جديد المواضيع |
للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب |
منتدى السنة | الأذكار | زاد المتقين | منتديات الجامع | منتديات شباب الأمة | زد معرفة | طريق النجاح | طبيبة الأسرة | معلوماتي | وادي العرب | حياتها | فور شباب | جوابى | بنك أوف تك |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
والقمر قدرناه منازل حتي عاد كالعرجون القديم
والقمر قدرناه منازل حتي عاد كالعرجون القديم
بقلم: د. زغـلول النجـار ذه الآية الكريمة جاءت في نهاية النصف الأول من سورة يس, وهي سورة مكية, وآياتها(83), ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية, ومن أسسها الإيمان بالله الخالق: إلها واحدا لا شريك له في ملكه, ولا منازع له في سلطانه, ولا شبيه له من خلقه, والإيمان بالقرآن الكريم, آخر كتب الله, والكتاب المنزل علي خاتم أنبيائه ورسله, والإيمان ببعثة هذا النبي والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) الذي ختمت ببعثته النبوات, وتكاملت في رسالته كل رسالات السماء, والإيمان بالبعث والنشور, والحساب والخلود في الآخرة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا. وقد سميت السورة بهذا الإسم لاستهلالها بالحرفين المقطعين( يس), والحروف المقطعة التي استفتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرأن الكريم, والتي تضم نصف عدد أسماء حروف الهجاء الثمانية والعشرين تعتبر سرا من أسرار القرآن الكريم التي لم يتم أكتشافها بعد, وإن بذلت محاولات عديدة في سبيل ذلك. وقد تكون هذه الأحرف الهجائية المقطعة رموزا إلي كلمات, أو معان, أو أعداد معينة, أو أسماء للسور التي وردت في أوائلها, أو وسيلة قرع للأسماع والقلوب كي تنشط وتتنبه لتلقي القرآن الكريم, أو أنها جعلت للدلالة علي صدق رسول الله( صلي الله عليه وسلم) من حيث نطقه بأسماء الحروف وهو أمي, والأمي لا يعرف أسماء الحروف وإن نطق بأصواتها, وقد تكون للتنبيه علي إعجاز القرأن الكريم الذي صاغه الله( تعالي) من جنس تلك الحروف الهجائية التي يتكلم بها العرب.. ويعجزون من الإتبان بشيء من مثله, وقد تكون كل ذلك وغيره. ويروي عن ابن عباس( رضي الله عنهما) قوله: أن يس معناها ياأيها الإنسان في لهجة طيء, وقيل إنها من أسماء رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بدليل توجيه الخطاب إليه في جواب القسم بالقرأن الحكيم وذلك بقول الحق( سبحانه وتعالي): إنك لمن المرسلين* وقيل إن معناها: ياسيد البشر, والله( تعالي) أعلم. وبعد هذا الاستهلال يقسم ربنا تبارك وتعالي ـ وهو الغني عن القسم ـ بالقرأن الحكيم( أي المتضمن للحكمة والناطق بها, والمحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, والمصون من الضياع والتحريف) وهذا القسم بالقرآن الحكيم جاء تأكيدا علي صدق نبوة ورسالة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) التي حاول نفر من الكفار والمشركين التشكيك فيها قديما كما فعل كفار قريش وحديثا كما يفعل الذين لا يزالون يحاولون..!! وأقسم الله( تعالي) بالقرأن الحكيم علي أن الإسلام العظيم هو صراطه المستقيم, وهو دينه القويم الذي أوحي به إلي كل نبي وإلي كل رسول, وأن القرأن الكريم هو تنزيل من الله العزيز الرحيم يحمله هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) الي قومه الذين لم يسبق لآبائهم أن تلقوا مثل هذا الوحي فبقوا في غفلة عن الدين, الذي جاء المصطفي لينذرهم به, وينذر من بعدهم العالم بأسره, وذلك لأن الغالبية العظمي من كفار قريش, ومن بعدهم غالبية أهل الأرض اليوم هم من غير المؤمنين, الذين تمادوا في الغي والضلال, وفي تكذيب الرسالة الخاتمة فحق عليهم عذاب الله وانتقامه...!! وتصف الآيات بعد ذلك جانبا من أحوال هؤلاء الكافرين المعرضين عن الحق, وهم نمط للكفر في القديم والحديث واحد..!! واستعرضت سورة يس عددا من الشواهد الكونية المبهرة الدالة علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة, والناطقة بألوهية الخالق( سبحانه وتعالي), وربوبيته ووحدانيته, والمنذرة ـ في نفس الوقت ـ من عواقب التكذيب بالوحي الخاتم. ومن أجل ذلك أوردت السورة الكريمة قصة أهل القرية التي كذبت رسل ربها, وجحدت نصح الناصحين من أبنائها, بعد أن بعث الله( تعالي) إليهم بثلاثة من رسله فكذبوهم, وأوفد إليهم رجلا منهم ينصحهم بضرورة الإيمان الخالص بالله, والتوحيد المطلق لجلاله فقتلوه, وأدخله الله( تعالي) الجنة, ولم يمهل قومه المجرمين فدمرهم من بعده تدميرا..!! ومن الغريب أن الناس لايعتبرون بسير الأمم البائدة والتي أهلكها الله( تعالي) بكفرها, وماأكثر القصص القرآني في ذلك..!!. واستعرضت السورة الكريمة موقف المعرضين عن الهداية الربانية, والمكذبين بالآخرة, ووصفت جانبا من سلوكياتهم, وصورا لنفسياتهم, وطرائق تفكيرهم, وعرضت لجوانب من ضلالهم وحيرتهم في الدنيا, ولضياعهم وهلاكهم في الآخرة, ومن مواقفهم يوم البعث الذي استعرضت جانبا من أهواله, من مثل نفخة الصور الأولي التي تعرف باسم نفخة الفزع الأكبر, والتي تصدر إعلانا عن نهاية الحياة الدنيا, ثم تأتي نفخة الصعق التي يصعق بها كل من في الأرض فيموتون, ثم تكون بعد ذلك نفخة البعث والنشور التي يخرج بها الناس مذهولين من القبور, فيعلموا أن وعد الله حق..!! وتمايز السورة الكريمة بين مصائر أهل الجنة ومصائر أهل النار في الآخرة, فالضالون المكذبون الذين اتبعوا خطوات الشيطان ـ وهو عدو لهم ـ فأضلهم عن طريق الهداية الربانية الحقة خسروا في الدنيا والآخرة, وهم في النار يصطلون, وأصحاب الجنة في النعيم يرفلون. وتؤكد سورة يس أن طول الأجل في الحياة الدنيا منتكس للإنسان من القوة إلي الضعف, ومن الزيادة الي النقص مما يؤكد عجز الإنسان أمام قدرة خالقه, وحتمية الضعف والموت عليه. وتدافع الآيات عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) الذي اتهمه كفار قريش ـ زورا ـ بالشعر, كي يدعموا إدعاءهم الباطل أن القرأن الكريم من نظمه هو... فيرد ربنا( تبارك وتعالي) عليهم بقوله( عز من قائل): وماعلمناه الشعر وماينبغي له إن هو إلا ذكر وقرأن مبين* لينذر من كان حيا ويحق القول علي الكافرين*( يس:70,69) وتثبت الآيات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بخطاب من الحق( تبارك وتعالي) إليه يقول فيه( سبحانه): فلا يحزنك قولهم إنا نعلم مايسرون ومايعلنون*( يس:76) وتنتهي سورة يس إلي تمجيد الله( تعالي) وتنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله, هذا الإله الخالق العظيم الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وملكوت كل شيء, والذي إليه وحده مرجع كل الخلائق للحساب والجزاء, ولذلك ختمت بهذه الآية الجامعة التي تهتز لها القلوب والعقول والأبدان والتي تنطق بالحق الذي لا مراء فيه فتقول: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون*( يس:83) والآيات الكونية التي استشهدت بها سورة يس علي صدق ماجاء بها من عقائد وقصص وأحكام هي ايات كثيرة منها مايلي: (1) قدرة الله تعالي علي إحياء الموتي. (2) قدرته( تعالي) علي تدوين أعمال الخلق وآثارهم. (3) إحياء الأرض الميتة بإنزال المطر عليها وإنباتها بالنباتات المنتجة للحبوب, وملئها بجنات من نخيل وأعناب, وتفجير العيون من خلالها. (4) خلق كل شيء.. من زوجين. (5) سلخ النهار من الليل إشارة إلي دوران الأرض حول محورها أمام الشمس, والي رقة طبقة النهار, والي حقيقة أن الظلمة هي الأصل في الكون, وأن النور نعمة عارضة فيه. (6) جري الشمس لمستقر لها. (7) دوران القمر حول الأرض في منازل محددة, متدرجا في مراحل متتالية حتي يعود هلالا كالعرجون القديم. (8) جري كل من الشمس والقمر والأرض وبقية أجرام السماء كل في فلكه المحدد له. (9) حمل الأفراد من ذرية آدم الذين نجوا من الطوفان مع نوح( علي رسولنا وعليه من الله السلام) في الفلك المشحون. (10) خلق وسائل الركوب الأخري. (11) شهادة الأيدي والأرجل علي أصحابها يوم القيامة. (12) خلق الأنعام وتذليلها للإنسان. (13) خلق الإنسان من نطفة. (14) أن الذي خلق قادر علي البعث, لأنه( تعالي) هو العليم بكل خلق. (15) جعل الشجر الأخضر مصدرا للنار( أي للطاقة) (16) أن خالق السماوات والأرض قادر علي أن يخلق مثلهم وهو الخلاق العليم. (17) أن من صفات الألوهية أن يقول الله( تعالي) للشيء: كن فيكون. (18) أن الله( تعالي) بيده ملكوت كل شيء, وأن كل شيء عائد إليه( سبحانه وتعالي). وكل قضية من هذه القضايا تحتاج الي معالجة خاصة, ولذا فسوف أقصر الحديث هنا علي النقطة السابعة فقط في القائمة السابقة ألا وهي نقطة دوران القمر حول الأرض في منازل محددة, ومتدرجا في مراحل متتالية حتي يعود هلالا كالعرجون القديم والحكمة من هذه المنازل وهذا التشبيه وجوانب السبق العلمي في هذه الآية الكريمة, وقبل الخوض في ذلك لابد من استعراض أقوال عدد من المفسرين السابقين في شرحها. من أقوال المفسرين في تفسيرقوله( تعالي): والقمر قدرناه منازل حتي عاد كالعرجون القديم*( يس:39) * ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه:... ثم قال جل وعلا:( والقمر قدرناه منازل) أي جعلناه يسير سيرا آخر, يستدل به علي معني الشهور, كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار, كما قال( عز وجل):( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج). وقال تعالي:( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) الآية, وقال تبارك وتعالي:( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا), فجعل الشمس لها ضوء يخصها, والقمر له نور يخصه, وفاوت بين سير هذه وهذا, فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره علي ضوء واحد, ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفا وشتاء, يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل, ثم يطول الليل ويقصر النهار, وجعل سلطانها بالنهار...., أما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور, ثم يزداد نورا في الليلة الثانية ويرتفع منزلة, ثم كلما ارتفع ازداد ضياء وإن كان مقتبسا من الشمس, حتي يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة, ثم يشرع في النقص الي آخر الشهر, حتي يصير( كالعرجون القديم) قال ابن عباس: وهو أصل العذق, وقال مجاهد( العرجون القديم):' أي العذق اليابس, يعني أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحني, ثم بعد هذا يبديه الله تعالي جديدا في أول الشهر الآخر. * وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما نصه:( والقمر) بالرفع والنصب, وهو منصوب بفعل يفسره ما بعده( قدرناه) من حيث سيره( منازل) ثمانية وعشرين منزلا في ثمان وعشرين ليلة من كل شهر, ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما, وليلة إن كان تسعة وعشرين يوما( حتي عاد) في آخر منازله في رأي العين( كالعرجون القديم) كعود الشماريخ[ جمع شمراخ وهو عيدان عنقود النخيل الذي عليه الرطب] إذا عتق, فإنه يرق ويتقوس ويصفر. * وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم للاسلام والمسلمين) ما نصه:... والعباد يرون القمر في منازله تلك, يولد هلالا, ثم ينمو ليلة بعد ليلة حتي يستدير بدرا, ثم يأخذ في التناقص حتي يعود هلالا مقوسا كالعرجون القديم. والعرجون هو العذق الذي يكون فيه البلح من النخلة..... * وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه رحمة واسعة) ما نصه:( والقمر قدرناه منازل) أي قدرنا سيره في منازل, ينزل كل ليلة في منزل لا يتخطاه, ولا يتقاصر عنه, علي تقدير مستو من ليلة المستهل الي الثمانية والعشرين, ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر تاما, وليلة إن نقص يوما فإذا كان في آخر منازله رق وتقوس( حتي عاد) أي صار في رأي العين( كالعرجون القديم) أي العتيق اليابس, وهو عود العذق ما بين الشماريخ الي منبته من النخلة, والعذق: القنو من النخل وهو كالعنقود من العنب, والشماريخ: جمع شمراخ وشمروخ, وهو العيثكال الذي عليه البسر. وسمي عرجونا من الانعراج وهو الانعطاف, شبه القمر به في دقته وتقوسه واصفراره. * وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزي الله كاتبيه خيرا) ما نصه: والقمر جعلناه بتدبير منا منازل, إذ يبدو أول الشهر ضئيلا, ثم يزداد ليلة بعد ليلة, الي أن يكتمل بدرا, ثم يأخذ في النقصان كذلك, حتي يعود في مرآه كأصل العنقود من الرطب إذا قدم فدق وانحني واصفر. * وذكر صاحب صفوة التفاسير( جزاه الله خيرا) مانصه: (والقمر قدرناه منازل) أي والقمر قدرنا مسيرة في منازل يسير فيها لمعرفة الشهور, وهي ثمانية وعشرون منزلا في ثمان وعشرين ليلة ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاها ولا يتعداها, فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس( حتي عاد كالعرجون القديم) أي حتي صار كغصن النخل اليابس, وهو عنقود التمر حين يجف ويصفر ويتقوس.... القمر في القرآن الكريم جاء ذكر القمر في القرآن الكريم سبعا وعشرين مرة, كما جاءت الإشارة الي مراحله المختلفة تحت مسمي الأهلة مرة واحدة, ويكون مجموع ذلك ثمان وعشرين مرة وهي أيام رؤية القمر في كل شهر, وعدد منازله اليومية, ولا يمكن أن يأتي هذا التوافق الدقيق بمحض الصدفة لأن مثل هذه المقابلات في القرآن الكريم أكثر من أن تحصي, وأنها لو خدمت خدمة إحصائية دقيقة لأصبحت من أوضح جوانب الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. وهذه الآيات قمت بتصنيفها في مقال سابق, إلي عدد من المجموعات التي يمكن إيجازها فيما يلي: (1) آيتان تصفان القمر في رؤيتين من رؤي اثنين من رسل الله, إحداهما في حال اليقظة والأخري في المنام( الأنعام:77, يوسف:4) (2) آيتان تصفان الشمس والقمر مرة بأنهما حسبانا( أي وسيلةلحساب الزمن) والأخري بأنهما بحسبان( أي يجريان بحساب دقيق مقرر معلوم)( الأنعام:96, الرحمن:5) (3) إحدي عشرة آية, منها ما يتحدث عن خلق كل من الشمس والقمر, وسجودهما لله تعالي, وتسخيرهما بأمره ليكونا في خدمة خلق الله إلي أجل مسمي, واعتبارهما آيتين من آيات الله, ومنها ما ينهي عن السجود لهما, ويأمر بالسجود لخالقهما وحده( الأعراف:54, الرعد:2, إبراهيم:33, النحل:12, الأنبياء:33, الحج:18, العنكبوت:61, لقمان:29, فاطر:13, الزمر,5, فصلت:37) (4) آيتان تؤكدان طبيعة كل من الشمس والقمر, وتفرقان بينهما بأن الشمس ضياء, والقمر نور( يونس:5, نوح:16) (5) ثلاث آيات تتحدث عن منازل القمر وأطواره, أو عن أحد تلك الأطوار( البقرة189, يس:39, الإنشقاق:18) (6) آية واحدة تشير إلي دوران كل من الشمس والقمر والأرض في مدار محدد له( يس:40) (7) آية واحدة تثبت معجزة انشقاق القمر لرسول الله( صلي الله عليه وسلم)( القمر:1) (8) آيتان يقسم في كل منهما ربنا( تبارك وتعالي) بالقمر تعظيما لإبداع خلقه لأن الله( تعالي) غني عن القسم لعباده( المدثر:32, الشمس:2) (9) آيتان تتحدثان عن نهاية القمر في يوم القيامة( القيامة:9,8). منازل القمر في القرآن الكريم عرف الناس منذ القدم دورة القمر من المحاق إلي المحاق أو من الهلال إلي الهلال, وأستخدموها في تحديد الزمن, والتأريخ للأحداث, ولاحظوا أن القمر في دورته تلك يقع في كل ليلة من ليالي الشهر القمري بين ثوابت من النجوم أو من تجمعاتها الظاهرية, وسموا كلا منها منزلا من منازل القمر, وعرفوا أن عدد تلك المنازل ثمانية وعشرين بعدد الليالي التي يري فيها القمر. ويشير القرآن الكريم إلي منازل القمر بقول الحق( تبارك وتعالي): والقمر قدرناه منازل حتي عاد كالعرجون القديم*( يس39). وقوله( عز من قائل): هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون*( يونس:5) وقوله( سبحانه): يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج...*( البقرة:189) منازل القمر في علم الفلك يدور القمر حول الأرض في مدار شبه دائري يبلغ طوله حوالي2,4 مليون كيلو متر تقريبا, ويبلغ متوسط نصف قطره384,400 كيلو متر, وفي أثناء هذه الدورة يقع القمر علي خط واحد بين الأرض والشمس فيواجه الأرض بوجه مظلم تماما, وتسمي هذه المرحلة باسم مرحلة الاقتران, ويعرف القمر فيها باسم المحاق, وتستغرق هذه المرحلة ليلة إلي ليلتين تقريبا, ثم يبدأ القمر في التحرك ليخرج من هذا الوضع الواصل بين مراكز تلك الأجرام الثلاث فيولد الهلال الذي يحدد بمولده بداية شهر قمري جديد, ويقع هذا الهلال في أول منزل من منازل القمر, ويمكن رؤيته بعد ساعات من ميلاده إذا أمكن مكثه لمدة لا تقل عن عشر دقائق بعد غروب الشمس, وكان الجو علي درجة من الصفاء تسمح بذلك. وبإستمرار تحرك القمر في دورته البطيئة حول الأرض تزداد مساحة الجزء المنير من وجهه المقابل لكوكبنا بالتدريج حتي يصل إلي التربيع الأول في ليلة السابع من الشهر القمري, ثم إلي الأحدب الأول في ليلة الحادي عشر, ثم البدر الكامل في ليلة الرابع عشر, وفيها تكون الأرض بين الشمس من جهة, والقمر من الجهة الأخري علي استقامة واحدة. وبخروج القمر عن هذه الاستقامة مع كل من الأرض والشمس تبدأ مساحة الجزء المنير من وجهه المقابل للأرض في التناقص بالتدريج فيتحول إلي مرحلة الأحدب الثاني في حدود ليلة الثامن عشر, ثم إلي التربيع الثاني في ليلة الثالث والعشرين, ثم إلي الهلال الثاني في ليلة السادس والعشرين من الشهر القمري, ويستمر في هذه المرحلة لليلتين حتي يصل إلي مرحلة المحاق في آخر ليلة أو ليلتين من الشهر القمري حين يعود القمر إلي وضع الاقتران بين الأرض والشمس من جديد. ولما كان القمر يقطع في كل يوم من أيام الشهر القمري حوالي12 درجة من درجات دائرة البروج[360 درجة علي29,5 يوم=12,2 درجة] فإنه يقع في كل ليلة من ليالي الشهر القمري في منزل من المنازل التي تحددها ثوابت من النجوم أو من تجمعاتها الظاهرية حول دائرة البروج, وهذه المنازل ثمانية وعشرون منزلا بعدد الليالي التي يري فيها القمر, وتعرف باسم منازل القمر. ولما كان القمر في جريه السنوي مع الأرض حول الشمس يمر عبر البروج السماوية الإثني عشر التي تمر بها الأرض في كل سنة من عمرها, والتي تحدد بواسطتها شهور السنة الشمسية, فإن كل منزل من منازل القمر اليومية يحتل مساحة في برج من هذه البروج. ونتيجة لميل مستوي مدار القمر حول الأرض علي مستوي مدار الأرض حول الشمس بمقدار(5 درجات,8 دقائق) فإن المسار الظاهري لكل من الشمس والقمر علي صفحة السماء من نقطة شروق كل منهما إلي نقطة غروبه يبدو متقاربا بصفة عامة, وإن تبع القمر الشمس في أغلب الأحوال. وبصرف النظر عن دوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق أمام الشمس, ودوران القمر حول الأرض في نفس الإتجاه فإن كلا من الشمس والقمر يظهران في الأفق مرتفعين من جهة الشرق, وغائبين في جهة الغرب, وإن كان أغلب ظهور القمر هو بالليل لصعوبة رؤيته في وضح النهار. والقمر يسير في اتجاه الشرق بمعدل نصف درجة تقريبا في المتوسط في كل ساعة(360 درجة/29,5 يوم من أيام الشهر القمري=12,3 درجة).\(12,2 درجة/24 ساعة في اليوم=0,51 درجة في الساعة), بينما تقطع الشمس درجة واحدة في اليوم تقريبا: (مجموع زوايا دائرة البروج=360 درجة علي365,25 يوم( من أيام السنة الشمسية)=0,99 ـ درجة/ يوم تقريبا). من أن القمر يبقي في سباق دائم مع الشمس, إلا أنه يتأخر كل يوم في غروبه من40 إلي50 دقيقة عن اليوم السابق, تبعا لإختلاف كل من خطوط الطول والعرض. فالهلال الجديد يولد ويري في الأفق الغربي بعد غروب الشمس بقليل, ويأخذ ظهور القمر في التأخر عن غروب الشمس فيري في طور التربيع الأول في وسط السماء, ويتأخر ظهوره لفترة أطول بعد الغروب في مرحلة الأحدب الأول, ويري وهو أقرب إلي الأفق الشرقي, وفي مرحلة البدر يتفق ظهور القمر في الأفق الشرقي مع غياب الشمس في الأفق الغربي لوجودهما علي استقامة واحدة مع الأرض, وبعد الخروج عن هذه الاستقامة يأخذ القمر في التباطؤ في الظهور يوما بعد يوم بمعدل خمسين دقيقة في المتوسط حتي يصل مجموع التأخير في ظهوره إلي حوالي خمس ساعات بعد غروب الشمس وذلك في طور التربيع الثاني, ويستمر التباطؤ في ظهور القمر حتي يري الهلال الثاني في وضح النهار, وفي طور المحاق الذي لا يري فيه القمر من فوق سطح الأرض( لوقوعه بينها وبين الشمس) يغيب القمر مع مغيب الشمس تماما لوجودهما علي استقامة واحدة. وبمجرد خروج القمر من مرحلة المحاق ورؤية الهلال الوليد بعد غروب الشمس يولد شهر قمري جديد مع بدء إشراق الشمس علي جزء من وجه القمر المقابل للأرض, والذي كان يعمه ليل القمر في وقت الاقتران. ويتفاوت زمن اقتران النيرين( الشمس والقمر) بسبب أن كلا من مدار القمر حول الأرض ومدار كل من الأرض والقمر حول الشمس ليس تام الاستدارة بل علي شكل بيضاني( أي علي هيئة قطع ناقص), ومن قوانين الحركة في مدار القطع الناقص أن السرعة المحيطية تخضع لقانون يسمي باسم قانون تكافؤ المساحات مع الزمن, وهذا القانون يقتضي اختلاف مقدار السرعة علي طول المحيط, فعندما يقترب القمر من الأرض تزيد سرعته المحيطية فتزداد بالتالي القوة الطاردة( النابذة) المركزيةبينهما للحيلولة دون ارتطام القمر بالأرض وتدميرهما معا, وعلي العكس من ذلك فإنه عند ابتعاد القمر في مداره البيضاني عن الأرض فإن سرعته المحيطية تتناقص وإلا انفلت من عقال جاذبية الأرض إلي نهاية لا يعلمها إلا الله. وتتراوح سرعة دوران القمر في مداره بين3888 كيلو مترا في الساعة,3483 كيلو مترا في الساعة( بمتوسط3675 كيلو مترا في الساعة). كذلك تتفاوت سرعة سبح الأرض في فلكها حول الشمس بين29,274 كيلو متر في الثانية,30,274 كيلو متر في الثانية. وبجمع الفرق بين أعلي وأقل سرعتين لكل من القمر في مداره, والأرض في مدارها اتضح أنه يقابل الفرق في أطوال الأشهر القمرية بين(27,3215) يوما في مدة الدورة النجمية للقمر,(29,5306) يوما في دورته الاقترانية. والدورة النجمية للقمر حول الأرض تحسب باعتبار أن الأرض ثابتة لا تتحرك حتي يتم القمر دورته الكاملة حولها, والدورة الاقترانية للقمر تأخذ في الحسبان دوران الأرض حول محورها مع دوران القمر حول محوره. من أوجه الاعجاز العلمي في الآية الكريمة * نظرا للارتباط الشديد بين مراحل أشكال القمر المتتالية من الهلال الوليد إلي التربيع الأول إلي الأحدب الأول, إلي البدر, ثم الأحدب الثاني, ثم الهلال الثاني, ثم المحاق, إلي الهلال الوليد للشهر القمري الجديد, وبين منازل القمر الثمانية والعشرين وهي مواقعه اليومية المتتالية في السماء بالنسبة إلي نجوم تبدو مواقعها قريبة ظاهريا فإن التعبير منازل القمر يمكن إطلاقه علي مراحل القمر المتتالية وعلي منازله المتوافقة مع تلك المراحل( أي مواقعه المتتالية في السماء) باعتبار المنازل جمع( منزل) وهو المنهل والدار. * والقمر يبدأ ميلاده بهلال دقيق, ثم يتدرج في النمو حتي يصبح بدرا كاملا, ثم يعاود التناقص في الحجم حتي يصير كالعرجون القديم, ثم يختفي لمدة يوم أو يومين في مرحلة المحاق, وتتكرر هذه الدورة في كل شهر قمري حتي يرث الله الأرض ومن عليها. * وضوء الشمس يغمر نصف القمر باستمرار فينعكس من فوق سطحه المظلم نورا ينير ظلمه ليل الأرض, وكل مايستطيع أهل الأرض إدراكه من هذا النور يختلف من يوم إلي يوم تبعا لموضع كل من الأرض والقمر والشمس في صفحة السماء. والجزء المرئي من نور القمر قبل اكتماله بدرا يعرف باسم( قوس النور), أما البدر الكامل فيعرف باسم( دائرة النور), ونظرا لترنح القمر في دورانه حول محوره, ولضخامة حجم الشمس بالنسبة إلي حجم القمر فإن ضوء الشمس ينير أكثر من نصف سطح القمر بقليل, ولذلك فإنه يمكن أن يري خيط رفيع من النور يحيط بالقمر عند ميلاد الهلال. * والدائرة التي يراها سكان الأرض من القمر تعرف باسم دائرة الرؤية, والمساحة التي يمكن لهم رؤيتها من القمر( قوس النور) هو نتيجة العلاقة الوضعية بين كل من دائرة النور ودائرة الرؤية, وهما يتطابقان في كل من مرحلة البدر والمحاق, ويتعامدان في كل من التربيع الأول والأخير, وبين هذين الموضعين يتحرك القمر عبر مراحل وسطية من الأحدب إلي الهلال. * وتقدير هذه المنازل القمرية فيه من الدلالة علي طلاقة القدرة الإلهية ما فيه لأهميته في معرفة الزمن, وتقديره, وحسابه باليوم والأسبوع والشهر والسنة, وفي التأريخ للعبادات والأحداث والمعاملات والحقوق, ولما فيه من تأكيد علي ضبط سرعة القمر ضبطا دقيقا من أجل الحيلولة دون ارتطامه بالأرض فيفنيها وتفنيه, أو انفلاته من عقال جاذبيتها فينتهي إلي نهاية لا يعلمها إلا الله, وفي نفس الوقت الارتباط الدقيق بين سرعة دوران كل منهما حول محوره, فإذا زادت إحداهما قلت الأخري بنفس المعدل. ولما كانت سرعة دوران الأرض حول محورها في تناقص مستمر بمعدل جزء من الثانية في كل قرن من الزمن, فإن سرعة دوران القمر في تزايد مستمر بنفس المعدل تقريبا مما يؤدي إلي تباعد القمر عن الأرض بمقدار ثلاثة سنتيمترات في كل سنة, وهذا التباعد سوف يخرج القمر في يوم من الأيام من إسار جاذبية الأرض ليدخله في نطاق جاذبية الشمس فتبتلعه تحقيقا للنبوءة القرآنية التي يقول فيها الحق( تبارك وتعالي): فإذا برق البصر* وخسف القمر* وجمع الشمس والقمر*( القيامة:7 ـ9) ومن هنا كانت هذه الاشارة القرآنية المعجزة إلي وصف مراحل القمر المتتالية في كل شهر والتي يقول فيها ربنا( سبحانه وتعالي: والقمر قدرناه منازل حتي عاد كالعرجون القديم*( يس:39) ويضاف إلي هذه المعجزات القرآنية التي لا تنتهي أبدا, وصف المرحلة الأخيرة من مرالح الدورة الشهرية للقمر بالعرجون القديم. وهو العنقود من الرطب( العذق) إذا يبس وانحني, وأصفر لونه وهو عند يبوسه علي النخلة ينحني تجاهها فكذلك الهلال الثاني ينحني بطرفيه تجاه الأرض, بينما الهلال الوليد ينحني بهما بعيدا عنها.. فما أروع هذا التشبيه القرآني..! هذه الحقائق عن القمر لم يدركها العلم الكسبي إلا بعد مجاهدة استغرقت آلاف العلماء وعشرات القرون, وورودها في آية واحدة من كتاب الله الذي أنزل علي نبي أمي( صلي الله عليه وسلم), وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين, ومن قبل ألف وأربعمائة سنة مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وتعهد بحفظه فحفظ بنفس لغة وحيه( اللغة العربية): حفظ حفظا كاملا, حرفا حرفا, وكلمة كلمة, وآية آية, وسورة سورة, كما هو مرتب في بلايين النسخ المطبوعة والمستنسخة علي الشرائط الممغنطة وعلي غيرها من وسائط التسجيل, والمنقول نقلا متواترا عبر أربعة عشر قرنا, والمحفوظ في بلايين الصدور بنفس ترتيب المصحف الشريف, فظل محتفظا بجلال الربوبية والألوهية الذي يتراءي بين آياته, وباشراقاته النورانية, وصدق حديثه في كل قضية من قضاياه, فالحمد لله علي نعمة الاسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والصلاة والسلام علي النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه, وعلي آله وصحبه, وعلي كل من تبع هداه, ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
#2
|
|||
|
|||
رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا
رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار هذه الآية الكريمة جاءت في مطلع الثلث الأخير من سورة مريم, وهي سورة مكية, عدد آياتها98 بعد البسملة, وقد سميت بهذا الأسم لورود قصة السيدة مريم ابنة عمران فيها, ومعجزة ولادتها للسيد المسيح( عليه السلام), وهي عذراء لم يمسسها بشر, ومعجزة كلامه( عليه السلام), وهو في المهد دفاعا عن أمه( شرفها الله) التي حاول اليهود( عليهم لعنة الله) أن ينالوا من شرفها, كما لوثوا سيرة كل نبي أرسل إليهم....!! والمحور الرئيسي لسورة مريم يدور حول قضية العقيدة بأبعادها المختلفة, وفي مقدمتها توحيد الله, توحيدا مطلقا فوق كل خلقه, وتنزيهه( سبحانه وتعالي) عن كل وصف لايليق بجلاله من مثل نسبة الولد أو الشريك إليه, والتأكيد علي طلاقة قدرته التي لاتحدها حدود, ولايقف أمامها عائق; وترسيخ عقيدة البعث, والحساب, والجنة, والنار, وإثبات وحدة رسالة السماء التي أنزلها ربنا( تبارك وتعالي) علي فترة من الرسل, وسماها باسم الإسلام, والدعوة إلي الاجتهاد في القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بحسن عمارتها, وإقامة عدل الله فيها, وإشاعة الأمن والفضيلة في أرجائها والتذكير بالآخرة والتحذير من أهوالها...!! ولتأكيد هذه المعاني تعرض سورة مريم لجوانب من القصص المتعلق بعدد من أنبياء الله, ولمصارع مكذبيهم في الدنيا من الكفار والمشركين, ولمصيرهم الأسود في الآخرة....!! وتبدأ سورة مريم بخمسة من الحروف المقطعة, وهي( كهيعص), وقد وردت بهذه الصيغة مرة واحدة في القرآن كله. وهذه الفواتح الهجائية أو( الحروف المقطعة) تتكون من أربعة عشر حرفا, جمعت في أربع عشرة صيغة, ورد كل منها مرة واحدة إلا أربعا منها هي:( ألم), وقد تكررت ست مرات في القرآن الكريم,( الر), وقد تكررت خمس مرات,( طسم), وقد تكررت مرتين, و(حم), وقد تكررت بمفردها ست مرات, وتكررت مرة سابعة في الصيغة الخماسية( حم* عسق), وبذلك يكون مجموع الصيغ المكررة تسع عشرة, ومجموع الصيغ غير المكررة عشر صيغ, وتضم هذه الفواتح الهجائية أسماء نصف حروف الهجاء الثمانية والعشرين, وقد استفتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم. وهذه الفواتح الهجائية هي من أسرار القرآن العظيم, التي توقف عن الخوض فيها أعداد من علماء المسلمين مكتفين بتفويض الأمر فيها إلي الله( سبحانه وتعالي), ورأي عدد آخر ضرورة الاجتهاد في تفسيرها وفهم دلالاتها, وإن لم يصلوا بعد إلي إجماع في ذلك, فمنهم من رأي فيها رموزا إلي كلمات أو معان, أو أعداد معينة, أو أسماء للسور التي وردت في أوائلها; ومنهم من رأي فيها وسيلة قرع لأسماع وقلوب القارئين للقرآن أو المستمعين إليه, حتي يتهيأوا لتلقي كلام الله; ومنهم من رأي فيها معجزة لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) من حيث نطقه بأسماء الحروف, وهو أمي, والأمي ينطق بأصوات الحروف دون معرفة أسمائها; ومنهم من رأي فيها تنبيها عن إعجاز القرآن الكريم الذي صيغ من جنس تلك الحروف الهجائية التي يتكلم بها العرب, ويعجزون عن الإتيان بشئ من مثله وقد يكون فيها كل ذلك, وغيره مما لايعلمه إلا الله( تعالي); هذا وقد جمع عدد من المفسرين هذه الحروف في مجموعات من الجمل من أشهرها: نص حكيم قاطع له سر. وبعد هذا الاستهلال المميز استعرضت السورة الكريمة ضراعة نبي الله زكريا( عليه السلام) إلي الله( تعالي), خفية, أن يهبه ذرية صالحة, وقد بلغ منه الكبر مبلغا, وكانت امرأته عاقرا, وكيف استجاب الله لدعائه, ووهبه يحيي نبيا, وسيدا, وحصورا, وكانت ولادته من أم عاقر, وأب طاعن في السن معجزة ناطقة بطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود. ثم انتقلت السورة إلي قصة السيدة مريم البتول( عليها رضوان الله), وحملها دون أن يمسها بشر, ووضعها لنبي الله عيسي( علي نبينا وعليه السلام); وإنطاق الله( تعالي) لهذا الوليد المبارك, وهو في المهد, وما رافق هذه المعجزات من مشاهد وأحداث تؤكد عبودية المسيح لله الخالق( سبحانه وتعالي), وذلك بنطقه المدون في سورة مريم بالنص التالي: قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا* وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا* وبارا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا* والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا*( مريم:30 ـ33). وتستمر الآيات مؤكدة اختلاف كل من اليهود والنصاري حول شخص المسيح( علي نبينا وعليه السلام), وانحراف غالبية أتباعه عن منهجه, وانقسامهم إلي العديد من الفرق; وانغماسهم في بحور من الضلال المبين, ولذلك تتهددهم الآيات بيوم القيامة ومشاهده المفزعة كما تؤكد تنزيه الله( تعالي) عن الولد, وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي): ذلك عيسي ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون* وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم* أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين* وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لايؤمنون* إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون* (مريم:34 ـ40). وبعد ذلك تعرض سورة مريم لجانب من قصة نبي الله إبراهيم( علي نبينا وعليه السلام) وحواره مع أبيه, وثباته علي الحق الذي شرح الله صدره له, وإكرام الله( تعالي) له بذرية صالحة من الأنبياء علي الرغم من كبر سنه; وأتبعت ذلك بالحديث عن سلسلة من أنبياء الله( علي نبينا وعليهم من الله السلام), ومنهم موسي, وهارون, وإسماعيل, وإدريس, وجميعهم من ذرية آدم( عليه السلام),ومنهم من هو ممن حملهم الله( تعالي) مع نوح, ومنهم من هو من ذرية كل من إبراهيم, ويعقوب( عليهما السلام), وممن هدي الله واجتبي, وقد استغرق الحديث عن هذه السلسلة الطويلة من الأنبياء ثلثي سورة مريم تقريبا. وقد ألمحت السورة الكريمة إلي انحراف الذين جاءوا من بعد هذه السلسلة الصالحة, فحادوا عن منهج الله, وفيهم تقرأ الآيات: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا* إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولايظلمون شيئا*( مريم:60,59) واستعرضت السورة جانبا من وصف الجنة; ثم انتقلت إلي تأكيد حقيقة أن الملائكة لاتتنزل إلا بأمر الله, وتوصي الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) ـ ومن ثم توصي آتباعه ـ بالاصطبار علي عبادة الله وجعلها محورا للحياة, فتقول: ومانتنزل إلا بأمر ربك له مابين أيدينا وماخلفنا ومابين ذلك وما كان ربك نسيا* رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا*( مريم:65,64). وتعرج السورة الكريمة إلي انكار الكثيرين لحقيقة البعث, وتذكرهم بخلقهم الأول من العدم, وتهددهم بحشرهم جثيا علي ركبهم حول جهنم, وإلقائهم جثيا فيها, ونجاة المتقين من هذا المشهد الرهيب. وتشير سورة مريم إلي تفاخر الكفار والمشركين في هذه الدنيا بشيء من حطامها الفاني, ومتاعها الزائل, وتستنكر تعاليهم علي المسلمين, وتعييرهم لهم بفقرهم, وترد عليهم بقول الحق( تبارك وتعالي): قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتي إذا رأوا مايوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا*( مريم:75). وتذكر السورة الكريمة بالهالكين من الأمم السابقة; وبأن الله( تعالي) يمد للضالين في غيهم حتي إذا أخذهم لم يفلتهم, ويزيد الذين اهتدوا هدي, وأنه لايبقي من هذه الحياة الدنيا إلا العمل الصالح. وتستعرض السورة مواقف بعض الكفار والمشركين في استعلائهم علي الحق وأهله, وصلفهم في التعامل مع الله ومع خلقه, وتطالب الآيات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) أن يصبر علي أذاهم وبألا يعجل عليهم لأن حساب الله ينتظرهم في يوم يصفه الحق( تبارك وتعالي) بقوله: يوم نحشر المتقين إلي الرحمن وفدا* ونسوق المجرمين إلي جهنم وردا*( مريم:86,85) وعاودت سورة مريم الاستنكار الشديد من قبل الله( تعالي) ومن قبل الكون كله لادعاءات المبطلين نسبة الولد ـ زورا ـ إلي الله( تعالي), وهو( سبحانه) المنزه عن هذا النقص, المتصف بكل صفات الكمال المطلق, وفي ذلك نزلت الآيات بقول الحق( تبارك وتعالي): وقالوا اتخذ الرحمن ولدا* لقد جئتم شيئا إدا* تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا* أن دعوا للرحمن ولدا* وماينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا* ( مريم:'88 ـ92). وتختتم السورة الكريمة بالقرار الإلهي: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا*( مريم:6) وبأن القرآن الكريم قد يسره ربنا( تبارك وتعالي) علي لسان هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم( صلي الله عليه مسلم) ليبشر به المتقين, وينذر به قوما لدا. وتعاود سورة مريم التذكير ـ في آخر آياتها ـ بالأمم البائدة التي أهلكها الله( تعالي) عقابا علي كفرها, وتسأل رسول الله( صلي الله عليه وسلم): هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم همسا؟ كما توجه السؤال إلي كل الخلق لعلهم يعتبرون, وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي): وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا*( مريم:98). والحقائق التاريخية والعلمية التي أوردتها سورة مريم أكثر من أن تحصي في مقال واحد, ولذا فسوف أقصر الحديث هنا علي آية واحدة هي الآية رقم(65), التي جاءت فيها الإشارة إلي( السماوات والأرض, ومابينهما), وقبل تبيان الدلالة العلمية التي يمكن استخلاصها من تلك الآية المباركة لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين السابقين في شرح دلالتها. من أقوال المفسرين في تفسير قوله( تعالي): رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا*( مريم:65) * ذكر ابن كثير( رحمه الله) مانصه:... وقوله( رب السماوات والأرض ومابينهما) أي خالق ذلك ومدبره, والحاكم فيه والمتصرف الذي لامعقب لحكمه,( فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) قال ابن عباس: هل تعلم للرب مثلا أو شبيها. وقال عكرمة, عن ابن عباس: ليس أحد يسمي الرحمن غيره تبارك وتعالي وتقدس اسمه. * وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) مانصه: وهو( رب) مالك( السماوات والأرض)( ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته) أي: آصبر عليها( هل تعلم له سميا) أي مسمي بذلك؟ لا.... * وجاء في الظلال( رحم الله كاتبها برحمته الواسعة) ما نصه:.... رب السماوات والأرض ومابينهما فلا ربوبية لغيره, ولا شرك معه في هذا الكون الكبير.( فاعبده واصطبر لعبادته)... اعبده واصطبر علي تكاليف العبادة, وهي تكاليف الارتقاء إلي أفق المثول بين يدي المعبود, والثبات في هذا المرتقي العالي. أعبده واحشد نفسك وعبئ طاقتك للقاء, والتلقي في ذلك الآفق العلوي.... إنها مشقة, مشقة التجمع والاحتشاد والتجرد من كل مشاغل, ومن كل هاتف, ومن كل التفات... وإنها مع المشقة للذة لايعرفها إلا من ذاقها, ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة, وإلا بالتجرد لها, والاستغراق فيها, والتحفز لها بكل جارحة وخالجة, فهي لاتفشي سرها, ولاتمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها, ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا. (فاعبده واصطبر لعبادته)... والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر, إنما هي كل نشاط: كل حركة, كل خالجة, كل نية, كل اتجاه, وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلي الله وحده دون سواه, مشقة تحتاج إلي الاصطبار ليتوجه القلب في كل نشاط من أنشطة الأرض إلي السماء, خالصا من أوشاب الأرض, وأوهاق الضرورات, وشهوات النفس, ومواضعات الحياة. إنه منهج حياة كامل, يعيش الإنسان وفقه, وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله, فيرتفع في نشاطه كله إلي أفق العبادة الطاهر الوضئ. وإنه لمنهج يحتاج إلي الصبر والجهد والمعاناة.( فاعبده واصطبر لعبادته).. فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود الذي تتجه إليه الفطر والقلوب..( هل تعلم له سميا؟) هل تعرف له نظيرا؟ تعالي الله عن السمي وعن النظير.... * وذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن( رحمة الله رحمة واسعة) مانصه:( هل تعلم له سميا) نظيرا أو شبيها يستحق العبادة لربوبيته وألوهيته, وكمال تنزهه عن النقائص, واتصافه بصفاته الجليلة. * وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) مانصه: فهو سبحانه الخالق المالك للسماوات والأرض ومابينهما, والمدبر لشئونهما, والمستحق وحده للعبادة, فاعبده أيها المخاطب, وثابر علي عبادته صابرا مطمئنا, فهو سبحانه المستحق ـ وحده ـ للعبادة, وليس له نظير يستحق العبادة, أو يسمي باسم من أسمائه.... * وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبه خيرا) مانصه: ( رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده) أي هو رب العوالم علويها وسفليها فاعبده وحده( واصطبر لعبادته) أي اصبر علي تكاليف العبادة( هل تعلم له سميا) أي هل تعلم له شبيها ونظيرا؟. السماوات والأرض ومابينهما في القرآن الكريم ورد تعبير( السماوات والأرض ومابينهما) في ثمانية عشر موضعا من القرآن الكريم, كما جاء تعبير( السماء والأرض ومابينهما) في موضعين من كتاب الله, وبذلك يكون مجموع مرات ورود هذه الإشارة العلمية الدقيقة عشرين مرة علي النحو التالي: (1).... ولله ملك السماوات والأرض ومابينهما يخلق ما يشاء والله علي كل شيء قدير* ( المائدة:17) (2).... ولله ملك السماوات والأرض ومابينهما وإليه المصير( المائدة:18). (3) وماخلقنا السماوات والأرض ومابينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل( الحجر:85). (4) رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا( مريم:65). (5) له مافي السماوات وما في الأرض ومابينهما وماتحت الثري( طه:6). (6) وما خلقنا السماء والأرض ومابينهما لاعبين( الأنبياء:16). (7) الذي خلق السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش الرحمن فاسأل به خبيرا( الفرقان:59). (8) قال رب السماوات والأرض ومابينهما إن كنتم موقنين( الشعراء:24). (9) أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مسمي وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون( الروم:8). (10) الله الذي خلق السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش مالكم من دونه من ولي ولاشفيع أفلا تتذكرون( السجدة:4). (11) رب السماوات والأرض ومابينهما ورب المشارق( الصافات:5). (12) أم لهم ملك السماوات والأرض ومابينهما فليرتقوا في الأسباب( ص:10). (13) وماخلقنا السماء والأرض ومابينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار( ص:27). (14) رب السماوات والأرض ومابينهما العزيز الغفار( ص:66). (15) وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض ومابينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون( الزخرف:85). (16) رب السماوات والأرض ومابينهما إن كنتم موقنين( الدخان:7). (17) وماخلقنا السماوات والأرض ومابينهما لاعبين( الدخان:38). (18) ماخلقنا السماوات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مسمي والذين كفروا عما أنذروا معرضون( الأحقاف:3). (19) ولقد خلقنا السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب( ق:38). (20) رب السماوات والأرض ومابينهما الرحمن لايملكون منه خطابا( النبأ:37). وقد احتار المفسرون في شرح دلالة التعبيرين القرآنيين:( السماوات والأرض ومابينهما), و(السماء والأرض ومابينهما) فمنهم من قال: إنها دلالة علي أن جميع الموجودات هي من خلق الله( تعالي), وملك يمينه, وتحت قهره, وسلطانه, لأن الله تعالي هو المالك لكل شيء, ومنهم من قال: إن هذا النص يشير إلي سائر أجرام السماء من نجوم وكواكب وأقمار وأتربة كونية, وغازات وطاقات يتألف الكون منها, ومنهم من مر بها في صمت ودون أدني تعليق, ولكن هناك آيتين من آيات القرآن الحكيم تلقيان الضوء علي دلالة هذا النص القرآني المعجز( السماوات والأرض ومابينهما), أو( السماء والأرض ومابينهما) في الأولي منهما يقول ربنا( تبارك وتعالي): إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وماأنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون( البقرة:164). ومن هذه الآية الكريمة يتضح أن السحاب هو مما بين السماء والأرض. وفي الآية الثانية يقول ربنا( تبارك وتعالي): الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله علي كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما (الطلاق:12). ومن هذه الآية الكريمة يفهم أن هناك مسافات بينية تفصل كل سماء عن التي تليها, كما تفصل كل أرض عن التي تليها, وتفصل كلا من السماء الدنيا, وباقي السماوات السبع عن الأرض, ولايتأتي ذلك إلا إذا كانت الأرض في مركز السماوات. ويروي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قوله: سبحان الله عدد ماخلق في السماء, سبحان الله عدد ماخلق في الأرض, سبحان الله عدد ماخلق بينهما, سبحان الله عدد ماهو خالق.... وقوله صلي الله عليه وسلم: أطت السماء أطا, وحق لها أن تئط..., ما من أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد يعبد ربه.... ما بين السماوات والأرض في العلوم المكتسبة تجمع العلوم المكتسبة علي أن كلا من المادة والطاقة يملأ فسحة الكون بتركيز مختلف, لأن خلق كل من المكان والزمان; والمادة والطاقة قد تزامن مع عملية الانفجار العظيم( فتق الرتق), فلا يمكن تصور مكان بلا زمان, ولا زمان بلا مكان, كما لايمكن تصور مكان وزمان بغير مادة وطاقة. فكل من المادة والطاقة يتكثف في مختلف أجرام السماء بتركيز مختلف, كما يوجد بكثافات قليلة ومتباينة بين كل جرم والآخر, وتحرك المادة والطاقة بين السماء الدنيا وأجرامها من الأمور الثابتة علميا, التي أكدتها الدراسات الفلكية, ومن أمثلتها تخلق النجوم من الدخان الكوني, وعودتها إليه بانفجارها في دورة حياة النجوم, ومن امثلتها كذلك انتثار الكواكب وعودة مادتها إلي الغبار الكوني أو إلي الشهب والنيازك التي إما أن تحترق أو تتهاوي علي عدد من أجرام السماء. وقد فصلنا في مقال سابق تركيب كل نطاق من نطق الغلاف الغازي للأرض, وتناقص تركيز كل من المادة والطاقة بالارتفاع فيه حتي يتداخل في تركيب الجزء الأسفل من السماء الدنيا مكونا خليطا من مادتهما لعله المقصود بالبينية الفاصلة بين الأرض والسماء الدنيا; وهذه المادة الفاصلة بين السماء والأرض تكونت باختلاط ما تصاعد من فوهات البراكين مع ما كان حول الأرض من مادة مابين الكواكب فتكون الخليط المعروف باسم الغلاف الغازي للأرض وهو خليط مكون من مادة الأرض, ومادة السماء الدنيا فحق له أن يفصل بين كل منهما بوصف القرآن الكريم له بصفة البينية( السماء والأرض ومابينهما). وأول نطق الغلاف الغازي للأرض هو نطاق الرجع أو نطاق التغيرات الجوية أو نطاق الطقس, ويمتد من مستوي سطح البحر إلي ارتفاح نحو17 كيلومترا فوق خط الاستواء( ويتناقص هذا السمك إلي مابين8,6 كيلومترات فوق القطبين; ويختلف فوق مناطق العروض الوسطي باختلاف ظروفها الجوية فينكمش إلي ما دون السبعة كيلومترات في مناطق الضغط المنخفض ويتمدد إلي نحو13 كيلومترا في مناطق الضغط المرتفع). ويضم نطاق الرجع نحو ثلث كتلة الغلاف الغازي للأرض(66%), وتتناقص درجة الحرارة فيه باستمرارمع الارتفاع حتي تصل إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر فوق خط الاستواء, وذلك في قمة هذا النطاق المعروفة باسم مستوي الركود الجوي, ويتناقص عنده الضغط إلي نحو عشر قيمته عند سطح البحر. وفي هذا النطاق يتكثف بخار الماء الصاعد من الأرض مكونا السحب, ومنها يهطل كل من المطر والبرد والثلج بإذن الله, وتحدث ظواهر الرعد والبرق, والعواصف, والدوامات وتيارات الحمل الهوائية, وغير ذلك من حركات الرياح, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):(... والسحاب المسخر بين السماء والأرض....)( البقرة:164). وعلي ذلك فإن نطاق الرجع ومن فوقه بقية نطق الغلاف الغازي للأرض حتي حدود النطاق المغناطيسي يمثل فاصلا حقيقيا بين الأرض والسماء الدنيا, وسبق القرآن الكريم بالإشارة إلي هذه( البينية) من قبل ألف وأربعمائة سنة يعتبر ومضة من ومضات الإعجاز العلمي في كتاب الله, لم يصل إليها علم البشر إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين. الأهمية العلمية للتعبير القرآني السماوات والأرض ومابينهما إضافة إلي سبق القرآن الكريم بالإشارة في عشرين موضعا منه إلي( مابين السماء والأرض) أو( مابين السماوات والأرض), وهو سبق علمي حقيقي لم تدركه العلوم المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين, فإن هذه الإشارة المعجزة تحوي من الحقائق العلمية مايفوق هذا الكشف العلمي أهمية وجدارة, وذلك لأن أول مايمكن استنتاجه من هذا النص القرآني هو توسط الأرض للسماء الدنيا وللسماوات السبع كلها, لأنها متطابقة يغلف الخارج منها الداخل, وهي حقيقة لايمكن للإنسان أن يصل إليها لأنه ـ علي الرغم من تقدمه العلمي, والتقني المذهل ـ محدود بحدود حسه وعقله, وبحدود مكانه( أي وجوده علي كوكب الأرض), وبحدود زمانه أي عمره, ومن هنا فإن الإنسان لايستطيع أن يدرك من الكون إلا جزءا صغيرا من السماء الدنيا, وهذا الجزء الصغير ملئ بالغيوب من مثل الثقوب السود, المادة الداكنة, الكتل المفقودة, وغيرها مما يرغم علماء الفلك والفيزياء الفلكية علي الاعتراف بان أقصي مايمكن إدراكه في الجزء المشاهد من الكون لا يتعدي العشرة بالمائة من مجموع المادة والطاقة الموجودة فيه. القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يؤكدان توسط الأرض للكون * إن مقابلة القرآن الكريم( في مئات من آياته) للأرض مع السماء أو مع السماوات ـ علي ضآلة أبعاد الأرض بالنسبة إلي أبعاد السماوات ـ يؤكد أهمية موقع الأرض من الكون. * إن ذكر القرآن الكريم للنصين( السماوات والأرض ومابينهما), و(السماء والأرض ومابينهما) في عشرين موضعا منه يؤكد مركزية الأرض من السماء الدنيا, ومن مجموع السماوات السبع; وذلك لأن هذه البينية لايمكن أن تتم لو لم تكن الأرض في مركز السماوات السبع. * ويؤكد ذلك جمع القرآن الكريم لأقطار السماوات والأرض في وصف واحد كما جاء في قول الحق( تبارك وتعالي): يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لاتنفذون إلا بسلطان( الرحمن:33). وذلك لأن قطر أي شكل هندسي هو الخط الواصل بين طرفيه, مرورا بمركزه, فإذا توحدت أقطار السماوات والأرض فمعني ذلك أن الأرض لابد وأن تكون في مركز الكون. * ويؤكد ماسبق حديث رسول الله( صلي الله عليه وسلم) الذي يرويه مجاهد عنه بقوله( عليه الصلاة والسلام): إن الحرم حرم مناء من السماوات السبع والأرضين السبع أي في وضع متوسط منها; لأن الوصف مناء معناه قصده وعلي حذاه. ومن أقوال رسول الله( صلي الله عليه وسلم) البيت المعمور منا مكة أي في مقابلتها وبمحاذاتها. ويروي كل من قتادة والسدي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) أنه قال يوما لأصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: فإنه مسجد في السماء السابعة بحيال الكعبة, لو خر لخر عليها, يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك, إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم. * ويزيد ذلك تأكيدا حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يروي عنه أنه قال فيه: كانت الكعبة خشعة علي الماء, فدحيت منها الأرض; والخشعة هي أكمة متواضعة. وتأتي أبحاث الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين( رحمه الله رحمة واسعة) لتؤكد توسط مكة لليابسة, فتبرز جانبا من جوانب التكريم المادي الملموس لهذا المكان الطيب الطاهر الذي فضله ربنا( تبارك وتعالي) علي كل أماكن الأرض فجعل فيه كعبته المشرفة أول بيت عبد الله فيه علي الأرض, وجعلها قبلة للمصلين حيثما كانوا, وللحج والعمرة للقادرين من المسلمين, ولو لمرة واحدة في العمر ليتعرضوا لبركات هذا المكان الذي جعل الله( سبحانه وتعالي) الصلاة فيه بمائة ألف صلاة كما أخبرنا الحبيب المصطفي( صلي الله عليه وسلم). ويأتي العلم في أوج عطائه ليؤكد لنا توسط مكة ليابسة الأرض, وتأتي أحاديث رسول الله( صلي الله عليه وسلم) مؤكدة قيام موقع الكعبة المشرفة الذي هو أصل اليابسة علي حيال البيت المعمور في السماء السابعة, ويأتي القرآن الكريم مؤكدا توسط الأرض للسماوات السبع حتي تبقي الكعبة المشرفة مركز الكون بأسره, وهي حقيقة لايمكن للعلوم المكتسبة أن تصل إليها أبدا...!! فسبحان الذي خلق الأكوان وأنشأ نظمها بعلمه وجعل الكعبة مركزا لكونه...!! وسبحان الذي أنزل القرآن, أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وتعهد بحفظه فحفظ بنفس لغة وحيه( اللغة العربية), وحفظ حفظا كاملا: كلمة كلمة, وحرفا حرفا, وآية آية, وسورة سورة بنفس الترتيب الذي جمع به علي عهد رسول الله( صلي الله عليه وسلم), والموجود في بلايين المصاحف والاسطوانات والأشرطة الممغنطة, والذي نقل لنا متواترا عبر بلايين الصدور ولايزال يحفظ في البلايين منها وذلك خلال الألف والأربعمائة سنة الماضية, وإلي أن يرث الله تعالي الأرض ومن عليها...! فالحمد لله منزل القرآن الكريم, والصلاة والسلام علي الرسول الخاتم الذي تلقاه, ونقله إلينا بأمانة, وعاش به... وله, فأقام أعظم دولة عرفها التاريخ, ولعل الله تعالي أن يعيننا علي أن نعيد للقرآن الكريم دولته وسط الفوضي العالمية التي اجتاحت الأرض كلها في غيبة الاحتكام إلي شريعة الله...!! ووسط السقوط بين مخالب طواغيت الأرض....!!! وما ذلك علي الله بعزيز, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
أدوات الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | الأقسام الرئيسية | مشاركات | المشاركة الاخيرة |
كيف عذب الله قوم عاد | معاوية فهمي إبراهيم مصطفى | مناسبات إسلامية | 2 | 2021-01-31 12:18 PM |
فأين رواية الانقلابيين او المنتصرين وهذه روايات المنهزمين | موحد مسلم | الشيعة والروافض | 1 | 2020-03-13 04:31 PM |