عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 2010-02-22, 06:04 PM
طالب عفو ربي طالب عفو ربي غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2009-02-28
المشاركات: 716
افتراضي وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم الـمـن والسلوي‏... ‏ البقرة‏:57

وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم الـمـن والسلوي‏...
‏ البقرة‏:57

بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هذا النص القرآني الكريم جاء في أواخر الخمس الأول من سورة البقرة‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ وآياتها‏(286)‏ بعد البسملة‏,‏ وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي تلك المعجزة التي أجراها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي يد نبيه موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ حين تعرض شخص من قومه للقتل‏,‏ ولم يعرف قاتله‏,‏ فأوحي الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلي عبده موسي أن يأمر قومه بذبح بقرة‏,‏ وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله‏,‏ ويخبرهم عن قاتله ثم يموت‏,‏ وذلك إحقاقا للحق‏,‏ وشهادة عملية لله‏(‏ تعالي‏)‏ بالقدرة علي إحياء الموتي‏.‏
وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة‏,‏ وتلخيص ما حفلت به من قواعد العبادة‏,‏ وتشريعات المعاملات‏,‏ ومكارم الأخلاق‏,‏ وركائز العقيدة‏,‏ وما حوته من قصص عدد من أنبياء الله السابقين وأممهم‏,‏ وأوضحنا أن الهدف من هذا القصص هو إعطاء الدروس واستخلاص العبر‏,‏ ولخصنا كذلك ما اشتملت عليه السورة من الإشارات الكونية المختلفة‏,‏ ولا أري داعيا إلي تكرار ذلك في هذا المقام الذي يركز علي قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوي‏..*‏ وما فيه من دلالات علمية‏,‏ وقبل الوصول الي ذلك أري لزاما علي استعراض أقوال عدد من المفسرين في شرح هذا النص القرآني الكريم‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوي كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏*.‏
‏(‏البقرة‏:57)‏

ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:‏ لما ذكر تعالي ما دفعه عنهم من النقم‏,‏ شرع يذكرهم أيضا بما أسبغ عليهم من النعم فقال‏:(‏ وظللنا عليكم الغمام‏,)‏ جمع غمامة‏,‏ سمي بذلك لأنه يغم السماء أي يواريها ويسترها‏,‏ وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏(‏ وظللنا عليكم الغمام‏):‏ كان هذا في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس‏....(‏ وأنزلنا عليكم المن‏)‏ اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو؟ فقال ابن عباس‏:‏ كان المن ينزل عليهم علي الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا‏....‏ والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن‏.‏ فمنهم من فسره بالطعام‏,‏ ومنهم من فسره بالشراب‏,‏ والظاهر ــ والله أعلم ــ أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد‏....,‏ وأما السلوي فقال ابن عباس‏:‏ السلوي طائر يشبه السماني كانوا يأكلون منه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ السلوي كان من طير إلي الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب‏....‏
وقوله تعالي‏:(‏ كلوا من طيبات ما رزقناكم‏)‏ أمر إباحة وإرشاد وامتنان‏,‏ وقوله تعالي‏:(‏ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏)‏ أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا‏..‏ فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم‏.‏ هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات‏,‏ والمعجزات القاطعات‏,‏ وخوارق العادات‏.‏
‏*‏ وذكر بقية المفسرين كلاما مشابها في تفسير هذه الآية الكريمة‏,‏ وفي تفسير الآية رقم‏(160)‏ من سورة الأعراف والآية رقم‏(80)‏ من سورة طه وهما تحملان نفس المعني‏.‏ ولا أري حاجة إلي تكرار ذلك هنا خاصة أن عددا من هؤلاء المفسرين كان قد تأثر ببعض الإسرائيليات في شرحه‏.‏

من الدلالات اللغوية للنص الكريم
أولا‏:‏ في قوله تعالي‏:(‏ وظللنا عليكم الغمام‏..)‏
‏(1)(‏ الظل‏)‏ ضد الضح وجمعه‏(‏ ظلال‏),‏ وهو أعم من الفيء‏,‏ لأن‏(‏ الظل‏)‏ يقال لكل موضع لا تصل إليه الشمس‏,‏ بينما يقال الفيء لما زالت عنه الشمس‏,‏ ولذلك يقال‏(‏ أفياء حول الظلال‏)‏ لأن الظل عام والفيء خاص‏(‏ وهو من أساليب إضافة الشيء إلي جنسه لتوكيده‏)‏ و‏(‏الظلال‏)‏ ما نتج من ظل عن السحاب ونحوه مما يحول دون وصول أشعة الشمس‏.‏
ويوصف‏(‏ الظل‏)‏ بأنه‏(‏ ظليل‏)‏ إذا كان كثيرا وفائضا عن الحد المطلوب‏,‏ ويوصف المكان بأنه‏(‏ ظليل‏)‏ إذا كان دائم الظل لا تصله اشعة الشمس‏,‏ وقد يكني بذلك عن الرفاهية ورغد العيش‏.‏

و‏(‏الظلة‏)‏ بالضم هي سحابة‏(‏ تظل‏),‏ وجمعها‏(‏ ظلل‏),‏ و‏(‏المظلة‏)‏ بالكسر هي كل ما يستظل به من أشعة الشمس أو من وابل المطر‏,‏ والمكان‏(‏ المظلل‏)‏ هو المغمور بالظل‏.‏
ويقال‏:(‏ استظل‏)‏ بالشيء أي استدري به واحتمي من أشعة الشمس‏,‏ و‏(‏ظلني‏)‏ الشجر و‏(‏أظلني‏)‏ أي غمرني بظله‏,‏ وكذلك‏(‏ ظلتني‏)‏ الشجرة و‏(‏أظلتني‏)‏ أي غمرتني بظلها‏.‏ وفي النص القرآني الكريم الذي نحن بصدده يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ وظللنا عليكم الغمام‏..‏ أي حميناكم بظل الغمام من أشعة الشمس وحرارتها ووهجها‏.‏

ويستعار‏(‏ الظل‏)‏ للتعبير عن الحماية‏,‏ والمنعة‏,‏ أو عن الأمن والرفاهية‏,‏ فيقال‏:(‏ أظللني فلان بظله‏)‏ أي أدخلني في حمايته‏,‏ وحراسته‏,‏ ومنعته كأنه ألقي ظله علي‏,‏ ويقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في وصف أصحاب اليمين وهم في جنات النعيم‏:‏ في سدر مخضود‏*‏ وطلح منضود‏*‏ وظل ممدود‏*)‏
‏(‏ الواقعة‏:28‏ ــ‏30)‏
أي في نعيم مقيم ورفاهية وأمن دائمين‏.‏

ويقال لظلمة الليل ــ علي وجه الاستعارة ــ‏(‏ ظل الليل‏)‏ وهو في الحقيقة ظل نصف الأرض الذي يعمه نور النهار ملقي علي النصف الآخر للأرض‏,‏ ولكن بسبب انغماسه في ظلمة الكون يفضل تسميته باسم ظلمة الليل‏,‏ حيث تلتقي ظلمة ليل الأرض بظلمة الكون‏.‏ وكذلك يقال‏:(‏ ظل‏)‏ يعمل كذا إذا عمله بالنهار دون الليل‏,‏ وذلك لارتباط النهار بتكون الظل أكثر من الليل لشدة ضوء الشمس إذا قوبل بنور القمر‏,‏ ويجري الفعل‏(‏ ظل‏)‏ و‏(‏ظللت‏)‏ مجري الفعل‏(‏ صار‏)‏ و‏(‏صرت‏)‏ بالنهار‏.‏
‏(2)(‏ الغمام‏)‏ جمع‏(‏ غمامة‏)‏ وهي السحابة الساترة لضوء الشمس‏,‏ وهي في الأصل خرقة تشد علي أعين الحيوانات العاملة في دوائر محددة مثل البقرة أو الثور الذي يدور في تحريك الساقية‏,‏ أو توضع علي أنف الناقة لحمايتها من غبار الصحراء‏,‏ ثم استعير لفظ‏(‏ الغمامة‏)‏ للسحابة الساترة لضوء الشمس‏.‏

ولذلك يقال‏:(‏ أغمت‏)‏ السماء و‏(‏تغيمت‏)‏ إذا تلبدت بالغيوم‏,‏ و‏(‏الغم‏)‏ في الأصل هو ستر الشيء وجمعه‏(‏ غموم‏)‏ تقول‏(‏ غمه‏)‏ أي غطاه‏(‏ فانغم‏)‏ أو‏(‏ غمه‏)‏ فاغتم‏,‏ ثم استعير للتعبير عن الكرب فيقال‏:(‏ غم‏)‏ و‏(‏غمة‏)‏ أي كرب‏,‏ وكربة‏,‏ كما استعير للتعبير عن أي مبهم ملتبس‏,‏ فيقال‏(‏ غم‏)‏ عليه الخبر أي أخفي عليه أو استعجم عليه‏,‏ مثل‏(‏ أغمي‏)‏ عليه‏,‏ ومجازه ضيق وظلمة وهم‏.‏
ويقال‏:(‏ غم‏)‏ يومنا و‏(‏أغم‏)‏ فهو يوم‏(‏ غم‏)‏ إذا كان يأخذ بالنفس من شدة الرطوبة والحر‏,‏ وليلة‏(‏ غم‏)‏ أو‏(‏ غامة‏)‏ مثله‏,‏ ويقال فيها أيضا ليلة‏(‏ غمه‏)‏ و‏(‏غمي‏).‏

كذلك يقال‏:(‏ غم‏)‏ الهلال علي الناس اذا ستره عنهم غيم أو غيره فلم ير‏,‏ وفي ذلك قيل‏:‏ صمنا للغمي بضم الغين وفتحها اذا غم عليهم الهلال وسميت الليلة باسم‏(‏ ليلة الغمي‏).‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:(...‏ وأنزلنا عليكم المن والسلوي‏...)‏
‏(‏المن‏)‏ لغة هو كل ما يمن الله‏(‏ تعالي‏)‏ به علي خلقه من نعمه التي لايبذلون جهدا في سبيل الحصول عليها ولايصيبهم تعب ولانصب‏,‏ ولامشقة وعلي ذلك فإن أصل‏(‏ المن‏)‏ هو وهب النعم‏,‏ من‏(‏ من‏)‏ الله تعالي عليه أي أنعم عليه‏,‏ و‏(‏المنان‏)‏ اسم من أسماء الله تعالي‏(‏ وجميع أسمائه حسني‏).‏ و‏(‏المنة‏)‏ هي النعمة الثقيلة‏,‏ ولذلك يقال‏:(‏ من‏)‏ الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علي فلان من خلقه أي أثقله بالنعمة‏,‏ وهذا لايكون لغير الله‏(‏ تعالي‏),‏ ولايكون إلا بالفعل أي تحقيق النعمة‏,‏ لامجرد الحديث عنها ويقال‏:(‏ امتن‏)‏ فلان من الخلق علي فلان من إخوانه أو معارفه‏(‏ أو من عليه‏)‏ أي تحدث بفضله عليه‏,‏ وهو سلوك مستقبح بين الناس إلا عند كفران النعمة‏,‏ ولقبح مثل هذا السلوك قيل‏:‏ المنة تهدم الصنيعة‏,‏ ولحسن ذكرها عند كفران النعمة قيل‏:‏ إذ كفرت النعمة حسنت المنة‏.‏
وفي قوله تعالي‏:(...‏ وأنزلنا عليكم المن والسلوي‏...)‏ قيل‏:‏ هو المن الذي كان يسقط علي قوم نبي الله موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ سهلا بلا علاج‏,‏ علي الرغم من كفرهم وعصيانهم وتمردهم علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ وعلي النبي المرسل اليهم‏.‏
وكذا الكمأة التي لامئونة فيها ببذر ولاسقي‏,‏ ولذلك قال فيها المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين وقيل في‏(‏ المن‏)‏ الذي أنزل علي قوم نبي الله موسي أنه شيء كالطل فيه حلاوة يسقط علي الشجر‏,‏ من طلوع الفجر الي طلوع الشمس‏,‏ وقيل في السلوي أنها الطائر المعروف باسم السماني او ما يشبهه‏,‏ وقال بعض المفسرين في‏(‏ المن والسلوي‏)‏ أنهما شيء واحد يشير الي ما أنعم الله‏(‏ تعالي‏)‏ به علي هؤلاء القوم الجاحدين ابتلاء لهم‏,‏ وسماه‏(‏ منا‏)‏ ليمتن به عليهم‏,‏ وسماه‏(‏ سلوي‏)‏ لأنه كان لهم به التسلي عما كانوا فيه من مشاق‏,‏ وهم في تيه شبه جزيرة سيناء‏.‏

المن والسلوي في كتب الأولين
جاء في الاصحاح السادس عشر من سفر خروج‏(‏ من العهد القديم‏)‏ ما ترجمته‏:‏ وإذا مجد الرب قد ظهر في السحاب‏,‏ فكلم الرب موسي قائلا‏:‏ سمعت تذمر بني إسرائيل كلمهم قائلا‏:‏ في العشية تأكلون لحما‏,‏ وفي الصباح تشبعون خبزا‏.‏ وتعلمون أني أنا الرب إلهكم‏.‏
فكان في المساء أن السلوي صعدت وغطت المحلة‏,‏ وفي الصباح كان سقيط الندي حوالي المحلة‏,‏ ولما ارتفع سقيط الندي إذا علي وجه البرية شيء دقيق مثل قشور‏.‏ دقيق كالجليد علي الأرض‏.‏ فلما رأي بنو إسرائيل ذلك قالوا بعضهم لبعض من هو؟ لأنهم لم يعرفوا ما هو؟ فقال لهم موسي هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا‏.‏ هذا هو الشيء الذي أمر به الرب‏,‏ التقطوا منه كل واحد علي حسب أكله‏.‏ عمرا للرأس علي عدد نفوسكم تأخذون كل واحد للذين في خيمته‏.‏ ففعل بنو اسرائيل هكذا والتقطوا بين مكثر ومقلل‏.‏ ولما كالوا بالعمر لم يفضل المكثر والمقلل لم ينقص‏.‏ كانوا قد التقطوا كل واحد علي حسب أكله‏.‏ وقال لهم موسي‏:‏ لا يبق أحد منه الي الصباح‏.‏ لكنهم لم يسمعوا لموسي بل أبقي منه أناس الي الصباح فتولد فيه دود وانتن‏.‏ فسخط عليهم موسي‏.‏ وكانوا يلتقطونه صباحا فصباحا كل واحد علي حسب أكله‏.‏ وإذا حميت الشمس كان يذوب‏.‏

هذا جزء مما جاء علي ذكر هذا الأمر في الترجمة العربية للكتاب المقدس‏(‏ طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط بيروت‏,1985).‏
وقد سمي العالم الطبيعي الروماني بليني الكبير‏(Plinytheelder)‏ الذي عاش في القرن الميلادي الأول‏(23‏ م ـ‏79‏ م‏)‏ تلك المادة الحلوة التي تتجمع علي بعض النباتات او التي تفرزها الحشرات التي تتغذي علي العصارة الغذائية لبعض تلك النباتات بأسماء عجيبة مثل‏:‏ عرق السماوات أو لعاب النجوم أو اسهال الهواء‏.‏

وكتب جلبرت هوايت‏(GilbertWhite)‏ الذي عاش في القرن الثامن عشر الميلادي‏(1720‏ م ـ‏1793‏ م‏)‏ في كتابه المعنون التاريخ الطبيعي لسيلبورن ما ترجمته‏:‏ هذه المادة الحلوة اللزجة من نوع نباتي كما أمكننا أن نتعلم من النحل الذي ندين له بالشكر‏,‏ ويمكننا أن نتأكد من أن هذه المادة تسقط بالليل لأنها تشاهد دائما في الصباح الدافيء الساكن‏.‏
وذكر كل من كيربي وسبنس‏(Kirby&Spence)‏ في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي‏(1815‏ م‏)‏ أن هذا السائل الحلو الذي سرعان ما يجف بمجرد تعرضه للجو‏,‏ والذي ينافس كلا من السكر وعسل النحل في طعمه الحلو وفي نقائه هو براز حشرة المن الذي يعرف باسم البراز العسلي أو الندوة العسلية‏,‏ والذي تفرزه كثير من الحشرات التي تتغذي علي العصارة النباتية للعديد من الأشجار والشجيرات‏.‏

من الدلالات العلمية للنص الكريم
في هذا النص القرآني الكريم يخاطب ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ الضالين من قوم موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ وهم في التيه الذي عاقبهم به أربعين سنة في قلب شبه جزيرة سيناء لايجدون لهم منها مخرجا يخاطبهم‏,‏ ربنا‏(‏ سبحانه‏)‏ ممتنا عليهم بنعمه ـ وهم العصاة المتمردون علي أوامره وأوامر نبيه المرسل لهدايتهم ـ تلك النعم التي أنزلها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ عليهم ابتلاء لهم واختبارا لقدر استجابتهم لأوامره‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ فيقول لهم‏:‏
وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوي كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏(‏ البقرة‏:57)‏

وكان من تلك النعم جعل الغمام ظلة لهم من أشعة الشمس ووهجها وحرها وهم في هذا التيه الذي استمر أربعين سنة في شعاب شبه جزيرة سيناء الوعرة القاحلة‏,‏ الشديدة الحرارة في الصيف‏.‏
وكان من تلك النعم إنزال‏(‏ المن والسلوي‏)‏ عليهم رحمة من الله‏(‏ تعالي‏)‏ بهم وهم الخارجون علي دينه‏,‏ العاصون لأوامر نبيه ورسوله‏,‏ المتذمرون‏,‏ المتمردون‏,‏ الجاحدون‏..‏بعد كل ما أفاء الله تعالي عليهم من النعم وأكرمهم بالمعجزات منذ لحظة خروجهم من مصر حتي عبدوا العجل من دون الله‏.‏

و‏(‏المن‏)‏ مادة صمغية حلوة لزجة كالعسل الذي يفرزه نحل العسل‏,‏ تتجمع علي الأشجار من طلوع الفجر الي طلوع الشمس ثم تجف فتتحول الي مادة بيضاء كالدقيق او رقائقه الصغيرة التي تكشط من فوق جذوع الشجر وفروعه واوراقه وتؤكل مباشرة أو تذاب في الماء وتشرب علي هيئة شراب حلو المذاق‏,‏ عال في قيمته الغذائية‏.‏
أما‏(‏ السلوي‏)‏ فهي الطائر المعرف باسم السمان‏(‏ او السماني‏)‏ وهو من طيور الصيد‏(‏ القنص‏)‏ التي تم استئناس بعضها كالدجاج والفراخ الرومية وإن كانت السلوي أصغر حجما كثيرا‏,‏ ولم يتم استئناسها بعد‏...‏ وهي من الطيور المهاجرة التي تتحرك في مواسم محددة من السنة عبر مساحات كبيرة من الأرض‏.‏ وقد سخر ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ هجرة أسراب من طيور السلوي‏(‏ السمان‏)‏ للمرور علي قوم موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ وهم في أرض التيه بشبه جزيرة سيناء حتي يصطادوا منها ويأكلوا‏.‏

وكان ذلك من طيبات رزق الله الذي أفاء به عليهم ابتلاء لهم‏,‏ واختبارا لصدق إيمانهم‏,‏ ولكن هؤلاء العصاة الجاحدين سقطوا في هذا الاختبار الالهي لكفرهم بنعم الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليهم‏,‏ ورفضهم لها‏,‏ ومطالبتهم لنبيهم باستبدال تلك النعم بما تعودوا عليه من محاصيل مصر‏(..‏ من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها‏...).‏
وتؤكد الآية الكريمة أن هذا التمرد والعصيان والكفر لن يضير الله‏(‏ تعالي‏)‏ بشيء لأنه قادر علي إفنائهم وإبادتهم وعلي الإتيان بخلق أفضل منهم‏,‏ ولكنهم يظلمون أنفسهم لأن عاقبة تمردهم وعصيانهم وكفرهم واقعة عليهم لا محالة ـ تدميرا من الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم في الدنيا‏,‏ وعذابا شديدا في الآخرة إن شاء الله لهم ولأمثالهم وأنسالهم من العصاة الفاجرين الذين يغرقون الأرض في بحار من الدم والأشلاء والدمار والخراب في كل عصر وفي كل حين‏,‏ خاصة في زمن الفتن الذي نعيشه في أيامنا الراهنة الحزينة‏...!!!‏

ومع تسليمنا الكامل بأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قادر علي أن يقول للشيء كن فيكون‏,‏ وأن إنزال‏(‏ المن والسلوي‏)‏ علي العصاة من قوم موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ كان معجزة من معجزات الله القادر علي كل شيء‏,‏ وأن العلم الكسبي لا يستطيع تفسير المعجزات الإلهية لأنها تخرق السنن‏,‏ وتقطع قوانين الأرض والسماء‏,‏ إلا أن محاولة فهم النص القرآني الكريم الذي نحن بصدده في إطار تلك السنن والنواميس الإلهية لا تشكل أدني قدر من الحرج الشرعي‏,‏ وكذلك إبراز جوانب الإعجاز العلمي في الجمع بين‏(‏ المن والسلوي‏)‏ كغذاء متكامل للإنسان في صحراء شبه جزيرة سيناء يشكل شهادة صدق علي أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ ولذلك فإن جميع الآيات فيه ـ وفي جملتها الآية التي نحن بصددها ـ تنطق بجلال الربوبية‏,‏ وبكمال الحكمة الإلهية‏,‏ وبشمول العلم الإلهي الذي يتضح بمقارنة هذه الآية الكريمة بكل إشارة سابقة أو لاحقة لرواية تلك الحادثة التاريخية التي لم يكن لسيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وسيلة لمعرفتها غير وحي السماء لأن وصف هذه الحادثة في البقايا المتناثرة في الكتابات المتوفرة عند أهل الكتاب قد شابها ما توصف به كل الكتابات البشرية من النقص والاضطراب والبعد عن الكمال‏.‏

‏(‏المن‏)‏ في المعارف الإنسانية
‏(‏المن‏)‏ المعروف للإنسان هو مادة صمغية حلوة المذاق كعسل النحل‏,‏ تتجمع في هيئة الدقيق أو الرقائق الدقيقة علي الأجزاء المختلفة من بعض الأشجار‏(‏ مثل أشجار الأثل والطرفة‏)‏ المنتشرة في الصحاري العربية‏,‏ أو علي غير الأشجار من الشجيرات والنباتات المختلفة حتي العشبية منها‏.‏
وقد يتكون‏(‏ المن‏)‏ نتيجة لعملية نز العصارة الغذائية للنبات إلي أسطحه الخارجية وجفافها بتبخر جزء كبير من محتواها المائي‏,‏ وقد يكون هذا النزيف للعصارة الغذائية ذاتيا أو ناتجا عن جروح في جسم النبات تحدثها مجموعات الحشرات التي تعيش علي امتصاص العصارات الغذائية لتلك النباتات‏.‏

كذلك قد تتكون هذه المادة الصمغية الحلوة المذاق المعروفة باسم‏(‏ من السماء‏)‏ نتيجة إخراج بعض هذه الحشرات التي تعيش علي امتصاص العصارات الغذائية لبعض النباتات‏,‏ فتأخذ منها حاجتها وتفرز الباقي علي هيئة ما يعرف باسم‏(‏ البراز العسلي‏)‏ أو‏(‏ براز حشرة المن‏)‏ أو‏(‏ الندوة العسلية‏),‏ وبجفافه يتحول إلي هذه المادة الصمغية الحلوة المذاق والمعروفة باسم‏0(‏ من السماء‏)(MannafromHeaven)‏ والتي سميت الحشرة باسمها‏.‏
وهناك أعداد كبيرة من الحشرات التي تتغذي علي العصارات الغذائية للنباتات وذلك باختراق أنسجة تلك النباتات‏,‏ وامتصاص أقدار مختلفة من عصارتها الغذائية‏,‏ وتتبع معظم هذه الحشرات رتبة تعرف باسم‏(‏ نصفية الأجنحة‏)‏ أو‏(‏ بق النبات‏)‏ التي منها حشرة المن‏(Aphid),‏ وهي حشرة دقيقة الحجم‏,‏ طرية الملمس‏,‏ تعيش في أسراب تقدر أعدادها بالآلاف‏,‏ ويتراوح طول الحشرة البالغة منها بين‏3‏ و‏5‏ ملليمترات‏,‏ ويقدر عدد حشرات المن في المتر المربع من الأرض بنحو المائة ألف حشرة‏.‏

وقد زود الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هذه الحشرات التي تعيش علي امتصاص العصارات الغذائية للنباتات بزوائد فمية ثاقبة‏/‏ ماصة تتناسب مع طريقة تغذيتها التي تعتمد أساسا علي اختراق أنسجة النباتات وامتصاص قدر من عصارتها الغذائية‏,‏ وهذه الزوائد الفمية الثاقبة‏/‏ الماصة تتكون من أربعة فكوك مزودة بخناجر إبرية دقيقة جدا يستقر كل منها في ميزاب خاص به ولا يبرز منه إلا عند الاستعمال في ثقب أنسجة النباتات وامتصاص عصاراتها الغذائية‏.‏
وتعيش أسراب حشرة المن عادة علي الأسطح السفلي لأوراق وأفرع النباتات التي تتطفل عليها‏,‏ وتتركز عادة عند القمة النامية للنبات حيث تكون غضة وسهلة الاختراق فترسل الإبر الثاقبة الدقيقة في فكيها العلويين للقيام بعملية الثقب والاختراق تلك‏,‏ ثم ترسل الإبر الماصة الدقيقة في فكيها السفليين عبر الثقوب المتكونة للقيام بعملية الامتصاص من العصارة الغذائية للنبات‏.‏

وتنتقل الحشرة بعمليات الثقب والامتصاص من نقطة إلي أخري علي أسطح أوراق‏,‏ وأفرع‏,‏ وسيقان النباتات مما قد يتسبب في أضرار بالغة لتلك النباتات خاصة إذا كانت من النباتات الصغيرة‏,‏ فتسترخي أوراقها‏,‏ ثم تتجعد‏,‏ ويتحول لونها إلي الإصفرار‏,‏ ثم إلي السواد‏,‏ ومن بعد تبدأ بالتساقط‏,‏ وقد تؤدي هذه العملية إلي ذبول النبتة‏,‏ ووقف نموها بالكامل حتي تموت‏,‏ ويحدث ذلك عادة في حالة النباتات الصغيرة‏,‏ أما الأشجار فقد لا تتأثر بعملية التطفل تلك إلا في بعض الحالات الاستثنائية‏.‏
وموت النبات في حالة تعرضه لتطفل الحشرات الماصة لعصارته الغذائية ليس مقصورا علي سحب قدر من تلك العصارة ولكن بسبب الفيروسات التي يمكن أن تنقلها تلك الحشرات من نبات إلي آخر أثناء قيامها بعملية التطفل علي تلك النباتات‏,‏ خاصة أن هذه الحشرات المتطفلة تنفث جزءا من لعابها علي العصارة الغذائية للنبات قبل امتصاصها وذلك بهدف هضمها‏,‏ فإذا كانت قطرات اللعاب حاملة لعدد من فيروسات الأمراض فإنها تغرسها في الحزم الوعائية الحاملة للعصارة الغذائية وتتحرك منها إلي جميع أجزاء النبات فتدمره‏.‏

وقد أدت هذه الفيروسات التي تحملها الحشرات الماصة للعصارات الغذائية للنبات ـ ولا تزال تؤدي ـ إلي تدمير العديد من المحاصيل الزراعية المهمة مثل قصب السكر‏,‏ البنجر‏,‏ البطاطس‏,‏ وغيرها مما تتهم حشرة المن بنقل فيروسات الأمراض إليها‏.‏
وبعد سحب كميات كبيرة من العصارات الغذائية للنباتات المختلفة تقوم حشرة المن باستهلاك جزء مما مصته من تلك العصارات في توليد الطاقة اللازمة لنشاطها‏,‏ وفي بناء خلايا جسدها‏,‏ وإعادة بناء ما يموت منها‏,‏ ثم تقوم بإفراز ما يزيد علي حاجتها علي هيئة تلك المادة البيضاء اللزجة‏,‏ الحلوة المذاق والمعروفة باسم‏(‏ من السماء‏)‏ أو الندوة العسلية‏.‏ وتقوم الحشرات بإسقاط إفرازاتها تلك علي أوراق‏,‏ وفروع وجذوع الأشجار والنباتات الأخري التي تتطفل عليها بالليل علي هيئة قطرات من سائل شمعي أو صمغي رائق سرعان ما يفقد ما به من ماء فيتجمد ويبدو في الصباح الدافئ الساكن علي هيئة دقيق أو رقائق المن الجافة‏,‏ وقد تتساقط قطرات من هذا السائل الحلو علي الأرض المحيطة بالنبات الذي يتعرض لتطفل حشرة المن فتشكل مصدرا من مصادر الغذاء الميسر للعديد من الحشرات الأخري مثل النمل‏,‏ والنحل‏,‏ والذباب‏,‏ مما يجعل تلك الحشرات تتآخي مع حشرة المن لكي تنال جزءا من إفرازها العسلي‏,‏ كما يمكن أن ينمو علي هذا السائل العسلي أيضا عديد من الفطريات والطحالب فيتغير لونه إلي ظلال داكنة حتي السواد‏.‏ كذلك قد يؤدي تقاطر العصارة الغذائية علي الأرض إلي خصوبة التربة‏,
‏ كما قد تسيل تلك العصارة نتيجة للثقوب الدقيقة والعديدة التي تحدثها حشرات بق النبات‏(‏ مثل المن‏)‏ في أنسجة النباتات‏,‏ وسرعان ما تتجمد تلك القطرات علي هيئة رقائق بيضاء‏,‏ جافة نتيجة لفقد بعض محتواها من الماء‏,‏ وهذه الرقائق الدقيقة التي عرفت تجاوزا باسم من السماء حلوة المذاق لاحتوائها علي نسب عالية من السكريات مثل سكر العنب‏(‏ الجلوكوز‏),‏ وسكر الفواكه‏(‏ الفركتوز‏)‏ بالإضافة إلي سكر خاص يعرف باسم سكر المن‏(‏ المانوز‏)‏ وعدد من الكربوهيدرات الأخري‏,‏ وكلها مستساغ الطعم‏,‏ وسهل الهضم والامتصاص‏,‏ وله قيمة غذائية كبيرة ولذلك يصلح المن غذاء جيدا للإنسان‏,‏ كما يصلح لعدد من الأغراض الطبية العلاجية‏,‏ أو لبعض الصناعات الغذائية الخاصة‏.‏
ولسنا ندري إن كان هذا هو المن الذي كان قوم نبي الله موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ يجمعونه من فوق شجر الأثل المنتشر في شبه جزيرة سيناء أم غيره‏,‏ خاصة أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وصف الكمأة في أحد أحاديثه الشريفة علي أنها من المن فقال‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ الكمأة من المن‏,‏ وماؤها شفاء للعين‏(‏ البخاري‏,‏ مسلم‏,‏ الترمذي‏)‏ و‏(‏ الكمأة‏)‏ واحدها‏(‏ كمء‏)‏ وهي درنة من الفطريات الجذرية التي تنمو تحت الأرض بالتكافل مع جذور عدد من النباتات الخاصة التي تتعايش معها إلي عمق يصل إلي ثلاثين سنتيمترا تحت سطح الأرض‏.‏ وتنمو الكمأة في جماعات مكونة من عشر إلي عشرين درنة في الموقع الواحد من التربة‏,‏ وهذه الدرنات كروية أو شبه كروية‏,‏ لحمية الملمس‏,‏ رخوة ويتدرج لونها من الأبيض إلي الأسود مرورا بألوان الرمادي والبني‏,‏ وتتميز برائحتها النفاذة وقيمتها الغذائية العالية‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستتارها بالتربة حتي تنفطر عنها‏,‏ ومعناها المكتومة لأن العرب تقول كمأ فلان الشهادة إذا كتمها‏.‏ وتنمو‏(‏ الكمأة‏)‏ في صحاري الوطنين العربي والإسلامي من موريتانيا غربا إلي أواسط آسيا شرقا في بيئات تتراوح بين الرملية‏,‏ والحصوية‏,‏
والحجرية‏,‏ ويزدهر نموها عادة بعد مواسم العواصف الرعدية‏,‏ ومن هنا أطلق عليها البدو اسم نبات الرعد‏.‏
وللكمأة أنواعها المتعددة التي تختلف في أشكال‏,‏ وألوان درناتها‏,‏ وفي طبيعة الأرض التي تنمو عليها‏,‏ وأنواع جذور النباتات التي تتعايش معها‏,‏ والأعماق التي تتواجد فيها‏.‏ وأكثر أنواعها انتشارا ينمو في الطبقة السطحية من التربة‏,‏ ويدرك عن طريق تشققاتها في اتجاهين عموديين وقت نضج الدرنات‏,‏ فيبادر أهل الصحراء بجمعها‏.‏ ولكن إذا لم تجمع فإن هذه الدرنات سرعان مايتكون بداخلها أبواغ‏(‏ واحدها بوغ أو بوغاء‏)‏ علي هيئة الدقائق الترابية الناعمة جدا والتي تتطاير في الجو إذا مست لتناهي مكوناتها في الدقة‏,‏ وبانفجار كيس الأبواغ تنتشر محتوياته في التربة وتكمن فيها إلي موسم المطر‏(‏ في حدود أواخر شهر أكتوبر الذي يتميز بالأمطار الرعدية المصاحبة للسحب الركامية‏),‏ وعند سقوط هذه الأمطار الرعدية الغنية بأكاسيد النيتروجين علي التربة فإنها تكون العديد من المخصبات للتربة من النترات التي تتغذي عليها الأبواغ بعد أن تستيقظ من سباتها الطويل وتتحول إلي خيوط فطرية دقيقة تتحرك إلي جذور النباتات الممتدة في داخل التربة التي تتواجد الأبواغ فيها فتخترقها وتنفذ‏(‏ بتقدير الله تعالي‏)‏ إلي داخل أنسجة تلك الجذور النباتية متطفلة عليها في غذائها حتي يكتمل نموها علي هيئة الدرنات الكاملة‏.‏

والكمأة مصدر مهم جدا للبروتينات النباتية بين جميع نباتات الصحراء‏,‏ وتحتوي درناتها علي‏77%‏ من وزنها ماء‏,23%‏ مواد صلبة منها‏13,8%‏ كربوهيدرات‏,5,75%‏ دهون ومواد بروتينية أخري‏,‏ والباقي‏(3,45%)‏ يبقي علي هيئة رماد بعد حرق درنة الكمأة يحتوي علي العديد من عناصر الأرض الفلزية واللافلزية‏.‏ وقد تم التعرف علي سبعة عشر حمضا من الأحماض الأمينية المهمة في بروتينات الكمأة‏,‏ وعلي عدد من الفيتامينات أهمها فيتامين ـ ا‏.‏
وفي وصف رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ للكمأة بأنها من المن تعبير عن أنها تنبت بفضل من الله ومنه‏,‏ لأنها لاتزرع‏,‏ ولاتستزرع‏,‏ ولاتحتاج إلي مئونة بذور وبذرة أو سقي وعزق‏,‏ ولاتحتاج من الإنسان إلي شيء من الرعاية أو التعب والنصب سوي مايبذله في جمعها ثمرة غضة ناضجة‏,‏ ومن هنا كان وصفها بالمن لأنها تنبت بفضل من الله ومنه‏.‏ وبالإضافة إلي قيمتها الغذائية العالية فإن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أضاف في وصفها أن ماءها شفاء للعين‏,‏ وانطلاقا من هذا الحديث الشريف كان المسلمون يغلونها في الماء ثم يبردونه‏,‏ ويكتحلون أو يتقطرون به‏.‏ وقد قام أحد كبار أطباء العيون المسلمين المعاصرين‏(‏ وهو الأخ الكريم الدكتور المعتز المرزوقي‏)‏ بإثبات أن ماء الكمأة يمنع حدوث التليف في حالات أمراض العيون المعروفة باسم التراكوما‏,‏ والرمد الحبيبي‏,‏ والرمد الربيعي وكلها قد يفضي إلي فقدان البصر بسبب تليف قرنية العين يقلل ماء الكمأة من حدوث مثل هذا التليف بشكل ملحوظ تصديقا لنبوءة المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏ وسواء كان المقصود بالمن تلك الإفرازات الصمغية‏/‏ السكرية الحلوة المذاق التي تفرزها بعض النباتات الصحراوية مثل الأثل أ
و الطرفة‏,‏ والتي تسيل منها علي هيئة قطرات من عصاراتها الغذائية بطريقة فطرية أو نتيجة لثقبها بواسطة أنواع خاصة من الحشرات التي تعيش علي امتصاص العصارات الغذائية لتلك النباتات‏,‏ ثم تجف بعد سيلانها علي أسطح الأجزاء النباتية المختلفة بسبب فقدها لمكوناتها المائية متحولة إلي تلك التجمعات الحلوة المعروفة باسم من السماء‏.‏ أو كانت تلك التجمعات السكرية ناتجة عن إفرازات الحشرات التي تتغذي علي العصارة النباتية من مثل حشرة المن‏(‏ أو بق النباتات‏)‏ فتستهلك جزءا منها وتفرز مايزيد علي حاجتها علي هيئة تلك المادة السكرية‏,‏ أو أن المقصود بذلك‏(‏ الكمأة‏)‏ ومايشبهها من أنواع الرزق الذي يسوقه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ إلي من يشاء من عباده علي غير جهد منه سوي جمعه لأن‏(‏ المن‏)‏ هو اسم للعطاء الرباني بصفة عامة‏,‏ فإن الجمع بين‏(‏ المن والسلوي‏)‏ في النص القرآني الكريم الذي نحن بصدده يرجح المعني الأول علي أنه رزق نباتي ساقه الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لقوم موسي ـ وهم الجاحدون لنعمه‏,‏ المرتدون عن عبادته إلي عبادة العجل‏,‏ والمنكرون لأفضاله وكراماته ومعجزاته‏,‏ والمتمردون علي رسوله إليهم ـ ليجمعوه ويأكلوه وهم في التيه بشبه جزيرة سيناء أقرب إلي الهلاك والضياع من النجاة إلي بر الأمان‏.‏

والجمع بين‏(‏ المن والسلوي‏)‏ بهذا المعني هو جمع بين الكربوهيدرات النباتية‏(‏ بما فيها من سكريات ونشويات وغيرها‏)‏ ممثلة في المن وبين البروتينات الحيوانية ممثلة في السلوي‏,‏ وكلاهما لازم لإنتاج الطاقة ولبناء خلايا جسم الإنسان‏.‏ هذا بالإضافة إلي أن البروتينات المستمدة من لحوم الطيور مثل السلوي‏(‏ طير السمان أو السماني‏)‏ هي أيسر في الهضم وافضل لجسم الإنسان من تلك المستمدة من لحوم الأنعام‏,‏ وهي أيضا أفضل في ذلك من بروتينات البقول النباتية من حيث سهولة هضمها وتمثيلها واستفادة جسم الإنسان منها‏.‏ ولذلك جاء في الآيات التالية قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ وإذ قلتم ياموسي لن نصبر علي طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدني بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ماسألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‏.(‏ البقرة‏:61).‏
وواضح المعني أن الأدني هو‏(‏ البقل‏,‏ والقثاء والفوم والعدس والبصل‏),‏ وأن الذي هو خير هو‏(‏ المن والسلوي‏),‏ والبقل يشمل عددا من نباتات المحاصيل‏(‏ مثل الفول‏,‏ البازلاء‏,‏ الفاصوليا‏,‏ اللوبيا‏,‏ الحمص‏,‏ الفول السوداني‏,‏ فول الصويا‏,‏ الحلبة‏,‏ الترمس‏,‏ وغيرها‏),‏ والقثاء ثمرة من العائلة القرعية‏(‏ التي تشمل الخيار‏,‏ الكوسة‏,‏ القرع العسلي‏,‏ البطيخ‏,‏ الشمام‏,‏ والقاوون‏,‏ وغيرها‏).‏ أما‏(‏ الفوم‏)‏ فقد قيل فيه أنه الحنطة‏(‏ وتشمل غيرها من الحبوب التي تخبز من مثل الذرة والشعير‏)‏ أو إنه الثوم والقول الأول أصح‏,‏ والعدس من البقول وخصص بالاسم لقيمته الغذائية وأهميته الخصوصية‏,‏ والبصل من العائلة الزنبقية‏(‏ وتشمل ـ بالإضافة إلي البصل ـ الثوم‏,‏ والكرات البلدي‏,‏ والكرات أبوشوشة وغيرها‏).‏

وفضل البروتينات المستمدة من لحوم الطيور علي تلك المستمدة من كل من لحوم الأنعام ومن البقول وكذلك فضل السكريات وغيرها من الكربوهيدرات المستمدة من من السماء علي مثيلاتها في المحاصيل النباتية من الأمور التي لم تدرك‏,‏ إلا في القرن العشرين‏,‏ والإشارة إليها في كتاب الله الذي أنزل منذ أكثر من أربعة عشر قرنا علي نبي أمي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين يعتبر من الأدلة العلمية علي صدق القرآن الكريم‏,‏ وصدق الوحي الذي تلقاه خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ عليه وعليهم أجمعين أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏)‏ وعلي صدق نبوته ورسالته‏,‏ هذا فضلا عن الإنباء بدقة بالغة عن حدث تاريخي لم يكن لأحد من الأميين ولا القادرين علي القراءة والكتابة في الجزيرة العربية إلمام به‏,‏ حتي من لديهم إلمام تضاربت أقوالهم في وصف هذه الواقعة تضاربا كبيرا ولايزال هذا التضارب واضحا فيما بقي من آثارهم إلي يومنا الراهن‏.‏ فالحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي بعثة خير الأنام‏,‏ وخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله الذي أكمل الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ببعثته الدين‏,‏ وأتم نعمه علي خلقه والتي كان من أجلها تعهد الله الخالق بحفظ رسالته الخاتمة حفظا كاملا بنفس لغة وحيها حتي تكون شاهدة علي الناس أجمعين إلي يوم الدين‏,‏ وما ذلك علي الله بعزيز‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏
رد مع اقتباس