عرض مشاركة واحدة
  #99  
قديم 2013-09-01, 12:34 AM
نمر نمر غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2013-02-26
المكان: بلاد الاسلام بلادي
المشاركات: 918
افتراضي

فما الفرق بينهما من جهة التعريف؟
الجواب: أن العلماء اختلفوا على أقوال كثيرة في تعريف هذا وهذا، ولكن الاختصار في ذلك مطلوب، وهو أن تعريف النبي - وهي مسألة اجتهادية -: هو من أوحى الله إليه بشرع لنفسه، أو أمَره بالتبليغ إلى قوم موافقين؛ يعني موافقين له في التوحيد.

والرسول: هو من أوحى اللهُ إليه بشرع، وأمر بتبليغه إلى قوم مخالفين.

وتلحظ أن هذا التعريف للنبي وللرسول أنه لا مدخل لإيتاء الكتاب في وصف النبوة والرسالة؛ فقد يعطى النبي كتابًا، وقد يعطى الرسولُ كتابًا، وقد يكون الرسول ليس له كتاب وإنما له صحف؛ كما قال - تعالى -: ﴿ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 19]، وقد يكون له كتاب.

فإذًا من جعل الفيصل أو الفرق بين النبي والرسول هو إيتاء الكتاب، أي وحيًا جاءه بكتاب منزل من عند الله - عز وجل - فهذا ليس بجيد، بل يقال كما ذكرت لك في التعريف أن المدار على[19]:
• أن النبي موحًى إليه، والرسول موحى إليه.

• أن النبي يوحى إليه بشرع أو بفصل في قضية؛ شرع يشمل أشياء كثيرة، وكذلك الرسول يوحى إليه بشرع.

• أن النبي يوحى إليه؛ لإبلاغه إلى قوم موافقين، أو ليعمل به في خاصة نفسه، كما جاء في الحديث: ((ويأتي النبي وليس معه أحد))[20]، الرسول يُبعث إلى قوم مخالفين له.

ولهذا جاء في الحديث أن ((العلماء ورثة الأنبياء))[21]، ولم يجعلهم ورثة الرسل، وإنما قال: ((وإن العلماء ورثة الأنبياء))؛ وذلك لأن العالِم في قومه يقوم مقام النبي في إيضاح الشريعة التي معه، فيكون إذًا في إيضاح الشريعة ثَم شبَهٌ بين العالِم والنبي، ولكن النبي يوحى إليه فتكون أحكامه صوابًا؛ لأنها من عند الله - عز وجل - والعالم يوضِّح الشريعة، ويعرِض لحُكمه الغلطُ.

يتعلق بهذه المسألة بحث، وهو أن الرسول قد يكون متابعًا لشريعة من قبله، كما أن النبي يكون متابعًا لشريعة من قبله.

فإذًا الفرق بين النبي والرسول في اتباع الشريعة - شريعة مَن قبله - أن النبي يكون متابعًا لشريعة من قبله، والرسول قد يكون متابعًا - كيوسف عليه السلام جاء قومه بما بُعث به إبراهيم عليه السلام ويعقوب - وقد يكون مبعوثًا بشريعة جديدة.

وهذا الكلام؛ وهذه الاحترازات لأجل أن ثمة طائفة من أهل العلم جعلت كلَّ محترز من هذه الأشياء فرْقًا بين النبي والرسول.

فإذًا كما ذكرت لكم:
• الكتاب قد يعطاه النبي، وقد يعطاه الرسول.

• بعثُه لقوم موافقين أو مخالفين هذا مدار فرق بين النبي والرسول.

• الرسول قد يُبعث بشريعة من قَبله بالتوحيد بالديانة التي جاء بها الرسول لمن قبله، لكن يرسل إلى قوم مخالفين، وإذا كانوا مخالفين فلا بد أن يكون منهم من يصدِّقه، ويكون منهم من يكذبه؛ لأنه ما من رسول إلا وقد كذب؛ كما جاء في ذلك الآيات الكثيرة.

وقال بعض العلماء: إن الرسول هو الذي يرسَل إلى أمة كافرة، فيؤمن به بعضهم، ويكفر به بعضهم، نوح - عليه الصلاة والسلام- أرسل إلى الكفار، آمن به بعضهم، وكفر به بعضهم، هودٌ رسول، صالح رسول.

والذين أرسلوا بشرائع يرسلون إلى أمم كافرة، وينزل عليهم شرائع، أوامر ونواهٍ، يؤمن بهم بعضهم، ويكفر بهم بعضهم؛ مثل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم.

أما النبي فهو الذي يرسَل إلى قوم مؤمنين - لا يرسل إلى الكفار - يرسل إلى قوم مؤمنين، إذا كان ذلك كذلك فأي شريعة سبقت آدم؟!، لكنه نبي إلى بنيه، ولم يقعِ الشرك في زمانه، وشيث نبي.

ولهذا كان نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد وقوع الشرك، فنوحٌ أول رسول بعثه الله بعد وقوع الشرك، ولأنه أرسل إلى بنيه وإلى غير بنيه، أما آدم قبله، وكذلك أيضًا شيث قبله، لكن ما وقع الشركُ، وقعت المعاصي؛ كما قَتل قابيلُ أخاه هابيل.

ولهذا قال الله - سبحانه -: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ﴾ [البقرة: 213]، ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ﴾ [يونس: 19].

قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام، ثم وقع الشرك، هذا معنى قوله: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ [البقرة: 213].

وبالمثل داود وسليمان أنبياء؛ لأنهم كلِّفوا بالعمل بالتوراة جميعًا إلى بني إسرائيل الذين جاؤوا بعد موسى، داود وسليمان وزكريا ويحيى، كلهم كلِّفوا بالعمل بالتوراة حتى جاء عيسى، هؤلاء هم الأنبياء؛ فالأنبياء على هذا.

والحاصل:
أن الصواب الذي أقره أهل العلم: أن الرسول هو الذي يُبعث إلى أمة من أهل الشرائع الكبيرة، الذين يرسلون إلى أمم، إلى أمة كافرة، يؤمن به بعضُهم ويكفر بعضهم.

والأنبياء: هم الذين يوحى إليهم، ويرسَلون إلى المؤمنين خاصة، ويكلَّفون بالعمل بشريعةٍ سابقة[22]، [23].

مسألة: نبوة الأنبياء هل هي واجبة أو ممكنة؟
الصواب: أن نبوة الأنبياء وإرسال الرسل مما جعله الله - عز وجل - على نفسه، كما قال - سبحانه -: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].

وقد اختلف الناس في ذلك:
فقالت طائفة: إرسال الرسل جائز.

وقالت طائفة: إرسال الرسل واجبٌ على الله - عز وجل.

وقالت طائفة: إرسال الرسل ونبوة الأنبياء لا يقال فيها جائزة ولا واجبة، بل هي تبَع للمصلحة.

وكما ذكرنا أن قول أهل السنة في ذلك: أن إرسال الرسل جعله الله - عز وجل - حجَّة على الناس كما في الآية، ولا يطلق القول بوجوبها ولا بإمكانها أو جوازها أو رد ذلك، بل يتبع في ذلك النص الوارد؛ لأن أفعال الله - عز وجل - والإيجاب عليه والتحريم إنما يكون من عنده - عز وجل.

مسألة: نبوة الأنبياء أو رسالة الرسل بم تحصل؟
وكيف يعرف صدقهم؟
وما الفرق بين النبي والرسول وبين عامة الناس أو من يدعي أنه نبي أو رسول أو من يأتي بالأخبار المغيبة أو يجري على يديه شيء من الخوارق؟

والجواب عن ذلك:
أن المتكلمين في العقائد نظروا في هذا على جهات من النظر.

ونقدم قول غير أهل السنة، ونبين لكم قولَ السلف وأهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة.

وهي من المسائل التي يقل تقريرها في كتب الاعتقاد مفصلة.

فنقول: إن طريقة إثبات نبوة الأنبياء وإرسال الرسل، للناس فيها مذاهب:
1- المذهب الأول:
أن الرسل والأنبياء لديهم استعدادات نفسية راجعةٌ إلى القوى الثلاث والصفات الثلاث؛ وهي السمع والبصر والقلب، فإنه يكون عنده قوةٌ في سمعه، فيسمع الكلام؛ كلام الملأ الأعلى، وعنده قوة في قلبه، فيكون عنده تخيلات، أو يتصور ما هو غير مرئي، وعنده بصر أيضًا قوي، يُبصر ما لا يبصره غيره.

وهذه طريقة باطلة، وهي طريقة الفلاسفة الذين يجعلون النبوة من جهة الاستعدادات البشرية، لا من جهة أنها وحي وإكرام واصطفاء من الله - جل جلاله.

2- المذهب الثاني:
قول من يقول: إن النبوة والرسالة طريق إثباتها والدليل عليها هو: المعجزات.

وهذا قول المعتزلة والأشاعرة وطوائف من المتكلمين، وتبِعهم ابن حزم وجماعة، وجعلوا الفرق بين النبي وغيره هو أن النبي يجري على يديه خوارق العادات.

فمنهم من التزم - وهم المعتزلة وابن حزم - أنه ما دام الفرق هو خوارق العادات - وهي المعجزات - فإذًا لا يثبت خارقٌ لغير نبي.

فأنكروا السحر والكهانة، وأنكروا كرامات الأولياء، وأنكروا ما يجري من الخوارق؛ لأجل ألا يلتبس هذا بهذا، وجعلوا ذلك مجرد تخييل في كل أحواله.

وأما الاشاعرة وغيرهم فجعلوا المعجزة والكرامة والسِّحر من جنس واحد (خارق للعادة)، وهذا باطل؛ فإن السَّحَرة لما تحدوا نبي الله موسى علموا أن ما كان على يد نبي الله موسى ليس من جنس باطلهم وسِحْرهم .

ومن عجائب مذهب الأشاعرة أنهم جعلوا دليل النبوة واحدًا فقط، وهو الخارق، ثم جعلوا هذا الخارق من جنس ما يفعله المشعوذون والسَّحرة.

وأخطؤوا في القضيتين شر الخطأ:
القضية الأولى: أن الدليل على صدق النبوة واحد، فهذا من أضعف الكلام، بل الأدلة لا تعد ولا تحصى لإثبات النبوة، وغيرُ قابلة للحصر في دليل يتيم.

أما القضية الثانية: فقد كان سحرة فرعون أعلمَ بها من الأشاعرة ومن نحا نحوهم، وهو أن ما جاء به السحرة باطلٌ وغير خارق للعادة، فلما جاء موسى بالحق عرَفوه ولم يلتبس عليهم ما كانوا يفعلون.

وهذه من طوام الأشاعرة في أعظم باب من أبواب أصول الدين، وقد أجاد شيخ الإسلام في الرد عليهم في كتاب "النبوات"؛ فراجعه.

فلا مقارنة بين المعجزة والكرامة، وبين ما يفعله السحرة والمشعوذون؛ فالأول خارق للعادة فعلاً، أما الثاني فكل من أضله الله يستطيع عمله، والله أعلم.

3- المذهب الثالث:
هو مذهب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح فيما قرره الأئمة وهو أن النبوة والرسالة دليلها وبرهانها متنوع، ولا يحصر القول بأنها من جهة المعجزات الحسية التي تُرى أو تجري على يدي النبي والولي.

فمن الأدلة والبراهين لإثبات النبوة والرسالة:
أولاً: الآيات والبراهين.

ثانيًا: ما يجري من أحوال النبي في خبره وأمره ونهيه وقوله وفعله مما يكون دالاًّ على صدقه بالقطع.

ثالثًا: أن الله - عز وجل - ينصر أنبياءه وأولياءه، ويمكِّن لهم، ويخذل مدعي النبوة، ويبيد أولئك، ولا يجعل لهم انتشارًا كبيرًا.

وهذه ثلاثة أصول:
أما الأول: فمعناه أن من قرر نبوة الأنبياء عن طريق المعجزات، فإننا نوافقهم على ذلك؛ لكن أهل السنة لا يجعلونه دليلاً واحدًا، لا يجعلونه دليلاً فردًا؛ بل يجعلونه من ضمن الدلائل على النبوة.

وهذا الدليل - وهو دليل المعجزات كما يسمى- يعبر عنه أهلُ السنة بقولهم: الآيات والبراهين؛ وذلك لأن لفظ (المعجزة) لم يرِدْ في الكتاب ولا في السنة، وإنما جاء في النصوص: الآيةُ والبرهان: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 8]، ﴿ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ﴾ [النمل: 12]، وقال ﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [القصص: 32]، ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 111]، ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أن ما يؤتاه الأنبياء والرسل إنما هو آيات وبراهين.

وبعض أهل العلم جعل لفظ "المعجز" نتيجة عن أن آية النبي وبرهانَ النبوة معجز، لكن لفظ الإعجاز فيه إجمال.

وذلك لأنه معجز لمن؟ فيه إجمال وفيه إبهام.

فإعجازٌ ما يحصُل، لمن هو معجز؟

فإذا قلنا: معجز لبني جنسه، فهذا حال، معجز لبني آدم، فهذا حال، معجز للجن والإنس، فهذا حال، معجز لكافة الورى، فهذا حال.

ولهذا جعل المعتزلة والأشاعرة في الخلاف ما بينهم في المعجزات جاءت من هذه الجهة:
أن لفظ معجز اختلفوا فيه، معجز لمن؟

ولهذا نعدل عن لفظ الإعجاز إلى لفظ الآية والبرهان.

ونقول: الآية والبرهان التي يؤتاها الرسولُ والنبي للدلالة على صدقه تكون معجزة للجن والإنس جميعًا.

فما آتاه الله - عز وجل - محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يكون معجزًا للجن والإنس جميعًا، كما قال - تعالى -: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88].

أما إعجاز بعض الإنس دون بعض، أو الإنس دون الجن، فهذا هو الذي يدخل في الخوارق، ويدخل في أنواع ما يحصل على أيدي السحرة والكهنة، وما أشبه ذلك.

أما الفرق بين الآية والبرهان الدال على صدق النبي مع ما يؤتاه أهل الخوارق أنه: هل هو معجز لعامة الجن والإنس أم لا؟

فإن كان معجزًا لعامة الجن والإنس فهو دليل الرسالة والنبوة.

هذه الآيات والبراهين التي آتاها الله - عز وجل - محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أنواع:
النوع الأول: منها القرآن، وهو حجة الله - عز وجل - وآيتُه العظيمة على هذه الأمة، فتحدى اللهُ - عز وجل - به الجنَّ والإنس، ولم يستطيعوا ذلك مع أنهم متميزون في الفصاحة والبلاغة وأشباه ذلك.

فإذًا الآية والدليل الأول هو القرآن العظيمُ، وهو الحجة الباقية.

النوع الثاني: آيات وبراهين سمعية؛ يعني تكون دالة من جهة ما يسمع، ومن ذلك:
تسبيح الحصى، تسبيح الطعام على عهده - صلى الله عليه وسلم؛ كما روى البخاري في الصحيح أن ابن مسعود قال: "كنا نسمع تسبيح الطعام ونحن نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"[24].

النوع الثالث: آيات وبراهين راجعة إلى البصر، وهو ما يُبصَر من أشياء لا تحصل لغيره؛ بل هي آية وبرهان على عجز الثَّقلين عن ذلك، مثل نبع الماء مِن بين أصابعه، ومثل حركة الجمادات، وأشباه ذلك.

النوع الرابع: أدلة وبراهين، فيها نطق ما لم ينطق، وهذه تشمل الأول "المسموعة"، وتحرُّك ما لم يتحرك بالعادة، ويشمل حركة الجمادات، وشعور من لا يعرف بشعوره، وهذه إنما يخبِر عنها نبيٌّ، وتحصل للرسل والأنبياء، مثل: "حنين الجذع"[25]، وتسليم الحجر، وأشباه ذلك، هذا نوع، وهو الآيات والبراهين.

أما الثاني: هو أن الرسول يأتي بخبر وأمْر ونهي، وللرسول قول وفعل، فهذه خمسة أشياء.

وهذا النوع من الدلائل أهمُّ من الدلائل التي ذكرت لك من قبل، عدا القرآن فهو أعظم الأدلة؛ وذلك أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - جاء بأخبار، هذه تصدق على جميع النبوات والرسالات:
• جاء بخبر عن الله - عز وجل - وهذا الخبر: منه ما يتعلق بالماضي، ومنه ما يتعلق بالحاضر، ومنه ما يتعلق بالمستقبل.

• وجاء بأمر ونهي، وهذا الأمر والنهيُ هو ما يدخل في الشريعة، والأوامر متنوعة، والنواهي متنوعة.

• وجاء بأقوال هو قالها في التبليغ، وأفعال له.

وكل هذه بمجموعها تدل الناظر على أن من قال وأخبر عن الله وفعل وأمر ونهى أنه صادق فيما قال؛ لأن كل مدَّعٍ للخبر والأمر والنهي، وله أقوال وله أفعال، وليس على مرتبة النبوة فلا بد أن يظهر لكل أحد كذبُه فيما ادعاه، وتناقضَه في أقواله وأفعاله، وضعْفَ أمره ونهيه، وعدم صلاحه وأشباه ذلك.

ولهذا جعل الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الكمال فيما أخبر به، وفيما أمر به، وفيما نهى، وفي أقواله وأفعاله، فجعل اتباعه في الأقوال والأفعال اتباعًا مأمورا به: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]، وقال: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21]، وجعل ما يخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كخبر الله - عز وجل - لأنه لا ينطق عن الهوى، ونحو ذلك.

فاستقام أمره - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأمور الخمسة، ولم يعرف أن أحدًا طعن في شيء من هذه الأشياء واستقام على طعنه ولم يستسلم؛ بل كل من طعن في واحد من هذه الأشياء فإنه آل به أمره إلى الاستسلام، أو أن يكون طعنه مكابرة دون برهان.

لهذا نقول: إن هذا الدليل من أعظم الأدلة التي تفرق بين الرسول والنبي الصادق، وبين مدعي النبوة؛ فإن الرسول له أحوال كثيرة، يسمع في أقواله، يرى في أفعاله، أوامره ونواهيه جاءت بماذا؟ أخباره جاءت بماذا؟

ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن أشياء حدثت في الماضي لم يكن العربُ يعرفونها، وجاء تصديقها من أهل الكتاب، وما كان يقرأ - صلى الله عليه وسلم - كتبَ أهل الكتاب، وجاء بأخبار عما سيحصل مستقبَلاً، وجاء بأخبار عما سيحصل بين يدي الساعة، وحصلت بعده - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فشيئًا، منها ما حصل بعد موته سريعًا، ومنها ما يحصل شيئًا فشيئًا، ومنها ما سيحصل بين يدي الساعة، وكل هذه الأخبار في تصديقها دالةٌ على أنه لا يمكن أن يعطاها إلا نبيٌّ.

كذلك ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - وما نهى عنه فهو موافق للحكمة البالغة التي يعرفها أهلُ الدين، ويعرفها أهل العقل الراجح، حتى إن الحكماء شهدوا في الزمن الماضي وفي الزمن الحاضر بأن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي شريعة ليس فيها خلل، لا من جهة الفرد في عمله، ولا من جهة التنظير في المجتمع بعامة.

وكذلك ما في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - فكان - صلى الله عليه وسلم - له المقام الأكمل في التخلص من الدنيا والبعد عن الرفعة - يعني والترفع على الناس - بل كان - صلى الله عليه وسلم - أكمل الناس في هديه وفي تواضعه، وفي قوله، وفي عمله - صلى الله عليه وسلم - وكان أكملَ الناس في عبادته، وكل دعوى لمن ادعى النبوة فلا بد أن يظهر فيها خللٌ في هذه الأشياء.

أيضًا هو - صلى الله عليه وسلم - تحدى الناسَ في قوله فيما أتى به، وأخذ يدعو - كما يظهر لك من قصة هرقل مع أبي سفيان وسؤالات هرقل لأبي سفيان - وأخذ يدعو غيرَ ملتفت لخلاف من خالف، والناس يَزيدون وأعداؤه ينقصون، وهذا مع تطاول الزمن، ونصر الله - عز وجل - له؛ فإن هذا دليل على صدقه فيما أخبر، وفي أمره ونهيه وقوله وفعله - صلى الله عليه وسلم.

أما الثالث - كما ذكرنا - فجنس أجناس الأدلة: وهو أن الله - عز وجل - صاحب الملكوت، وهو ذو الملك والجبروت، وهو الذي ينفذ أمره في بريته، فمحال أن يأتي أحد ويدعي أنه مرسل من عند الله، ويصف الله - عز وجل - بما يصفه به، ويذكر الخبر عن الله وأسمائه ونعوته، ثم هو في ملك الله - عز وجل - يستمر به الأمر إلى أن يشرع ويأمر وينهى، وينتشر أمره، ويغلب من عاداه، ويسود في الناس، ويرفع ذكره دون أن يعاقَب؛ ولهذا قال - عز وجل - في بيان هذا البرهان: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [الحاقة: 44 - 47]، لو كانت الدعوة في ملك الله - عز وجل - وهذا يدعي أنه مرسل ونبي، ويأتي بأشياء يقول هي من عند الله؛ فإن مالك المُلك لا يتركه وحاله، بل ربما جعل ذلك ابتلاءً وامتحانًا للناس، ولكن لا يُنصر وتكونُ شريعته هي الباقيةَ، ويكون ذكره هو الذي يبقى، ويكون خبره عن الله وعن أسمائه وصفاته ودينه وشرعه وعن الأمم السالفة وعما يحصل هو الذي يبقى في الناس؛ فإن هذا مخالفٌ لقول الله - عز وجل - ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [الحاقة: 44 - 47]، والمشركون لما كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30]؛ لأن السنة ماضية عند العقلاء أن الذي يدعي على الله - عز وجل - فإنما يُتربَّص به الهلاكُ والإفناء.

﴿ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [الطور: 30]، فجاء البرهان ﴿ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴾ [الطور: 31]؛ لأن هذا برهان صحيح، فتربصوا فإني معكم من المتربصين، وقد صدقتم في هذا البرهان؛ لأنه لو كان - كما تقولون - كاذبًا؛ فإنه يُتربَّص به ريبُ المنون، وأن يهلكه الله - عز وجل -، وأن يجعله عبرةً لمن اعتبر.

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء والمرسلين جعلهم الله - عز وجل - حملةً لرسالته، وشرَّفهم، ورفع ذِكرهم، ونصرهم بين الناس؛ ولهذا تجد أن الرسالات هي الباقية في الناس، رسالة موسى - عليه السلام - ورسالة إبراهيم ورسالة عيسى عليه السلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكل واحدة منها دخلها من التحريف ما دخلها؛ فأتباع إبراهيم حرَّفوا في دينهم حتى أصبحوا على غيرِ ملة إبراهيم، وأتباع موسى من اليهود الآن على غير دين موسى، وأتباع عيسى - عليه السلام - الآن على غير دين عيسى، وأتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - هم الذين حفظهم الله - عز وجل - وجعل منهم طائفةً ظاهرين بالحق يقومون به إلى قيام الساعة.

مسألة أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بشَرٌ يجوز في حقهم ما يجوز في حق البشر مما هو من الجِبلَّة والطبيعة:
ولهذا في القرآن يكثر وصفهم بأنهم بشَر، وأن محمدًا[26] - صلى الله عليه وسلم - بشَر، لكن يوحى إليه.

وأما من جهة الذنوب والآثام، أو نجعل البحث هذا - يعني رأس المسألة - منقسمًا إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول من حيث الأمراض والعاهات:
فعند أهل السنة والجماعة أن الرسل والأنبياء يُبتلون ويمرضون مرضًا شديدًا، وعند الأشاعرة أنهم يمرضون ولكن بمرض خفيف، ولا يمرضون بمرض شديد.

هذا غلط بيِّن؛ فإن ابن مسعود دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، إني أراك تُوعَك - يعني فيك حمى شديدة - قال: ((أجل، إني أُوعَك كما يُوعَك رجلانِ منكم))، قال ابن مسعود: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: ((نعم))[27] إلى آخر الحديث، والأنبياء يضاعف عليهم، أو يشتد عليهم البلاء بأنواع.

فإذًا من جهة الأمراض والأسقام التي لا تؤثر على التبليغ وصحة الرسالة؛ فإنهم ربما ابتُلوا في أجسامهم وأبدانهم بأمراض متنوعة شديدة.

القسم الثاني: من جهة الذنوب:
فالذنوب قسمان كبائر وصغائر:
• والكبائر جائزة فيما قبل النبوة، ممنوعة فيما بعد النبوة والرسالة؛ فليس في الرسل من اقترف كبيرة بعد النبوة والرسالة أو تقحمها - عليهم الصلاة والسلام - بخلاف من أجاز ذلك من أهل البدع.

• أما الصغائر؛ فمنع الأكثرون فِعل الصغائر من الأنبياء والرسل، والصواب أن الصغائر على قسمين:
أ- صغائر مؤثرة في الصدق؛ في صدق الحديث، وفي تبليغ الرسالة، وفي الأمانة، فهذه لا يجوز أن تكون في الأنبياء، والأنبياء منزَّهون عنها؛ لأجل أنها قادحة أو مؤثرة في مقام الرسالة.

ب- والثاني من الأقسام: صغائر مما يكون من طبائع البشر في العمل أو في النظر أو فيما أشبه ذلك، أو من جهة النقص في تحقيق أعلى المقامات، فهذه جائزة، ولا نقول واقعة؛ بل نقول جائزة، والله - عز وجل - أنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [الفتح: 1، 2] الآية؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - غَفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وكمعصية آدم - عليه السلام - عندما أكل من الشجرة، وغيرها.

مسألة أن الرسول والنبي لهم شروط أو أوصاف عامة جاءت في القرآن والسنة:
أولاً: أن الرسول يكون ذكرًا، وكذلك الأنبياء ذكور، فليس في النساء رسولة ولا نبية، وإنما هم ذكور، وفي المسألة بيان سوف أذكره - إن شاء الله.

ثانيًا: أنهم من أهل القرى؛ يعني ممن يسكنون القرى، ويجتمعون، وليسوا من أهل البادية؛ يعني ممن يبدون؛ كما جاء في آية يوسف[28].

ثالثًا: أن الرسول لا بد أن يكذَّبَ، فلم يأتِ رسول إلا وكُذِّب؛ كما قال - عز وجل -: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [يوسف: 110].

8- نبوة النساء[29]:
ذهب بعض العلماء إلى نبوة بعض النساء، مثل مريم بنت عمران، ومنهم من يقول: حواء وسارة وأم موسى وهاجر وآسية.

وممن ذهب إلى ذلك أبو الحسن الأشعري والقرطبي وابن حزم - عليهم رحمة الله[30].

واستدلوا بأدلة، منها:
1- أن الله أخبر في القرآن أنه أوحى إلى أم موسى؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7].

فقالوا: إن كل من أُوحي إليه بأمر أو نهي أو إعلام فهو نبي.

2- أن الله أرسل جبريل إلى مريم فخاطبها؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾ [مريم: 17 - 19].

فقالوا: إن كل من جاءه الملَك عن الله بحُكم من أمر أو نهي أو إعلام فهو نبي[31].

3- أن الله اصطفى مريم على العالَمين؛ كما في قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42].

4- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بكمال بعضهم؛ كما في حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كمل من الرجال كثيرٌ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإنَّ فضْل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) [32].

قالوا: الذي يبلغ مرتبة الكمال هم الأنبياء.

وقد رد أصحاب هذا القول على الآية التي تحصر الرسالة في الرجال دون النساء؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [يوسف: 109]، وفي قوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].

قالوا: نحن لا نخالف في ذلك؛ فالرسالة للرجال، أما النبوة فلا يشملها النص القرآني، وليس في نبوة النساء تلك المحذورات التي عددتموها فيما لو كان من النساء رسول؛ لأن النبوة قد تكون قاصرة على صاحبها يعمل بها، ولا يحتاج إلى أن يبلغها إلى الآخرين.

وقد ذهب جمهور العلماء - كما نقل ذلك القاضي عياض - إلى عدم القول بنبوة النساء، وهو الراجح، وقد ردوا على أدلتهم بما يلي:
1- أننا لا نسلِّم لهم أن النبي غيرُ مأمور بالتبليغ والتوجيه ومخالطة الناس، والذي اخترناه ألا فرق بين الرسول والنبي في هذا، والفرق واقعٌ في غير هذا الأمر كما سبق الإشارة إليه في ثنايا البحث.

2- أن وحي الله إلى هؤلاء النسوة إلهامٌ، وهذا يقع لغير الأنبياء، كذلك ورد الوحيُ للنحل؛ كما في قوله: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ [النحل: 68].

ويلزم من قولهم هذا نبوة حواري عيسى عليه السلام، قال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ [المائدة: 111].

وبيان هذا: أن الوحي في القرآن يأتي على أكثرَ من معنى، منها: أن يكون بالإلهام؛ كما في حق أم موسى وغيرها من النساء، وكما في حق الحواريين.

ويأتي بمعنى الإيماء والإشارة؛ كما قال - تعالى - في حق زكريا - عليه السلام - مع قومه: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾[مريم: 11].

3- لا نسلِّم لهم أن كل من خاطبتْه الملائكة فهو نبي؛ ففي الحديث أن اللهَ أرسل ملَكًا لرجل يزور أخًا له في قرية أخرى؛ فعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد اللهُ له على مدرجته ملَكًا، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسولُ الله إليك بأن اللهَ قد أحبك كما أحببتَه فيه)) [33].

وكما في قصة الأقرع والأبرص والأعمى، وقد جاء جبريل في صورة رجل يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابةُ يشاهدونه ويسمعونه.

4- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توقَّف في نبوة ذي القرنين؛ فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أدري، تُبَّع أنبيًّا كان أم لا؟ وما أدري ذا القرنين أنبيًّا كان أم لا؟ وما أدري الحدود كفَّارات لأهلها أم لا؟)) [34].

مع أن الله أخبر في القرآن بأنه أوحى إليه، قال - تعالى -: ﴿ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ﴾ [الكهف: 86].

5- أما عن النصوص الدالة على اصطفاء الله لمريم؛ فالله قد صرح بأنه اصطفى غير الأنبياء؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32]، وكما في قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33].

ومعلوم أن من آل إبراهيم وآل عمران مَن ليس بنبي جزمًا.

6- أما ما ورد من لفظ الكمال؛ فالمراد بلوغ الكاملات في جميع الفضائل التي للنساء، وليس المراد كمال الأنبياء.

7- ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فاطمةُ سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران))[35].

وهذا يُبطل القول بنبوة من عدا مريم؛ كأم موسى وآسية؛ لأن فاطمة ليست بنبيَّةٍ جزمًا، وقد نص الحديث على أنها أفضل من غيرها، فلو كانت أم موسى وآسية وحواء ثبتت لهن النبوة لَكُنَّ أفضلَ من فاطمة.

الحكمة من كون الرسل رجالاً:
1- أن الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة، ومخاطبة الرجال والنساء، ومقابلة الناس في السر والعلانية، والتنقل في فجاج الأرض، ومواجهة المكذبين، ومحاججتهم، ومخاصمتهم، وإعداد الجيوش، وقيادتها، وكل هذا يناسب الرجال دون النساء.

2- الرسالة تقتضي قوامة الرسول على من يتابعه، فهو في أتباعه الآمر الناهي، وهو الحاكم القاضي، وهذا أيضًا مناسب للرجال دون النساء.

أن المرأة يطرأ عليها ما يعطِّلها عن كثير من الوظائف والمهمات؛ كالحيض والنفاس والولادة.

مباحث النبوة والرسالة كثيرةٌ متنوعة، وهذه بعض المسائل المتعلقة بها، وقد لا تجد ذلك مجموعًا في موضع واحد.

ولاشك أن هذا البحث - خاصة دلائل النبوة - بحث مهم، واعتنى به أئمة السنة والسلف، وصنف فيه عددٌ من العلماء في دلائل النبوة وفي آيات وبراهين النبي محمد صلى الله عليه وسلم[36].

وصلى اللهُ على محمد وآله وصحبه وسلم.

[1] نقلاً من كتاب: ماذا يعني انتمائي لأهل السنة والجماعة؛ لشيخنا عادل بن يوسف العزازي.
[2] هو عبدالله بن بري بن عبدالجبار المقدسي المصري (499 - 582 هـ)، نحوي لغوي، من مصنفاته: اللباب في الرد على ابن الخشاب، وحواشٍ على الصحاح لم يكملها؛ انظر: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، جلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، مطبعة عيسى الحلبي، مصر، 1384 هـ - 2 / 34.
[3] هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبدالله الديلمي، المعروف بالفراء (140 - 207 هـ)، كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، له مصنفات عدة، منها: معاني القرآن، اللغات والمصادر في القرآن، النوادر؛ انظر: بغية الرعاة، 2 / 333.
[4] لسان العرب، جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري، ط دار صادر بيروت، مادة نبأ، 1/ 162 - 163.
[5] النبوات؛ لابن تيمية، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، 1985، ص336 - 337.
[6] لسان العرب، مادة رسل 11 / 283 - 284.
[7] انظر: أصول الدين؛ لعبدالقاهر بن طاهر البغدادي، ط3، دار الكتب العلمية، بيروت، 1401هـ، ص154.
[8] نقلاً من رسالة: محبة الرسول بين الاتباع والابتداع.
[9] قلت - أبو البراء -: وعند بعض غلاة الصوفية أن الوليَّ أفضلُ من الرسل والأنبياء؛ مستدلين على ذلك بقصة الخضِر مع موسى - عليهم السلام – ظنًّا منهم أن الخضر - عليه السلام - ولِيٌّ، والصواب - والله أعلم - أنه نبيٌّ؛ لأدلة، منها: أنه قال في آخر كلامه فيما حكاه الله عنه: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ [الكهف: 82]، أما مراتب المكلفين عند أهل السنة والجماعة، هي: "طبقة أولي العزم من الرسل، ثم طبقة ما عداهم من الرسل، ثم طبقة الأنبياء، ثم طبقة العلماء، ثم طبقة أئمة العدل، ثم طبقة المجاهدين في سبيل الله، ثم طبقة أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى الناس، ثم طبقة مَن فتح اللهُ له بابًا من أبواب الخير، القاصر على نفسه؛ كالصلاة والحج، ثم طبقة أهل النجاة، وهم من يؤدي فرائضَ الله، ويترك محارم الله، ثم طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم عدا الكبائر، ورزقهم الله التوبةَ النصوح قبل الموت، ثم طبقة قوم خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا، ثم طبقة قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، ثم طبقة أهل المحنة والبلية، ثم طبقة قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ثم طبقة الزنادقة، ثم طبقة رؤوس الكفر، ثم طبقة المقلِّدين، ثم طبقة الجن، ومنهم المؤمن والكافر والبار والفاجر؛ هكذا عدهم ابن القيم بنفس الترتيب المذكور، في كتابه: "طريق الهجرتين" ثمان عشرة طبقة (ص376 - ص 439) فلينظر.
[10] المسند (5/22342)، المعجم الكبير (7871)، مصنف ابن أبي شيبة (35933)، شُعَب الإيمان (130)، وصحَّحه الألباني في الصحيحة "2668".
[11] القائل: الشيخ صالح آل الشيخ.
[12] قلت - أبو البراء -: الحديث صححه الألباني في مشكاة المصابيح (5737).
[13] تفسير البيضاوي (4/133).
[14] أخرجه مسلم في الذِّكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع (2710) من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه.
[15] تفسير القرطبي (7/298).
[16] تفسير النسفي (3/108).
[17] فتح القدير (3/461).
[18] النبوات (ص: 281).
[19] قلت - أبو البراء -: مما يدل على ذلك أن نوحًا - عليه السلام - أول الرسل كما سبق، ومع ذلك لم يرسَل بكتاب، والله أعلم.
[20] البخاري (5705)/ مسلم (549)
[21] أبو داود (3641)/ الترمذي (2682)/ ابن ماجه (223)،حسنه الألباني في المشكاة"15"
[22] نقلاً من شرح العقيدة الطحاوية للشيخ عبدالعزيز الراجحي.
[23] قلت - أبو البراء -: قد يقال: إن الرسول والنبي إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا؛ أي: إذا اجتمعا في الموضع افترقا في المعنى، وإذا افترقا في الموضع اجتمعا في المعنى - كما يقال في الإسلام والإيمان - وكما يقال في الفقير والمسكين، والله أعلم.
وهذا رأي الشيخ العثيمين أن كل من ذُكر في القرآن من الأنبياء فهو رسول، ورجح أن الفرق بينهما أن الرسول أُوحي إليه بشرع جديد وأُمِر بتبليغه والعمل به، بينما النبي أوحي إليه بشرع، ولم يُؤمَرْ بتبليغه، وإنما يعمل به في نفسه.
(قلت): وهذا منتقد؛ لأنه ثبت أن الأنبياء كانوا يبلغون الناس؛ كداود وزكريا ويحيى، كما ورد في الحديث: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياءُ، كلما مات نبيٌّ خلَفه نبيٌّ))؛ البخاري (3455)، مسلم (1842)، وقد رجح شيخي العزازي هذا القول في "ماذا يعني انتمائي لأهل السنة والجماعة"؛ أي: إن النبي يأمر أيضًا بالتبليغ، ورجح أن الفرق بينهم هو الوحي بشرع جديد للرسول، أما النبي فيوحى إليه بشرعِ من قبله، وهذا أيضًا فيه نظر؛ لِما ثبت في الآية أن يوسفَ رسول ولم يأت بشرعٍ جديد، والله أعلم.
[24] البخاري (3579)/ الترمذي (3633).
[25] البخاري (3585)/ الترمذي (505)/ ابن ماجه (1414).
[26] حديث متفق عليه من حديث عبدالله بن مسعود.
[27] أخرجه البخاري: باب أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل (5648)، ومسلم: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها.
[28] قلت - أبو البراء -: يشير إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يوسف: 109].
[29] نقلاً من كتاب الرسل والرسالات ( 82 - 88)؛ للأستاذ الدكتور عمر بن سليمان الأشقر - رحمه الله - بتصرف واختصار وزيادة.
[30] انظر: فتح الباري (6/447 - 448، 6/473)، وانظر: لوامع الأنوار البهية (2/266).
[31] فتح الباري (6/447).
[32] متفق عليه؛ البخاري (3769)، ومسلم (2431).
[33] مسلم (2567).
[34] الحاكم (104) في المستدرك، والبيهقي (8/329)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5524).
[35] الحاكم في المستدرك (6837)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (796).
[36] نقلاً من شرح العقيدة الطحاوية - للشيخ صالح آل الشيخ.



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/47223/#ixzz2dYKCX3Kp
رد مع اقتباس