عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 2010-03-05, 02:19 PM
طالب عفو ربي طالب عفو ربي غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2009-02-28
المشاركات: 716
افتراضي " الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ القُرْآنَ . خَلَقَ الإِنسَانَ . ‏عَلَّمَهُ البَيَانَ ‏" ‏(الرحمن:1-4).

" الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ القُرْآنَ . خَلَقَ الإِنسَانَ . ‏عَلَّمَهُ البَيَانَ ‏" ‏(الرحمن:1-4).


الآيات القرآنية الكريمة جاءت في مطلع سورة الرحمن‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ وعدد آياتها‏(78)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم الكريم من أسماء الله الحسنى لاستهلالها به‏,‏ ولما تضمنته من لمسات رحمته‏,‏ وعظيم آلائه التي من أبرزها‏ تعليم القرآن‏,‏ وخلق الإنسان، وتعليمه البيان‏.‏
وفي بعض التفاسير جاءت الإشارة إلى أن نسق السورة تغلب عليه سمات القرآن المكي لدوران محورها الرئيسي حول قضية العقيدة وفي مقدمتها الإيمان بالله ـ تعالى ـ الرحمن‏
,‏ معلم القرآن‏,‏ خالق الإنسان ومعلمه البيان‏,‏ وعدم التكذيب بأيٍ من آلائه التي ينطق بها جميع خلقه إلا عصاة كلٍِ من الإنس والجن‏,‏ ولذلك جاء الاستفهام الاستنكاري التوبيخي التقريري التقريعي للمكذبين بتلك الآلاء عقب الإشارة إلى كلٍ منها، وذلك بقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ‏:" فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ "‏.‏
وقد جاء هذا الاستفهام إحدى وثلاثين مرة في ثنايا سورة الرحمن، أي بنسبة ‏40%‏ تقريباً من مجموع آياتها‏ في تقريع شديد‏,‏ وتبكيت واضح للمكذبين بآلاء الله وأفضاله من الخلق المكلفين‏ ـ‏ الجن والإنس‏ ـ‏ أي‏:‏ فبأي آلاء الله تكذبان يا معشر الجن والإنس؟، ونعم الله الخالق ظاهرة عليكم كما هي ظاهرة على جميع الخلق من حواليكم‏ ؟,‏ لا يستطيع عاقل إنكارها، وقد أقر بها مؤمنو الجن حين استمعوا إلى سورة الرحمن تتلى عليهم‏,‏ففي رواية لكلٍ من الترمذي والحاكم والبزار عن جابر وابن عمر ـ رضي الله عنا وعنهم أجمعين ـ قال‏:‏ قرأ علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال‏:‏"مالي أراكم سكوتا‏ًً.‏ لَلجِنُّ كانوا أحسن منكم ردا‏ًً,‏ ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة‏:‏ ‏" فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏" إلا قالوا‏:‏ لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد‏ ". وكان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يقول كلما سمع هذه الآية الكريمة‏:‏ لا بأيها يا رب، أي لا نكذب بشيء من آلائك ونعمك يا ربنا‏.‏

وقد استعرضت سورة الرحمن عدداً من آيات الله الكونية المبهرة للاستدلال على عظيم آلائه‏
,‏ وعلى عميم أفضاله على جميع خلقه‏,‏ ومن ذلك جريان كلٍ من الشمس والقمر بحساب محكم دقيق‏‏ في رمزية واضحة لدقة حركات كل أجرام السماء‏,‏ وكل ما في الوجود من موجودات‏,‏ وخضوعها بالطاعة والعبادة والسجود لله حتى النجم والشجر‏,‏ ورفع السماء بغير عمد مرئية‏,‏ ووضع ميزان العدل بين الخلائق‏,‏ وأمر العباد بألا يطغوا في الميزان‏,‏ وأن يقيموا عدل الله ـ تعالى ـ في الأرض في جميع معاملاتهم، وألا ينقصوا الميزان‏,‏ وخلق الأرض وتهيئتها لاستقبال الحياة‏,‏ وفيها من النباتات وثمارها ومحاصيلها ما يشهد على ذلك‏,‏ وخلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار‏,‏ وتكوير الأرض وجعلها تدور على محورها بانتظام أمام الشمس، والتعبير عن هذه الحقيقة بوصف الحق ـ تبارك وتعالى ـ ذاته العلية بأنه‏:" رَبُّ المَشْرِقَيْنِوَرَبُّ المَغْرِبَيْنِ "(الرحمن:17),‏ ومرج مختلف أنواع الماء في البحار والمحيطات دون اختلاط وامتزاج تامين‏,‏ وإخراج كلٍ من اللؤلؤ والمرجان منها‏,‏ وجري السفن العملاقة فيها وهي تمخر عباب مائها وكأنها الجبال الشامخات‏,‏ وحتمية الفناء على جميع المخلوقات مع وجود الله ـ تعالى ـ وجوداً أبدياً أزلياً مطلقاً لا يحده أيٌ من المكان أو الزمان؛ لأنه ـ سبحانه وتعالى ـ هو خالق كلٍ منهما وخالق كل شيء‏,‏ فهو صاحب الجلال والإكرام‏,‏ الحي القيوم‏,‏ الذي لا يموت ولا يفوت‏,‏ والذي هو كل يوم في شأن مختلف‏.‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
" الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ القُرْآنَ . خَلَقَ الإِنسَانَ . عَلَّمَهُ البَيَانَ . الشَّمْسُوَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ . وَالنَّجْمُوَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ . وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَاوَوَضَعَ المِيزَانَ . أَلاَّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ . وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِوَلاَتُخْسِرُوا المِيزَانَ . وَالأَرْضَوَضَعَهَا لِلأَنَامِ . فِيهَا فَاكِهَةٌوَالنَّخْلُ ذَاتُالأَكْمَام . وَالْحَبُّ ذُو العَصْفِوَالرَّيْحَانُ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ . وَخَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . رَبُّ المَشْرِقَيْنِوَرَبُّ المَغْرِبَيْنِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ . بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُوَالْمَرْجَانُ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . وَلَهُ الجَوَارِ المُنشَآتُ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَىوَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِوَالإِكْرَامِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏ "(الرحمن‏:1‏ ـ‏30).
ثم تنتقل السورة الكريمة إلى التأكيد على مركزية الأرض من الكون الشاسع الأبعاد‏
,‏ والأرض لا تمثل شيئاً يذكر إذا قورنت بأبعاد الكون على الرغم من ضخامة حجمها‏.‏
وتتحدى الآيات كلاً من الجن والإنس أن ينفذوا من أقطار السماوات والأرض مع التأكيد على أنهم لن يستطيعوا ذلك أبداً إلا بسلطان من الله ـ تعالى ـ‏‏ وأن مجرد محاولة ذلك بغير هذا التفويض الإلهي سوف يعرض المحاول إلى الرجم بشواظ من نار ونحاس فلا ينتصر في محاولته أبدا‏ًً،‏ وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ‏
:‏
" سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يَا مَعْشَرَ الجِنِّوَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍوَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏ " (‏الرحمن‏:31‏ ـ‏36).
ثم تنتقل سورة الرحمن إلى الحديث عن الآخرة وأهوالها، وعن مصائر المجرمين من الكفار والمشركين فيها فتقول‏
:‏
" فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْوَرْدَةً كَالدِّهَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌوَلاَجَانٌّ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِيوَالأَقْدَامِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . هَذِهِ جَهَنَّمُ الَتِي يُكَذِّبُ بِهَا المُجْرِمُونَ . يَطُوفُونَ بَيْنَهَاوَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ "(‏الرحمن‏:37‏ ـ‏45).‏
وهذه الآيات تقرر أن من علامات الآخرة‏ انشقاق السماء على هيئة الوردة المدهنة كالمهل الأحمر‏
,‏ ومنها معرفة المجرمين بعلامات في وجوههم من الزرقة والسواد‏,‏ وتصف الآيات جانباً مما سوف يلقونه من عذاب‏,‏ ومن مختلف صور الإذلال والمهانة‏‏ وهم يطوفون بين جهنم وبين جحيم آن‏،‏ أي‏‏ ماء في حالة الغليان من شدة الحرارة‏.‏
ثم تقابل الآيات ذلك بنعيم المحسنين في جنات الخلد فتقول‏
:‏
" وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . ذَوَاتَا أَفْنَانٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍوَجَنَى الجَنَّتَيْنِ دَانٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْوَلاَجَانٌّ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُوَالْمَرْجَانُ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ "(‏الرحمن‏:46‏ ـ‏61).‏
وتضيف الآيات مزيداً من فضل الله على عباده الذين يخشونه فتقول‏
:‏
" وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . مُدْهَامَّتَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِمَا فَاكِهَةٌوَنَخْلٌوَرُمَّانٌ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْوَلاَجَانٌّ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍوَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ "‏(‏الرحمن‏:62‏ ـ‏77).‏
أي‏‏ أن من دون الجنتين السابقتين جنتين أخريين‏
,‏ اشتدت خضرة زرعهما حتى مال إلى السواد‏,‏ وفيهما عينان فوارتان بالماء الذي لا ينقطع‏,‏ وفاكهة من صنوف مختلفة ونخل ورمان، وقد أفردا بالذكر عن بقية الفواكه لفضل ثمارهما على غيرهما من الثمار الأخرى لما أودع الله ـ تعالى ـ فيها من مزايا بدأ العلم في تلمسها، من مثل السكريات سهلة الاحتراق‏,‏ والعناصر والمركبات الهامة ـ مثل الكالسيوم والحديد والفوسفور ـ والأحماض والفيتامينات، وبعض البروتينات والدهون‏.
وتختتم السورة الكريمة بآية تقول فيها‏
:‏
" تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِوَالإِكْرَامِ "‏(‏الرحمن‏:78)‏ أي‏‏ تعالى وتنزه اسم ربك يا محمد، فربك له العظمة المطلقة والسمو المطلق فوق جميع خلقه‏,‏ والتنزيه الكامل فوق كل ما لا يليق بشأنه العظيم‏,‏ وتعالت صفاته‏,‏ وكثرت خيراته، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ هو صاحب العظمة المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ وصاحب الإنعام والجود والفضل عليهم أجمعين، فله الحمد حمداً يليق بجلاله، وله الشكر على نعمائه حتى يرضى‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة الرحمن:‏(1)‏ الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ هو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما‏.‏
‏(2)‏ اليقين بأن الله ـ تعالى ـ هو الذي أوحى بالقرآن الكريم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلمه إياه‏
,‏ وهو ـ سبحانه وتعالى ـ يفتح على من يشاء من عباده بتيسير حفظ هذا الوحي الخالد وفهم دلالاته واستشراف معانيه‏.‏
‏(3)‏ التسليم بأن الله ـ تعالى ـ خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار‏
,‏ وأنه ـ سبحانه وتعالى ـ خالق كل شيء بعلمه وقدرته وحكمته‏,‏ وعلى ذلك فهو وحده المستحق للخضوع لجلاله بالطاعة والعبادة‏.‏
(4)‏ التصديق بأن الله ـ تعالى ـ علم الإنسان النطق والبيان‏
,‏ وجهَّزه بكل ما يلزم لذلك‏,‏ وأن أبانا آدم ـ عليه السلام ـ خلق ناطقاً مبينا‏ًً,‏ عالماً عابدا‏ًً,‏ نبياً معلما‏ًً,‏ على عكس ما يعتقد علماء الدراسات الإنسية المكتسبة‏.‏
‏(5)‏ الإيمان بأن كلاً من الشمس والقمر وباقي أجرام الكون وجميع ما فيه يجري بدقة متناهية‏
,‏ ويسجد لخالقه ويسبح بحمده إلا عصاة الإنس والجن‏.‏
‏(6)‏ اليقين بأن الله ـ تعالى ـ هو الذي رفع السماوات بغير عمد مرئية‏
,‏ وهيأ الأرض لتكون صالحة لحياة الناس ومماتهم‏,‏ وزودها بمصادر رزقهم‏,‏ ووضع العدل بين الناس فريضة ربانية‏,‏ وأمر الناس جميعاً بإحقاق الحق والوزن بالقسط‏.‏
‏(7)‏ التسليم بوجوب الشكر لله ـ تعالى ـ على نعمائه‏
,‏ والحذر من التكذيب بأيٍ من آلائه العديدة على عباده‏.‏
‏(8)‏ التصديق بحتمية الموت وفناء كل شيء وبقاء الله ـ تعالى ـ ذي الجلال والإكرام‏
,‏ الأزلي بلا بداية‏,‏ والأبدي بلا نهاية‏,‏ الذي يملك كلاً من الزمان والمكان، ويحد بهما خلقه‏,‏ وهما لا يحدان الذات الإلهية؛ لأن المخلوق لا يحد الخالق أبدا‏ًً.‏
‏(9)‏ الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ هو الذي يغفر الذنوب‏
,‏ ويفرج الكروب لمن يشاء من عباده‏,‏ وهو الذي يرفع من يشاء ويخفض من يشاء‏,‏ ويعز من يشاء‏,‏ ويذل من يشاء‏,‏ ولذلك فهو ـ تعالى ـ "‏ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ " (الرحمن:29).
‏(10)‏ التصديق بأن أياً من الجن والإنس ـ وهما من المخلوقات المكلفة صاحبة الإرادة الحرة ـ لا يستطيع الهروب من ملكوت الله‏
,‏ ولا من أمره وقدره، وهما محيطان بكل شيء إحاطة كاملة من كل جانب‏.‏
‏(11)‏ التسليم بكل ما جاء بالسورة الكريمة من عقاب أهل النار‏
,‏ وثواب أهل الجنة‏,‏ والإيمان بحتمية الآخرة‏,‏ والتصديق بأن الإحسان الإلهي للخلق هو جزاء إحسانهم طوال استخلافهم في الأرض‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة الرحمن‏:‏‏(1)‏ التأكيد على حقيقة خلق الإنسان من صلصال كالفخار‏,‏ وعلى أن الله ـ تعالى ـ هو خالق كل شيء‏.‏
‏(2)‏ ذكر أن الإنسان خلق مُعَلَّماً‏
,‏ عارفاً للغة العربية‏,‏ قادراً على البيان‏.‏
‏(3)‏ الإشارة إلى دقة حركات كلٍ من الأرض والشمس، مما يرمز إلى دقة حركات كل ما بالكون من مختلف صور المادة والطاقة والأجرام والأجسام‏
.‏
‏(4)‏ التأكيد على سجود كل ما بالوجود لله ـ تعالى ـ سوى عصاة كلٍ من الإنس والجن، وذلك برمزية سجود كلٍ من النجم والشجر لله
.‏
‏(5)‏ الإشارة إلى رفع السماء بغير عمد مرئية لنا‏
.‏
‏(6)‏ التلميح إلى حسن تهيئة الأرض للحياة
" وَالأَرْضَوَضَعَهَا لِلأَنَامِ "(الرحمن:10).‏
‏(7)‏ تمييز النخيل عن غيرها من الأشجار‏
,‏ ووصفها بـ‏(‏ذات الأكمام‏)،‏ وهي أوعية الطلع التي يطلع فيها القنوان‏,‏ ثم ينشق عن العنقود فيكون بسراً ثم رطباً‏.‏
‏(8)‏ وصف الحب في سنابل النباتات بأنه ذو عصف‏
,‏ وهذه الحبة تغلفها قنابة تسمى العصافة تكون قشرة الحبة التي تحميها في سنيبلاتها وسنابلها من الفطريات والبكتريا والجراثيم والحشرات‏,‏ كما تحفظها من الرطوبة وتقلبات الجو وملوثاته‏.‏
‏(9)‏ الإشارة إلى كروية الأرض‏
,‏ وإلى دورانها حول محورها أمام الشمس، وذلك بنعت ربنا ـ تبارك وتعالى ـ ذاته الإلهية بقوله‏:‏‏" رَبُّ المَشْرِقَيْنِوَرَبُّ المَغْرِبَيْنِ ‏"(الرحمن:17).‏
‏(10)‏ التأكيد على التقاء كتل الماء المختلفة في البحار المتصلة ببعضها البعض مع احتفاظ كل كتلة منها بصفاتها الطبيعية والكيميائية والحيوية دون امتزاج كامل‏
,‏ والإشارة إلى البرزخ الفاصل بين كل كتلتين متجاورتين‏,‏ وإلى ما يخرج منهما من اللؤلؤ والمرجانن مؤكداً طبيعتهما البحرية‏.‏
‏(11)‏ الإشارة إلى القدرة التي وهبها الله ـ تعالى ـ للماء حتى يمكنه من حمل السفن العملاقة فوق أسطح البحار كالأعلام ‏
(‏كالجبال‏).‏
‏(12)‏ التأكيد على حقيقة موت جميع الخلائق، وفناء كل شيء سوى الله الخالق‏
.‏
‏(13)‏ التلميح إلى مركزية الأرض من السماوات، وذلك بجمع أقطارها على ضآلة أقطار الأرض وضخامة أقطار السماوات‏
.‏
‏(14)‏ الإشارة إلى وجود عنصر النحاس في صفحة السماء‏
,‏ وهي حقيقة لم يتم التوصل إليها إلا بعد رحلات الفضاء‏.‏
‏(15)‏ وصف انشقاق السماء في الآخرة على هيئة‏
(وردة كالدهان‏)، وعلوم الفلك الحديثة تؤكد ذلك بالنسبة لانفجار النجوم في زماننا‏.‏
‏(16)‏ تمييز ثمار كلٍ من النخيل والرمان عن بقية أنواع الفاكهة‏
.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها‏
,‏ ولذلك فإني سوف أقصر حديثي على النقطة الثانية من القائمة السابقة فقط .
وقبل الوصول إلى ما في هذه الآيات الأربع من إشارات علمية أرى ضرورة الرجوع إلى آراء عدد من المفسرين في شرحها‏
.‏




من أقوال المفسرين:
في تفسير هذه الآيات الأربع‏:‏
ذكر ابن كثير ـ‏ رحمه الله ـ‏ ما مختصره‏:‏ يخبر ـ تعالى ـ عن فضله ورحمته بخلقه‏‏ أنه أنزل لعباده القرآن‏,‏ ويسر حفظه وفهمه على من رحمه‏,‏ فقال‏: " الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ القُرْآنَ . خَلَقَ الإِنسَانَ . عَلَّمَهُ البَيَانَ "‏قال الحسن‏:‏ يعني النطق‏,‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني الخير والشر‏,‏ وقول الحسن هاهنا أحسن وأقوى؛‏ لأن السياق في تعليمه ـ تعالى ـ القرآن هو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق‏,‏ وتسهيل خروج الحروف من مواضعها‏ على اختلاف مخارجها وأنواعها‏. (انتهى قول المفسر)‏.
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏ ـ رحم الله كاتبه‏ ـ‏ ما نصه‏
:‏
‏...‏ بدأ سبحانه في معرض الامتنان على عباده بجلائل النعم، بأعظمها شأنا‏ًً
,‏ وأرفعها مكاناً‏,‏ وهو تعليم رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمته القرآن،‏ وهو هدى وشفاء‏,‏ ورحمة وعصمة‏,‏ وأمان ونور للناس في دينهم ودنياهم، وهو أعظم وحي الله إلى أنبيائه‏,‏ وأشرفه منزلة عند أوليائه‏,‏ وأكثره ذكرا‏ًً,‏ وأحسنه في أبواب الدين أثرا‏ًً.‏ والرحمن‏:‏ من أسمائه ـ تعال ـ‏ وتخصيصه بالذكر هنا للتنبيه إلى أن تعليم القرآن من آثار رحمته الواسعة‏."‏ خَلَقَ الإِنسَانَ . عَلَّمَهُ البَيَانَ ‏"أي خلق النوع الإنساني على أبدع صوره‏,‏ ومكنه من بيان ما في نفسه بالمنطق الفصيح‏,‏ ومن فهم بيان غيره‏,‏ فتميز بذلك عن الحيوان‏,‏ واستعد لتلقي العلوم والخلافة في الأرض‏.‏
وهذه نعم عظمى توجب الشكر والتعظيم لله ـ تعالى‏
.‏ (انتهى قول المفسر)‏.
وذكر صاحب الظلال ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ ما مختصره‏
:
" الرَّحْمَنُ ":‏ هذا المطلع المقصود بلفظه ومعناه‏,‏ وإيقاعه وموسيقاه‏. "‏ عَلَّمَ القُرْآنَ "‏ هذه النعمة الكبرى التي تتجلي فيها رحمة الرحمن بالإنسان‏..."‏ خَلَقَ الإِنسَانَ . عَلَّمَهُ البَيَانَ‏ ". إننا نرى الإنسان ينطق، ويعبر، ويبين‏,‏ ويتفاهم‏,‏ و يتجاوب مع الآخرين‏،‏ فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة‏,‏ وضخامة هذه الخارقة‏,‏ فيردنا القرآن إليها‏,‏ ويوقظنا لتدبرها‏‏ في مواضع شتى. إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب‏،‏
اللسان والشفتان، والفكان والأسنان، والحنجرة والقصبة الهوائية، والشعب والرئتان‏
..‏
إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية، وهي حلقة في سلسلة البيان، وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة‏
,‏ المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب‏، ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه‏،‏ ولا ندري شيئاً عن ماهيته وحقيقته‏،‏ بل لا نكاد ندري شيئاً عن عمله وطريقته‏. كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد ؟. إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة، مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن‏.‏
إنها تبدأ شعوراً بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين، هذا الشعور ينتقل ـ لا ندري كيف ـ من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية‏
...‏ الخ، ويقال‏:‏ إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب،‏ واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه‏،‏ وهنا تطرد الرئة قدراً من الهواء المختزن فيها‏,‏ ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة صوتاً تشكله حسبما يريد العقل‏، ومع الحنجرة اللسان، والشفتان، والفكان، والأسنان‏,‏ يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة‏.‏
وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين‏
,‏ يتم فيه الضغط المعين‏,‏ ليصوت الحرف بجرس معين‏، وذلك كله لفظ واحد‏،‏ ووراءه العبارة والموضوع، والفكرة والمشاعر السابقة واللاحقة‏.‏ كلٌ منها عالم عجيب غريب‏،.‏ ينشأ في هذا الكيان الإنساني العجيب الغريب‏‏ بصنعة الرحمن‏,‏ وفضل الرحمن‏.‏ (انتهى قول المفسر)‏


من الإشارات العلمية في الآيات القرآنية الأربع:أولا‏ًً:‏ في قوله ـ تعالى ـ‏:" الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ القُرْآنَ ‏ ":‏والرحمن‏‏ اسم من أسماء الله الحسنى‏,‏ اختص به ـ تعالى ـ ولم يسم به غيره‏,‏ وقد جاء بالقرآن الكريم‏(57)‏ مرة تأكيداً على أن الله ـ تعالى ـ هو رحمن الدنيا والآخرة‏؛‏ لأن اسم‏‏ الرحمن‏‏ مشتق من الرحمة‏,‏ وجاء بصيغة المبالغة؛ لأن الرحمة هنا لجميع الخلق‏,‏ بينما اسم‏ (‏الرحيم‏)‏ خاص بالمؤمنين، وذلك انطلاقاً من قوله ـ تعالى ـ:" الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى "‏ ‏(‏طه‏:5)‏.
فذكر الاستواء باسمه ـ تعالى ـ‏
(‏الرحمن‏)‏ ليعم جميع خلقه برحمته في الدنيا والآخرة‏,‏ وعلى ذلك اعتبرت الرحمة في اسم الله‏ (‏الرحمن‏)‏ أعظم منها في اسمه ‏(‏الرحيم‏)‏ الذي جاء في القرآن الكريم‏(95)‏ مرة، و بتصريفاته‏(24)‏ مرة أخرى بمجموع بنصه‏(119‏ مرة‏)‏، ومن ذلك قوله ـ عز من قائل ـ‏:" ..‏ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً " ‏ ‏(‏الأحزاب‏:43)‏.
ووصف‏
(‏الرحيم‏)‏ وصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ به خاتم أنبيائه ورسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك بقوله العزيز‏:‏" لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ‏"‏(‏التوبة‏:128).‏
وقد استهل الله ـ تعالى ـ سورة الرحمن بهذا الاسم من أسمائه الحسنى إشارة إلى فضله على خلقه ورحمته بهم أن أنزل القرآن الذي علمه لخاتم أنبيائه ورسله‏
,‏ ويسر حفظه وفهمه على من رحم من عباده‏,‏ وحفظه ـ تعالى ـ بين دفتي المصحف الشريف‏,‏ وفي صدور البلايين من الحفاظ قديماً وحديثا‏ًً,‏ بنفس لغة وحيه‏ ـ اللغة العربية‏ ـ وحفظه ـ تعالى ـ على مدى الأربعة عشر قرناً الماضية، وتعهد بهذا الحفظ إلى ما شاء الله؛ تحقيقاً لوعده الذي قطعه على ذاته العلية فقال ـ عز من قائل ـ‏:"‏ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَوَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏"‏(‏الحجر‏:9).‏
وكلام الله ـ تعالى ـ غير مخلوق‏
,‏ منه بدأ وإليه يعود؛ وذلك لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو خالق كلٍ من المكان والزمان ليحد بهما خلقه‏,‏ والمخلوق لا يحد خالقه أبدا‏ًً,‏ وعلى ذلك فإن ربنا ـ تبارك اسمه ـ فوق جميع خلقه، وفوق جميع صور المادة والطاقة، وفوق كلٍ من المكان والزمان، وكذلك أقواله وأفعاله، وقد وصف ذاته العلية بقوله العزيز‏: " ...‏ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌوَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ‏"‏(‏الشورى‏:11)‏.
ووصف ربنا ـ تبارك وتعالى ـ خاتم كتبه بقوله الكريم‏
:‏
" إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ . لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ . تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ "‏(‏الواقعة‏:77‏ ـ‏80)‏ وقال‏:"‏ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ . فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ‏"(‏البروج‏:22,21).‏
وعلى ذلك فإن القرآن الكريم كلام الله بحروفه العربية ونظمه ومعانيه‏
,‏ وقد كتب غير منقوط ولا مشكل‏,‏ ثم فشا اللحن بين غير العرب من المسلمين فنقطت المصاحف‏,‏ ثم شكلت لتيسير التلاوة عليهم‏.‏
والذي يدرك حال العالم قبل بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ـ والأرض قد ملئت بالخرافات والأساطير‏
,‏ وبالظلمات والمظالم بعد أن فقدت صلتها بنور الهداية الربانية، يدرك مدى النعمة التي أنعم الله ـ تعالى ـ بها على الإنسان بإنزال القرآن الكريم هداية خاتمة للناس كافة، ولذلك تعهد بحفظه ليبقي شاهداً على الخلق أجمعين إلى قيام الساعة‏,‏ وأشاد في مطلع سورة الرحمن بتعليمه لمن يختار من خلقه‏.‏

ثانياً:‏ في قوله ـ تعالى ـ‏:" خَلَقَ الإِنسَانَ‏ ":‏يتكون جسم الإنسان البالغ من نحو مائة تريليون خلية حية‏,‏ ويبلغ متوسط قطر الخلية نحو‏ 0.03 من الملليمتر‏,‏ ويبلغ متوسط وزنها جزءاً من المليار من الجرام‏.‏وللخلية جدار حي يحافظ على كيانها‏,‏ ويسمح لها بالاتصال بالخلايا من حولها ليتبادل معها الغذاء والأكسجين والعوادم المختلفة‏,‏ ويحوي هذا الجدار سائل الخلية ‏(‏السيتوبلازم‏)‏، وينتشر فيه العديد من العضيات التي منها مولدات الطاقة‏ ـ‏ المتقدرات ـ ومنتجات البروتينات‏ ـ‏ الريبوسومات‏ ـ‏ والنواة، وهي مركز التحكم في الخلية وبداخلها الشفرة الوراثية التي تشغل حيزاً لا يزيد على واحد من المليون من الملليمتر المكعب، ولكنها إذا فردت يصل طولها إلى قرابة المترين بهما ‏18.6‏ بليون جزيئاً من جزئيات المادة، إذا اختل وضع ذرة واحدة من ذرات هذه الجزيئات عن مكانها، إما أن تشوه الخلية، أو لا تكون‏.‏
وهذه الخلية الحية تبلغ من التعقيد في البناء والكفاءة في الأداء ما لم يبلغه أكبر المصانع التي بناها الإنسان‏,‏ بل التي فكر في إنشائها ولم يتمكن من ذلك بعد‏؛‏ وذلك لأن الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ أعطاها من القدرات ما يمكنها من إنتاج مائتي ألف نوع من البروتينات تعجز أكبر المصانع عن إنتاجها‏.‏
والخلايا الحية في حالة تجدد مستمر‏,‏ فجسم الإنسان يستهلك في كل ثانية من عمره نحو‏ (125‏ مليون‏)‏ خلية تموت ويتم استبدالها بخلايا جديدة متماثلة مع الأصل تماماً، بحيث تتجدد جميع خلايا جسم الإنسان ماعدا الخلايا العصبية مرة كل أسبوع تقريباً‏,‏ وأصل هذا البناء الإنساني العجيب هو طين الأرض الذي نفخ الله فيه من روحه‏,‏ ثم كرره عن طريق خليتين متناهيتي الضآلة في الحجم هي نطفة كلٍ من الذكر والأنثى مكونتين النطفة الأمشاج التي تتوالى انقساماتها في رحم الأم عبر مراحل متتالية من الخلق حتى تخرج إلى الحياة وليداً كاملاً سالماً معافى، ينمو بعد ذلك بالتغذية المستمدة أيضاً من تراب الأرض إلى أجل مسمى، ثم يموت ويعود جسده إلى تراب الأرض‏.‏وخلق الإنسان مما يشهد للخالق العظيم بطلاقة القدرة، وعظيم الصنعة‏,‏ وإبداع الخلق‏,‏ كما يشهد له ـ سبحانه ـ بالإلوهية‏,‏ والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏.

ثالثا‏ًً:‏ في قوله ـ تعالى ـ‏:‏" عَلَّمَهُ البَيَانَ ":‏يدعي المختصون في علم دراسة الإنسان بأن هذا المخلوق بدأ جاهلاً كافراً، ثم تعلم الكلام بمحاكاته لأصوات الحيوانات المختلفة‏,‏ وتعرف على الدين عن طريق فزعه من مختلف الظواهر الكونية‏,‏ وأن اللغة نشأت من إشارة اليدين والوجه حتى وصلت إلى نطق الفم‏,‏ وأنها كانت إشارية في البداية‏,‏ ثم أخذت الأصوات تتخللها بصورة متدرجة،‏ ولكن يخبرنا القرآن الكريم أن الله ـ تعالى ـ علم أبانا آدم ـ عليه السلام ـ الأسماء كلها‏,‏ وأنطقه بالكلام المنظوم‏,‏ وعلى ذلك فإن الإنسان في الإسلام بدأ عالماً عابداً، ولم يبدأ جاهلاً ولا كافراً‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ في محكم كتابه‏: "‏ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا .‏.. "‏(‏البقرة‏:31)‏.
وقال المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏: "‏ إن آدم كان نبياً مُكَلَّماً، كَلَّمَهُ الله قبلا ‏".‏
ويؤكد هذا المعنى ما أثبته العلم التجريبي بأن مخ الإنسان به مركز للنطق‏,‏ وأن لكل شيء في الوجود قدراً من الوعي والإدراك‏,‏ والشعور والانفعال والتعبير بلغة خاصة بنوعه من السوائل والغازات إلى الجمادات‏,‏ ومن النباتات إلى الحيوانات‏,‏ فهل يعدم الإنسان ذلك وهو أشرف المخلوقات‏,‏ وقد ميزه الله ـ تعالى ـ بالعقل الراجح‏,‏ والجهاز العصبي فائق التعقيد في البناء والدقة في الأداء‏ ؟.
وأجهزة النطق العجيبة: الرئتان والقصبة الهوائية بشعبها‏,‏ والحنجرة‏,‏ واللهاة‏,‏ واللسان‏,‏ والشفتان‏,‏ والفكان والأسنان، وكلها تشترك في النطق والبيان‏,‏ ويعمل كلٌ من السمع والمخ والأعصاب في ترجمة هذا النطق إلى معانٍ تفهم ويستجاب لها بالإيجاب أو النفي‏,‏ ولذلك يمتن علينا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ بقوله العزيز‏:‏
" خَلَقَ الإِنسَانَ . عَلَّمَهُ البَيَانَ ‏"‏(‏الرحمن‏:4,3)‏.
وقال آمراً خاتم أنبيائه ورسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أول ما أنزل من محكم القرآن الكريم
:
" اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْوَرَبُّكَ الأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ "‏(‏العلق‏:1‏ ـ‏5).‏
هذا وقد ذكر ابن قتيبة في المعارف أن الله ـ تعالى ـ أنزل على أبينا آدم ـ عليه السلام ـ حروف المعجم مفرقة مكتوبة‏
,‏ وأنها كانت الحروف العربية التي تفرعت عنها كل لغات الأرض بدليل أنها تشكل أكثر من نصف حروف كلٍ من اللغتين الأقدم في المعارف الإنسانية، وهما العبرية والآرامية‏,‏ مع تسليمنا بأن العربية في الأصل لم تكن منقوطة ولا مشكلة‏.‏
وهذه الآيات القرآنية الكريمة التي جاءت في مطلع سورة الرحمن تحسم جدلاً طال بين علماء اللغة، مثل ما جاء في كتاب مايكل كورباليس المُعَنْوَن
" في نشأة اللغة‏‏ من إشارة اليد إلى نطق الفم الذي قامت بنشره جامعة برنستون في سنة‏2002‏ م‏.‏
MICHAELC.CORBALLIS(2002):FROMHANDTOMOUTH
:THEORIGINS OF LANGUAGE Princeton University Press
ثم نشر الكتاب مترجماً إلى العربية في سلسلة عالم المعرفة في مارس‏2006‏ م‏.‏
والكتاب مليء بالمغالطات العلمية والفكرية والدينية‏
,‏ وترد عليه الآيات الأربع الأولى من سورة الرحمن في حزم وجلاء.
فالحمد لله على نعمة الإسلام‏
,‏ والحمد لله على نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله على بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏,‏ سيد الأولين والآخرين‏,‏ وإمام المهتدين سيدنا محمد بن عبد الله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏

رد مع اقتباس