداً له لا الكفر، فهو ما كان من الأعمال فرضاً. فإن تركه ضد للعمل، وهو فسق لا كفر. وأما الإيمان الذي يكون الترك له ضداً فهو: كل ما كان من الأعمال تطوعاً، فإن تركه ضد العمل به، وليس فسقاً ولا كفراً». والإيمان الذي يضاده الفسق هو الإيمان الواجب، والإيمان الذي يضاده الترك غير المكفر ولا المفسق هو الإيمان المستحب. وابن حزم كذلك يرى الإيمان الذي هو ضد الكفر شيئا واحداً لا يتجزء ولهذا يقول: «إن اليقين لا يقبل الزيادة والنقصان». وبهذا تعلم أن ابن حزم وافق المرجئة في مسائل، ووافق أهل السنة في مسائل. ولهذا فإن قوله في المحلى (1|38): «الإيمان والإسلام شئ واحد... كل ذلك عقد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية»، كلامه هذا وإن كان موافقاً لأهل السنة في ظاهره، إلا أنه مخالف لهم في الحقيقة. إذ لايُدخِل العمل في أصل الإيمان كما ظهر من كلامه السابق، فأمره مضطرب. ولهذا فقد اعتبر ابن الجوزي الظاهرية فرقة ً من فرق المرجئة في كتابه "تلبيس إبليس" (ص28 ط المدني). وهـذا شأن ابن حزم في معظم العلوم سواء منها الاعتقاد أو الفقه أو أصوله، أمره مضطرب، وكلامه يجمع بين الحق والباطل. ولهذا يجب التوقف في قبول ما انفرد به من آراء وأحكام حتى ينظر فيها. وينبغي ألا يبدأ طالب العلم دراسته بقراءة كتب ابن حزم كالإحكام والمحلى -على ما فيهما من فوائد-. وأنا أنصح بقراءتهما، ولكن في مرحلة متقدمة بعد قراءة غيرهما من الكتب، ليستفيد الطالب بما فيهما من فوائد، مع توقِّيه ما فيهما من أخطاء. وكلامه في الإيمان جدير بالقراءة، مع معرفة ما أخطأ فيه. وبسبب انحرافات ابن حزم هذه، وصفه الآلوسي عند ذكره في تفسيره (21|76) بقوله: «الضال المضل». فليت ابن حزم قلد داود بن علي الظاهري في باب الأسماء والصفات، فإنه كان على مذهب السلف الصالح في هذا الباب. وغلطُ داود هو في مسألة اللفظ في خلق القرآن، لكنه يثبت الصفات كأهل السنة. قال شيخ الإسلام في "الأصفهانية" (ص107) عن الظاهرية: «إن إمامهم داود وأكابر أصحابه كانوا من المثبتين للصفات على مذهب أهل السنة والحديث». حدته مع العلماء وكان ابن حزم شديد الوقوع في كبار العلماء. قال ابن حجر في "لسان الميزان" (4|201): «ومما يُعابُ به ابن حزم: وقوعه في الأئمة الكبار بأقبح عبارةٍ، وأشنع رد». وقال ابن خلكان في تاريخه (1|370): «كان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين، لا يكاد أحد يسلم من لسانه». وقال أبو العباس بن العريف: «كان لسان ابن حزم وسيف الحَجّاج شقيقان»! ومع أنه كان ذا حدة ظهرت كثيرًا في جدله، فإنه لم يغفل عن ذكر سببها والكلام عنها، فقال: «لقد أصابتني علة شديدة ولّدت في ربواً في الطحال شديداً. فولّد ذلك علي من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر، والنزق أمراً جاشت نفسي فيه. إذ أنكرتُ تبدل خلقي، واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي. وصحّ عندي أن الطحال موضع الفرح، وإذا فسد تولد ضد». إن هذا تحليلًا دقيقًا يذكر فيه أسباب ضعفه النفسي في صراحة وقوة فيصف نفسه بالنزق والضجر، ولا يضن عليها بمثل ما يصف به مخالفيه. ولعل السبب الأهم في ذلك هو ما أصابه من ظلم على يد فقهاء المالكية حتى أحرقوا كتبه. وكان ابن حزم يظن أنه بحدة لسانه سيسكت خصومه. ولكن انقلب السحر على الساحر، وتسبب له ذلك بإحراق كتبه وطرده من منصبه وقلة رواج أفكاره، حتى لا نجد له أتباعاً إلا من بعض الطلبة الذين يتعلمون الحديث قبل أن يتعلمون الفقه وأصوله. وكتبه لولا أنه اهتم فيها بجمع الآثار، لانقرضت منذ زمن بعيد. لكن جمعه لكل تلك الآثار والأقوال مع محاولة تبيين الصحيح من الضعيف، جعل كتابه "المحلى" ثروة لا يُستغنى عنها. وقد حَذّرَ جماعةٌ من المشايخِ والمؤدّبين من أن يقرأ المبتدئُ في مؤلّفاتِ ابن حزمٍ لا سيّما "المُحَلّى". وهي منهم نصيحةٌ في مَحلّها. فإنّ الأدبَ مع أهل العلمِ يقتضي ذلك. فإذا ما أتقنَ الطالبُ التأدّبَ مع أهلِ العلمِ، فلا حَرجَ حينئذٍ من الاستفادة من ذلك الكتاب، على حَذَرٍ من شُذوذاتٍ وغرائبَ وَقَعَ فيها أبو محمّد رحمه الله. كيف تتعامل مع ابن حزم؟ ابن حزم ذكي قوي الحجة، له علم بالمنطق وجدله. أما كيف تتعامل مع مصنفاته، فإن اسلم طريقة هي أن لا تجاري ابن حزم في مقدماته. فهو يبدأ بذكر مقدمات، ثم يبنى عليها نقاشه مع العلماء. فلو أنت صرت تنظر عجلاً للنتيجة كما يفعل طالب العلم المبتدئـ فإنك سوف تنساق مع مقدماته لجمال عبارتها وقوتها. لكن انظر إلى مقدماته بدقة، واحذر من جزمه. فإنه يجزم أحيانا بقوة كأنه يقسم قسما غليظا بصوابه، مما يجعل في نفسك صواب هذا الرأي. واحذر من معارضته، فإنه كثيرا ما يجزم أيضا أن هذا الأمر معارضٌ للعقل وللنقل، فلا تتعجل، وانظر سبب المعارضة عنده. ولا شك أن كتبه مفيدة جداً، وتغذي المجتهد المتمكن على الاجتهاد والاستقلال، وتقوي ملكة النظر في الأدلة من حيث جملتها. أي بمعنى ربط الأدلة مع بعضها والنظر إليها نظرا إجماليا، من غير تناقض. فإن كثيراً من الفقهاء ممن لا يتدبر الأمر ملياً، تجهده يحكم على مسألة في الطهارة بحكم بناء على قاعدة، ثم يحكم على أخرى بحكم آخر، ويستخدم نفس القاعدة، وإنما أتي من اختلاف الباب. والأمثلة كثيرة. فمن ذلك قوله راداً على الحنفية: «فمن أطرف شئ مبادرتهم إذا أدركوا شيء من أوامر القرآن أنه ندب؟ فقلنا لهم: ما برهانكم على هذه الدعوى؟ قالوا: قوله تعالى {وإذا حللتم فاصطادوا}. وقوله {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض}. فقلنا لهم: إن هذا لعجب؟ ليت شعري، في أي دين وجدتم أم في أي عقل: أنه إذا صح أمر من أوامر الله تعالى أنه منسوخ أو أنه ندب، وجب أن تحمل سائر أوامر الله تعالى على أنها منسوخة وعلى أنها ندب؟ فما سُمع بأعجب من هذا الاحتجاج الفاسد، إذ قصدوا به "هدم القرآن"». ومعلوم ما في المقدمات من الفساد. إذ لم يقصد الحنفية ولا غيرهم أن كل أوامر الله على الندب، ولم يقل بهذا مسلم. وقصدهم واضح لابن حزم، إنما قصدوا أن من أوامر الله ما هو ندب في كتابه ومنه غيره. وكأنه -رحمه الله- تدارك هذا الأمر بعد أسطر، وذكر أنه لا يُنكر، لكن لابد من القرينة. وهذا حق وقد قالوه، لكنه لم يرد على احتجاجهم. ومن هذه الأمثلة : كلامه في بيع الفضولي حيث قال في رده حديث عروة البارقي: «لأنه إذا أمر -عليه السلام- أن يشترى له شاه، فاشترى شاتين، صار الشراء لعروة ((بلا شك)) لأنه إنما اشترى كما أراد، لا كما أمره. ثم وزن الدينا إما مسترخصا له ليرده، وإما متعديا فصار الدينا في ذمته ((بلا شك))... ثم ذكر كلاما ثم قال: ثم نسألهم عمن باع مال غيره، فنقول: أخبرونا هل ملك المشتري ما اشترى وملك صاحب المبيع الثمن؟ فإن قالوا لا، وهو الحق وهو قولنا. وإن قالوا نعم، قلنا فمن أين جعلتم له إبطال عقد صحيح؟». وأنت ترى جزالة مقدماته لكنها خطأ من وجوه، منها حصره. فليس الأمر في الصورتين فحسب. فنحن نقول العقد صحيح، لكنه معلق على رضا صاحب المال. وهو مثل خيار المجلس الذي أقره. أليس قد تم البيع لكن صاحباه بالخيار؟ فالعقد صحيح، لكنه مُعلق. وليس الأمر كما ذكر. فالنتيجة صحيحة، لكنها مبنية على مقدمات لا تُسلّم له. ومن الأمثلة ما كان من رده على بكر البشري في كتابه الأحكام حيث قال: «إذا أمكن ما قلتم من أن اللفظ لا يبنى على المعنى بمجرده، فبأي شي نعرف مرادكم من كلامك؟ هذا لعلكم تريدون به معنى آخر؟ فبأي شيء أجابوا، فهو لازمٌ لهم». وهذا تحكم، فليست المسألة حصرا كما ذكر. فإنهم قد يقولون بالتفصيل، فما كان من الألفاظ المشتركة، فإنها لا تُحمل بمطلقها، وما كان غير ذلك فله حكمه. وما كان من المشتركة وله عرفٌ مشهور أو معنى يحمل عليه في الأكثر، قلنا بأنه يحمل عليه، وما لا فلا. بل إنه في الألفاظ التي لا تحمل إلا معنى واحد، فإن السياق قد يقلبه. انظر إلى قوله تعالى {ذق إنك أنت العزيز الكريم} وما يقتضيه ظاهر المعنى، ومع ذلك دل السياق على خلافه. رأي ابن حزم بالمذاهب الأربعة قال المنتصر الكتاني عن ابن حزم: «لا يذكر فقهاً لأحمد إلا نادراً جداً. إذ أحمد عند الأندلسيين إمام في الحديث فقط. ومن ذلك كتاب الحافظ ابن عبد البر الأندلسي: "الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء". وقد يذكر فقه من جاء بعد الثلاثة إلى منتصف القرن الخامس». قال: «ويمكن أن يجرد من "المحلى" مجلدان في فقه الأحناف والرد عليه، ومجلدان في فقه المالكية والرد عليه، ومجلد في فقه الشافعي وداود بن علي وغيرهما والرد عليه. أما فقه أحمد فليس في "المحلى" منه إلا قضايا محدودة، ومسائل محسوبة». قال: «وفي مناقشته فقه الثلاثة والرد عليه يكون ابن حزم قاسياً عنيفاً مع الحنفية والمالكية، ويكون براً لطيفاً مع الشافعية». وما ذاك إلا لأن الحنفية والمالكية هم من أهل الرأي، والشافعية هم من أهل الحديث. وابن حزم يعظّم الحديث ويمقت الرأي المجرّد. انظر: المذهب الظاهري ومصادره في النقل عن المذاهب الثلاثة كثيرة، فهو واسع الاطلاع جداً. وقد وجدت أحد الحنفية يعترض على ابن حزم بأن نقوله غير دقيقة عن مذهبهم، وبأنه لم يفهم حججهم كما زعموا. وهو غلط، فقد اطلع ابن حزم على كتب الطحاوي، وهو أهم محدّثي الحنفية، وأحد أصدق فقهائهم في نقله. وكثيراً ما ينقل عنه ابن حزم دون أن يسميه، ويجيب على حججه. وقد نقل أيضاً من أمهات الكتب عند الحنفية مثل الجامع الصغير لمحمد بن الحسن (ذكره في المحلى 6|243) ومثل المبسوط (7|492) لابن الحسن. وقد كان ابن حزم على مذهب الشافعي لفترة من حياته، فصار له اطلاع كبير على مؤلفات الشافعية (لكن من الغريب أنه قد يخلط بين القديم والجديد). أما عن كتب المالكية فله اطلاع عظيم عليها. فقد كان يعيش في بيئة مالكية، وصاحبه وبلديه ابن عبد البر. وعامة مناظراته الفقهية هي مع المالكية. وأحياناً يصرّح بالنقل عن "الموطأ" و"مدونة" ابن سحنون و"المستخرجة العتبية" وكتب أخرى كثيرة. يقول في أحد رسائله راداً على خصومه: «وأما قولهم: إنهم طالعوا دواوين لم نطالعها نحن، ومن الدواوين مالا نقف على أسمائها، فلعمري ما لشيوخهم ديوان مشهور مؤلف في نص مذهبهم؛ إلاّ وقد رأيناه ولله الحمد كثيراً، ككتاب ابن الجهم، وكتاب الأبهري الكبير، والأبهري الصغير، والقزويني، وابن القصار، وعبد الوهاب، والأصيلي». وهنا يشير للكتب المؤلفة خارج الأندلس، فكيف به مع كتب أهل بلده؟ وما دخل الأندلس رجلٌ أكثر اطلاعاً من ابن حزم. بل ما يساويه في الاطلاع في تاريخ الإسلام إلا قلائل، وفوق كل ذي علمٍ عليم. رأي ابن حزم بالمرأة لعل من أبرز حسنات ابن حزم، إنصافه للمرأة وعدله في الأحكام التي أصدرها تجاهها. بينما تجد غيره من الفقهاء لا ينفك عن إهانة المرأة التي أنجبته، نعوذ بالله من العقوق. قال الحسن بن علي بن المنتصر بن الزمزمي الكتاني: «ما من مسألة اختلف فيها الفقهاء بين مشدد على المرأة وميسّر، فإن ابن حزم يسلك سبيل التيسير، وعنده أن المرأة في الأحكام كالرجل إلا ما خصّه الدليل... وأنظر إلى كثير من الفقهاء، خاصة المتأخرين منهم، فإنهم يلمح من كلامهم استنقاص المرأة والتحجير عليها مرة بحجة قصورها وأخرى بحجة سد الذرائع. وهذا ما لم أجده عند ابن حزم، بل الصالحات منهن عنده صالحات والفاسدات بحسب فسادهن، مثلهن في ذلك مثل الرجال». أسانيد ابن حزم غالب أسانيد ابن حزم ترجع إلى أربعة من كبار أئمة الحديث في الأندلس: بقي بن مخلد، وقاسم بن أصبغ، وأحمد بن خالد، ومحمد بن أيمن. ولذلك تجد عنده من الآثار ما لا تجده عند أحدٍ غيره من المشرقيين، لأن كتب هؤلاء الكبار لم تصل للمشرق على أهميتها (وبخاصة ابن مخلد وابن أصبغ). وهي اليوم مفقودة. |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]منهج مالك :[/SIZE][/COLOR] مالك بن أنس: إمام ثقة ثبت من كبار الحفاظ في المدينة. قال البُخاريّ عن عليّ بن المَديني: «له نحو ألف حديث». وقد جمع كثيراً من حديثه في كتابه "المُوَطَّأ"، وبعضه تجده في كتاب "غرائب مالك" للدارقطني (وإن كان أكثر أحاديث هذا الكتاب لا يصح إسنادها لمالك). وعامة الحديث الصحيح في الموطأ قد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وفيه أحاديث جيدة لكنها ليست على شرط الصحيحين. وفيه أحاديث ضعيفة غالباً بسبب انقطاع سندها أو بسبب جهالة رواتها. وكان مالك يعلم الضعف التي فيها، لكن كان منهجه أن الحديث المشتهر بين أهل المدينة يُحتج به وإن كان منقطعاً. ففي سنن الدارقطني (4|40): قال مالك: «شهرةُ الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده». وهذا أمرٌ لم يوافقه عليه أحدٌ من أهل الحديث. يذكر ابن حزم في كتاب "مراتب الديانة": «أحصيتُ ما في الموطأ فوجدت من المسند خمسمئة ونيّف. وفيه ثلاثمئة ونيف مرسلاً. وفيه نيف وسبعون حديثاً قد ترك مالك نفسُه العمل بها. وفيه أحاديث ضعيفة وهّنها جمهور العلماء». أي أن مالك قد خالف حوالي تسعة في المئة مما رواه في الموطأ. لكن ما خالفه من الحديث الصحيح أكثر من ذلك، إلا أنه قد كتم أكثر تلك الأحاديث. ويًنقل عن مالك أنه قال: «سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة، ما حدّثت بها قط، ولا أحدّث بها». فقيل له: لم؟ فقال: «ليس عليها العمل»! كان مالك ممن اعتنى بنقد الرجال خاصة أهل بلده، وهو معتدل مع بعض التشدد. قال ابن عيينة: «ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم». وقال ابن حجر في (التلخيص الحبير) (3|10) في بعض الرواة: «قد اعتمده مالك مع شدة نقده». وقد شاع أن كل ما في الموطأ ثقات، وهو غلط، وإنما قيل أن ما روى عنه مالك (بغير واسطة) فهو ثقة، وهو غلط كذلك. فقد روى عن جماعة من الضعفاء مثل: عبد الكريم بن أبي المخارق أبي أمية البصري عبد الله بن لهيعة عاصم بن عبيد الله شريك بن أبي نمر عطاء الخراساني داود بن الحصين الأموي عمرو بن أبي عمرو وهذا الأخير – واسمه ميسرة – مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب القرشي، ضعفه ابن معين رغم أنه من شيوخ مالك. وضعف آخر أربعة ليس بشديد. وقيل إذا قال مالك "عن الثقة" فهو ابن لهيعة. وابن لهيعة ضعيف الحفظ سواء قبل احتراق كتبه أم بعدها. وهو فوق ذلك شيعي مدلّس ضعيف العقل. قال القاضي إسماعيل: «إنما يعتبر بمالك في أهل بلده، فأما الغرباء فليس يحتج به فيهم». وقال الشيخ محمد خلف سلامة: «والقول بتوثيق جميع شيوخ مالك بلا استثناء، مذهب ضعيف أو لا يخلو من تساهل. والحق الذي يوافق ما صرح به غير واحد من المحققين: هو توثيق المدنيين من شيوخ مالك، إلا إذا قام الدليل على خلاف ذلك. بخلاف غير المدنيين من شيوخه، فلا تعد رواية مالك عنهم كافية في توثيقهم». ومن أمثلة الأحاديث المنقطعة في الموطأ: عن مالك أنه بلغه أن رسول الله r كان يقول: «إذا نشأتْ بَحْريةً ثم تشاءمتْ، فتلك عينٌ غُدَيقةٌ». قال ابن عبد البر في "التجريد" (ص254): «لا يُحفظ عن النبي r من وجهٍ يصح من جهة الإسناد. ولا يُعرف هذا الحديث بهذا اللفظ في غير الموطأ، إلا ما رواه الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى (متروك) ولفظه: إذا نشأت بحرية ثم استحالت شامية فهو أمطر لها. ولم يسنده أيضاً. وهو منقطع عنده مع ضعفه». معنى الحديث: إذا ظهرت سحابة من ناحية البحر ثم أخذت نحو الشمال، فستمطر ماءً كثيراً. ومعناه باطل كما ترى. وحديث «أما إني لا أَنسى، ولكن أُنَسَّى لأشرِّعَ». قال الألباني في السلسلة الضعيفة (#101): «باطل لا أصل له. و قد أورده بهذا اللفظ الغزالي في "الإحياء" (4|38) مجزوما بنسبته إليه r، فقال العراقي في "تخريجه": ذكره مالك بلاغاً بغير إسناد، و قال ابن عبد البر: لا يوجد في "الموطأ" إلا مرسلاً لا إسناد له. و كذا قال حمزة الكناني: إنه لم يرد من غير طريق مالك. و قال أبو طاهر الأنماطي: و قد طال بحثي عنه و سؤالي عنه للأئمة و الحفاظ فلم أظفر به و لا سمعت عن أحد أنه ظفر به. قال: و ادعى بعض طلبة الحديث أنه وقع له مسندا. قلت: فالعجب من ابن عبد البر كيف يورد الحديث في "التمهيد" جازما بنسبته إلى النبي r في غير موضع منه، فانظر (1|100 و 5|108 و 10|184)! قلت: الحديث في "الموطأ" (1|161) عن مالك أنه بلغه أن رسول الله r قال: "إني لأنسى أو أنسى لأسن". فقول المعلق على "زاد المعاد" (1|286) "وإسناده منقطع" ليس بصحيح بداهةً لأنه كما ترى بلاغ لا إسناد له. و لذلك قال الحافظ فيما نقل الزرقاني في "شرح الموطأ" (1|205): لا أصل له. و ظاهر الحديث أنه r لا ينسى بباعث البشرية وإنما ينسيه الله ليشرع. و على هذا فهو مخالف لما ثبت في "الصحيحين" و غيرهما من حديث ابن مسعود مرفوعا: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني". و لا ينافي هذا أن يترتب على نسيانه r حكم و فوائد من البيان و التعليم. و القصد أنه لا يجوز نفي النسيان الذي هو من طبيعة البشر عنه r لهذا الحديث الباطل لمعارضته لهذا الحديث الصحيح». |
:بس:
:سل: [COLOR="Red"][SIZE="6"]ملاحظات حول منهج الشيخ الألباني -رحمه الله- :[/SIZE][/COLOR] 1– رأيه في مسألة زيادة الثقة: فإنه –رحمه الله– توسع في ذلك شيئاً، فقبل الكثير من الزيادات التي ضعّفها الأئمة لشذوذها، واعتبرها هو زيادة ثقة يجب قبولها، مع أنه يشترط ألا تكون منافية لأصل الحديث. إلا أنه ربما ذهل عن هذا أحياناً. أما الأئمة المتقدمين فلم يقبلوا زيادة الثقة بإطلاقها، بل كانوا يبحثون بعناية في كل حالة. وهذا من أهم الفروق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين (أي بعد عصر النسائي). 2– عدم تركيزه على قضية العلة و الشذوذ. فنرى الشيخ لا يعبأ كثيراً بأقوال الأئمة المتقدمين في إنكار بعض الروايات. ودليل ذلك تصحيحه للأحاديث الباطلة والمنكرة والتي أبطلها الأئمة المتقدمون وأنكروها. وهذا كثيراً ما أوقعه في أوحال الأحاديث المنكَرة. وكذلك تصحيحه الحديث بكثرة طرقه، مع أن الأئمة المتقدمين اطلعوا على هذه الطرق وضعفوها كلها، ولم يصححوا الحديث بها لأمر ما، فكل حديث له حديث يخصه. 3– تساهله في التصحيح. حيث أن المستور، والمقبول على رسم ابن حجر، والإسناد المنقطع، والمدلس، والصدوق كل ذلك يقبل في الشواهد والمتابعات عنده. وهذا أيضاً مسلك فيه تساهل واضح. وهذا أيضاً سبب آخر لتصحيحه الحديث بمجرد كثرة طرقه، مع تضعيف الأئمة له. 4– الإكثار من تحسين الأحاديث بالشواهد والمتابعات. وتقويته للحديث بالطرق الضعيفة جداً. فالسلف لا يكثرون –جداً– من تحسين الأحاديث بالشواهد، إلا إذا قويت طرقها، ولم يكن في رواته كذاباً ولا مُتهم، ولم تعارض أصلاً. أما لو قويت طرقها واستقامت بمفردها، لكنها عارضت أصلاً فإنها تُطرح. ويمكن تلخيص منهج السلف في تحسين الأحاديث بالشواهد بما يلي: 1. محل إعمال قاعدة تقوية الحديث بتعدد الطرق، هو في غير الحديث الذي أجمع أئمة الحديث على تضعيفه، ما لم يكن تضعيفهم مقيداً بطريق بعينه. 2. أن محل تقوية الحديث بتعدد الطرق، ينبغي أن لا يكون في حديث ضعفه أحد أئمة الحديث، وقامت القرائن على صحة قوله. 3. أن تتعدد طرق الحديث تعدداً حقيقياً فلا يؤول هذا التعدد إلى طريق واحد، كما يحصل كثيراً في الأحاديث التي فيها انقطاع أو جهالة أو تدليس. 4. أن لا يشتد ضعف الطرق. فلا يقبل التحسين من أحاديث المجاهيل والكذابين والمختلطين وأمثالهم. 5. أن يسلم المتن من النكارة! وهذا مهم للغاية كما في المثال الذي ذكره الحاكم النيسابوري في "معرفة علوم الحديث" (1|119). 5– والشيخ الألباني كان كثير الاعتماد على تقريب التهذيب (وهو مجرد عناوين مختصرة)، دون الرجوع إلى التراجم المفصلة. والصواب أن تقريب التهذيب لا ينبغي الرجوع إليه إلا عندما يصعب الترجيح بين الرواة. وإلا فلا بد من الرجوع ليس إلى تهذيب التهذيب وحده، بل إلى كتب العلل و السؤالات والكتب المختصة بالمدلسين والمختلطين وغير ذلك من الأمور الدقيقة. فإن قال قائل إن هذا أمر يطول كثيراً، قلنا نعم! فمن لم يكن عنده الصبر والجلد فليلزم التقليد لحفاظ جهابذةٍ أفنوا عمرهم في طلب هذا العلم والبحث فيه. وهذه الأخطاء لم يتفرد بها الشيخ الألباني رحمه الله، بل سار عليها أغلب المتأخرين –كما أسلفنا–، وبخاصة المعاصرين منهم، وصارت منهجاً لهم لا يجوز خلافه. وإنما خصصناه بالذكر لأنه من أعظمهم أثراً، ولما لكتبه من قبول. ومن أراد البسط في هذه المسألة فعليه بمراجعة هذه كتاب "الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها"، للشيخ الدكتور حمزة المليباري. 6– تعجله –رحمه الله– في تخريج الحديث بحجة كثرة إلحاح دار النشر عليه! وهذا العذر فيه ما فيه كما ترى. فقال مثلاً ما مختصره: أنه لم يأخذ الوقتَ الكافي ليتمكن من تجويد عملهِ على "السنن". وسبب ذلك: أن الدكتور مُحمد الرشيد –مدير "مكتب التربية العربي" حينذاك– استعجله وحثه على الإسراع بمشروع "صحيح وضعيف السنن الأربعة". لأن الدكتور على وشك ترك إدارة المكتب، ويرغب في إتمام هذا المشروع في عهده، ليترك أثراً طيّباً نافعاً قبل خروجه. ونضيف على هذه الأخطاء ما ذكره الشيخ الفاضل إبراهيم بن محمد العلي (مع تبديل الأرقام). قال في كتابه "محمد ناصر الدين الألباني محدث العصر وناصر السنَّة" (ص50): «ولما كان الخطأ صفة لازمة في بني الإنسان، لا ينجو منها أحد مهما علت مرتبته في العلم والدين، ولو نجا منها أحد لنجا منها أصحاب رسول الله r الكرام، وهم خير القرون على وجه الأرض، ومع ذلك لم يسلم أحد منهم من الخطأ والوقوع فيه بتأويل، أو بغير تأويل. والشيخ الألباني –رحمه الله تعالى– من أولئك العلماء الذين بذلوا جهداً كبيراً في خدمة السُنّة المطهرة، لكنه وقع في الخطأ كما وقع غيره من أهل العلم. لكننا حين نتحدث عن بعض الملاحظات حول منهجه فنحن لا نريد أن ننقص من مكانته، فكفى بالمــرء نبلاً أن تُعـد معايبه. ومن تلك الملاحظات التي أخذها عليه الكثير من أهل العلم: 7– الحـِدّة الشديدة التي كان يواجه بها المخالفين له من العلماء القدامى والمُحدثين مما زاد من خصـومه. هذه الحدة التي كانت تخرجه عن الاعتدال في التعامل مع آراء الآخرين، ولم تقتصر هذه الحــدة على المخالفين له في آرائه، وإنما شملت أيضاً بعض محبيه إذا حصل بينه وبينهم تنافر أو خلاف. 8– امتلأت كتبه في الرد على المخالفين. ولذلك يحتاج القارئ إلى التأني في أخذ المسائل التي رد فيها على أهل العلم وردوا عليه، ولذلك لابد من قراءة الرد، لأن الشيخ –رحمه الله– يخطئ ويصيب كسائر أهل العلم. إذ قد يصيب الحق تارة، وقد يخطئ تارة أخرى، فليس كل ما قاله صواباً. 9– تعامله مع التيار الحركي الإسلامي (الجمــاعات الإسلامية) بكثير من الجفاء والغلظة، وإصدار الأحكام القاسية بحقهــا، وذلك من خلال حكمه عليها خلال أفراد منها، واعتبار الجماعات أنها تتبنى هذه الأخطاء، ثم محاكمتها بناء على ذلك. رغم أن كثيراً من أحكامه بحقها ينقصه الدقة والمعلومة الصحيحة. 10– تبنيه لمجموعة من الأحكام الشرعية والتي لم يوفق في اختيار الصواب فيها، ودفاعه عنها دفاعاً شديداً حمله على مهاجمة آراء المخالفين بشدة، رغم أن هذه الاختيارات والغرائب التي تبناها يعوزها الحجة، أو أنها موضع مخالفة شديدة من جماهير أهل العلم، مثل تحريم الذهب المحلق على النساء. 11– منهجه في تقسيم السنن الأربعة إلى صحيح وضعيف، فالصحيح معمول به عنده، والضعيف غير معمول به. وقد أضاع هذا العمل الهدف الذي أراده مؤلفوها حين قاموا بجمعها. وقد اعترف الشيخ بهذا في مقدمة صحيح الأدب المفرد، إلا أنه دافع عن ذلك. -------------------------------------------------------------------------------- وأنقل إجابة الشيخ الحويني على النقطة الأخيرة، لأني أظن أن الشيخ الألباني له وجهة نظر قوية. قال الشيخ أبو إسحاق الحويني في مقدمة كتاب "الألباني العالم الرباني": وأما قول الشيخ العلي: "5ـ منهجه في تقسيم السنن الأربعة.." فو الله حينما قرأتها أول مرة تعجبت أشد العجب من هذه النقطة بالذات وقلت: لو غيرك قالها! ويمكن تقسيمها والإجابة عنها في ثلاثة جمل "منهجه في تقسيم السنن الأربعة إلى صحيح وضعيف، فالصحيح معمول به عنده، والضعيف غير معمول به". فهل يخالف أحد من أهل العلم في هذا؟! بل هذا بإجماع العلماء ألا يعمل إلا بما صح عن رسول الله r. بل كتب الشيخ العلي قائمة على هذا النهج فلماذا الإنكار؟ ولماذا جمع في كتابه القيم: "صحيح السيرة النبوية" ما صح من سيرة الرسول r؟! وكذلك قول الشيخ العلي: "وقد أضــاع هذا العمل الهــدف الذي أراده مؤلفوها حين قاموا بجمعها". أقـول: هذا الكلام ليس بصحيح، خاصة وقـد حـوى كل كتاب من السنن أحاديث ضعيفة ومناكير بل وموضوعات! فجامع الترمذي ليس كل حديث فيه صحيح عنده، فقد ذكر جملة كبيرة من الضعاف وهو على علم بها، بل ويعلها بنفسه رحمه الله. وكذلك ينقل عن شيخه البخاري تضعيفه لبعض تلك الأحاديث. ولذلك كان من أسباب ذكر الأحاديث الضعاف في جامعه هو عمل بعض الفقهاء بها، فشرطه واسع جداً. وكذلك سكوت الإمام أبي داود ـ رحمه الله، لما ضَعفه ظاهر عنده معروف للمشتغلين بالحديث. وكذلك يعل الإمام النسائي رحمه الله أحاديث كثيرة في سننه، وهو ظاهر لمن تأمله. وأما ابن ماجه فالأمر فيه ظاهر جداً جداً، حتى قيل فيه كل ما تفرد بإخراجه ضعيف، وهذا فيه غلو وإسراف. ومن قرأ لمن كتب في شروط الأئمة في كتبهم كابن طـاهر، والحازمي –رحمهم الله– علم صدق ما قلت. وهنا أنقل فائدةً عزيزة للشيخ الألباني –رحمه الله– حول أحاديث السنن وطريقة أصحابها. قال –رحمه الله– في رده على الشيخ إسماعيل الأنصاري –رحمه الله– على إباحة الذهب المحلق المطبوع في: "حياة الألباني وآثاره" (1|194): "والحقيقة أنه قد فات الأستاذ أن أصحاب السنن إنما غايتهم من تخريجهم الأحاديث والتبويب لها عرض ما ورد إليهم والإشارة إلى ما تدل عليه من الأحكام سواء ثبتت تلك الأحاديث أو لم تثبت، وليس غرضهم تقرير أحكام قطعية لا يجوز خلافها. ولهذا نرى فيها كثيراً من الأبواب التي لم يورد فيها إلا ما لا يصح سنده من الحديث، وتارة فيها أبواب متناقضة. فهذا النسائي مثـلاً عقد باباً في تحــريم الذهب على الرجــال، ثم باباً آخر في خاتم الذهب أورد فيها أحاديث صحيحة تدل على ما ترجــم لها. ثم أورد بين البابين المذكورين باباً في الرخصة في خاتم الذهب للرجال (2|286) من طريق عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب قال: عمر يعني لصهيب: ما لي أرى عليك خاتم الذهب؟ قال: قد رآه من هو خير منك فلم يعبه ! قال: من هو؟ قال: رسول الله r. والأمثلة على ما ذكرنا كثيرة لا حاجة بنا إلى إطالة الكلام بالاستكثار منها". فالمقصود أنَّ تقسيم الكتاب إلى قسمين لم يذهب بفائدة الكتاب، وإن كان الأَولى هو عدم التقسيم، ويضع الشيخ حكمه تحت الحديث، لما في ذلك من المحافظة على طريقة الكتاب كما أراده مؤلفه، ومنها حتى لا يكبر حجم الكتاب ويصبح ثمنه أغلى بكثيــر من أصله المسند! وقد استغل هذا الأمر –مع الأســف– من لا خــلاق له، وطعـن في نيــة الشيـخ وعملــه وأنه أراد التجارة بالكتب. فالله حسيبه. وقـول الشيخ العلـي: "وقد اعتــرف الشيخ بهـذا في مقدمة صحيح الأدب المفرد، إلا أنه دافع عن ذلك". أقول: ما نسبه إلى الشيخ الألباني –رحمه الله– أولاً هو ليس في صحيح الأدب بل في ضعيفه ص 6. وثانياً لم يعترف الشيخ بما ذكره الشيخ العلي، بل ذكر وجهة نظر من رأى عدم التقسيم وأجاب بما يعتقده ويراه الأصلح. وأرى لزاماً علىّ أن أنقل للقراء الأعزاء ما ذكره الشيخ –رحمه الله– حيث قال: "وأنا عندما أصنع هذا أعلم منذ بدأت بمشروع صحيح أبي داود و ضعيف أبي داود وغيرهماـ وذلك منذ أكثر من أربعين عاماًـ أن بعض الفضلاء لا يرون مثل هذا التقسيم، ويقولون: الأولى ترك الأصل كما هو دون تقسيمه إلى صحيح و ضعيف مع العناية ببيان مراتب أحاديثه. وإن مما لا شك فيه أن هذه وجهة نظر لها قيمتها. لأن فيها الجمع بين المحافظة على الكتاب كما وضعه مؤلفه، وبين فائدة تمييز صحيحه من سقيمــه. لكن هـذا لا ينفي فـائـدة التقسيم المذكـور، بل هو الأنفـع لعامـة المسلمين، بل وخاصتهم. لأن من المعلوم –بداهة– أنه ليس كل واحد منهم مستعداً طبعاً أو تطبُّعاً أن يعنى بحفظ التمييز المذكور في كتاب واحد. فهذا مما يصعب على جمهورهم، بخلاف ما إذا كان الصحيح في كتاب، والضعيف في آخر. وهذا أمر مجرب لا يماري فيه أحد –إن شاء الله تعالى–. وعلى كل حال فالأمر كما قال الله تعالى: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات. فأسأله تعالى أن يهديني سواء الصراط". |
تمت ولله الحمد
منقول من موقع الشيخ محمد الأمين |
الساعة الآن »01:34 PM. |
Powered by vBulletin Copyright ©2000 - 2025 Jelsoft Enterprises Ltd
جميع الحقوق محفوظة - فقط - لأهل السنة والجماعة