أنصار السنة  
جديد المواضيع



للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب
 محاسب قانوني   Online quran classes for kids 
منتدى السنة | الأذكار | زاد المتقين | منتديات الجامع | منتديات شباب الأمة | زد معرفة | طريق النجاح | طبيبة الأسرة | معلوماتي | وادي العرب | حياتها | فور شباب | جوابى | بنك أوف تك


العودة   أنصار السنة > الفرق الإسلامية > الشيعة والروافض

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
  #1  
قديم 2008-07-12, 11:52 PM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي كشف شبهات الرافضة والرد عليها

كشف شبهات الرافضة والرد عليها


أيها الأحباب
نظرا لأن هذه الشبهات هامة جدا فقد أنزلتها جميعا من موقع الكشاف وعددها (31) شبهة ووضعتها في ملف واحد لمن أراد الانتفاع بها مباشرة

http://www.alkashf.net/shobhat/6/

الشبهة(1):احتجاجهم بحديث " أنت مني بمنزلة هارون من موسى"

الشبهة(2):احتجاجهم بآية المباهلة .

الشبهة(3):احتجاجهم بحديث: "من كنت مولاه فعلي مـولاه، اللهـم والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خـذله وأدر الحق حيث ما دار .

الشبهة(4):احتجاجهم بحديث ( غدير خم ) .

الشبهة(5): احتجاجهم بحديث: "أقضاكم علي" .

الشبهة(6):احتجاجهم بحديث: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" .

الشبهة(7):احتجاجهم بحديث الطير .

الشبهة(:احتجاجهم بقوله تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) .

الشبهة(9): احتجاجهم بسورة: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ) .

الشبهة(10):ادعاؤهم أن عليًا رضي الله عنه أعلم الصحابة .

الشبهة(11): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أكثر الصحابة جهادًا .

الشبهة(12):زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أقرأ الصحابة للقرآن .

الشبهة(13):زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أزهد الصحابة .

الشبهة(14):زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أكثر الصحابة صدقة .

الشبهة(15):زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أسوس الصحابة .

الشبهة(16):زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أتقى الصحابة .

الشبهة(17):قولهم: لو كانت إمارة أبي بكر حقًا لما تأخر علي رضي الله عنه عن بيعته إلى ستة أشهر .

الشبهة(18):زعمهم أن صحبة أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار نقيصة؛ لأنه نهاه عن الحزن .

الشبهة(19):زعمهم أن الإمامة أهم مطالب الدين .

الشبهة(20):ادعاؤهم منع أبي بكر فاطمة ميراثها .

الشبهة(21):زعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن علي رضي الله عنه : إنه فاروق أمتي . وأن المنافقين ماكانوا يُعرفون إلا ببغضه .

الشبهة(22):طعوناتهم في عائشة رضي الله عنها .

الشبهة(23): قولهم : «إن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان» !!

الشبهة(24):احتجاجهم بحديث : " أنت أخي ووصيي " .

الشبهة(25):احتجاجهم بحديث المؤاخاة .

الشبهة(26):احتجاجهم بحديث " لأعطين الراية .. " .

الشبهة(27):احتجاجهم بحديث " .. إن عليًا مني وأنا منه .." .

الشبهة(28):احتجاجهم بحديث الثقلين .

الشبهة(29):احتجاجهم بحديث : "مـن أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما " .

الشبهة(30): طعوناتهم في أبي بكر - رضي الله عنه - .

الشبهة(31): طعوناتهم في معاوية - رضي الله عنه - .


وسنقوم بالرد عليها والله المستعان
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 2008-07-12, 11:54 PM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

**************
الشبهة(1): احتجاجهم بحديث " أنت مني بمنزلة هارون من موسى - عليه السلام "
قال عبدالله بن الحسين السويدي في مناظرته مع أحد علماء الشيعة :

قال – أي الشيعي - : قبل تحرير البحث أسألك هل قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي" ثابت عندكم؟

فقلت: نعم، إنه حديث مشهور.

فقال: هذا الحديث بمنطوقه ومفهومه يدل دلالةً صريحة على أن الخليفة بالحق بعد النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب.

قلت: ما وجه الدليل من ذلك؟

قال: حيث أثبت النبي لعليٍّ جميع منازل هارون، ولم يستثن إلا النبوة – والاستثناء معيار العلوم – فثبتت الخلافة لعلي لأنها من جملة منازل هارون. فإنه لو عاش لكان خليفة عن موسى.

فقلت: صريح كلامك يدل على أن هذه القضية موجبة كلية، فما سُور هذا الإيجاب الكلي؟

قال: الإضافة التي في الاستغراق بقرينة الاستثناء.

فقلت: أولاً إن هذا الحديث غير نص جلي، وذلك لاختلاف المحدِّثين فيهن فمن قائل إنه صحيح، ومن قائل إنه حسن ومن قائل إنه ضعيف، حتى بالغ ابن الجوزي فادعى أنه موضوع. فكيف تثبتون به الخلافة وأنتم تشترطون النص الجلي؟!

فقال: نعم، نقول بموجب ما ذكرت. وإن دليلنا ليس هذا، وإنما هو قوله r: "سلموا على عليّ بإمرة المؤمنين"، وحديث الطائر. ولأنكم تدعون أنهما موضوعان فكلامي في هذا الحديث معكم. لمَ لم تثبتوا أنتم الخلافة لعلي به؟

قلت: هذا الحديث لا يصلح أن يكون دليلاً.. من وجوه: منها أن الاستغراق ممنوع؛ إذ من جملة منازل هارون كونه نبياً مع موسى، وعليّ ليس بنبي باتفاق منا ومنكم، لا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده، فلو كانت المنازل الثابتة لهارون – ما عدا النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم - ثابتة لعلي لاقتضى أن يكون علي نبياً مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبوة معه لم تستثنَ وهي من منازل هارون عليه السلام وإنما المستثنى النبوة بعده. وأيضاً من جملة منازل هارون كونه أخًّا شقيقاً لموسى، وعلي ليس بأخ، والعام إذا تخصص بغير الاستثناء صارت دلالته ظنية، فليحمل الكلام على منزلة واحدة كما هو ظاهر التاء التي للوحدة، فتكون الإضافة للعهد وهو الأصل فيها، و"إلا" في الحديث بمعنى "لكن" كقولهم: فلان جواد إلا أنه جبان، أي لكنه. فرجعت القضية مهملة يراد منها بعض غير معين فيها وإنما نعينه من خارج، والمعين هو المنزلة المعهودة حين استخلف موسى هارون على بني إسرائيل، والدال على ذلك قوله تعالى: ]اخلفني في قومي [ ومنزلة عليّ هي استخلافه على المدينة في غزوة تبوك.

فقال الملا باشي: والاستخلاف يدل على أنه أفضل وأنه الخليفة بعد.

فقلتُ: لو دلّ هذا على ما ذكرتَ، لاقتضى أن ابنَ أمَّ مكتوم خليفةٌ بعد النبي r، لأنه استخلفه على المدينة. واستخلف أيضاً غيره، فلمَ خصصتم عليًّا بذلك دون غيره مع اشتراك الكل في الاستخلاف؟ وأيضاً لو كان هذا من باب الفضائل لما وجد عليٌّ في نفسه وقال "أتجعلني مع النساء والأطفال والضعفة" فقال النبي صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفسه: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟".

فقال: قد ذكر في أصولكم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قلت: إني لم أجعل خصوص السبب دليلاً، وإنما هو قرينة تعين ذلك البعض المهم.

فانقطع...

( المرجع : الخطوط العريضة ، محب الدين الخطيب ، ص 76-78) .

وقال أبو حامد المقدسي ردًا على هذه الشبهة :

جوابه: سلمنا أن هذا حديث صحيح رواه البخاري وغيره وليس للرافضة حديث صحيح غيره ولكن معناه أن التشبيه له بهارون (عليه السلام إنما هو) في الاستخلاف خاصة لا من كل وجه وهو أمر مشترك بينه وبين غيره. قد شبّه النبيصلى الله عليه وسلم (في الحديث الصحيح) أيضاً أبا بكر رضي الله عنه بإبراهيم وعيسى عليهما السلام وشبه عمر رضي الله عنه بنوح وموسى عليهما السلام كما أشارا عليه في أسارى بدر هذا بالفداء وهذا بالقتل ولا شك أن هذا أعظم من تشبيه علي بهارون ولم يوجب ذلك أن يكون بمنزلة أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام مطلقاً ولكن شابه في شدته في الله وهذا في لينه في الله وتشبيه الشيء بالشيء لمشابهته في بعض الوجوه كثيرة في الكتاب والسنة وكلام العرب.

وأما هو معارض بما رواه الشيخ الإمام العارف بالله العلي أبو محمد روزبهان البقلي رحمه الله عليه في كتابه المكنون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: أنتما مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. كما قال ذلك لعلي. وحينئذ فلا خصوصية (وقال فيه إشارة إلى أن هؤلاء السادة الثلاثة أعطاهم الله تعالى ما أعطى نبي الله هارون عليه السلام دون النبوة وجبريل وميكائيل دون الملائكة. كما قال عليه السلام: "إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض فوزيرا السماء جبريل وميكائيل، ووزيرا الأرض أبو بكر وعمر" وفيه أن الولاية قريب من النبوة والملكية).

وكذلك هو معارض لقوله صلى الله عليه وسلم: "خلقت أنا وأبو بكر وعمر من طينة واحدة" وهذا حديث صحيح رواه الشيخ الإمام محي الدين أبو محمد إبراهيم الفاروقي الواسطي رحمه الله ويعضده حديث "ما من ميت يموت إلا يدفن بالتربة التي خلق منها" وإذا خلقا رضي الله عنهما من طينة صلى الله عليه وسلم فهما أولى بمماثلته باعتبار الخلقة وهذا فضيلة لا يشاركهما فيها غيرهما. فإن قيل ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خلقت أنا وعلي من نور واحد" وهو يدل على أفضلية هذا، وإن ثبت فهو لنا لأن النور أمر بالسجود لمن خلق من الطين كما في قصة الملائكة وآدم عليهم السلام، وهو يعارض بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة في الإسلام" أفضل ففيه دليل على تخصيص أبي بكر في أخوة الإسلام، وإلا لم يكن ثم فضيلة لأحد من المسلمين على أحد من المسلمين، وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم له: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" إنما ورد على سبب وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي (في غزوة تبوك في سنة تسع) لما استخلفه على المدينة فطعن بعض الناس وقالوا: إنما استخلفه لأنه يبغضه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من المدينة استخلف عليها رجلاً من أمته، فلما كان عام تبوك لم يأذن لأحد من المؤمنين القادرين على الغزو في التخلف عنها بلا عذر، ولم يتخلف بلا عذر إلا عاص لله ورسوله فكان استخلافه عليًّا رضي الله عنه فيها استخلافاً ضعيفاً، فطعن فيه المنافقون لهذا السبب فبين له صلى الله عليه وسلم: أني لم أستخلفك لبغض لك عندي فإن موسى عليه السلام استخلف هارون عليه السلام وهو شريكه في الرسالة، أَمَا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى فتخلفني في المدينة كما خلف هارون أخاه موسى. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان قد استخلف غيره قبله وكان أولئك منه بهذه المنزلة يكن هذا من خصائص علي رضي الله عنه ولو كان هذا الاستخلاف أفضل من غيره لم يخف فيه عليه ولم يخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ويقول: تخلفني في النساء والذرية والصبيان. ولما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة أمر أبا بكر رضي الله عنه على الحج في أواخر سنة تسع ثم أردفه بعلي رضي الله عنه فلما لحقه قال له أبو بكر رضي الله عنه: أميراً أو مأموراً؟ فقال علي: بل مأموراً فكان أبو بكر يصلي بعلي وغيره ويأمر عليًّا وغيره من الصحابة رضي الله عنهم يطيعون أبا بكر رضي الله عنه وأما علي رضي الله عنه فنبذ العهود والتي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين لأن العادة من العرب كانت جارية أنه لا يعقد العقود ولا يحلها إلا رجل من أهل بيت المطاع ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي لأجل العادة الجارية بذلك [وفي رواية نزل جبريل وقال: يبلغ رجل منك. قالوا: هذا يدل على تقدم علي]. ولم يكن هذا أيضاً خصائص علي رضي الله عنه بل أي رجل من المعترة نبذ العهد حصل به المقصود، ولكن علي رضي الله عنه كان أفضل بني هاشم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فكان أحق بالتقدم من سائر الأقارب ولما أمر أبا بكر عليه علي أنه لا دلالة فيه على أنه بمنزلة هارون من موسى من كل وجه إذ لو كان كذلك لم يقدم عليه أبا بكر رضي الله عنه في الحج ولا في الصلاة كما أن هارون لم يكن موسى يقدم عليه غيره فالتشبيه به في الاستخلاف خاص كما قررنا.

وقال الإمام الحافظ البيهقي رضي الله عنه في كتاب الاعتقاد عقب الحديث المذكور لا يعني به (موسى عليه السلام) استخلاف (عليًّا) بعد وفاته وإنما يعني به استخلافه على المدينة عند خروجه إلى الطور وكيف يكون المراد به الخلافة بعد موته وقد مات هارون قبل موسى عليهما السلام؟!

وكذا قال شيخ الإسلام محي الدين النووي في شرح صحيح مسلم في هذا الحديث: "إثبات فضيلة لعلي رضي الله عنه لا يعرض فيه لكونه أفضل من غيره أو مثله وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا لعلي رضي الله عنه حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك ويؤيد هذا أن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى بل توفي في حياة موسى قبل وفاة موسى نحو أربعين سنة على ما هو المشهور عند أهل الأخبار والقصص وقالوا إنما استخلفه حين ذهب لميقات ربه للمناجاة".

قال الشيخ الإمام أبو محمد إبراهيم الفاروقي رحمه الله: إن مفهوم الحديث يدل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأن يوشع بن نون كان الخليفة بعد موسى عليهما السلام فكذلك أبو بكر رضي الله عنه. وليس معناه أن عليًّا أخًّا للنبي صلى الله عليه وسلم من النسب إذ لو كان كذلك لما جاز أن يتزوج من ابنته فاطمة رضي الله عنها فلم يبق إلا ما ذكرنا.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 201 – 212 ) .



وقال شيخ الإسلام ردًا على هذه الشبهة :

قال الرافضي: الثالث: قوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي. [أثبت له «عليه السلام» جميع منازل هارون من موسى - عليه السلام - للاستثناء]. ومن جملة منازل هارون أنه كان خليفة لموسى، ولو عاش بعده لكان خليفة أيضاً، وإلا [لزم] تطرّق النقض إليه، ولأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة، فبعد موته وطول مدة الغَيْبَة، أَوْلى بأن يكون خليفته».

والجواب: أن هذا الحديث ثبت في الصحيحين بلا ريب وغيرهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك في غزوة تبوك. وكان صلى الله عليه وسلم كلما سافر في غزوة أو عُمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة، كما استخلف على المدينة في غزوة ذي أَمَرّ عثمان، وفي غزوة بني قَيْنُقاع بشير بن [عبد] المنذر، ولما غزا قريشاً ووصل إلى الفُرْع استعمل ابن أم مكتوم، وذكر ذلك محمد بن سعد وغيره.

وبالجملة فمن المعلوم أنه كان لا يخرج من المدينة حتى يستخلف. ؟؟؟؟ المسلمون من كان يستخلفه، فقد سافر من المدينة في عُمرتين: عمرة الحديبية وعمرة القضاء. وفي حجة الوداع، وفي مغازيه – أكثر من عشرين غزاة – وفيها كلها استخلف، وكان بالمدينة رجال كثيرون مستخلف عليهم من يستخلفه، فلما كان في غزوة تبوك لم يأذن لأحد استخلف عنها، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم، ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها، فلم يتخلف عنه إلا النساء والصبيان، أو من هو معذور لعجزه عن الخروج، أو من هو منافق، وتخلف الثلاثة الذين تِِيبَ عليهم، ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم، كما كان يستخلف عليهم في كل مرة، بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة منه، لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحداً، كما كان يبقي في جميع مغازيه، فإنه كان بالمدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم من يستخلف، فكل استخلاف استخلفه في مغازيه، مثل استخلافه في غزوة بدر الكبرى والصغرى، وغزوة بني المصطلق، والغابة، وخيبر، وفتح مكة، وسائر مغازيه التي لم يكن فيها قتال، ومغازيه بضع عشرة غزوة، وقد استخلف فيها كلها إلا القليل، وقد استخلف في حجة الوداع وعمرتين قبل غزوة تبوك.

وفي كل مرة يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك، فكان كل استخلاف قبل هذه يكون عليٌّ أفضل ممن استخلف عليه عليًّا. فلهذا خرج إليه عليٌّ – رضي الله عنه – يبكي، وقال: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟

وقيل: إن بعض المنافقين طعن فيه، وقال: إنما خلّفه لأنه يبغضه. فبيّن له النبي صلى الله عليه وسلم: إني إنما استخلفتك لأمانتك عندي، وهذا الاستخلاف ليس بنقص ولا غضٍّ، فإن موسى استخلف هارون على قومه، فكيف يكون نقصاً وموسى لَيَفْعَله بهارون؟ فطيَّب بذلك قلب عليّ، وبيّن أن جنس الاستخلاف يقتضي كرامة المستخلف وإمامته، لا يقتضي إهانته ولا تخوينه، وذلك لأن المستخلَف يغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خرج معه جميع الصحابة.

والملوك – وغيرهم – إذا خرجوا في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعهم به، ومعاونته لهم، ويحتاجون إلى مشاورته والانتفاع برأيه بلسانه، ويده وسيفه.

والمتخلف إذا لم يكن له في المدينة سياسة كثيرة لا يحتاج إلى هذا منه فظن من ظن أن هذا غضاضة من عليٍّ، ونقص منه، وخفض من منزلته، حيث لم يأخذه معه في المواضع المهمة، التي تحتاج إلى سعي واجتهاد، بل تركه في المواضع التي لا تحتاج إلى كثير سعي واجتهاد فكان قول النبي صلى الله عليه وسلم مبيّناً أن جنس الاستخلاف ليس نقصاً ولا غضًّا، إذ لو كان نقصاً أو غضاً لما فعله موسى بهارون، ولم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون، لأن العسكر كان مع هارون، وإنما ذهب موسى وحده.

وأما استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فجميع العسكر كان معه، ولم يُخَلَّف بالمدينة – غير النساء والصبيان – إلا معذورٌ أو عاصٍ.

وقول القائل: «هذا بمنزلة هذا، وهذا مثل هذا» هو كتشبيه الشيء بالشيء. وتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دلَّ عليه السياق، لا يقتضي المساواة في كل شيء. ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأسارى لمّا استشار أبا بكر، وأشار بالفداء، واستشار عمر، فأشار بالقتل. قال: «سأخبركم عن صاحبيكم. مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: }فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{ [سورة إبراهيم: 36]، ومثل عيسى إذ قـال: }إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [سورة المائدة: 118]. ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: }رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا{ [سورة نوح: 26]، ومثل موسى إذ قال: }رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ{ [سورة يونس: 88]».

فقوله لهذا: مثلك كمثل إبراهيم وعيسى، ولهذا: مثل نوح وموسى – أعظم من قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى؛ فإن نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى أعظم من هارون، وقد جعل هذين مثلهم، ولم يرد أنهما مثلهم في كل شيء، لكن فيما دلّ عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله.

وكذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دلّ عليه السياق، وهو في استخلافه في مغيبه، كما استخلف موسى هارون. وهذا الاستخلاف ليس من خصائص عليّ، بل ولا هو مثل استخلافاته، فضلاً عن أن يكون أفضل منها. وقد استخلف مَنْ عليّ أفضل منه في كثير من الغزوات، ولم تكن تلك الاستخلافات توجب تقديم المستخلف عَلَى علي إذا قعد معه، فكيف يكون موجباً لتفضيله على عليّ؟

بل قد استخلف على المدينة غير واحد، وأولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى من جنس استخلاف عليّ، بل كان ذلك استخلاف يكون عَلَى أكثر وأفضل ممن استخلف عليه عام تبوك، استدعت الحاجة إلى الاستخلاف أكثر، فإنه كان يخاف من الأعداء على المدينة.

فأما عام تبوك فإنه كان قد أسلمت العرب بالحجاز، وفُتحت مكة، وقوي الإسلام وعزّ. ولهذا أمر الله نبيّه أن يغزو أهل الكتاب بالشام، ولم تكن المدينة تحتاج إلى من يقاتل بها العدو. ولهذا لم يَدَع النبي صلى الله عليه وسلم عند عليّ أحداً من المقاتلة، كما كان يَدَع بها في الغزوات، بل أخذ المقاتلة كلهم معه.

وتخصيصه لعليّ بالذكر هنا هو مفهوم اللقب، وهو نوعان: لقب هو جنس، ولقب يجري مجرى العلم، مثل زيد، وأنت. وهذا المفهوم أضعف المفاهيم، ولهذا كان جماهير أهل الأصول والفقه على أنه لا يُحتج به. فإذا قال: محمد رسول الله، لم يكن هذا نفياً للرسالة عن غيره، لكن إذا كان في سياق الكلام ما يقتضي التخصيص، فإنه يحتج به على الصحيح.

كقوله: }فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ{ [سورة الأنبياء: 79]، وقوله: }كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ{ [سورة المطففين: 15].

وأما إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه، فلا يُحتج به باتفاق الناس فهذا من ذلك؛ فإنه إنما خصَّ عليًّا بالذكر لأنه خرج إليه يبكي ويشتكي تخليفه مع النساء والصبيان.

ومن استخلفه سوى عليّ، لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصًا، لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام. والتخصيص بالذكر إذا كان لسبب يقتضي ذاك لم يقتضِ الاختصاص بالحكم، فليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى، كما أنه لما قال للمضروب الذي نَهَى عن لعنه: «دعه؛ فإنه يحب الله ورسوله» لم يكن هذا دليلاً على أن غيره لا يحب الله ورسوله، بل ذكر ذلك لأجل الحاجة إليه لينهي بذلك عن لعنه.

ولما استأذنه عمر – رضي الله عنه – في قتل حاطب بن أبي بلتعة، قال: «دعه؛ فإنه قد شهد بدرًا» ولم يدل هذا على أن غيره لم يشهد بدراً، بل ذكر المقتضى لمغفرة ذنبه.

وكذلك لما شهد للعشرة بالجنة، لم يقتض أن غيرهم لا يدخل الجنة، لكن ذكر ذلك لسبب اقتضاه.

وكذلك لما قال للحسن وأسامة: «اللهم! إني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما» لا يقتضي أنه لا يحب غيرهما، بل كان يحب غيرهما أعظم من محبتهما.

وكذلك لما قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» لم ينفي أن من سواهم يدخلها.

وكذلك لما شبّه أبا بكر بإبراهيم وعيسى، لم يمنع ذلك أن يكون من أمته وأصحابه من يشبه إبراهيم وعيسى. وكذلك لمّا شبّه عمر بنوح وموسى، لم يمتنع أن يكون في أمته من يشبه نوحاً وموسى.

فإن قيل: إن هذين أفضل من يشبههم من أمته.

قيل: الاختصاص بالكمال لا يمنع بالمشاركة في أصل التشبيه.

وكذلك لما قال عن عروة بن مسعود: «إنه مثل صاحب ياسين».

وكذلك لما قال للأشعريين: «هم مني وأنا منهم» لم يختص ذلك بهم، بل قال لعليّ: «أنت مني وأنا منك» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» وذلك لا يختص بزيد، بل أسامة أخوهم ومولاهم.

وبالجملة الأمثال والتشبيهات كثيرة جداً، وهي لا توجب التماثل من كل وجه، بل فيما سيق الكلام له، ولا تقتضي اختصاص المشبَّه بالتشبيه، بل يمكن أن يشاركه غيره له في ذلك.

قال الله تعالى: }مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ{ [سورة البقرة: 261].

وقال تعالى: }وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ{ [سورة يس: 13].

وقال: }مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ{ [سورة آل عمران: 117].

وقد قيل: إن في القرآن اثنين وأربعين مثلاً.

وقول القائل: إنه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل؛ فإن قوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟» دليل على أن يسترضيه بذلك ويطيِّب قلبه لِمَا توهم من وهن الاستخلاف ينقص درجته، فقال هذا على سبيل الجبر له.

وقوله: «بمنزلة هارون من موسى» أي مثل منزلة هارون، فإن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره، وإنما يكون له ما يشابهها، فصار هذا كقوله: هذا مثل هذا، وقوله عن أبي بكر: مثله مثل إبراهيم وعيسى، وعمر: مثل نوح وموسى.

ومما يبين ذلك أن هذا كان عام تبوك، ثم بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميراً على الموسم، وأردفه بعليّ، فقال [عليّ]: أمير أم مأمور؟ [فقال: بل مأمور]، فكان أبو بكر أميراً عليه، وعليّ معه كالمأمور مع أميره: يصلّي خلفه، ويطيع أمره وينادي خلفه مع الناس بالموسم: أَلاَ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان.

وإنما أردفه به لينبذ العهد إلى العرب، فإنه كان من عادتهم أن لا يعقد العقود وينبذها إلا السيد المطاع، أو رجل من أهل بيته. فلم يكونوا يقبلون نقض العهود إلا من رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

ومما يبيّن ذلك أنه لو أراد أن يكون خليفة على أمته بعده، لم يكن هذا خطاباً بينهما يناجيه به، ولا كان أخَّره حتى يخرج إليه عليّ ويشتكي، بل كان هذا من الحكم الذي يجب بيانه وتبليغه للناس كلهم، بلفظ يبين المقصود.

ثم من جهل الرافضة أنهم يتناقضون، فإن هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب عليًّا بهذا الخطاب إلا ذلك اليوم في غزوة تبوك، فلو كان عليّ قد عرف أنه المستخلَف من بعده – كما رووا ذلك فيما تقدم – لكان عليّ مطمئن القلب أنه مثل هارون بعده وفي حياته، ولم يخرج إليه يبكي، ولم يقل له: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟

ولو كان عليّ بمنزلة هارون مطلقًا لم يستخلف عليه أحدًا. وقد كان يستخلف عَلَى المدينة غيره وهو فيها، كما استخلف على المدينة عام خيبر غير عليّ، وكان عليّ بها أرمد، حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية حين قدم، وكان قد أعطى الراية رجلاً فقال: «لأعطين الراية [غدًا] رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله».

وأما قوله: «لأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة، فبعد موته وطول مدة الغيبة أَوْلى بأن يكون خليفته».

فالجواب: أنه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير عليّ استخلافاً أعظم من استخلاف عليّ، واستخلف أولئك عَلَى أفضل من الذين استخلف عليهم عليًّا، وقد استخلف بعد تبوك على المدينة غير عليّ في حجة الوداع، فليس جعل عليّ هو الخليفة بعده لكونه استخلفه على المدينة بأَوْلى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه، وأعظم مما استخلفه، وآخر الاستخلاف كان عَلَى المدينة كان عام حجة الوداع، وكان عليّ باليمن، وشهد معه الموسم، لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير عليّ.

فإن كان الأصل بقاء الاستخلاف، فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أَوْلى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك.

وبالجملة فالاستخلافات على المدينة ليست من خصائصه، ولا تدل على الأفضلية، ولا على الإمامة، بل قد استخلف عدداً غيره. ولكن هؤلاء جهّال يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين عليّ وغيره. خاصة بعليّ، وإن كان غيره أكمل منه فيها، كما فعلوا في النصوص والوقائع. وهكذا فعلت النصارى: جعلوا ما أتى به المسيح من الآيات دالاً على شيء يختص به من الحلول والاتحاد، وقد شاركه غيره من الأنبياء فيما أتى به، وكان ما أتى به موسى من الآيات أعظم مما جاء به المسيح، فليس هناك سبب يوجب اختصاص المسيح دون إبراهيم وعيسى، لا بحلول ولا اتحاد، بل إن كان ذلك كله ممتنعاً، فلا ريب أنه كله ممتنع في الجميع، وإن فُسِّر ذلك بأمر ممكن، كحصول معرفة الله والإيمان به، والأنوار الحاصلة بالإيمان به ونحو ذلك، فهذا قدر مشترك وأمر ممكن.

وهكذا الأمر مع الشيعة: يجعلون الأمور المشتركة بين عليّ وغيره، التي تعمّه وغيره، مختصة به، حتى رتّبوا عليه ما يختص به من العصمة والإمامة والأفضلية. وهذا كله منتفٍ.

فمن عرف سيرة الرسول، وأحوال الصحابة، ومعاني القرآن والحديث: علم أنه ليس هناك اختصاص بما يوجب أفضليته ولا إمامته، بل فضائله مشتركة، وفيها من الفائدة إثبات إيمان عليّ وولايته، والرد على النواصب الذين يسبّونه أو يفسّقونه أو يكفرونه ويقولون فيه من جنس ما تقوله الرافضة في الثلاثة.

ففي فضائل عليّ الثابتة ردٌّ على النواصب، كما أن في فضائل الثلاثة ردًّا على الروافض.

وعثمان – رضي الله عنه – تقدح فيه الروافض والخوارج، ولكن شيعته يعتقدون إمامته، ويقدحون في إمامة عليّ. وهم في بدعتهم خير من شيعة عليّ الذين يقدحون في غيره. والزيدية الذين يتولون أبا بكر وعمر ومضطربون فيه.

وأيضاً فالاستخفاف في الحياة نوع نيابة، لا بد منه لكل ولي أمر، وليس كل [مَنْ] يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمة يصلح أن يُستخلف بعد الموت؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في حياته غير واحد، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته، وذلك كبشير بن [عبد] المنذر وغيره.

وأيضاً فإنه مطالب في حياته بما يجب عليه من القيام بحقوق الناس، كما يُطالَب بذلك ولاة الأمور. وأما بعد موته فلا يطالب بشيء، لأنه قد بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، نصح الأمة، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربّه. ففي حياته يجب عليه جهاد الأعداء، وقسم الفيء، وإقامة الحدود، واستعمال العمّال، وغير ذلك مما يجب على ولاة الأمور بعده، وبعد موته لا يجب عليه شيء من ذلك.

فليس الاستخلاف في الحياة كالاستخلاف بعد الموت. والإنسان إذا استخلف أحداً في حياته عَلَى أولاده وما يأمر به من البرّ، كان المستخلف وكيلاً محضاً يفعل ما أَمَر به الموكِّل وإن استخلف أحداً على أولاده بعد موته، كان وليًّا مستقلاً يعمل بحسب المصلحة، كما أمر الله ورسوله، ولم يكن وكيلاً للميّت.

وهكذا أولو الأمر إذا استخلف أحدهم شخصاً في حياته، فإنه يفعل ما يأمره به في القضايا المعيّنة. وأما إذا استخلفه بعد موته، فإنه يتصرف بولايته كما أمر الله ورسوله، فإن هذا التصرف مضاف إليه لا إلى الميت، بخلاف ما فعله في الحياة بأمر مستخلِفه، فإنه يُضاف إلى من استخلَفه لا إليه. فأين هذا من هذا‍!؟

ولم يقل أحد من العقلاء: إن من استخلَف شخصاً على بعض الأمور. وانقضى ذلك الاستخلاف: إنه يكون خليفة بعد موته على شيء، ولكن الرافضة من أجهل الناس بالمعقول والمنقول.

فصل

قال الرافضي: الرابع: "أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة مع قصر مدة الغَيْبة، فيجب أن يكون خليفة له بعد موته. وليس غير عليّ إجماعاً، ولأنه لم يعزله عن المدينة، فيكون خليفة [له] بعد موته فيها، وإذا كان خليفة فيها كان خليفة في غيرها إجماعاً».

والجواب: أن هذه الحجة وأمثالها من الحجج الداحضة، التي هي من جنس بيت العنكبوت. والجواب عنها من وجوه:

أحدها: أن نقول على أحد القولين: إنه استخلف أبا بكر بعد موته كما تقدم. وإذا قالت الرافضة: بل استخلف عليًّا. قيل: الراوندية من جنسكم قالوا: استخلف العبّاس، وكل من كان له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالّة على استخلاف أحدٍ بعد موته إنما تدل على استخلاف أبي بكر، ليس فيها شيء يدل على استخلاف عليّ ولا العباس، بل كلها تدل على أنه لم يستخلف واحداً منهما. فيقال حينئذ: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أحداً فلم يستخلف إلا أبا بكر، وإن لم يستخلف أحداً فلا هذا ولا هذا.

فعلى تقدير كون الاستخلاف واجباً على الرسول، لم يستخلف إلا أبا بكر، فإن جميع أهل العلم بالحديث والسيرة متفقون على أن الأحاديث الثابتة لا تدل على استخلاف غير أبي بكر، وإنما يدل ما يدل منها على استخلاف أبي بكر. وهذا معلوم بالاضطرار عند العالم بالأحاديث الثابتة.

الوجه الثاني: أن نقول: أنتم لا تقولون بالقياس، وهذا احتجاج بالقياس، حيث قستم الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب. وأما نحن إذا فرضنا على أحد القولين فنقول: الفرق بينهما ما نبّهنا عليه في استخلاف عمر في حياته، وتوقفه في الاستخلاف بعد موته، لأن الرسول في حياته شاهد على الأمة، مأمور بسياستها بنفسه أو نائبه، وبعد موته انقطع عنه التكليف.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 2008-07-12, 11:58 PM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

كما قال المسيح: }وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ{ [سورة المائدة: 117] الآية، لم يقل: كان خليفتي الشهيد عليهم. وهذا دليل على أن المسيح لم يستخلف، فدل على أن الأنبياء لا يجب عليهم الاستخلاف بعد الموت.

وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فأقول كما قال العبد الصالح: }وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ{ [سورة المائدة: 117].

وقد قال تعالى: }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ{ [سورة آل عمران: 144].

فالرسول بموته انقطع عنه التكليف، وهو لو استخلف خليفة في حياته ثم يجب أن يكون معصومًا، بل كان يولّي الرجل ولايةً، ثم يتبين كذبه فيعزله، كما ولَّى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو لو استخلف رجلاً لم يجب أن يكون معصوماً، وليس هو بعد موته شهيداً عليه، ولا مكلَّفاً بردّه عما يفعله، بخلاف الاستخلاف في الحياة.

الوجه الثالث: أن يُقال: الاستخلاف في الحياة واجبٌ على كل وليّ أمر؛ فإن كل ولي أمر – رسولاً كان أو إماماً – عليه أن يستخلف فيما غاب عنه من الأمور، فلا بد له من إقامة الأمر: إما بنفسه، وإما بنائبه. فما شهده من الأمر أمكنه أن يقيمه بنفسه، وأما ما غاب عنه فلا يمكنه إقامته إلا بخليفة يستخلفه عليه، فيولّي عَلَى مَنْ غاب عنه مِن رعيته مَنْ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويأخذ منهم الحقوق، ويقيم فيهم الحدود، ويعدل بينهم في الأحكام، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه، فيولِّي الأمراء على السرايا: يصلّون بهم، ويجاهدون بهم، ويسوسونهم، ويؤمِّر أمراء على الأمصار، كما أمّر عتاب بن أسيد على مكة، وأمّر خالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد العاص وأبا سفيان بن حرب ومعاذاً وأبا موسى على قرى عُرينة وعلى نجران وعلى اليمن، وكما كان يستعمل عمالاً على الصدقة، فيقبضونها ممن تجب عليه، ويعطونها لمن تحلّ له، كما استعمل غير واحد.

وكان يستخلف في إقامة الحدود، كما قال لأنيس: «يا أُنَيْس، اغد على امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها.

وكان يستخلف على الحج، كما استخلف أبا بكر على إقامة الحج عام تسع بعد غزوة تبوك، وكان عليّ من جملة رعية أبي بكر: يصلّي خلفه، ويأتمر بأمره، وذلك بعد غزوة تبوك.

وكما استخلف على المدينة مراتٍ كثيرة، فإنه كان كلما خرج في غزاة استخلف. ولما حج واعتمر استخلف. فاستخلف في غزوة بدر، وبني المصطلق، وغزوة خيبر، وغزوة الفتح، واستخلف في غزوة الحديبية، وفي غزوة القضاء، وحجة الوداع، وغير ذلك.

وإذا كان الاستخلاف في الحياة واجباً على متولّي الأمر وإن لم يكن نبياً، مع أنه لا يجب عليه الاستخلاف بعد موته، لكون الاستخلاف في الحياة أمراً ضروريًّا لا يؤدَّى الواجب إلا به، بخلاف الاستخلاف بعد الموت، فإنه قد بلَّغ الأمة، وهو الذي يجب عليهم طاعته بعد موته، فيمكنهم أن يعينوا من يؤمِّرونه عليهم، كما يمكن ذلك في كل فروض الكفاية التي تحتاج إلى واحد معيّن – عُلم أن لا يلزم من وجوب الاستخلاف في الحياة وجوبه بعد الموت.

الرابع: أن الاستخلاف في الحياة واجبٌ في أصناف الولايات، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف على من غاب عنهم من يقيم فيهم الواجب، ويستخلف في الحج، وفي قبض الصدقات، وحفظ مال الفيء، وفي إقامة الحدود، وفي الغزو وغير ذلك.

ومعلوم أن هذا الاستخلاف لا يجب بعد الموت باتفاق العقلاء، بل ولا يمكن، فإنه لا يمكن أن يعيِّن للأمة بعد موته من يتولّى كل أمر جزئي، فإنهم يحتاجون إلى واحدٍ بعد واحد، وتعيين ذلك متعذر، ولأنه لو عيَّن واحداً فقد يختلف حاله ويجب عزله، فقد كان يولّي في حياته من اشتكى إليه فيعزله، كما عزل الوليد بن عقبة، وعزل سعد بن عبادة عام الفتح وولَّى ابنه قيساً، وعزل إماماً كان يصلِّي بقوم لما بصق في القبلة، وولَّى مرة رجلاً فلم يقيم بالواجب، فقال: «أعجزتم إذا ولّيت من لا يقوم بأمري أن تولّوا رجلاً يقوم بأمري» فقد فوّض إليهم عزل من لا يقوم بالواجب من ولاته، فكيف لا يفوض إليهم ابتداءً تولية من يقوم بالواجب؟!

وإذا كان في حياته من يولّيه ولا يقوم بالواجب فيعزله، أو يأمر بعزله، كان لو ولّى واحداً بعد موته يمكن فيه أن لا يقوم بالواجب، وحينئذ فيحتاج إلى عزله، فإذا ولّته الأمة وعزلته، كان خيرًا لهم من أن يعزلوا من ولاّه النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مما يتبين به حكمة ترك الاستخلاف، وعلى هذا فنقول في:

الوجه الخامس: أن ترك الاستخلاف بعد مماته كان أَوْلى من الاستخلاف، كما اختاره الله لنبيه، فإنه لا يختار له إلا أفضل الأمور، وذلك؛ لأنه: إما أن يُقال: يجب أن لا يستخلف في حياته من ليس بمعصوم، وكان يصدر من بعض نوّابه أمور منكرة فينكرها عليهم، ويعزل من يعزل منهم. كما استعمل خالد بن الوليد على قتال بني جذيمة فقتلهم، فَودَاهم النبي صلى الله عليه وسلم بنصف دياتهم، وأرسل عليّ بن أبي طالب فضمن لهم حتى ميلغة الكلب، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال: «اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد».

واختصم خالد وعبد الرحمن بن عوف حتى قال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصفيه» ولكن مع هذا لم يعزل النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا.

واستعمل الوليد بن عقبة على صدقات قومٍ، فرجع فأخبره أن القوم امتنعوا وحاربوا، فأراد غزوهم، فأنزل الله تعالى: }إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ{ [سورة الحجرات: 6].

وولّى سعد بن عبادة يوم الفتح، فلما بلغه أن سعداً قال:

اليوم يوم الملحمة . . اليوم تستباح الحرمة

عزله، وولى ابنه قيساً، وأرسل بعمامته علامةً على عزله، ليعلم سعد أن ذلك أمرٌ من النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان يُشْتَكى إليه بعض نوابه فيأمره بما أمر الله به، كما اشتكى أهل قباء معاذًا لتطويله الصلاة بهم، لما قرأ البقرة في صلاة العشاء فقال: «أفتَّان أنت يا معاذ؟ اقرأ سبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، ونحوها».

وفي الصحيح أن رجلاً قال له: إني أتخلّف عن صلاة الفجر مما يطوِّل بنا فلان، فقال: «يا أيها الناس! إذا أمَّ أحدكم فليخفف؛ فإن من ورائه الضعيف والكبير وذا الحاجة، وإذا صلّى لنفسه فليطوّل ما شاء».

ورأى إماماً قد بصق في قبلة المسجد، فعزله عن الإمامة، وقال: «إنك آذيت الله ورسوله».

وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء أرسل إليه يسأله عنه.

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته يعلّم خلفاءه ما جهلوا، ويقوِّمهم إذا زاغوا، ويعزلهم إذا لم يستقيموا. ولم يكونوا مع ذلك معصومين. فعُلم أنه لم يكن يجب عليه أن يولّي المعصوم.

وأيضاً فإن هذا تكليف ما لا يمكن؛ فإن الله لم يخلق أحداً معصوماً غير الرسول صلى الله عليه وسلم. فلو كُلِّف أن يستخلف معصوماً لكُلِّف ما لا يقدر عليه، وفات مقصود الولايات، وفسدت أحوال الناس في الدين والدنيا.

وإذا عُلم أنه كان يجوز – بل يجب – أن يستخلف في حياته من ليس بمعصوم، فلو استخلف بعد موته كما استخلف في حياته، لاستخلف أيضاً غير معصوم، وكان لا يمكنه أن يعلّمه ويقوّمه كما كان يفعل في حياته، فكان أن لا يستخلف خيرًا من أن يستخلف.

والأمة قد بلغها أمر الله ونهيه، وعلموا ما أمر الله به ونهى عنه، فهم يستخلفون من يقوم بأمر الله ورسوله، ويعاونونه على إتمامهم القيام بذلك، إذا كان الواحد لا يمكنه القيام بذلك، فما فاته من العلم بيّنه له من يعلمه، وما احتاج إليه من القدرة عاونه عليه من يمكنه الإعانة، وما خرج فيه عن الصواب أعادوه إليه بحسب الإمكان بقولهم وعملهم، وليس على الرسول ما حُمِّلوه، كما أنهم ليس عليهم ما حُمِّل.

فعُلم أن ترك الاستخلاف من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت أكمل في حق الرسول من الاستخلاف، وأن من قاس وجوب الاستخلاف بعد الممات على وجوبه في الحياة كان من أجهل الناس.

وإذا عَلٍمَ الرسول أن الواحد مِنَ الأُمَّة هُوَ أَحَقُّ بِالْخِلاَفَةِ، كما كان يعلم أن أبا بكر هو أحق بالخلافة من غيره، كان في دلالته للأمة على أنه أحق، مع علمه بأنهم يولُّونه، ما يغنيه عن استخلافه، لتكون الأمة هي القائمة بالواجب، ويكون ثوابها على ذلك أعظم من حصول مقصود الرسول.

وأما أبو بكر فلما علم أنه ليس في الأمة مثل عمر، وخاف أن لا يولُّوه إذا لم يستخلفه لشدته، فولاّه هو – كان ذلك هو المصلحة للأمة.

فالنبي صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أن الأمة يولُّون أبا بكر، فاستغنى بذلك عنْ توليَتِه، مَع دلالته لهم عَلَى أنه أحق الأمة بالتولية. وأبو بكر لم يكن يعلم أن الأمة يولُّون عمر إذا لم يستخلفه أبو بكر. فكان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو اللائق به لفضل علمه، وما فعله صدِّيق الأمة هو اللائق به إذ لم يعلم ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه السادس: أن يقال: هب أن الاستخلاف واجب، فقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، على قول من يقول: إنه استخلفه، ودلّ على استخلافه على القول الآخر.

وقوله: «لأنه لم يعزله عن المدينة».

قلنا: هذا باطل؛ فإنه لمّا رجع النبي صلى الله عليه وسلم انعزل عليٌّ عند رجوعه، كما كان غيره ينعزل إذا رجع. وقد أرسله بعد هذا إلى اليمن، حتى وافاه الموسم في حجة الوداع، واستخف عَلَى المدينة في حجة الوداع غيره.

أفترى النبي صلى الله عليه وسلم فيها مقيماً وعليّ باليمن، وهو خليفة بالمدينة؟!

ولا ريب أن كلام هؤلاء كلام جاهل بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، كأنهم ظنّوا أن عليًّا ما زال خليفة عَلَى المدينة حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلموا أن عليًّا بعد ذلك أرسله النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع مع أبي بكر لنبذ العهود، وأمَّر عليه أبا بكر. ثم عند رجوعه مع أبي بكر أرسله إلى اليمن، كما أرسل معاذًا وأبا موسى.

ثم لما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع استخلف عَلَى المدينة غير عليٍّ، ووافاه عليّ بمكة، ونحر النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة، نحر بيده ثُلُثيها، ونحر علي ثلثها.

وهذا كله معلوم عند أهل العلم، متفق عليه بينهم، وتواترت به الأخبار، كأنك تراه بعينك. ومن لم يكن له عناية بأحوال الرسول لم يكن له أن يتكلم في هذه المسائل الأصولية.

والخليفة لا يكون خليفة إلا مع مغيب المستخلف أو موته. فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالمدينة امتنع أن يكون له خليفة فيها، كما أن سائر من استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع انقضت خلافته. وكذلك سائر ولاة الأمور: إذا استخلف أحدهم على مصره في مغيبه بطل استخلافه ذلك إذا حضر المستخلِف.

ولهذا لا يصلح أن يُقال: إن الله يستخلف أحداً عنه، فإنه حيٌّ قيوم شهيد مدبّر لعباده، منزّه عن الموت والنوم والغَيْبة.

ولهذا لما قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله. قال: لست خليفة الله، بل خليفة رسول الله، وحسبي ذلك.

والله تعالى يوصف بأنه يخلف العبد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم! أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل». وقال في حديث الدجَّال: «والله خليفتي على كل مسلم».

وكل من وصفه الله بالخلافة في القرآن فهو خليفة عن مخلوق كان فيه.

كقولـه: }ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم{ [سـورة يونـس: 14]، }وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ{ [سورة الأعراف: 69]، }وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ{ [سورة النور: 55].

وبذلك قوله: }إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً{ [سورة البقرة: 30]، خليفة عن خلقٍ كان في الأرض قبل ذلك، كما ذكر المفسرون وغيرهم.

وأما ما يظنه طائفة من الاتحادية وغيرهم أن الإنسان خليفة الله، فهذا جهل وضلال.

( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 325-353) .


********************
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 2008-07-12, 11:59 PM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

الشبهة(2):احتجاجهم بآية المباهلة

قال عبدالله بن الحسين السويدي في مناظرته مع أحد علماء الشيعة :

ثم قال – أي الشيعي - : عندي دليل آخر لا يقبل التأويل، وهو قوله تعالى: ] قل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين [.

قلت له:- ما وجه الدليل من هذه الآية؟

فقال:- إنه لما أتى نصارى نجران للمباهلة، احتضن النبي صلى الله عليه وسلم الحسين، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة من ورائهم وعلي خلفها، ولم يقدّم إلى الدعاء إلا الأفضل.

قلت: هذا من باب المناقب، لا من باب الفضائل. وكل صحابي اختص بمنقبة لا توجد في غيره، كما لا يخفى على من تتبع كتب السير. وأيضاً إن القرآن نزل على أسلوب كلام العرب، وطرز محاوراتهم. ولو فرض أن كبيرين من عشيرتين وقع بينهما حرب وجدال، يقول أحدهما للآخر. ابرز أنت وخاصة عشيرتك، وأبرز أنا وخاصة عشيرتي، فنتقابل ولا يكوّن معنا من الأجانب أحد، فهذا لا يدل على أنه لم يوجد مع الكبيرين أشجع من خاصتهما. وأيضاً الدعاء بحضور الأقارب يقتضي الخشوع المقتضي لسرعة الإجابة.

فقال: ولا ينشأ الخشوع إذ ذاك إلا من كثرة المحبة.

فقلت: هذه محبة مرجعها إلى الجبلَّة والطبيعة، كمحبة الإنسان نفسه وولده أكثر ممن هو أفضل منه ومن ولده بطبقات فلا يقتضي وزراً ولا أجراً إنما المحبة المحدودة التي تقتضي أحد الأمرين المتقدمين إنما هي المحبة الاختيارية.

فقال: وفيها وجه آخر يقتضي الأفضلية، وهو حيث جعل نفسه صلى الله عليه وسلم نفس علي، إذ في قوله: "أبناءنا" يراد الحسن والحسين، وفي "نساءنا" يراد فاطمة، وفي "أنفسنا" لم يبق إلا علي والنبي r.

فقلت: الله أعلم أنك لم تعرف الأصول، بل ولا العربية. كيف وقد عبر بأنفسنا، و"الأنفس" جمع قلة مضافاً إلى "نا" الدالة على الجمع ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي تقسيم الآحاد، كما في قولنا: "ركب القوم دوابهم" أي ركب كل واحد دابته. وهذه مسألة مصرحة في الأصول، غاية الأمر أنه أطلق الجمع على ما فوق الواحد وهو مسموع كقوله تعالى: ] أولئك مبرءون مما يقولون [ أي عائشة وصفوان - رضي الله تعالى عنهما -، وقوله تعالى: ] فقد صغت قلوبكما [ ولم يكن لهما إلا قلبان. على أن أهل الميزان يطلقون الجمع في التعاريف على ما فوق الواحد، وكذلك أطلق الأبناء على الحسن والحسين، والنساء على فاطمة فقط مجازاً. نعم لو كان بدل أنفسنا "نفسي" لربما كان له وجه ما بحسب الظاهر.

وأيضاً لو كانت الآية دالة على خلافة عليّ لدلت على خلافة الحسن والحسين وفاطمة مع أنه بطريق الاشتراك، ولا قائل بذلك لأن الحسن والحسين إذ ذاك صغيران وفاطمة مفطومة كسائر النساء عن الولايات، فلم تكن الآية دالة على الخلافة.

فانقطع..

( المرجع : الخطوط العريضة ، محب الدين الخطيب ، ص 78-81) .
****************
الشبهة(3): احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق حيث ما دار"

وجوابه :

أولاً: ما قاله الإمام الحافظ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا الحديث بهذا اللفظ ليس في شيء من الكتب الأمهات إلا في الترمذي وليس فيه إلا قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه خاصة" وأما الزيادة فليست فيه.

(كذلك قال الشيخ الإمام مجد الدين الفيروز آبادى، أنه لا يصح من طريق الثقات أصلاً والزيادة التي ألحقوها به كذب وقوله: اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه ليس بصريح في حكمه كما يزعمه الرافضة لا من التصريح هو الذي لا يتحمل التأويل، وأيضاً اللفظ "المولى" مشتركة في محامل يطلق على العبد والسيد وعلى المعتق وعلى الزعيم وعلى الناصر وعلى الأولى فليست بصريحة كما يدعوه) وأما الزيادة كوفية، ولا ريب أنها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجوه.

أحدها: أن الحق لا يدور مع أحد، شخص معين بعد رسول صلى الله عليه وسلم حيث ما دار لا مع أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم؛ لأنه لو كان كذلك لكان بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم يجب إتباعه في كل ما يقول. ومعلوم أن عليًّا رضي الله عنه كان ينازعه أصحابه وأتباعه في مسائل كثيرة ولا يرجعون فيها إلى قوله، بل فيها مسائل كثيرة وجد فيها نصوص النبي صلى الله عليه وسلم توافق من نازعه لا قوله. منها المرأة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً فإن عليًّا أفتى بأنها تعتد أبعد الأجلين وعمر وابن مسعود وغيرهما أفتوا بأنها تعتد بوضع الحمل وبهذا جاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو السنابل بن بعكك، أفتى بمثل قول علي رضي الله عنه وقال صلى الله عليه وسلم: كذب أبو السنابل قد حللت فانكحي. يقول لسبيعة الأسلمية لما سأله عن ذلك.

وقوله عليه السلام (فيما زعموا): أُنصر من نصره، واخذل من خذله؛ فإن الواقع ليس كذلك فقد قاتل معه أقوام يوم صفين فما انتصروا وأقوام لم يقاتلوا معه فما خذلوا. كسعد بن أبي وقاص الذي فتح العراق لم يقاتل معه وكذا أصحاب معاوية رضي الله عنه وبنو أمية الذين قاتلوه فتحوا كثيراً من بلاد الكفار ونصرهم الله تعالى. لاسيما من كان على رأي الشيعة فإنهم دائماً مخذولون وأهل السنة منصورون. وهم يقولون: أنهم ينصرونه وأهل السنة يخذلونه. ويسمون أنفسهم المؤمنين وهم متصفون بصفات بغير صفات المؤمنين فإن سيماهم التقية وهو أن يقول أحدهم بلسانه ما ليس في قلبه وهذا من صفات المنافقين. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.

وللمنافقين الذلة لا العزة وقال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا) والنصر والغلبة لأهل السنة لا للشيعة.

وقوله: "اللهم! والِ من والاه وعاد من عاداه" مخالف لأصول الإسلام. فإن القرآن قد بيَّن أن المؤمنين مع اقتتالهم وبغى بعضهم على البعض هم إخوة مؤمنون كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا...) الآية.

فكيف يجوز أن يقول عليه السلام لواحد من أمته: "اللهم والِ من والاه.." الخ، والله تعالى قد أخبر أنه ولي المؤمنين والمؤمنون أولياءه وبعضهم أولياء بعض، وأنهم إخوة، وإن اقتتلوا أو بغوا؟! على أن حديث "من كنت مولاه" قد طعن فيه علماء الحديث كالبخاري.

وإبراهيم الحربي وغيرهما. وحسنه أحمد والترمذي، وغيرهما، فإن كان قاله فما أراد به ولاية يختص بها بل لم يرد به إلا الولاية المشتركة وهي ولاية الإيمان التي جعلها الله تعالى بين عباده المؤمنين وبيَّن بهذا أن عليًّا رضي الله عنه من المؤمنين الذين يجب موالاتهم، وليس هو كما يقول النواصب من: أنه كافر أو فاسق فلا يستحق الموالاة. والموالاة ضد المعاداة ولا ريب أنه يجب الموالاة لجميع المؤمنين وعلي رضي الله عنهم وسائر المهاجرين والأنصار ولا يجوز معاداة أحد من هؤلاء فمن لم يولهم فقد عصى الله ورسوله .قال أهل السنة وسبب: قوله عليه السلام: من كنت مولاه فعلي مولاً له" أن أسامة بن زيد أنكر ولاية علي.

وأما حديث التصدق بالخاتم في الصلاة فكذب موضوع باتفاق أهل المعرفة، وأما ما يظن الرافضة من أن في الآية والحديث دلالة أن عليًّا رضي الله عنه هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن الجهل المقطوع. بخطأ صاحبه فإن الولاء بالفتح وهو ضد العداوة والاسم منه مولى ولي. والولاية بالكسر والاسم منها والي ومتولي.

قال سبحانه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ) والوالي من الموالاة وكذلك الولي، وهي ضد المعاداة، وهي من الطرفين لقوله تعالى: (وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ). فمعنى الحديث إن صح "من كنت مولاه": يواليني ويواليه، فعلي مولاه، يوالي عليًّا وعليّ يواليه، وهذا واجب لكل مؤمن.

قال البيهقي في كتاب «الاعتقاد­­»: "ليس في الحديث إن صح إسناده نص على ولاية علي رضي الله عنه بعد (النبي صلى الله عليه وسلم) فقد ذكرنا من طرق في كتاب «الفضائل»­­ ما دلَّ على مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وهو أنه لما بعثه إلى اليمن كثرت الشكاة عنه وأكثروا بغضه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر اختصاصه به ومحبته إياه ويحثهم بذلك على مودته وموالاته وترك معاداته فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه". وفي رواية "من كنت وليه فعلي وليه" والمراد به ولاء الإسلام ومودته، وعلى المسلمين أن يوالي بعضهم بعضاً ولا يعادي بعضهم بعضاً، وهو في معنى ما ثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ نسمته أنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. وكذا قال الإمام الشافعي أن المراد به في الحديث ولاء الإسلام.

ذلك كقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ) ولما سأل عنه الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم فقال له: لو يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أنصح للمسلمين وقال: يا أيها الناس! هذا ولي أمركم والقائم عليكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا، والله لئن كان الله عز وجل ورسوله اختارا عليًّا لهذا الأمر وجعله القائم به للمسلمين من بعده ثم ترك علي أمر الله ورسوله، لكان علي أول من ترك أمر الله ورسوله وأعظم الناس خطيئة وجرماً في ذلك.

قال الإمام البيهقي وكذا قال أخوه عبد الله بن الحسن وروينا عنه أنه قال: مَن هذا الذي يزعم أن عليًّا رضي الله عنه كان مقهوراً وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأمور لم ينفذها فكفى به أزراً على علي رضي الله عنه ومنقصه بأنه يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأمر فلم ينفذه.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 212 – 224 ) .
*****************
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 2008-07-13, 12:00 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

الشبهة(4): احتجاجهم بحديث ( غدير خُم )

وهو قوله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خُمّ: "أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي" وهو حديث رواه مسلم في صحيحه.

وخُمّ بضم المعجمة والميم المشددة اسم الغيضة على ثلاثة أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيضة.

وجوابه أن هذا الحديث ليس من خصائص علي رضي الله عنه بل هو مشترك بين جميع أهل البيت آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل عباس.

وأبعد الناس عن قبول هذه الوصية الطائفة الرافضة فأنهم يعادون العباس وبنيه وذريته رضي الله عنهم بل يعادون جمهور أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويعاونون الكفار الذين يعادون أهل البيت وأهل الإسلام.

وأما أهل السنة فإنهم يعرفون حقوق أهل البيت ودرجاتهم ويحبونهم كلهم ويوالونهم ويلعنون من ينصب لهم العداوة.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 224 – 225 ) .

ــــــــــــــــ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

قال الرافضي: الثاني: الخبر المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ{ [سورة المائدة: 67] خطب الناس في غدير خُم وقال للجمع كله: يا أيها الناس، ألست أَوْلى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى. قال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه. اللهم! والِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. فقال عمر: بخٍ، بخٍ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. والمراد بالمولى هنا: الأوْلى بالتصرف لتقدّم التقرير منه صلى الله عليه وسلم بقوله: ألست أَوْلى منكم بأنفسكم؟

والجواب عن هذه الآية والحديث المذكور قد تقدّم، وبيَّنا أن هذا كذب، وأن قوله: }بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ{ [سورة المائدة: 67] نزل قبل حجة [الوداع] بمدة طويلة.

ويوم الغدير إنما كان ثامن عشر ذي الحجة بعد رجوعه من الحج، وعاش بعد ذلك شهرين وبعض الثالث. ومما يبين ذلك أن آخر المائدة نزولاً قولـه تعـالى: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي{[سورة المائدة: 3] وهذه الآية نزلت بعرفة تاسع ذي الحجة في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، كما ثبت ذلك في الصحاح والسنن، وكما قاله العلماء قاطبة من أهل التفسير والحديث وغيرهم.

وغدير خم كان بعد رجوعه إلى المدينة ثامن عشر ذي الحجة بعد نزول هذه الآية بتسعة أيام، فكيف يكون قوله: }بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ{ [سورة المائدة: 67] نزل ذلك الوقت، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت قبل ذلك، وهي من أوائل ما نزل بالمدينة، وإن كان ذلك في سورة المائدة، كما أن فيها تحريم الخمر، والخمر حُرِّمت في أوائل الأمر عقب غزوة أحد، وكذلك فيها الحكم بين أهل الكتاب بقوله: }فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ{ [سورة المائدة: 42]. وهذه الآية نزلت إما في الحد لما رجم اليهوديين، وإما في الحكم بين قريظة والنضير لما تحاكموا إليه في الدماء. ورجم اليهوديين كان أول ما فعله بالمدينة، وكذلك الحكم بين قريظة والنضير، فإن بني النضير أجلاهم قبل الخندق، وقريظة قتلهم عقب غزوة الخندق.

والخندق باتفاق الناس كان قبل الحديبية، وقبل فتح خيبر. وذلك كله قبل فتح مكة وغزوة حنين، وذلك كله قبل حجة الوداع، وحجة الوداع قبل خطبة الغدير.

فمن قال: إن المائدة نزل فيها شيء بغدير خم فهو كاذب مفترٍ باتفاق أهل العلم.

وأيضاً فإن الله تعالى قال في كتابه: }يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ{ [سورة المائدة: 67] فضمن له سبحانه أن يعصمه من الناس إذا بلّغ الرسالة ليؤمّنه بذلك من الأعداء. ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول هذه الآية يُحرس، فلما نزلت هذه الآية ترك ذلك.

وهذا إنما يكون قبل تمام التبليغ، وفي حجة الوداع تم التبليغ.

وقال في حجة الوداع: «ألا هل بلغت، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم قال: «اللهم! اشهد» وقال: «أيها الناس، إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله. وأنتم تسألونه عني فما أنتم قائلون؟­» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدّيت ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إلى الأرض ويقول: «اللهم اشهد، اللهم اشهد» وهذا حديث جابر في صحيح مسلم وغيره من الأحاديث الصحيحة.

وقال: «ليبلِّغ الشاهد الغائب، فربَّ مبلَغٍ أوعى من سامع».

فتكون العصمة المضمونة موجودة وقت التبليغ المتقدّم، فلا تكون هذه الآية نزلت بعد حجّة الوداع، لأنه قد بلًَّغ قبل ذلك، ولأنه حينئذ لم يكن خّائِفاً من أحدٍ يَحْتَاجُ أَنْ يُعصم مِنْه، بل بَعْد حَجَّة الوَدَاع كان أهلْ مَكَّة والمدينة وما حَوْلَهُما كلهم مسلمين منقادين له ليس فيهم كافر ، والمنافقون مقموعون مُسِرُّون للنفاق، ليس فيهم من يحاربه ولا من يخاف الرسول منه. فلا يُقال له في هذه الحال: }يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ{[سورة المائدة: 67].

وهذا مما يبيّن أن الذي جرى يوم الغدير لم يكن مما أُمر بتبليغه، الذي بلًَّغه في حجة الوداع؛ فإن كثيراً من الذين حجُّوا معه – أو أكثرهم – لم يرجعوا معه إلى المدينة، بل رجع أهل مكة إلى مكة، وأهل الطائف إلى الطائف، وأهل اليمن إلى اليمن، وأهل البوادي القريبة من ذاك إلى وديانهم. وإنما رجع [معه] أهل المدينة ومن كان قريباً منها.

فلو كان ما ذَكَرَهُ يَوْمَ الغَدِيْر مِمَّا أُمر بتبليغه، كالذي بلَّغه في الحج، بلغه في حجة الوداع كما بلَّغ غيره، فلما لم يذكر في حجّة الوداع إمامة ولا ما يتعلق بالإمامة أصلاً، ولم ينقل أحد بإسناد صحيح ولا ضعف أنه في حجّة الوداع ذكر إمامة عليّ، بل ولا ذكر عليًّا في شيء من خطبته، وهو المجمع العام الذين أُمر فيه بالتبليغ العام – عُلم أن إمامة عليّ لم تكن من الدين الذي أُمر بتبليغه، بل ولا حديث الموالاة وحديث الثقلين ونحو ذلك مما يُذكر في إمامته.

والذي رواه مسلم أنه بغدير خم قال: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله» فذكر كتاب الله وحضَّ عليه ثم قال: «وعترتي أهل بيتي، أذكِّركم الله [في أهل بيتي]» ثلاثاً. وهذا مما انفرد به مسلم، ولم يروه البخاري، وقد رواه الترمذي وزاد فيه: «وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض».

وقد طعن غير واحد من الحفاظ في هذه الزيادة، وقال: إنها ليست من الحديث. والذين اعتقدوا صحتها قالوا: إنما يدل على أن مجموع العترة الذين هم بنو هاشم لا يتفقون على ضلالةٍ. وهذا قاله طائفة من أهل السنّة، وهو من أجوبة القاضي أبي يعلي وغيره.

والحديث الذي في مسلم، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، فليس فيه إلا الوصية باتِّباع كتاب الله. وهذا أمر قد تقدّمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك، وهو لم يأمر بإتِّباع العترة، ولكن قال: «أذكّركم الله في أهل بيتي» وتذكير الأمة بهم يقتضي أن يذكروا ما تقدّم الأمر به قبل ذلك من إعطائهم حقوقهم، والامتناع من ظلمهم. وهذا أمر قد تقدّم بيانه قبل غدير خُم.

فعلم أنه لم يكن في غدير خُم أمر يشرع نزل إذ ذاك، لا في حق عليّ ولا غيره، لا إمامته ولا غيرها.

لكن حديث الموالاة قد رواه الترمذي وأحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه». وأما الزيادة وهي قوله: «اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه..» إلخ، فلا ريب أنه كذب.

ونقل الأثرم في «سننه» عن أحمد أن العباس سأله عن حسين الأشقر، إنه حدّث بحديثين: أحدهما: قوله لعليّ: إنك ستعرض على البراءة مني فلا تبرأ. والآخر: اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه. فأنكره أبو عبيد جداً، لم يشك أن هذين كذب.

وكذلك قوله: أنت أَوْلى بكل مؤمن ومؤمنة، كذب أيضًا.

وأما قوله: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فليس هو في الصحاح، لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته، فنُقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وضعَّفوه، ونُقل عن أحمد بن حنبل أنه حسَّنه كما حسَّنه الترمذي. وقد صنَّف أبو العباس بن عُقْدة مصنَّفًا في جميع طرقه.

وقال ابن حزم: «الذي صح من فضائل عليّ فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» وقوله: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» وهذه صفة واجبة لكل مسلم ومؤمن وفاضل وعهده صلى الله عليه وسلم أن عليًّا: «لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق». وقد صحَّ مثل هذا في الأنصار أنهم «لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر».

قال: «وأما «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فلا يصح من طريق الثقات أصلاً. وأما سائر الأحاديث التي يتعلق بها الروافض موضوعه، يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلها».

فإن قيل: لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله: «أنت مني وأنا منك» وحديث المباهلة والكساء.

قيل: مقصود ابن حزم: الذي في الصحيح من الحديث الذي لا يُذكر إلا عليّ. وأما تلك ففيها ذكر غيره، فإنه قال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا». وحديث المباهلة والكساء فيهما ذكر عليّ وفاطمة وحسن وحسين – رضي الله عنهم -، فلا ورد هذا على ابن حزم.

ونحن نجيب بالجواب المركّب فنقول: إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام، وإن كان قاله فلم يرد به قطعاً الخلافة بعده، إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه. ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلَّغ بلاغًا مبينًا.

وليس في الكلام ما يدل دلالة بيّنة على أن المراد به الخلافة. وذلك أن المولى كالولي. والله تعالى قال: }إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ{ [سورة المائدة: 55]، وقال: }وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ{ [سورة التحريم: 4]، فبيَّن أن الرسول وليَّ المؤمنين، وأنهم مواليه أيضاً، كما بيَّن أن الله وليّ المؤمنين، وأنهم أولياؤهم، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض.

فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين، وإن كان أحد المتواليين أعظم قدراً، وولايته إحسان وتفضل، وولاية الآخر طاعة وعبادة، كما أن الله يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبونه. فإن الموالاة ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، والكفّار لا يحبون الله ورسوله، ويُحادّون الله ورسوله ويعادونه.

وقد قال تعالى: }لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء{ [سورة الممتحنة: 1]. وهو يجازيهم على ذلك، كما قال تعالى: }فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ{ [سورة البقرة: 279].

وهو وليّ المؤمنين وهو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان كذلك فمعنى كون الله وليّ المؤمنين ومولاهم، وكون الرسول وليهم ومولاهم، وكون عليّ مولاهم، هي الموالاة التي هي ضد المعاداة.

والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن. فعليُّ – رضي الله عنه – من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه.

وفي هذا الحديث إثبات إيمان عليّ في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطناً وظاهراً، وذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، لكن ليس فيه أنه ليس للمؤمنين مولى غيره، فكيف رسول الله صلى الله عليه وسلم له موالي، وهم صالحو المؤمنين، فعلي أيضًا له مولى بطريق الأَوْلى والأحرى، وهم المؤمنون الذين يتولونه.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أسلم وغفاراً ومزينة وجهينة وقريشاً والأنصار ليس لهم مولى دون الله ورسوله، وجعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جعل صالح المؤمنين مواليه والله ورسوله مولاهم.

وفي الجملة فرق بين الوليّ والمولى ونحو ذلك وبين الوالي. فباب الولاية – التي هي ضدّ العداوة – شيء، وباب الولاية – التي هي الإمارة – شيء.

والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: من كنت واليه فعليّ واليه، وإنما اللفظ «من كنت مولاه فعليّ مولاه».

وأما كون المولى بمعنى الوالي، فهذا باطل، فإن الولاية تثبت من الطرفين؛ فإن المؤمنين أولياء الله، وهو مولاهم.

وأما كونه أَوْلى بهم من أنفسهم، فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه وسلم، وكونه أَوْلى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته، ولو قُدِّر أنه نصَّ على خليفة من بعده، لم يكن ذلك موجباً أن يكون أَوْلى بكل مؤمن من نفسه، كما أنه لا يكون أزواجه أمهاتهم، ولو أريد هذا المعنى لقال من كنت أَوْلى به من نفسه فعليّ أَوْلى به من نفسه، وهذا لم يقله، ولم ينقله أحد، ومعناه باطل قطعاً؛ لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلى بكل مؤمن من نفسه أمر ثابت في حياته ومماته، وخلافة عليّ – لو قدر وجودها – لم تكن إلا بعد موته، لم تكن في حياته، فلا يجوز أن يكون عليٌّ خليفة في زمنه، فلا يكون حينئذ أَوْلى بكل مؤمن من نفسه، بل ولا يكون مولى أحد من المؤمنين، إذا أُريد [به] الخلافة.

وهذا مما يدل على أنه لم يُرِد الخلافة؛ فإن كونه وليّ كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لم يتأخر حكمه إلى الموت. وأما الخلافة فلا يصير خليفة إلا بعد الموت. فعُلم أن هذا ليس حقًّا.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة، وإذا استخلف أحدًا على بعض الأمور في حياته، أو قُدِّر أنه استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته، قُدِّر أنه استخلف أحداً بعد موته، وصار له خليفة بنص أو إجماع، فهو بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم، فلا يكون قط غيره أولى كل مؤمن من نفسه، لاسيما في حياته.

وأما كون عليّ وغيره مولى كل مؤمن، فهو وصف ثابت لعليّ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، وبعد ممات عليّ، فعلي اليوم مولى كل مؤمن، وليس اليوم متولياً على الناس. وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياءً وأمواتًا .

( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 313-325) .
********************
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 2008-07-13, 12:01 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

الشبهة(5): احتجاجهم بحديث : "أقضاكم علي"

وجوابه :

أولاً: فقد قال الإمام الحافظ تقي الدين ابن تيمية أنه حديث غير معروف ولم يروه أحد من كتب السنة وأهل المسانيد المشهورة لا أحمد ولا غيره لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، وإنما يروى من طريق من هو معروف بالكذب. نعم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أُبيّ أقرأنا وعلي أقضانا" وقال ذلك بعد موت أبي بكر رضي الله عنه. وروى الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأعلمها بالفرائض زيد ابن ثابت. وليس فيه ذكر علي ،ضعّفه بعض وحسّنه بعض ، والحديث الذي فيه ذكر علي مع ضعفه اتفاقاً فيه أن معاذ بن جبل أعلم بالحلال والحرام وزيد بن ثابت أعلم بالفرائض. فلو قدر صحة هذا الحديث لكان الأعلم بالحلال والحرام أوسع علماً من الأعلم بالقضاة؛ لأن الذي يختص بالقضاة إنما هو فصل الخصومات في الظواهر مع جواز أن يكون الباطن بخلافه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون الحق بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار".

فقد أخبر سيد القضاة أن قضاه لا يحل الحرام ، بل يحرم على المسلم أن يأخذ بقضاء منا قضى له به من حق الغير، وعلم أن الحلال والحرام يتناول الباطن والظاهر فكان الأعلم به أعلم بالدين وأيضاً أن القضاء نوعان.

أحدهما: عند تجاحد الخصمين مثل أن يدعي أحدهما أمراً ينكره الآخر فيه فيحاكم فيه بالبينة ونحوها.

الثاني: ما لا يتجاحدان فيه بل يتصادقان ولكن لا يعلمان ما يستحق كل منهما كتنازعهما في قسمة فريضة أو فيما يجب لكل من الزوجين على الآخر أو ما يستحقه كل من الشريكين، ونحو ذلك. فهذا الباب وهو من باب والحلال والحرام، فإذا أفتاهما من يرضيان بقوله كفاهما ذلك ولم يحتاجا إلى من يحكم، وإنما يحتاجان عند التجاحد وذلك إنما يكون في الأغلب مع الفجور، وقد يكون مع النسيان. وأما الحلال والحرام فيحتاج إليه كل أحد من بر وفاجر وما يختص بالقضاء ولا يحتاج إليه إلا قليل من الأبرار.

وهذا لما أمر أبو بكر عمر رضي الله عنهما أن يقضي بين الناس مكث حولاً لم يتحاكم اثنان في شيء ولوعد مجموع ما قضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ عشر حكومات، فأين هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام الذي هو قوام دين الإسلام ويحتاج إليه الخاص والعام.

وقوله صلى الله عليه وسلم أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل أقرب إلى الصحة باتفاق علماء الحديث من قوله: "أقضاكم علي" لو كان مما يحتج به. وإذا كان أصح سنداً وأظهر دلالة علم أن المحتج به على أن عليًّا أعلم من معاذ بن جبل جاهل فكيف من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الذين هما أعلم من معاذ بن جبل. والله أعلم.

وثانياً نقول: هذا إن ثبت لا حجة فيه لهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف كل صحابي بما فيه فقال: "أفرضكم زيد، وأقرأكم أبي" ثم لم يكفهم هذا حتى يعدوا وطعنوا في كبار الصحابة طعناً يقتضي التكفير والظلم وهو بهتان، فإن القرآن العزيز قد شهد بعد التهم .

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 226 – 229 ) .
******************
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 2008-07-13, 12:02 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

الشبهة(6): احتجاجهم بحديث : "أنا مدينة العلم وعلي بابها"

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هو أضعف وأوهى من الذي قبله، ولهذا أعده ابن الجوزي في الموضوعات المكذوبات وبيّن وضعه من سائر طرق. والكذب يعرف من نفسه متنه لا يحتاج إلى النظر في إسناده. فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد. ولا يجوز أن المبلغ للعلم عنه واحد بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب دون الواحد. وخبر رواية الواحد لا يفيد العلم إلا مع القرائن فتلك القرائن إما أن تكون متيقنة وإما أن تكون خفية عن كثير من الناس أو أكثرهم فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة بخلاف النقل المتواتر الذي يحصل به العلم للخاص والعام.

وهذا الحديث إنما افتراه زنديق أو جاهل ظنه مدحاً وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في علم الدين إذا لم يبلغه إلا واحد من الصحابة رضي الله عنهم، ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير طريق علي.

أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهم ظاهر وكذلك أهل الشام والبصرة فإن هؤلاء لم يكونوا يرون عن علي رضي الله عنه إلا قليلاً، وإنما غالب علمه كان في أهل الكوفة ومع هذا فقد كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان بن عفان، فضلاً عن خلافة علي وكان أفقه أهل المدينة وأعلمهم، تعلموا الدين في خلافة عمر رضي الله عنه. وقبل ذلك لم يتعلم أحد منهم من علي إلا من تعلم منه لما كان باليمن كما تعلموا من معاذ بن جبل وكان مقام معاذ في أهل اليمن وتعليمه أكثر من مقام علي وتعليمه ورووا عن معاذ أكثر مما رووا عن علي وشريح وغيره من أكابر التابعين، إنما تفقهوا على معاذ ولما قدم على الكوفة كان شريح قاضياً فيها قبل ذلك، وعلي وجه على القضاء في خلافته شريحاً وعبيدة السلماني وكلاهما تفقه على غيره.

فإذا كان علم الإسلام بالحجاز والشام واليمن والعراق وخراسان ومصر والمغرب قبل أن يقدم على الكوفة. لما صار إلى الكوفة عامة ما بلغه من العلم غيره من الصحابة رضي الله عنهم ولم يختص علي رضي الله عنه بتبليغ شيء من العلم إلا وقد اختص غيره بما هو أكثر منه فالتبليغ للعلم الحاصل بالولاية حصل لأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أكثر مما حصل لعلي رضي الله عنه، وأما الخاص فابن عباس رضي الله عنه كان أكثر فتيا من علي رضي الله عنهما، وأبو هريرة رضي الله عنه كان أكثر رواية منه، وعلي رضي الله عنه أعلم منهما كما أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا أعلم منهما.

فإن الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان لناس أحوج إليه مما بلغه بعض أهل العلم الخاص.

وأما ما يرويه بعض أهل الجهل والكذب من اختصاص علي رضي الله عنه بعلم انفرد به عن الصحابة فكله باطل، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قيل له هل عندكم من رسول الله ؟ صلى الله عليه وسلم فقال: " لا والذي فلق الحبة وبرأ نسمة إلا فهم يؤتيه الله تعالى عبداً في كتابه وما في هذه الصحيفة" وكان فيها عقول الديات أي أسنان الإبل التي يجب في الدية وفيها فكاك الأسير وفيها أن لا يقتل المسلم بكافر. وفي لفظ: هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس؟ فنفى ذلك. إلى غير ذلك من الأحاديث الثابتة عنه التي تدل على أن كل من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم خصَّه بعلم فقد كذب عليه.

وما يقوله بعض الجهال أنه شرب من غسل النبي صلى الله عليه وسلم فأورثه علم الأولين والآخرين. من أقبح الكذب البارد، فإن شرب غسل الميت ليس بمشروع ولا شرب علي رضي الله عنه شيئاً، ولو كان هذا يوجب العلم لشركه فيه كل من حضر، ولم يرو هذا أحد من أهل العلم وكذا قولهم: أنه كان عنده علم باطن امتاز به عن أبي بكر وعمر وغيرهما. فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية الذين هم أكفر من الرافضة بل فيهم من الكفر ما ليس في اليهود والنصارى كالذين يعتقدون ألوهيته ونبوته، أو أنه كان أعلم من النبي × أو أنه كان معلماً للنبي صلى الله عليه وسلم في الباطن ونحو هذه المقالات الشنيعة السخيفة التي لا تصدر إلا من الغلاة في الكفر والإلحاد".

قلت: على أن هذا الحديث قد روي غيره في بقية الخلفاء الأربعة.

فروى صاحب مسند الفردوس وغيره مرفوعاً: "أن دار الحكمة وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلى ومعاوية خلفها".

فينبغي تأمل هذا الحديث وإن كان ضعيفاً كحديث علي. كيف جعل الصدِّيق والفاروق وذي النورين من أصل بناء الدار وعليًّا باب ذلك البناء الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه لا يتم البناء إلا بالأساس والحيطان والسقوف والباب يدخل فيه إليهما؟!. والله أعلم.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 229 – 235 ) .
******************
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 2008-07-13, 12:03 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

******************
الشبهة(7): احتجاجهم بحديث الطير

المروي عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده يوماً طير فقال: "اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي هذا الطير" فجاء علي رضي الله عنه فأكل معه. رواه الترمذي وقال: حديث غريب.

واستطابه وقال: "اللهم أدخل إليّ أحب خلقك إليك". وأنس رضي الله عنه بالباب فجاء علي بن أبي طالب فقال: يا أنس! استأذن لي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه على حاجة فدفع، في صدره ودخل فقال: يوشك أن يحال بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم والِ من والاه". وفي الكامل لابن عدي في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي أن الطير المشوي كان حجلاً وفي ترجمة جعفر بن ميمون أنه كان حيارى. قال الحاكم: قد رواه عن أنس أكثر منه.

وجوابه:

قال الشيخ العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه "الرد على الرافضة": أن هذا حديث لم يرد في الصحيح ولا صححه أحد من الأئمة، وهو من الكذب الموضوع عند أهل المعرفة بالنقل، قال الحافظ أبو موسى المديني: قد جمع غير واحد من الحفاظ طرق حديث الطير للاعتبار والمعرفة كالحاكم النيسابوري وأبى نعيم وابن مردويه وسئل عنه الحاكم فقال: لا يصح.

ثانياً: وهو معارض بالأحاديث الصحيحة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً" الحديث.

وقوله عليه السلام لما سئل: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قيل: فمن الرجال؟ قال: أبوها. الحديث.

وبقول الصحابة رضي الله عنهم: "أبو بكر خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن قاله عمر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره عليه أحد.

ثالثاً: نقول لا يخفى على البصير أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيء أحب الخلق إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيأكل منه على أن إطعام الطعام مشروع مطلوب للبر والفاجر.

رابعاً: ما قاله الشيخ أبو محمد إبراهيم الفاروقي رحمه الله: وهو أنه لا شك أن في ذلك الوقت كانا اليأس والخضر عليهما السلام، كانا يأكلان الطعام وما حضرا وإنما المعنى بأحب خلقك إليك أن يأكل معي، ولا شك أن كل علوي وعلوية يأكل من طعمه النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من طعمه الصديقين والعمريين والعثمانيين فدل ذلك على أن مراده صلى الله عليه وسلم مراد الحق سبحانه وتعالى.

وهذا كما يقال: هذه الشربة أعذب الشراب، أي: عندي، وهذا الفاكهة ألذ الفاكهة، أي: في مساغي. وهذه الجمل التفضيلية كقولنا أحب وأفضل ما لم يكن مؤكدة فهي محتملة وإن أكدت أو أدخل في أولها ففي قوله: ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر، فهذا لا احتمال فيه إذ النفي أزال الاحتمال إلى آخر ما قاله.

وقال الإمام العلامة خاتم المحققين سعد الدين التفتازاني رحمه الله في شرح المقاصد: قوله: "بأحب خلقك" يحتمل تخصيص أبي بكر رضي الله عنه عملاً بالأدلة على أفضليته. قال: ويحتمل أن يراد بأحب الخلق في أن يأكل الطير معي. وقيل: بأحب الخلق من ذوي القرابة القريبة. وإنما طلب ذلك لأن أبر البر ذي رحم. أو نقول: المراد: ائتني بمن هو من أحب الخلق إليك، كما يقال: أعقل الناس وأفضلهم، أي: من أعقلهم وأفضلهم.

وقال العلامة التوربشتي: ومما يبين لك عن حمله على العموم غير جائز إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حمله خلق الله عز وجل، ولا يجوز أن يكون علي رضي الله عنه أحب إليه منه. فإن قيل ذلك شيء عرف بأصل الشرع. قلنا: ما نحن فيه أيضاً شيء عرف بالنصوص الصريحة وإجماع الأمة فلا يتخذ الجاهل المبتدع هذا الحديث وسيلة إلى الطعن في خلافة أبي بكر رضي الله عنه التي هي أول حكم أجمع عليه المسلمون في هذه الأمة، وأقوم عماد أقيم به الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابي الذي نسب إليه رواية حديث الطير ممن دخل في هذا الإجماع واستقام عليه مدة عمره ولم ينقل عنه خلافه.

ثم قال ابن تيمية: اعلم أن كل ما يظن أن فيه دلالة على فضيلة غير أبي بكر رضي الله عنه، فإما أن يكون كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون لفظاً مجملاً لا دلالة فيه. وأما النصوص المفضلة لأبي بكر فصحيحة صريحة مع دلالات أخرى من القرآن والإجماع. والاعتبار والاستدلال كما ذكرنا. والله أعلم.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 236 – 243 ) .

ـــــــــ

وقال شيخ الإسلام ردًا على هذه الشبهة :

قال الرافضي: الثامن: خبر الطائر. روى الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بطائر، فقال:" اللهم! ائتني بأحب خلقك إليك وإليّ، يأكل معي من هذا الطائر، فجاء عليّ، فدق الباب، فقال أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم على حاجة، فرجع. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أولاً، فدق الباب، فقال أنس: ألم أقل لك إنه على حاجة؟ فانصرف، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد عليّ فدق الباب أشد من الأولين، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له بالدخول، وقال: ما أبطأك عني؟ قال: جئت فردني أنس، ثم جئت فردني [أنس]، ثم جئت فردني الثالثة، فقال: يا أنس! ما حملك على هذا؟ فقال: رجوت أن يكون الدعاء لرجل من الأنصار، فقال: يا أنس! أو في الأنصار خير من عليّ؟ أو في الأنصار أفضل من عليّ؟ فإذا كان أحب الخلق إلى الله، وجب أن يكون هو الإمام».

والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل. وقوله: «روى الجمهور كافة» كذب عليهم؛ فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح، ولا صححه أئمة الحديث، ولكن هو مما رواه بعض الناس، كما رووا أمثاله في فضل غير عليّ، بل قد رُوي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة، وصُنِّف في ذلك مصنفات. وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا ولا هذا.

الثاني: أن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل. قال أبو موسى المديني: «قد جمع غير واحد من الحفَّاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة، كالحاكم النيسابوري، وأبي نُعيم، وابن مروديه. وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال: "لا يصح».

هذا مع أن الحاكم منسوب إلى التشيع، وقد طُلب منه أن يروي حديثاً في فضل معاوية فقال: ما يجئ من قلبي، ما يجيء من قلبي، وقد ضربوه على ذلك فلم يفعل.

وهو يروي في «الأربعين» أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أئمة الحديث، كقوله: بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، لكن تشيعه وتشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث، كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما، لا يبلغ إلى تفضيله على أبي بكر وعمر، فلا يعرف في علماء الحديث من يفضِّله عليهما بل غاية المتشيع منهم أن يفضله على عثمان، أو يحصل منه كلام أو إعراض عن ذكر محاسن من قاتله ونحو ذلك، لأن علماء الحديث قد عصمهم وقيدهم ما يعرفون من الأحاديث الصحيحة الدالة على أفضلية الشيخين، ومن ترفّض ممن له نوع اشتغال بالحديث كابن عُقدة وأمثاله، فهذا غايته أن يجمع ما يُروى في فضائله من المكذوبات والموضوعات، لا يقدر أن يدفع ما تواتر من فضائل الشيخين، فإنها باتفاق أهل العلم بالحديث أكثر مما صح في فضائل عليّ وأصح وأصرح في الدلالة.

وأحمد بن حنبل لم يقل: إنه صحّ لعليّ من الفضائل ما لم يصح لغيره، بل أحمد أجلّ من أن يقول مثل هذا الكذب، بل نُقل عنه أنه قال: «رُوي له ما لم يُرو لغيره» مع أن في نقل هذا عن أحمد كلاماً ليس هذا موضعه.

الثالث: أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيء أحب الخلق إلى الله ليأكل منه، فإن إطعام الطعام مشروع للبرّ والفاجر وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الآكل، ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا، فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله؟!

الرابع: أن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة؛ فإنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن عليًّا أحب الخلق إلى الله، وأنه جعله خليفة من بعده. وهذا الحديث يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله.

الخامس: أن يقال: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن عليًّا أحب الخلق إلى الله، أو ما كان يعرف. فإن كان يعرف ذلك، كان يمكنه أن يرسل يطلبه، كما كان يطلب الواحد من الصحابة، أو يقول: اللهم! ائتني بعليّ فإنه أحب الخلق إليك. فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في ذلك؟! ولو سَمَّى عليًّا لاستراح أنس من الرجاء الباطل، ولم يغلق الباب في وجه عليّ.

وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف ذلك، بطل ما يدَّعونه من كونه كان يعرف ذلك، ثم إن في لفظه: «أحب الخلق إليك وإليّ» فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه؟!

السادس: أن الأحاديث الثابتة في الصحاح، التي أجمع أهل الحديث على صحتها وتلقّيها بالقبول، تناقض هذا، فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه؟!

يبيّن هذا لكل متأملٍ ما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من فضائل القوم، كما في الصحيحين أنه قال: «لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً». وهذا الحديث مستفيض، بل متواتر عند أهل العلم بالحديث؛ فإنه قد أُخرج في الصحاح من وجوه متعددة، من حديث ابن مسعود وأبي سعيد وابن عباس وابن الزبير، وهو صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض أحد أحب إليه من أبي بكر؛ فإنه الخلة هي كمال الحب، وهذا لا يصلح إلا لله، فإذا كانت ممكنة، ولم يصلح لها إلا أبو بكر، عُلم أنه أحب الناس إليه.

وقوله في الحديث الصحيح لما سئل: «أيّ الناس أحب إليك؟ قال: عائشة» قيل: من الرجال؟ قال: «أبوها».

وقول الصحابة: «أنت خيرنا وسيدنا وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» يقوله عمر بين المهاجرين والأنصار، ولا ينكر ذلك منكر.

وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم محبته تابعة لمحبة الله، وأبو بكر أحبهم إلى الله تعالى، فهو أحبهم إلى رسوله.

وإنما كان كذلك لأنه أتقاهم [وأكرمهم]، وأكرم الخلق على الله تعالى أتقاهم بالكتاب والسنة. وإنما كان أتقاهم؛ لأن الله تعالى قال: }وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى* إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى{ [سورة الليل: 17-21].

وأئمة التفسير يقولون: إنه أبو بكر.

ونحن نبيّن صحة قولهم بالدليل فنقول: الأتقى قد يكون نوعاً، وقد يكون شخصاً. وإذا كان نوعاً فهو يجمع أشخاصاً. فإن قيل: إنهم ليس فيهم شخص هو أتقى، كان هذا باطلاً؛ لأنه لا شك أن بعض الناس أتقى من بعض، مع أن هذا خلاف قول أهل السنة والشيعة، فإن هؤلاء يقولون: إن أتقى الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة هو أبو بكر، وهؤلاء يقولون: هو عليّ. وقد قال بعض الناس: هو عمر. ويُحكى عن بعض الناس غير ذلك. ومن توقف أو شَكَّ لم يقل: إنهم مستوون في التقوى. فإذا قال: إنهم متساوون في الفضل، فقد خالف إجماع الطوائف. فتعين أن يكون هذا أتقى.

وإن كان الأتقى شخصًا، فإما أن يكون أبا بكر أو عليًّا، فإنه إذا كان اسم جنس يتناول من دخل فيه، وهو النوع، وهو القسم الأول، أو معيناً غيرهما. وهذا القسم منتفٍ باتفاق أهل السنة والشيعة، وكونه عليًّا باطل أيضًا؛ لأنه قال: }وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى{ [سورة الليل: 17-21].

وهذا الوصف منتفٍ في عليّ لوجوه:

أحدها: أن هذه السورة مكية بالاتفاق، وكان عليٌّ فقيراً بمكة في عيال النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له مالٌّ ينفق منه، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضمّه إلى عياله لما أصابت أهل مكة سنة.

الثاني: أنه قال: }وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى{ [سورة الليل: 19].

وعليّ كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة تجزى، وهو إحسانه إليه لما ضمه إلى عياله. بخلاف أبي بكر؛ فإنه لم يكن له عنده نعمة دنيوية، لكن كان له عنده نعمة الدين، وتلك لا تُجزى؛ فإن أجر النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الله، لا يقدر أحد يجزيه. فنعمة النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي بكر دينية لا تجزى، ونعمته عند عليّ دنيوية تجزى، ودينية.

وهذا الأتقى ليس لأحد عنده نعمة تُجزى، وهذا الوصف لأبي بكر ثابت دون عليّ.

فإن قيل: المراد به أنه أنفق ماله لوجه الله، لا جزاء لمن أنعم عليه، وإذا قُدِّر أن شخصًا أعطى من أحسن إليه أجرًا، وأعطى شيئًا آخر لوجه الله، كان هذا مما ليس لأحد عنده من نعمة تجزى.

قيل: هب أن الأمر كذلك، لكن عليّ لو أنفق لم ينفق إلا فيما يأمره به النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي له عنده نعمة تجزى، فلا يخلص إنفاقه عن المجازاة، كما يخلص إنفاق أبي بكر.

وعليّ أتقى من غيره لكن أبا بكر أكمل في وصف التقوى، مع أن لفظ الآية أنه ليس عنده قط لمخلوق نعمة تُجزى، وهذا وصف من يجازي الناس على إحسانهم إليه، فلا يبقى لمخلوق عليه منّة، وهذا الوصف منطبق على أبي بكر انطباقاً لا يساويه فيه أحد من المهاجرين؛ فإنه لم يكن في المهاجرين: - عمر وعثمان وعليّ وغيرهم – رجل أكثر إحساناً إلى الناس، قبل الإسلام وبعده، بنفسه وماله من أبي بكر. كان مؤلفاً محبباً يعاون الناس على مصالحهم، كما قال فيه ابن الدُّغُنَّة سيد الفارة لما أراد أن يخرج من مكة: «مثلك يا أبا بكر لا يَخْرُج ولا يُخْرَج؛ فإنك تحمل الكلَّ، وتًقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق».

وفي صلح الحديبية لما قال لعروة بن مسعود: «امصص بظر اللات، نحن نفر عنه وندعه؟ قال لأبي بكر: لولا يَدٌ لك عندي لم أجزك بها أجبتك».

وما عُرف قط أن أحداً كانت له يدٌ على أبي بكر في الدنيا، لا قبل الإسلام ولا بعده، فهو أحق الصحابة: }وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى{، فكان أحق الناس بالدخول في الآية.

وأما عليّ – رضي الله عنه – فكان للنبي صلى الله عليه وسلم نعمة دنيوية. وفي المسند لأحمد أن أبا بكر – رضي الله عنه – كان يَسْقُط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه. ويقول: إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئًا.

وفي المسند والترمذي وأبي داود حديث عمر، قال عمر: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوماً. فجئت بنصف مالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» فقلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبدًا».

فأبو بكر – رضي الله عنه – جاء بماله كله، ومع هذا فلم يكن يأكل من أحد: لا صدقةً ولا صلةً ولا نذراً، بل كان يتّجر ويأكل من كسبه، ولما تولى الناس واشتغل عن التجارة أكل من مال الله ورسوله الذي جعله الله له، لم يأكل من مال مخلوق.

وأبو بكر لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه شيئاً من الدنيا يخصه به، بل كان في المغازي كواحد من الناس، بل يأخذ من ماله ما ينفقه على المسلمين، وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم وما عُرف أنه أعطاه عمالة، وقد أعطي عمر عمالة وأعطي عليًّا من الفيء، وكان يعطى المؤلَّفة قلوبهم من الطلقاء وأهل نجد، والسابقون الأولون المهاجرين والأنصار لا يعطيهم، كما فعل في غنائم حُنين وغيرها، يقول: «إني لأعطي رجالاً وأدع رجالاً، والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي، أعطي رجالاً لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِل رجالاً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير».

ولما بلغه عن الأنصار كلام سألهم عنه، فقالوا: يا رسول الله! أما ذوو الرأي منّا فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر يألِّفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به» قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. قال: «فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض» قالوا: سنصبر».

وقوله تعالى: }وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى{ [سورة الليل: 17-21] استثناء منقطع. والمعنى: لا يقتصر في العطاء على من له عنده يد يكافئه بذلك؛ فإن هذا من العدل الواجب للناس بعضهم على بعض، بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة. وهذا واجب لكل أحد على كل أحد، فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعادلة، فيكون عطاؤه خالصاً لوجه ربه الأعلى، بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج أن يجزيه لها، فإنه يحتاج أن يعطيه مجازاة له على ذلك، وهذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكّى، فإنه في معاملته للناس يكافئهم دائماً ويعاونهم ويجازيهم، فحين أعطاه الله ماله يتزكى لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزى.

وفيه أيضاً ما يبين أن التفضيل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجبات من المعاوضات. كما قال تعالى: }وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ{ [سورة البقرة: 219]، ومن تكون عليه ديون وفروض وغير ذلك أداها، ولا يقدّم الصدقة على قضاء هذه الواجبات، ولو فعل ذلك: فهل ترد صدقته؟ على قولين معروفين للفقهاء.

وهذه الآية يحتج بها من تُرد صدقته، لأن الله إنما أثنى على من آتى ماله يتزكّى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى، فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه أن يجزيها قبل أن يؤتى ماله يتزكّى، فأما إذا آتى ماله يتزكّى قبل أن يجزيها لم يكن ممدوحاً، فيكون عمله مردوداً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ».

الثالث: أنه قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما نفعني مال كمال أبي بكر»، وقال: «إن أمنّ الناس علينا في صحبته ذات يده أبو بكر»، بخلاف عليّ – رضي الله عنه – فإنه لم يذكر عنه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من إنفاق المال، وقد عُرف أن أبا بكر اشترى سبعة من المعذَّبين في الله في أول الإسلام، وفعل ذلك ابتغاءً لوجه ربّه الأعلى، لم يفعل ذلك كما فعله أبو طالب، الذي أعان النبي صلى الله عليه وسلم لأجل نسبه وقرابته، لا لأجل الله تعالى ولا تقرباً إليه.

وإن كان «الأتقى» اسم جنس، فلا ريب أنه يجب أن يدخل فيه أتقى الأمة، والصحابة خير القرون، فأتقاها أتقى الأمة، وأتقى الأمة [إما] أبو بكر وإما عليّ وإما غيرهما. والثالث منتفٍٍ بالإجماع، وعليّ إن قيل: إنه يدخل في هذا النوع، لكونه بعد أن صار له مال آتى ماله يتزكّى، فيقال: أبو بكر فعل ذلك في أول الإسلام وقت الحاجة إليه، فيكون أكمل في الوصف، الذي يكون صاحبه هو الأتقى.

وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقدّم الصديق في المواضع التي لا تحتمل المشاركة، كاستخلافه في الصلاة والحج، ومصاحبته وحده في سفر الهجرة، ومخاطبته وتمكينه من الخطاب، والحكم والإفتاء بحضرته ورضاه بذلك، إلى غير ذلك من الخصائص التي يطول وصفها.

ومن كان أكمل في هذا الوصف، كان أكرم عند الله، فيكون أحب إليه فقد ثبت بالدلائل الكثيرة أن أبا بكر هو أكرم الصحابة في الصدِّيقية. وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصدِّيقون، ومن كان أكمل في ذلك كان أفضل.

وأيضاً فقد ثبت في النقل الصحيح عن عليّ أنه قال: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر» واستفاض ذلك وتواتر عنه، وتوعّد بجلد المفتري من يفضّله عليه، وروي عنه أنه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن عليًّا لا يقطع بذلك إلا عن علم.

وأيضاً فإن الصحابة أجمعوا على تقديم عثمان الذي عمر أفضل منه وأبو بكر أفضل منهما. وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع، يقدّم بعض ذلك، ولكن ذُكر هذا لنبين أن حديث الطير من الموضوعات.

( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 369-385) .
****************
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 2008-07-13, 12:03 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

****************
الشبهة(: احتجاجهم بقوله تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)

وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه: أنها نزلت في المختصمين يوم بدر وأول من برز من المؤمنين علي وحمزة وعبيدة بن الحارث. لعتبة وشيبة والوليد بن عتبة.

وجوابه:

إن هذه الآية ليست أيضاً من خصائص علي رضي الله عنه بل هي مشتركة بينه وبين حمزة وعبيدة بن الحارث بل سائر البدريين يشاركون في هذه الخصومة، ولو فرضنا أنها نزلت في المبارزين فلا تدل أنهم أفضل من غيرهم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين وأبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم أفضل من عبيدة بن الحارث باتفاق أهل السنة. والشيعة ليسوا من أهل السنة فهذه منقبة لهم وفضيلة. وليست من الخصائص التي يوجب كون صاحبها أفضل من غيره. والله أعلم.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 247 – 248 ) .
*****************

الشبهة(9): احتجاجهم بسورة: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ)

حيث ادعت الرافضة أنها نزلت لما تصدقت فاطمة على مسكين ويتيم وأسير.

وجوابه: إن هذا كذب محض؛ لأن سورة (هَلْ أَتَى) مكية بالإجماع، والحسن والحسين ولدا بعد أن تزوج علي بفاطمة رضي الله عنهم، وهو إنما تزوجها بعد غزوة بدر بالمدينة باتفاق أهل العلم. وبتقدير صحتها ليس فيه ما يدل على أن من أطعم مسكيناً ويتيماً وأسيراً كان أفضل الأمة، ولا أفضل الصحابة رضي الله عنهم بل الآية متناولة لكل من فعل هذا الفعل وهي تدل على استحقاقه لثواب الله عز وجل، وغير هذا العمل من الإيمان والصلوات في مواقيتها والجهاد في سبيل الله عز وجل وغير ذلك أفضل من هذا العمل بالإجماع. والله أعلم.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 248 – 250 ) .
**************

الشبهة(10): ادعاؤهم أن عليًا رضي الله عنه أعلم الصحابة

أورد الخبيث الضال المعروف بابن المطهر الرافضي في رسالته المسماة " منهاج الكرامة " من شبههم شيئاً كثيراً ؛وقد ردَّ عليه الأئمة الأعلام من مشايخ الإسلام بالنصوص القواطع جم غير ونثراً ونظماً منهم السبكي وابن تيمية ومجد الدين الفيروز آبادى صاحب القاموس وغيرهم.

فمما قاله ابن المطهر هذا وأتباعه أن عليًّا رضي الله عنه كان أكثر الصحابة علماً فردَّ عليه الشيخ مجد الدين الفيروز آبادى فقال في رسالته المسماة "بالقضاب المشتهر على رقاب ابن المطهر" : هذه الدعوى كذب صراح وافتراء. لأن علم الصحابي رضي الله عنه إنما يعرف بأحد وجهين:

أحدهما: كثرة روايته وفتاواه. والثاني: كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فمن المحال أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له، وهذا أكبر الشهادات وأبينها على العلم وسعته فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى أبا بكر للصلاة بحضرته طول علته وجميع أكابر الصحابة رضي الله عنهم حضور كعلي وعمر وعثمان وابن مسعود وأبي وغيرهم فآثره على جميعهم. وهذا بخلاف استخلافه صلى الله عليه وسلم عليًّا في الغزو؛ لأنه ما استخلفه إلا على النساء والصبيان وذوي الأعذار فوجب ضرورة أن يعلم أن أبا بكر رضي الله عنه أعلم الناس بالصلاة وشرائعها. وأعلم من المذكورين بها وهي عمود الدين. ووجدنا صلى الله عليه وسلم قد استعمله على الصدقات ، فوجب ضرورة أن يكون عنده من علم الصدقات، كالذي عند غيره من علماء الصحابة لا أقل منه. وربما كان أكثر أما ترى الفقهاء قاطبة. إنما اعتمدوا على الحديث الذي رواه أبو بكر رضي الله عنه في الزكاة جعلوه أصلاً فيها. ولم يعرجوا على ما رواه غيره.

وأما الحديث الذي رواه علي رضي الله عنه فأعرضوا عنه بالكلية، وطريقة مضطرب وفيه ما لم يقل به أحد من الأئمة؛ فإن فيه في كل خمس وعشرين من الإبل خمس شاة لا غيره، وهذا مما لا قائل به أحد من الأئمة فكان أبو بكر رضي الله عنه أعلم بالزكاة التي هي أحد أركان الدين.

وأما الحج فإنه لما فرض سنة تسع على الصحيح بادر صلى الله عليه وسلم وجهز المسلمين حيث لم يتفرغ بنفسه، ولبيان جواز التأخير وأمر عليهم أبا بكر رضي الله عنه ليعلم الناس المناسك ومن المستحيل تقديمه في هذا الأمر الخطير المشتمل على علوم لا يشتمل عليها شيء من قواعد الدين. وثم من هو أعلم منه.

فلما حج وكانت سورة براءة مشتملة على كثير من المناسك وعلى مناقب أبي بكر رضي الله عنه أرسل عليًّا رضي الله عنه ليقرأها على الناس، فلما قدم علي قال له أبو بكر: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور، فقرأه على الناس ليستمع الناس مناقب أبي بكر من لسان علي رضي الله عنه ليكون أوقع في النفوس وأدخل في القلوب والرؤوس ويكون أعلى في إظهاره لفضل أبي بكر رضي الله عنه وأدل على علو قدره.

وأما قوله هذا المارق الخبيث أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر لدفع شره والمنع من إذاعة شره، فلا دليل فيه على شرفه وفخره، فهو كلام يشم منه رائحة الكفر والعناد وبرهان على جهل قائله بالأحاديث الصحيحة المشحونة بها دواوين الإسلام المبينة بها للمقصود من استصحابه المبينة بها مضاعفة أنسه ووده وحسانه كما سنبينه قريباً إن شاء الله ونعوذ بالله من الخذلان. ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد استعمله على البعوث فصح أن عنده علم أحكام الجهاد ومثل ما عند سائر من استعمله صلى الله عليه وسلم على البعوث في الجهاد فعند أبي بكر رضي الله عنه من الجهاد والعلم به كالذي عند علي رضي الله عنه وسائر أمراء البعوث لا أكثر ولا أقل فقد صح التقدم لأبي بكر رضي الله عنه على علي رضي الله عنه وعلى سائر الصحابة رضي الله عنهم في علم الصلاة والزكاة والحج وساواه في علم الجهاد فهذه عمدة العلم.

ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد ألزم نفسه في جلوسه ومسافرته وظعنه وإقامته أبا بكر رضي الله عنه فشاهد أحكامه وفتاواه أكثر من مشاهدة علي رضي الله عنه فصح أن أبا بكر أعلم بها فهل بقيت من العلم بقية ألا وهو المقدم فيها فبطل دعواهم في العلم. وأما الرواية والفتاوى فأمر واضح من الشمس أظهر من ضوء النهار أنه كان أرسخ قدماً فيها، ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول صلى الله عليه وسلم غير سنتين وستة أشهر وهو لم يبرح من طيبة إلا للحج أو عمرة ولا شرق ولا غرب ولا طاف البلاد كغيره. والصحابة رضي الله عنهم إذ ذاك متوافرون وقريبو العهد بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وعند كل أحد من العلم والرواية ما يحتاج إليه غالباً.

ومع ذلك روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وستة وثلاثون حديثاً.

وعلي رضي الله عنه عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثين سنة شرقاً ومغرباً من بلد على بلد ومن قطر إلى قطر، وسكن الكوفة أعواماً وكثر الاحتياج إلى الأحاديث والعلم وتزاحم عليه السؤال والمقبلون وتراكم طالبوا الرواية والمسترشدون، ولم يرد مع ذلك إلا خمسمائة حديث وخمس وثمانين حديثاً يصح منها خمسون حديثاً. فإذا نسبت مدته وعدد أحاديثه إلى أحاديثه تبين لك أن أبا بكر رضي الله عنه أكثر حديثاً وأكثر رواية من علي رضي الله عنه بشيء كثير وهذا مما لا يخفى على أحد.

دع هذا. عاش علي رضي الله عنه بعد عمر رضي الله عنه تسعة عشر سنة وسبعة أشهر. ومسند عمر رضي الله عنه خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثاً يصح منها خمسون حديثاً، مقدار ما صح من حديث علي إلا حديثاً واحداً أو حديثين، فأنظر هذه المدة الطويلة ولقاء الناس إياه وكثرة الحاجة من المسلمين إلى الرواية ولم يزد علي عمر رضي الله عنه إلا حديثاً واحداً فعلم أن عمر رضي الله عنه كان أضعاف علم علي رضي الله عنه بذلك. وبرهان أن كل من طال عمره من الصحابة رضي الله عنهم تجد الرواية عنه أكثر ومن قصر عمره قلَّت روايته. فعلم أن علم أبي بكر رضي الله عنه كان أضعاف ما كان عند علي رضي الله عنه من العلم.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 251 – 256 ) .
****************
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 2008-07-13, 12:04 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

الشبهة(11): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أكثر الصحابة جهادًا

ومما قالوه أيضاً: كان علي رضي الله عنه أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وخبيراً في الجهاد. والجهاد أفضل الأعمال فكان علي أفضل.

وجوابه :

الأول: قلت: هذا خطأ؛ لأن الجهاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام.



الأول: الدعاء إلى الله عز وجل باللسان.

الثاني: الجهاد بالتدبير والرأي.

الثالث : الجهاد باليد والسنان.

فالقسم الأول: الجهاد بالدعوة فإنه لا يلحق أحد فيه أبا بكر الصديق رضي الله عنه؛ فإنه أسلم على يديه أكابر الصحابة وليس لعلي من هذا كثير حظ.

وأما عمر رضي الله عنه فمن يوم أسلم أعز الله به الإسلام وعبد الله تعالى جهاراً وهذا من أعظم الجهاد، وهذان الرجلان رضي الله عنهما خُصا بهذا القسم لا يشاركهما في ذلك أحد وانفردا بذلك .

وأما القسم الثاني: فقد جعل الله تعالى خاصًّا لأبي بكر رضي الله عنه ثم لعمر رضي الله عنه.

وأما القسم الثالث: وهو الجهاد بالضرب والطعن والمبارزة فوجدناه أقل مراتب للجهاد المذكورة ببرهان ضروري وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشك مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة، ووجدنا جهاده إنما كان في أكثر أعماله وأحواله القسمين الأوليْن من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والرأي للمصالح، وكان أقل عمله صلى الله عليه وسلم الطعن والمبارزة لا عن جبن ؛ بل كان صلى الله عليه وسلم أشجع أهل الأرض قاطبة، وهو مما لا يتردد فيه ذو دين وعقل ولكنه صلى الله عليه وسلم كان مؤثراً الأفضل فالأفضل فيقدمه ويشغل به ووجدناه صلى الله عليه وسلم يوم بدر كان أبو بكر رضي الله عنه معه لا يفارقه إيثاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك استظهاراً برأيه في الحرب وأُنساً بمكانه، ثم كان عمر رضي الله عنه ربما شُورك في ذلك.

وقال الإمام محي الدين النووي في شرح مسلم: إن قوله رضي الله عنه "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة"، أجمع أهل السنة على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقدمهم في الشجاعة والعلم رضي الله عنه .

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 257 – 258بتصرف يسير ) .
*************

الشبهة(12): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أقرأ الصحابة للقرآن

ومما قالوا أيضاً: كان علي رضي الله عنه أقرأ الصحابة للقرآن فكان أفضل. قلنا هذا فرية بلا مرية لوجوه أحدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فإن استووا في القراءة، فأفقههم فإن استووا، فأقدمهم هجرة" ثم رأيناه صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر رضي الله عنه في الصلاة أيام مرضه فصح أنه رضي الله عنه أقرأهم وأفقههم وأقدمهم هجرة.

وقد يكون من لم يحفظ القرآن كله عن ظهر قلبه أقرأ وأعلم بالقراءة ممن حفظه كله جمعه فيكون أفصح لفظاً وأحسن ترتيلاً وأعرف بمواقف الآي ومبادئها على أن أبا بكر وعمر وعليًّا رضي الله عنهم لم يستكمل واحد منهم سواد القرآن فعلمنا يقيناً أنه كان أقرأ من علي لتقديمه صلى الله عليه وسلم إياه في الصلاة مع حضور علي وغيره، وما كان صلى الله عليه وسلم ليقدم الأقل علماً بالقراءة على الأقرأ ولا الأقل فقهاً على الأفقه فبطل ما ادعوه. والله أعلم.

قال جامعه : ومن هذا الشأن نشأ لبعض الزائغين من الرافضة في عصرنا سؤال باستفهام إنكار وهو: هل كان أبو بكر يحفظ القرآن يريد بذلك تنقيصه عند من لا يعلم؟ فأجبته. إن قصد بذلك استنقاصه فهو كافر، وليس حفظ جميع القرآن شرطاً في كمال الإيمان ولا في صحته قال الله تعالى: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وأيضاً علي رضي الله عنه لم يكن يحفظ القرآن، ولا عمر ولا أكثر الصحابة المشهور المخرج في الصحيحين وغيرهما. إن الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أنفار فقط.أعني كما حفظوه بكماله وجمعوا بين طرفيه وهم معاذ بن جبل، أبي بن كعب، زيد بن ثابت وأبو زيد رضي الله عنهم وليس عليّ منهم .

بل نقول: كان أبو بكر رضي الله عنه أقرأ الصحابة وأفقههم؛ فلهذا قدمه صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليهم وكان رضي الله عنه أكثر رواية للحديث من علي بالنسبة إلى بقائه بعد النبي صلى الله عليه وسلم ومكث علي بعد أبي بكر وعمر نحو من ثمانية عشر سنة، وإنما قلَّت روايته للحديث مع قدم صحبته وكثرة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره من الصحابة. قرب عهده بالوفاة من النبي صلى الله عليه وسلم ، واشتغاله في قتال أهل الردة ، ولم تكن الأحاديث انتشرت حينئذٍ ولا اعتنى التابعون بتحصيلها وحفظها.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام" وفي رواية "ولا فتوى لكن بشيء وقر في صدره وفي رواية وقر في القلب" أي سكن فيه وثبت. رواه الغزالي في الإحياء وابن الأثير في النهاية والترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن بكر بن عبد الله المزني.

وروى البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح" وفي رواية "بإيمان أهل الأرض" ورواه أيضاً ابن عدي عن ابن عمر قال الإمام أبو القاسم البغوي في فتاويه: ولا يشك عاقل في أن إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان أرسخ من إيمان أحاد الناس؛ ولهذا قال ليلة الإسراء ما قال وقال يوم الحديبية ما قال حين كاد غيره يتحير في ذلك.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 258 – 267 ) .
*****************

الشبهة(13): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أزهد الصحابة

ومما قاله ابن المطهر وأتباعه من الرافضة أن عليًّا رضي الله عنه كان أزهد الصحابة فكان أفضل.

قلنا : هذا بهتان : يبين هذا أن الزهد غروب النفس عن حب الصور وعن المال واللذات وعن الميل إلى الأولاد والحواشي.

أما غروب النفس عن المال فقد عُلم أن أبا بكر رضي الله عنه أسلم وله مال كثير. وجاهر بقلة الحياء من أنكر ذلك وقال كان فقيراً محتاجاً وكان أبوه أجيراً لابن جدعان على مد يقتات به! بل كان رضي الله عنه ذا مال جزيل ينيف على أربعين ألف فأنفقها كلها في الله عز وجل وأعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله عز وجل ولم يعتق عبيداً ذا معونة، بل كل معذب ومعذبة في الله إلى أن أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة وما كان بقي لأبي بكر من المال غير ستة آلاف درهم حملها كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق لأهله منها درهماً ثم أنفقها في سبيل الله حتى لم يبق له شيء ما ، وصارت له عباءة إذا نزل فرشها وإذا ركب لبسها، وأما غيره من الصحابة رضي الله عنهم فقد تمولوا واقتنوا الضياع والرباع من حلها وطيبها إلا من آثر بذلك في سبيل الله أزهد ، ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في المال وعد عند موته ما أنفق على نفسه وولده من مال الله عز وجل الذي لم يستوفِ منه إلا بعض حقّه ثم أمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من سهامه في المغازي والمغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا هو الزهد في الذات والمال الذي لا يدانيه أحد من الصحابة رضي الله عنهم إلا أن يكون أبا ذر وأبا عبيدة من المهاجرين الأولين فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقهما عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوسع من سواهم في المباح الذي أحله الله تعالى لهم إلا من آثر على نفسه أفضل. ولقد تبع أبا بكر عمرُ رضي الله عنهما في هذا الزهد.

وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا الباب من حله ومات عن أربع زوجات وتسع عشر أم ولد سوى الخدام والعبيد، وتوفي عن أربعة وعشرين ولداً من ذكر وأنثى وقيل عن بضع وثلاثين وقيل عن أربعين ولداً إلا واحداً، أما هي ذكر أو أنثى هذا ما ذكره المزي والذهبي وهو الأصح. وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به أغنياء قومهم ومن جملة عقاره ينبع التي تصدق بها كانت تغل ألف وسق تمراً سوى زرعها. فأين هذا من ذاك ؟

وأما حب الولد والميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر فيه بين ، وقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من ذوي القرابة مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين ومثل ابنه عبد الرحمن ابن أبي بكر وله مع النبي صلى الله عليه وسلم محبة قديمة وفضل ظاهر. ما استعمل أحداً منهم على شيء من الجهات ، ولو استعملهم لكانوا أهلاً لذلك ؛ لكن خشي وتوقع أن يميله إليهم معنى من الهوى وجرى عمر رضي الله عنه مجراه في ذلك لم يستعمل من بني عدي أحداً على سعة البلاد ، وقد فتح الشام ومصر وممالك الفرس وخراسان إلا النعمان بن عدي على ميسان ثم أسرع في عزله ولم يستخلف ابنه عبد الله بن عمر وهو من أفاضل الصحابة وقد رضي الناس به.

وأما علي رضي الله عنه فلما ولي استعمل أقاربه عبد الله بن عباس على البصرة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقثم ومعبد ابني عباس على مكة والمدينة، وجعدة بن هبيرة وهو ابن أخت أم هاني بنت أبي طالب على الطائف، وأمر ببيعة الناس للحسن ابنه للخلافة بعده.

ولا يشك مسلم في استحقاق الحسن للخلافة ولا لاستحقاق ابن عباس الخلافة فكيف إمارة البصرة؟! لكنا نقول: من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، وفي تأمير مثل طلحة وسعيد بن زيد فإنه أتم زهداً ممن أخذ منها ما أبيح له أخذه ؛ فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر رضي الله عنه أزهد الصحابة رضي الله عنهم كافة ثم عمر بعده.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 267 – 275 ) .
****************

الشبهة(14): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أكثر الصحابة صدقة

ومما قالوه: أن عليًّا رضي الله عنه كان أكثر الصحابة صدقة.

قلنا: هذه قحة وقلة حياء ومجاهرة بالباطل؛ لأنه لا يعرف لعلي مشاركة ظاهرة في المال، وأمر أبي بكر رضي الله عنه في إنفاق جميع ماله أشهر من أن يخفى ، ولعثمان رضي الله عنه من تجهيز جيش العسرة ما ليس لغيره ؛ فصح أن أبا بكر أعظم صدقة وأكثر مشاركة في الإسلام من علي رضي الله عنهما.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 275 – 276 ) .
****************

الشبهة(15): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أسوس الصحابة

ومما قالوه: كان علي رضي الله عنه أسوس الصحابة فكان أحق بالإمامة.

قلنا: هذا بهتان لا يخفى كذبه على من له أدنى معرفة بالسير والتواريخ ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي وارتدت العرب الممتنعون عن أداء الزكاة واختل نظام الإسلام وركب كل رأسه واختلفت آراء الصحابة في قتالهم ولم يتزلزل أبو بكر رضي الله عنه وصمم على قتالهم وقال: "والله لو منعوني عقالاً لقاتلتهم عليه حتى ينفذ الله أمره" ولم يزل على ذلك حتى ردهم إلى الإسلام حتى حكم على رقاب الأكاسرة وملوك الفرس على سرير ملكهم، فأخضعهم وأذلهم وفتح الله تعالى عليه ما فتح من الأمصار والمدن الكبار وهو مقيم بالمدينة لم يبرح منها ، ثم من بعده عمر رضي الله عنه حذا حذوه وقفا أثره وسار سيره وساس ساسته مقتدياً بأثاره ومهتدياً بأنواره، إلى أن فتح الممالك وآمن المسالك واتصل الإسلام من مبتدئ مصر والشام إلى أقصى بلاد الهند وملكوا بلاد العجم من أذربيجان وخراسان وفارس وكرمان ، ثم عثمان كذلك.

ولما صارت الخلافة لعلي رضي الله عنه كان في أيامه ما كان وحصل للمسلمين من الاضطراب في كل قطر ومكان ، ووقعت الفتن ونصب القتال حتى قتل بين الصحابة والتابعين ما ينيف على مائة ألف أو يزيدون وشغلهم ذلك عن فتح مدينة بل ولا قرية ، وربما وصل الحال إلى أن استولى الكفار ؛ فأيهما أولى بالسياسة ؟!

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 276 – 277 بتصرف) .
********************

الشبهة(16): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أتقى الصحابة

ومما قالوه أيضاً كان علي رضي الله عنه أتقى الصحابة فيكون أفضل.

قلنا : بطلان هذا ظاهر لمن له أدنى معرفة بالصحابة ، ورد لقول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في جميع الكتب الصحاح ، ولقد كان علي رضي الله عنه تقيًّا نقيًّا، إلا أن الفضائل يتفاضل أهلها ،وما كان أتقاهم إلا أبا بكر ؛ وبرهانه أنه رضي الله عنه ما خالف إرادته في شيء قط ، ولا تردد عن الائتمار لأمره يوم الحديبية إذ تردد من تردد، وقد تكلم النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر إذ أراد نكاح ابنة أبي جهل بما عُرف وما وجدنا قط لأبي بكر موقفاً عن شيء أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذ قد صح أنه أعلمهم فقد وجب أنه أخشاهم لله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء). والتقوى هي الخشية لله سبحانه وتعالى.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 277 – 279 ) .
******************
الشبهة(17): قولهم: لو كانت إمارة أبي بكر حقًّا لما تأخر علي عن بيعته إلى ستة أشهر

قلنا : إن عليًّا رضي الله عنه بايع أولاً ؛ وهذه البيعة التي بعد ستة أشهر بيعة ثانية ، وعن علي رضي الله عنه : كنت أول من بايع من بني عبد المطلب، وسلمنا تأخره عنها ؛ فيحتمل أنه لما ظهر له الحق رجع إليه وتاب واعترف بالخطأ .

وبيانه : أنه لو تأخر كما قالوا: لا يخلو ضرورة من أحد وجهين:

إما أن يكون مصيباً في تأخره فقد أخطأ إذ بايع ، وإما أن يكون مصيباً في بيعته فقد أخطأ إذ تأخر عنها ‍!

وأما الممتنعون من بيعة علي رضي الله عنه فهم جمهور الصحابة رضي الله عنهم ؛ فلم يعترفوا بالخطأ بل منهم من كان عليه ومنهم من لا له ولا عليه وما بايعه أحد منهم إلا الأقل ومن امتنع من بيعته أزيد من مائتي ألف مسلم بالشام ومصر والعراق والحجاز إذ قد بطل كل ما ادعاه الرافضة الضلال المردة الجهال.

فصح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الذي فاز بالسبق والحظ في العلم والقرآن والجهاد والزهد والتقوى والخشية والصدقة والعتق والطاعة والسياسة، وهذه وجوه الفضل كلها ؛ فهو بلا شك أفضل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ؛ ولم نحتج بالأحاديث؛ لأنهم لا يصدقون أحاديثنا وإن كانت مما يجب تصديقه لكونه كالمتواتر ؛ فإن صحيحي البخاري ومسلم قد تلقتهما الأمة بالقبول والأمة معصومة عن الإجماع على ضلال وباطل؛ وأما نحن فلا نصدق حديثهم أيضاً التي انفردوا بها؛ لأن بطلانها وفريتها ثابت عندنا بشهادة من طعن فيها من الأئمة الثقات، والأئمة الأثبات ؛ كالإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام أبي عبد الله البخاري وأضرابهم، بل قد اقتصرنا في الرد عليهم على البراهين الضرورية بنقل الكواف عن الكواف ؛ فإن كانت الإمامة تستحق بالتقدم في الفضل فأبو بكر أحق الناس بها فكيف والنص على خلافه صحيح .

وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه، فطاعته فرض في استخلافه عمر رضي الله عنه بما ذكرناه وبإجماع المسلمين عليها ثم أجمعت الأمة بلا خلاف على صحة إمامة عثمان رضي الله عنه.

وأما خلافة علي رضي الله عنه فحق لا شك فيه ولا ريب، لكن لا بنص ولا إجماع بل ببرهان آخر وهو أنه إذا مات الإمام ولم يعهد إلى أحد فبادر رجل مستحق ودعا إلى نفسه ولا معارض له، فاتباعه والانقياد لبيعته فرض التزام إمامته وطاعته، وهكذا فعل علي رضي الله عنه فوجب اتباعه.

وكذلك فعل عبد الله بن الزبير، وقد فعل مثلها خالد بن الوليد إذ قتل الأمراء زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة وأخذ خالد اللواء من غير إمرة وصوّب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 279 – 285 ) .
*****************
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 2008-07-13, 12:05 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

الشبهة(18): زعمهم أن صحبة أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار نقيصة؛ لأنه نهاه عن الحزن

والحزن إما أن يكون طاعة أو معصية ؛ لا جائز أن يكون طاعة، وإلا لما نهاه صلى الله عليه وسلم ؛ فتعين أن تكون معصية.

قلنا : نعوذ بالله من الهوى ونسأل الله التوفيق إلى الحق، ونعوذ بالله من الضلالة : يا هؤلاء! تجاهلتم أو جهلتم حقائق الأمور والاستعمال.

أما الحقائق فإن النهي لا يقتضي أن يكون المنهي فاعلاً ما قد نهي عنه، فإن النهي عن المستقبل وقد يكون نهي قبل أن يقع الفعل، ما الذي يمنع عن ذلك فيكون نهاه عن الحزن ولم يحزن بعد، بل ربما يتوقع أن يحزن.

وقد نهى الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام عما لم يفعلوه، قال تعالى: (وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ)، وقال: (فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ).

وأما الاستعمال ؛ فقد قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال محمد صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه ؛ إذ قال له: (وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ)، وقال له: (وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) فمن نظر بالبصر والبصيرة علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: لا تحزن إنما هو على سبيل التسلية والرفق.

وقال الإمام أبو القاسم السهيلي وغيره: قد ظهر سر قوله تعالى: (إذ يقولُ لصاحبه لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) في أبي بكر في اللفظ كما ظهر في المعنى، وكانوا يقولون: محمد رسول الله وأبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انقطع هذا الاتصال بموته فلم يقولوا لمن بعده: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قالوا: أمير المؤمنين.

( المرجع : " رسالة في الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 289-292).
********************
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 2008-07-13, 12:05 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

الشبهة(19): زعمهم أن الإمامة أهم مطالب الدين

إن قول القائل: «إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين، وأشرف مسائل المسلمين»، كذب بإجماع المسلمين سنيِّهم وشيعيِّهم، بل هذا كفر.

فإن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الإمامة، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فالكافر لا يصير مؤمناً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الكفار أولاً، كما استفاض عنه في الصحاح وغيرها أنه قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله». وفي رواية: «ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها».

وقد قال تعالى: } فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ { [سورة التوبة: 5]. فأمر بتخلية سبيلهم إذا تابوا من الشرك وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. [وكذلك قال لعليّ لما بعثه إلى خيبر].

وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في الكفار؛ فيحقن دماءهم بالتوبة من الكفر، لا يذكر لهم الإمامة بحال. وقد قال تعالى بعد هذا: }فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ{ [سورة التوبة: 11]، فجعلهم إخواناً في الدين بالتوبة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولم يذكر الإمامة بحال.

ومن المتواتر أن الكفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا أسلموا أجرى عليهم أحكام الإسلام ولم يذكر لهم الإمامة بحال، ولا نقل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من أهل العلم: لا نقلاً خاصاً ولا عاماً. بل نحن نعلم بالاضطرار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يذكر للناس إذا أرادوا الدخول فيه دينه الإمامة لا مطلقاً ولا معيناً، فكيف تكون أهم المطالب في أحكام الدين؟

ومما يبين ذلك أن الإمامة – بتقدير الاحتياج إلى معرفتها – لا يحتاج إليها من مات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، ولا يحتاج إلى التزام حكمها من عاش منهم إلى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون أشرف مسائل المسلمين وأهم المطالب في الدين لا يحتاج إليه أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ أوليس الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته واتبعوه باطناً وظاهراً، ولم يرتدوا ولم يبدِّلوا، هم أفضل الخلق باتفاق المسلمين: أهل السنة والشيعة؟ فكيف يكون أفضل المسلمين لا يحتاج إلى أهم المطالب في الدين وأشرف مسائل المسلمين؟

فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام في حياته، وإنما يُحتاج إلى الإمام بعد مماته، فلم تكن هذه المسألة أهم مسائل الدين في حياته، وإنما صارت أهم مسائل الدين بعد موته.

قيل: الجواب عن هذا من وجوه:

أحدها: أنه بتقدير صحة ذلك لا يجوز أن يقال: إنها أهم مسائل الدين مطلقاً، بل في وقت دون وقت، وهي في خير الأوقات ليست أهم المطالب في أحكام الدين ولا أشرف مسائل المسلمين.

الثاني: أن يقال: الإيمان بالله ورسوله في كل زمان ومكان أعظم من مسألة الإمامة، فلم تكن في وقت من الأوقات لا الأهم ولا الأشرف.

الثالث: أن يقال: فقد كان يجب بيانها من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته الباقين [من] بعده، كما بين لهم أمور الصلاة والزكاة والصيام والحج، [وعين] أمر الإيمان بالله وتوحيده واليوم الآخر. ومن المعلوم أنه ليس بيان مسألة الإمامة في الكتاب والسنة كبيان هذه الأصول.

فإن قيل: بل الإمامة في كل زمان هي الأهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان نبياً إماماً، وهذا كان معلوماً لمن آمن به أنه [كان] إمام ذلك الزمان.

قيل: الاعتذار بهذا باطل من وجوه:

أحدها: أن قول القائل: الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين: إما أن يريد به إمامة الاثني عشر، أو إمام كل زمام بعينه في زمانه، بحيث يكون الأهم في زماننا الإيمان بإمامة محمد المنتظر، والأهم في زمان الخلفاء الأربعة الإيمان بإمامة عليّ عندهم، والأهم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بإمامته. وإما أن يراد به الإيمان بأحكام الإمامة مطلقاً غير معين. وإما أن يراد به معنى رابعاً.

أما الأول: فقد عُلم بالاضطرار أن هذا لم يكن معلوماً شائعاً بين الصحابة ولا التابعين، بل الشيعة تقول: إن كل واحد إنما يُعيّن بنص مَنْ قبله، فبطل أن يكون هذا أهم أمور الدين.

وأما الثاني: فعلى هذا التقدير يكون أهم المطالب في كل زمان الإيمان بإمام ذلك الزمان، ويكون الإيمان من سنة سِتين ومائتين إلى هذا التاريخ إنما هو الإيمان بإمامة محمد بن الحسن، ويكون هذا أعظم من الإيمان بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، ومن الإيمان بالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الواجبات. وهذا مع أنه معلوم فساده بالاضطرار من دين المسلمين، فليس هو مذهب الإمامية، فإن اهتمامهم بعلي وإمامته أعظم من اهتمامهم بإمامة المنتظر، كما ذكره هذا المصنف وأمثاله من شيوخ الشيعة.

وأيضاً: فإن كان هذا هو أهم المطالب في الدين فالإمامية أخسر الناس صفقة في الدين، لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم والذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا، فلم يستفيدوا من أهم الأمور الدينية شيئاً من منافع الدين ولا الدنيا.

فإن قالوا: إن المراد [أن] الإيمان بحكم الإمامة مطلقاً هو أهم أمور الدين. كان هذا أيضاً باطلاً للعلم الضروري أن غيرها من أمور الدين أهم منها.

وإن أريد معنى رابع فلابد من بيانه لنتكلم عليه.

الوجه الثاني: أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم تجب طاعته على الناس لكونه إماماً، بل لكونه رسول الله إلى الناس. وهذا المعنى ثابت له حيًّا وميتاً، فوجوب طاعته على من بعده، كوجوب طاعته على أهل زمانه. وأهل زمانه فيهم الشاهد الذي يسمع أمره ونهيه، وفيهم الغائب الذي بلَّغه الشاهد أمره ونهيه، فكما يجب على الغائب عنه في حياته طاعة أمره ونهيه، يجب ذلك على من يكون بعد موته.

وهو صلى الله عليه وسلم أمره شامل عام لكل مؤمن شهده أو غاب عنه في حياته وبعد موته، وليس هذا لأحد من الأئمة ولا يستفاد هذا بالإمامة حتى أنه صلى الله عليه وسلم إذا أمر ناساً معينين بأمور، وحكم في أعيان معينة بأحكام، لم يكن حكمه وأمره مختصاً بتلك المعينات، بل كان ثابتاً في نظائرها وأمثالها إلى يوم القيامة. فقوله صلى الله عليه وسلم لمن شهده: «لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود»، هو حكم ثابت لكل مأموم بإمام أن لا يسبقه بالركوع ولا بالسجود. وقوله لمن قال: لم أشعر فحلقت قبل أن أرمي. قال: «ارم ولا حرج». ولمن قال: نحرت قبل أن أحلق.

قال: «احلق ولا حرج»، أمر لمن كان مثله. وكذلك قوله لعائشة – رضي الله عنها – لما حاضت وهي معتمرة: «اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت»، وأمثال هذا كثير، بخلاف الإمام إذا أطيع.

وخلفاؤه بعده في تنفيذ أمره ونهيه كخلفائه في حياته، فكل آمر بأمر يجب طاعته [فيه] إنما هو منفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله أرسله إلى الناس وفرض عليهم طاعته، لا لأجل كونه إماماً له شوكة وأعوان، أو لأجل أن غيره عهد إليه بالإمامة [أو غير ذلك]. فطاعته لا تقف على ما تقف عليه طاعة الأئمة من عهد من قبله أو موافقة ذوي الشوكة أو غير ذلك، بل تجب طاعته صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن معه أحد وإن كذبه جميع الناس.

وكانت طاعته واجبة بمكة قبل أن يصير له أنصار وأعوان يقاتلون معه، فهو كما قال سبحانه [فيه]: }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ{ [سورة آل عمران: 144]، بيَّن سبحانه وتعالى أنه ليس بموته ولا قتله ينتقض حكم رسالته كما ينتقض حكم الإمامة بموت الأئمة وقتلهم، وأنه ليس من شرطه أن يكون خالداً لا يموت، فإنه ليس هو ربًّا وإنما هو رسول قد خلت من قبله الرسل، وقد بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فطاعته واجبة بعد مماته وجوبها في حياته وأوكد، لأن الدين كمل واستقر بموته فلم يبق فيه نسخ، ولهذا جُمع القرآن بعد موته كماله واستقراره بموته.

فإذا قال القائل: إنه كان إماماً في حياته، وبعده صار الإمام غيره. إن أراد بذلك أنه صار بعده من هو نظريه يُطاع كما يطاع الرسول، فهذا باطل. وإن أراد أنه قام من يخلفه في تنفيذ أمره ونهيه، فهذا كان حاصلاً في حياته فإنه إذا غاب كان هناك من يخلفه.

وإن قيل: إنه بعد موته لا يباشر معيناً بالأمر بخلاف حياته.

قيل: مباشرته بالأمر ليست شرطاً في وجوب طاعته، بل تجب طاعته على من بَلَغه أمره [ونهيه]، كما تجب طاعته على من سمع كلامه، وقد كان يقول: «ليُبَلِّغ الشاهد الغائب فرب مُبلَّغ أوعى من سامع».

وإن قيل: إنه في حياته كان يقضي في قضايا معينة، مثل إعطاء شخص بعينه، وإقامة الحد على شخص بعينه، وتنفيذ جيش بعينه.

قيل: نعم. وطاعته واجبة في نظير ذلك إلى يوم القيامة بخلاف الأئمة، لكن قد يخفى الاستدلال [على نظير ذلك] كما يخفى العلم على من غاب عنه. فالشاهد أعلم بما قال وأفهم له من الغائب، وإن كان فيمن غاب وبُلِّغ أمره من هو أوعى له من بعض السامعين، لكن هذا التفاضل الناس في معرفة أمره ونهيه، لا [لتفاضلهم] في وجوب طاعته عليهم، فما تجب طاعة ولي الأمر بعده إلا كما تجب طاعة ولاة الأمور في حياته. فطاعته واجبة شاملة لجميع العباد شمولاً واحداً، وإن تنوعت طرقهم في البلاغ والسماع والفهم. فهؤلاء يبلغهم من أمره ما لم يبلغ هؤلاء، وهؤلاء يسمعون من أمره ما لم يسمعه هؤلاء، وهؤلاء يفهمون من أمره ما لم يفهمه هؤلاء.

وكل من أمر بما أمر به الرسول وجبت طاعته طاعة الله ورسوله لا له، وإذا كان للناس ولي أمر قادر ذو شوكة فيأمر بما يأمر ويحكم بما يحكم، انتظم الأمر بذلك، ولم يجز أن يُوَلَّى غيره، ولا يمكن بعده أن يكون شخص واحد مثله، إنما يوجد من هو أقرب إليه من غيره، فأحق الناس بخلافة نبوته أقربهم إلى الأمر بما يأمر به والنهي عما نهى عنه، ولا يطاع أمره طاعة ظاهرة غالبة إلا بقدرة وسلطان يوجب الطاعة، كما لم يُطع أمره في حياته طاعة [ظاهرة] غالبة حتى صار معه من يقاتل على طاعة أمره.

فالدين كله طاعة لله ورسوله، وطاعة الله ورسوله هي الدين كله، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله. ودين المسلمين بعد موته طاعة الله ورسوله، وطاعتهم لولي الأمر فيما أُمروا بطاعته فيه هو طاعة لله ورسوله، وأمر ولي الأمر الذي أمره الله أن يأمرهم به وقَسْمُه وحكمه هو طاعة لله ورسوله، فأعمال الأئمة والأمة في حياته ومماته التي يحبها الله ويرضاها كلها طاعة لله ورسوله، ولهذا كان أصل الدين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

فإذا قيل: هو كان إماماً، وأُريدَ بذلك إمامة خارجة عن الرسالة، أو إمامة يُشترط فيها ما لا يشترط في الرسالة، أو إمامة تعتبر فيها طاعته بدون طاعة الرسول، فهذا كله باطل. فإن كل ما يطاع به داخل في رسالته، وهو أن كل ما يطاع فيه يطاع بأنه رسول الله، ولو قُدِّر أنه كان إماماً مجرداً لم يطع حتى تكون طاعته داخلة في طاعة رسول آخر، فالطاعة إنما تجب لله ورسوله ولمن أَمَرت الرسل بطاعتهم.

فإن قيل: أُطيع بإِمامته طاعة داخلة في رسالته. كان هذا عديم التأثير، فإن مجرد رسالته كافية في وجوب طاعته، بخلاف الإمام فإنه إنما يصير إماماً بأعوان ينفذون أمره، وإلا كان كآحاد أهل العلم والدين، إن كان من أهل العلم والدين.

فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم لما صار له شوكة بالمدينة، صار له مع الرسالة إمامة القدرة.

قيل: بل صار رسولاً له أعوان وأنصار ينفذون أمره ويجاهدون من خالفه. وهو ما دام في الأرض من يؤمن بالله ورسوله ويجاهد في سبيله، له أعوان وأنصار ينفذون أمره ويجاهدون من خالفه، فلم يستفد بالأعوان ما يحتاج أن يضمه إلى الرسالة، مثل كونه إمامًا أو حاكمًا أو ولي أمر، إذا كان هذا كله داخلاً في رسالته، ولكن بالأعوان حصل له كمال قدره، أوجبت عليه من الأمر والجهاد ما لم يكن واجباً بدون القدرة. والأحكام تختلف باختلاف حال القدرة والعجز والعلم وعدمه، كما تختلف باختلاف الغنى والفقر والصحة والمرض. والمؤمن مطيع لله في ذلك كله، وهو مطيع لرسول الله في ذلك كله، ومحمد رسول الله فيما أمر به ونهى عنه، [مطيع لله] في ذلك كله.

وإن قالت الإمامية: الإمامة واجبة بالعقل بخلاف الرسالة، فهي أهم من هذا الوجه.

قيل: الوجوب العقلي فيه نزاع كما سيأتي. وعلى القول بالوجوب العقلي، فما يجب من الإمامة جزء من أجزاء الواجبات العقلية، وغير الإمامة أوجب من ذلك، كالتوحيد والصدق والعدل وغير ذلك من ا لواجبات العقلية.

وأيضاً: فلا ريب أن الرسالة يحصل بها هذا الواجب، فمقصودها جزء من مقصود الرسالة، فالإيمان بالرسول يحصل به مقصود الإمامة في حياته وبعد مماته، بخلاف الإمامة.

وأيضاً: فمن ثبت عنده أن محمداً رسول الله، وأن طاعته واجبة عليه، واجتهد في طاعته حسب الإمكان. إن قيل: إنه يدخل الجنة، فقد استغنى عن مسألة الإمامة.

وإن قيل: لا يدخل الجنة، كان هذا خلاف نصوص القرآن. فإنه سبحانه أوجب الجنة لمن أطاع الله ورسوله في غير موضع، كقوله – تعالى –: }وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا{ [سورة النساء: 69]، وقوله: }تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ [سورة النساء: 13].

وأيضاً: فصاحب الزمان الذي يدعون إليه، لا سبيل للناس إلى معرفته، ولا معرفة ما يأمرهم به، وما ينهاهم عنه، وما يخبرهم به. فإن كان أحد لا يصير سعيداً إلا بطاعة هذا الذي لا يُعرف أمره ولا نهيه لزم أنه لا يتمكن أحد من طريق النجاة والسعادة وطاعة الله، وهذا من أعظم تكليف ما لا يطاق، وهم من أعظم الناس إحالة له.

وإن قيل: بل هو يأمر بما عليه الإمامية.

قيل: فلا حجة إلى وجوده ولا شهوده، فإن هذا معروف سواء كان هو حيًّا أو ميتًا وسواء كان شاهدًا أو غائبًا. وإذا كان معرفة ما أمر الله به الخلق ممكناً بدون هذا الإمام المنتظر، عُلم أنه لا حاجة إليه ولا يتوقف عليه طاعة الله ورسوله ولا نجاة أحد ولا سعادته. وحينئذ فيمتنع القول بجواز إمامه مثل هذا. فضلاً عن القول بوجوب إمامة مثل هذا، وهذا أمر بيّن لمن تدبره، لكن الرافضة من أجهل الناس.

وذلك أن فعل الواجبات العقلية والشرعية، وترك المستقبحات العقلية والشرعية، إما أن يكون موقوفاً على معرفة ما يأمر به وينهى عنه هذا المنتظر، وإما أن لا يكون موقوفاً. فإن كان موقوفاً، لزم تكليف ما لا يطاق، وأن يكون فعل الواجبات وترك المحرمات موقوفاً على شرط لا يقدر عليه عامة الناس، بل ولا أحد منهم، فإنه ليس في الأرض من يدَّعي دعوى صادقة أنه رأى هذا المنتظر أو سمع كلامه. وإن لم يكن موقوفاً على ذلك أمكن فعل الواجبات العقلية والشرعية. وترك القبائح العقلية والشرعية، بدون هذا المنتظر، فلا يُحتاج إليه، ولا يجب وجوده ولا شهوده.

وهؤلاء الرافضة علَّقوا نجاة الخلق وسعادتهم، وطاعتهم لله ورسوله، بشرط ممتنع لا يقدر عليه الناس، بل ولا يقدر عليه أحد منهم، وقالوا للناس: لا يكون أحد ناجياً من عذاب الله إلا بذلك، ولا يكون سعيداً إلا بذلك، ولا يكون أحداً مؤمناً إلا بذلك.

فلزم أحد أمرين: إما بطلان قولهم. وإما أن يكون الله قد آيس عباده من رحمته، وأوجب عذابه لجميع الخلق المسلمين وغيرهم. وعلى هذا التقدير فهم أول الأشقياء المعذبين، فإنه ليس لأحد منهم طريق إلى معرفة أمر هذا الإمام الذي يعتقدون أنه موجود غائب، ولا نهيه ولا خبره، بل عندهم من الأقوال المنقولة عن شيوخ الرافضة ما يذكرون أنه منقول عن الأئمة [المتقدمين على هذا المنتظر]، وهم لا ينقلون شيئاً عن المنتظر، وإن قٌدِّر أن بعضهم نقل عنه شيئاً عُلم أنه كاذب. وحينئذ فتلك الأقوال إن كانت كافية فلا حاجة إلى المنتظر، وإن لم تكن كافية فقد أقروا بشقائهم وعذابهم، حيث كانت سعادتهم موقوفة على آمر لا يعلمون بماذا أمر.

وقد رأيت طائفة من شيوخ الرافضة كابن العود الحلي يقول: إذا اختلفت الإمامية على قولين، أحدهما يُعرف قائله والآخر لا يعرف قائله، كان القول الذي لا يعرف قائله هو القول الحق الذي يجب إتباعه، لأن المنتظر المعصوم في تلك الطائفة.

وهذا غاية الجهل والضلال، فإنه بتقدير وجود المنتظر المعصوم، لا يُعلم أنه قال ذلك القول، إذ لم ينقله عنه أحد، ولا عمَّن نقله عنه. فمن أين يجزم بأنه قوله؟ ولم لا يجوز أن يكون القول الآخر هو قوله، وهو لغيبته وخوفه من الظالمين لا يمكنه إظهار قوله، كما يدَّعون ذلك فيه؟

فكان أصل دين هؤلاء الرافضة مبنيًّا على مجهول ومعدوم، لا على موجود ولا معلوم، يظنون أن إمامهم موجود معصوم، وهو مفقود معدوم، ولو كان موجوداً معصوماً، فهم معترفون بأنهم لا يقدرون أن يعرفوا أمره ونهيه، كما [كانوا] يعرفون أمر آبائه ونهيهم.

والمقصود بالإمام إنما هو طاعة أمره، فإذا كان العلم بأمره ممتنعاً، كانت طاعته ممتنعة، فكان المقصود [به] ممتنعاً. وإذا كان المقصود [به] ممتنعاً، لم يكن [في] إثبات الوسيلة فائدة أصلاً، بل كان إثبات الوسيلة التي لا يحصل بها مقصودها من باب السفه والعبث والعذاب القبيح باتفاق أهل الشرع، و[باتفاق] العقلاء القائلين بتحسين العقول وتقبيحها، بل باتفاق العقلاء مطلقاً. فإنهم إذا فسروا القبح بما يضر كانوا متفقين على أن معرفة الضار يُعلم بالعقل، والإيمان بهذا الإمام الذي ليس فيه منفعة، بل مضرة في العقل والنفس والبدن والمال وغير ذلك، قبيح شرعاً وعقلاً.

ولهذا كان المتبعون له من أبعد الناس عن مصلحة الدين والدنيا، لا تنتظم لهم مصلحة دينهم ولا دنياهم إن لم يدخلوا في طاعة غيرهم، كاليهود الذين لا تنتظم لهم مصلحة إلا بالدخول في طاعة من هو خارج عن دينهم. فهم يوجبون وجود الإمام المنتظر المعصوم، لأن مصلحة الدين والدنيا لا تحصل إلا به عندهم، وهم لم يحصل لهم بهذا المنتظر مصلحة في الدين ولا في الدنيا، والذين كذَّبوا به لم تفتهم مصلحة في الدين ولا في الدنيا، بل كانوا أقوم بمصالح الدين والدنيا من أتباعه.

فعلم بذلك أن قولهم في الإمامة، لا ينال به إلا ما يورث الخزي والندامة، وأنه ليس فيه شيء من الكرامة، وأن ذلك إذا كان أعظم مطالب الدين، فهم أبعد الناس عن الحق والهدى في أعظم مطالب الدين، وإن لم يكن أعظم مطالب الدين، ظهر بطلان ما ادَّعوه من ذلك، فثبت بطلان قولهم على التقديرين، وهو المطلوب.

فإن قال هؤلاء الرافضة: إيماننا بهذا المنتظر المعصوم، مثل إيمان كثير من شيوخ الزهد والدين بإلياس والخضر والغوث والقطب [ورجال الغيب]، ونحو ذلك من الأشخاص الذين لا يعرف وجودهم، ولا بماذا يأمرون، ولا عمَّاذا ينهون، فكيف يسوغ لمن يوافق هؤلاء أن ينكر علينا ما ندعيه؟

قيل: ا لجواب من وجوه:

أحدها: أن الإيمان بوجود هؤلاء ليس واجباً عند أحد من علماء المسلمين وطوائفهم المعروفين، وإذا كان بعض الغلاة يوجب على أصحابه الإيمان بوجود هؤلاء، ويقول: إنه لا يكون مؤمناً وليًّا لله إلا من يؤمن بوجود هؤلاء في هذه الأزمان، كان قوله مردوداً كقول الرافضة. فإن من قال من هؤلاء الغلاة: إنه لا يكون وليًّا لله إن لم يعتقد الخضر، ونحو ذلك، كان قوله مردوداً، كقوله الرافضة.

الوجه الثاني: أن يقال: من الناس من يظن أن التصديق بهؤلاء يزداد به الرجل إيماناً وخيراً وموالاة لله، وأن المصدِّق بوجود هؤلاء أكمل [وأشرف] وأفضل عند الله ممن لم يصدِّق بوجود هؤلاء. وهذا القول ليس مثل قول الرافضة من كل وجه، بل هو مشابه له من بعض الوجوه، لكونهم جعلوا كمال الدين موقوفاً على ذلك.

وحينئذ فيقال: هذا القول أيضاً باطل باتفاق علماء المسلمين وأئمتهم. فإن العلم بالواجبات والمستحبات، وفعل الواجبات والمستحبات كلها ليس موقوفاً على التصديق بوجود أحد من هؤلاء، ومن ظن من أهل النسك والزهد والعامة أن شيئاً من الدين – واجبة أو مستحبة – موقوفاً على التصديق بوجود هؤلاء، فهو جاهل ضال باتفاق أهل العلم والإيمان العالمين بالكتاب والسنة، إذ قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته التصديق بوجود هؤلاء، ولا أصحابه كانوا يجعلون ذلك من الدين، [ولا أئمة المسلمين].

وأيضاً، فجميع هذه الألفاظ: لفظ الغوث والقطب والأوتاد والنجباء وغيرها، لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد معروف أنه تكلم بشيء منها ولا أصحابه. ولكن لفظ الأبدال تكلم به بعض السلف، ويُروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف، وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع].

الوجه الثالث: أن يقال: القائلون بهذه الأمور منهم من ينسب إلى أحد هؤلاء ما لا تجوز نسبته إلى [أحد من] البشر، مثل دعوى بعضهم أن الغوث أو القطب هو الذي يمد أهل الأرض في هداهم ونصرهم ورزقهم، فإن هذا لا يصل إلى أحد من أهل الأرض إلا بواسطة نزوله على ذلك الشخص، وهذا باطل بإجماع المسلمين، وهو من جنس قول النصارى في الباب.

وكذلك ما يدَّعيه بعضهم من أن الواحد من هؤلاء قد يعلم كل وليٍّ لله كان ويكون، واسمه واسم أبيه، ومنزلته من الله، ونحو ذلك من المقالات الباطلة، التي تتضمن أن الواحد من البشر يشارك الله في بعض خصائصه، مثل أنه بكل شيء عليم، أو على كل شيء قدير، ونحو ذلك. كما يقول بعضهم في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي شيوخه: إن علم أحدهم ينطبق على علم الله، وقدرته منطبقة على قدرة الله، فيعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه.

فهذه المقالات وما يشبهها من جنس قول النصارى والغالية في عليٍّ، وهي باطلة بإجماع علماء المسلمين. ومنهم من ينسب إلى الواحد من هؤلاء ما تجوز نسبته إلى الأنبياء وصالحي المؤمنين من الكرامات، كدعوة مجابة، ومكاشفة من مكاشفات الصالحين، ونحو ذلك.

فهذا القدر يقع كثيراً من الأشخاص الموجودين [المعاينين]، ومن نسب ذلك إلى من لا يُعرف وجوده، فهؤلاء وإن كانوا مخطئين في نسبة ذلك إلى شخص معدوم، فخطؤهم كخطأ من اعتقد أن في البلد الفلاني رجالاً من أولياء الله وليس فيه أحد، أو اعتقد في ناس معينين أنهم أولياء الله ولم يكونوا كذلك. ولا ريب أن هذا خطأ وجهل وضلال يقع فيه كثير من الناس، لكن خطأ الإمامية وضلالهم أقبح وأعظم.

الوجه الرابع: أن يقال: الصواب الذي عليه محققو العلماء أن إلياس والخضر ماتا، وأنه ليس أحد من البشر واسطة بين الله وبين خلقه في رزقه وخلقه، وهداه ونصره، وإنما الرسل وسائط في تبليغ رسالاته، لا سبيل لأحد إلى السعادة إلا بطاعة الرسل. وأما خلقه ورزقه، وهداه ونصره [فلا يقدر عليه إلا الله تعالى]، فهذا لا يتوقف [على حياة الرسل وبقائهم. بل ولا يتوقف نصر الخلق ورزقهم على وجود الرسل أصلاً]، بل قد يخلق الله ذلك بما شاء من الأسباب بواسطة الملائكة [أو غيرهم]، وقد يكون لبعض البشر في ذلك من الأسباب ما هو معروف في البشر.

وأما كون ذلك لا يكون إلا بواسطة البشر، أو أن أحداً من البشر يتولى ذلك كله، ونحو ذلك، فهذا كله باطل. وحينئذ فيُقال للرافضة إذا احتجوا بضلال الضلال: }وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ{ [الزخرف: الآية 39].

وأيضاً: فمن المعلوم أن أشرف مسائل المسلمين، وأهم المطالب في الدين، ينبغي أن يكون ذكرها في كتاب الله أعظم من غيرها، وبيان الرسول لها أولى من بيان غيرها. والقرآن مملوء بذكر توحيد الله، وذكر أسمائه وصفاته وآياته، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقصص والأمر والنهي، والحدود الفرائض، بخلاف الإمامة. فكيف يكون القرآن مملوءً بغير الأهم الأشرف؟

وأيضاً: فإن الله تعالى قد علَّق السعادة بما لا ذكر فيه للإمامة فقال: }وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا{ [سورة النساء: 69]، وقال: }تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ُ* وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ{ [سورة النساء: 13، 14]. فقد بيَّن الله في القرآن أن من أطاع الله ورسوله كان سعيداً في الآخرة، ومن عصى الله ورسوله كان سعيداً في الآخرة، ومن عصى الله ورسوله وتعدَّى حدوده كان معذباً، فهذا هو الفرق بين السعداء والأشقياء، ولم يذكر الإمامة.

فإن قال قائل: إن الإمامة داخلة في طاعة الله ورسوله.

قيل: غايتها أن تكون كبعض الواجبات: كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما يدخل في طاعة الله ورسوله، فكيف تكون هي وحدها أشرف مسائل المسلمين وأهم مطالب الدين؟

فإن قيل: لا يمكننا طاعة الرسول إلا بطاعة إمام فإنه هو الذي يعرف الشرع.

قيل: هذا [هو] دعوى المذهب ولا حجة فيه. ومعلوم أن القرآن لم يدل على هذا كما دلّ على سائر أصول الدين. [وقد تقدم أن هذا الإمام الذي يدعونه لم ينتفع به أحد في ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن ما جاء به الرسول لا يحتاج في معرفته إلى أحد من الأئمة].

الوجه الثاني:

أن يقال: أصول الدين عن الإمامية أربعة: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة. فالإمامة هي آخر المراتب، والتوحيد والعدل والنبوة قبل ذلك. وهم يدخلون في التوحيد نفي الصفات، والقول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يُرى في الآخرة. ويدخلون في العدل التكذيب بالقدر، وأن الله لا يقدر أن يهدي من يشاء، ولا يقدر أن يضل من يشاء، وأنه قد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وغير ذلك. فلا يقولون: إنه خالق كل شيء، ولا إنه على كل شيء قدير، ولا إنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. لكن التوحيد والعدل والنبوة مقدم على الإمامة، فكيف تكون [الإمامة] أشرف وأهم؟

وأيضاً: فإن الإمامة إنما أوجبوها لكونها لطفاً في الواجبات، فهي واجبة وجوب الوسائل، فكيف تكون الوسيلة أهم وأشرف من المقصود؟

الوجه الثالث:

أن يقال: إن كانت الإمامة أهم مطالب الدين، وأشرف مسائل المسلمين، فأبعد الناس عن هذا الأهم الأشرف هم الرافضة. فإنهم [قد] قالوا في الإمامة أسخف قول وأفسده في العقل والدين، كما سنبينه إن شاء الله تعالى [إذا تكلمنا عن حججهم]. ويكفيك أن مطلوبهم بالإمامة أن يكون لهم رئيس معصوم يكون لطفاً في مصالح دينهم ودنياهم، وليس في الطوائف أبعد عن مصلحة اللطف والإمامة منهم، فإنهم يحتالون على مجهول ومعدوم لا يُرى له عين ولا أثر، ولا يُسمع له حس ولا خبر، فلم يحصل لهم من الأمر المقصود بإمامته شيء.

وأي من فرض إماماً نافعاً في بعض مصالح الدين والدنيا، كان خيراً ممن لا ينتفع به في شيء من مصالح الإمامة. ولهذا تجدهم لما فاتهم مصلحة الإمامة، يدخلون في طاعة كافر أو ظالم لينالوا به بعضهم مقاصدهم. فبينما هم يدعون الناس إلى طاعة إمام معصوم، أصبحوا يرجعون إلى طاعة ظلوم كفور. فهل يكون أبعد عن مقصود الإمامة، وعن الخير والكرامة، ممن سلك منهاج الندامة؟

وفي الجملة، فالله تعالى قد علق بولاة الأمور مصالح في الدين والدنيا، سواء كانت الإمامة أهم الأمور أو لم تكن. والرافضة أبعد الناس عن حصول هذه المصلحة لهم، فقد فاتهم على قولهم الخير المطلوب من أهم مطالب الدين وأشرف مسائل المسلمين.

ولقد طلب [مني] أكابر شيوخهم أن يخلو بي وأتكلم معه في ذلك، فخلوت به وقررت له ما يقولونه في هذا الباب. كقولهم: إن الله أمر العباد ونهاهم لينالوا به عض مقاصدهم، فيجب أن يفعل بهم اللطف الذي يكونون عنده أقرب إلى فعل الواجب وترك القبيح، لأن من دعا شخصاً ليأكل طعامه، فإذا كان مراده الأكل فعل ما يعين على ذلك من الأسباب، كتلقيه بالبشر وإجلاسه في مجلس يناسبه، وأمثال ذلك. وإن لم يكن مراده أن يأكل، عبس في وجهه وأغلق الباب، ونحو ذلك. وهذا أخذوه من المعتزلة، ليس هو من أصول شيوخهم القدماء.

ثم قالوا: والإمام لطف، لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب وينهاهم عن القبيح، كانوا أقرب إلى فعل المأمور وترك المحظور، فيجب أن يكون لهم إمام، ولا بد أن يكون معصوماً، لأنه إذا لم يكن معصوماً لم يحصل به المقصود. ولم تدع العصمة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا لعليّ، فتعين أن يكون هو إياه للإجماع على انتفاء ما سواه، وبسطت له العبارة في هذه العبارة في هذه المعاني.

ثم قالوا: وعلى نصَّ على الحسن، والحسن على الحسين، إلى أن انتهت النوبة إلى المنتظر محمد بن الحسن صاحب السرداب الغائب.

فاعترف بأن هذا تقرير مذهبهم على غاية الكمال.

قلت له: فأنا وأنت طالبان للعلم والحق والهدى، وهم يقولون: من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر. فهذا المنتظر: هل رأيته؟ أو رأيت من رآه؟ أو سمعت له بخبر؟ أو تعرف شيئاً من كلامه الذي قاله هو؟ أو ما أمر به أو ما نهى عنه مأخوذاً عنه كما يؤخذ عن الأئمة؟

قال: لا.
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 2008-07-13, 12:06 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

قلت: فأي فائدة في إيماننا هذا؟ وأي لطف يحصل لنا بهذا؟ ثم كيف يجوز أن يكلفنا الله بطاعة شخص، ونحن لا نعلم ما يأمرنا به ولا ما ينهانا عنه، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه؟ وهم من أشد الناس إنكاراً لتكليف ما لا يطاق، فهل يكون في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟!

فقال: إثبات هذا مبني على تلك المقدمات.

قلت: لكن المقصود لنا من تلك المقدمات هو ما يتعلق بنا نحن، وإلا فما علينا مما مضى إذا لم يتعلق بنا منه أمر ولا نهي. وإذا كان كلامنا في تلك المقدمات لا يُحَصِّلُ لنا فائدة ولا لطفاً، ولا يفيدنا إلا تكليف ما لا يُقدر عليه، عُلم أن الإيمان بهذا المنتظر من باب الجهل والضلال، لا من باب المصلحة واللطف.

والذي عند الإمامية من النقل عن الأئمة الموتى: إن كان حقًّا يحصل به سعادتهم فلا حاجة بهم إلى المنتظر. وإن كان باطلاً فهم أيضاً لم ينتفعوا بالمنتظر في رد هذا الباطل. فلم ينتفعوا بالمنتظر [لا] في إثبات: حق، ولا في نفي باطل، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولم يحصل لواحد منهم به شيء من المصلحة واللطف المطلوب من الإمامة.

والجُهَّال الذين يعلِّقون أمورهم بالمجهولات، كرجال الغيب والقطب [والغوث] والخضر ونحو [ذلك، مع جهلهم وضلالهم] وكونهم يثبتون ما لم يحصل لهم به مصلحة ولا لطف ولا منفعة لا في الدين ولا في الدنيا، أقلّ ضلالاً من الرافضة.

فإن الخضر كان موجوداً، وقد ذكره الله في القرآن، وفي قصته عبرة وفوائد. وقد يرى أحدهم شخصاً صالحاً يظنه الخضر فينتفع به وبرؤيته وموعظته، وإن كان غالطاً في اعتقاده أنه الخضر، [فقد يرى أحدهم بعض الجن فيظن أنه الخضر، ولا يخاطبه الجني إلا بما يرى أنه يقبله منه ليربطه على ذلك، فيكون الرجل أُتي من نفسه لا من ذلك المخاطب له. ومنهم من يقول: لكل زمان خضر. ومنهم من يقول: لكل وليٌّ خضر. وللكفار كاليهود مواضع يقولون إنهم يرون الخضر فيها، وقد يُرى الخضر على صور مختلفة وعلى صورة هائلة وأمثال ذلك. وذلك لأن هذا الذي يقول إنه الخضر هو جني، بل هو شيطان يظهر لمن يرى أنه يضله. وفي ذلك حكايات كثيرة يضيق هذا الموضع عن ذكرها].

وعلى كل تقدير فأصناف الشيعة أكثر ضلالاً من هؤلاء. فإن منتظرهم ليس عندهم نقل ثابت عنه، ولا يعتقدون فيمن يرونه أنه المنتظر، ولما دخل السرداب كان عندهم صغيراً لم يبلغ سنَّ التمييز، وهم يقبلون من الأكاذيب أضعاف ما يقبله هؤلاء، ويعرضون عن الاقتداء بالكتاب والسنة أكثر من إعراض هؤلاء ويقدحون في خيار المسلمين قدحاً يعاديهم عليه هؤلاء. فهم أضل عن مصالح الإمامة من جميع طوائف الأمة، فقد فاتهم على قولهم أهم الدين وأشرفه.

الوجه الرابع:

أن يقال: قوله: «التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة» كلام باطل. فإن مجرد معرفة الإنسان إمام وقته وإدراكه بعينه، لا يستحق به الكرامة إن لم يوافق أمره ونهيه. وإلا فليست معرفة إمام الوقت بأعظم من معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عرف أن محمداً رسول الله فلم يؤمن به ولم يطع أمره، لم يحصل له شيء من الكرامة. لو آمن بالنبي وعصاه فضيع الفرائض وتعدى الحدود، كان مستحقاً للوعيد عند الإمامية وسائر طوائف المسلمين، فكيف بمن عرف الإمام وهو مضيع للفرائض متعد للحدود!

وكثير من هؤلاء يقول: حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة. وإن كانت السيئات لا تضر مع حب عليّ، فلا حاجة إلى الإمام المعصوم الذي هو لطف في التكليف، فإنه إذا لم يوجد، إنما توجد سيئات ومعاص. فإن كان حب عليّ كافياً، فسواء وجد الإمام أو لم يوجد.

الوجه الخامس:

قوله: «وهي أحد أركان الإيمان، المستحق بسببه الخلود في الجنان».

فيقال له: من جعل هذا من الإيمان، إلا أهل الجهل والبهتان؟ وسنتكلم إن شاء الله على ما ذكره من ذلك.

والله تعالى وصف المؤمنين وأحوالهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسَّر الإيمان وذكر شعبه، ولم يذكر الله ولا رسوله الإمامة في أركان الإيمان ففي [الحديث] الصحيح حديث جبريل لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان. قال [له]: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت». قال: والإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، [واليوم الآخر]، والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره». ولم يذكر الإمامة. قال: «والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وهذا الحديث متفق على صحته، مُتلقى بالقبول، أجمع أهل العلم بالنقل على صحته وقد أخرجه أصحاب الصحيح من غير وجه، فهو متفق عليه من حديث أبي هريرة، وفي [أفراد] مسلم من حديث عمر.

وهؤلاء وإن كانوا لا يقرون بصحة هذه الأحاديث، فالمصنف [قد] احتج بأحاديث موضوعة كذب باتفاق أهل المعرفة، فإما أن نحتج بما يقوم الدليل على صحته نحن وهم، أو لا نحتج بشيء من ذلك لا نحن ولا هم. فإن تركوا الرواية رأساً أمكن أن نترك الرواية. وأما إذا رووا هم، فلا بد من معارضة الرواية [بالرواية]، والاعتماد على ما تقوم به الحجة. ونحن نبين الدلائل الدالة على كذب ما يعارضون به أهل السنة من الروايات الباطلة، والدلائل الدالة على صحة ما نقله أهل العلم بالحديث وصححوه.

وهب أنَّا لا نحتج بالحديث، فقد قال الله تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ{ [سورة الأنفال: 2-4]، فشهد هؤلاء بالإيمان من غير ذكر للإمامة.

وقال تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{ [سورة الحجرات: 15]، فجعلهم صادقين في الإيمان من غير ذكر للإمامة.

وقال تعالى: }لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{[سورة البقرة: 177] ولم يذكر الإمامة.

وقال تعالى: }الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [سورة البقرة: 1- 5]، فجعلهم مهتدين مفلحين ولم يذكر الإمامة.

وأيضاً: فنحن نعلم بالاضطرار من دين محمد [بن عبد الله] صلى الله عليه وسلم أن الناس كانوا إذا أسلموا لم يَجْعل إيمانهم موقوفاً على معرفة الإمامة، ولم يذكر لهم شيئاً من ذلك. وما كان أحد أركان الإيمان لا بد أن يبينه الرسول لأهل الإيمان ليحصل لهم [به] الإيمان. فإذا عُلم بالاضطرار أن هذا مما لم يكن الرسول يشترطه في الإيمان، عُلم أن اشتراطه في الإيمان من أقوال أهل البهتان.

فإن قيل: قد دخلت في عموم النصوص، أو هي من باب ما لا يتم الواجب إلا به، أو دلّ عليها نص آخر.

قيل: هذا كله لو صح لكان غايته أن تكون من بعض فروع الدين، لا تكون من أركان الإيمان، فإن ركن الإيمان ما لا يحصل الإيمان إلا به كالشهادتين، فلا يكون الرجل مؤمناً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فلو كانت الإمامة ركناً في الإيمان لا يتم إيمان أحد إلا به، لوجب أن يبين ذلك الرسول بياناً عاماً قاطعاً للعذر، كما بين الشهادتين والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر. فكيف ونحن نعلم بالاضطرار من دينه أن الناس الذين دخلوا في دينه أفواجاً، لم يشترط على أحد منهم في الإيمان بالإمامة لا مطلقاً ولا معيناً!؟

الوجه السادس:

قوله: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات مِيتة جاهلية.

يقال له أولاً: من روى هذا الحديث بهذا اللفظ وأين إسناده؟ وكيف يجوز أن يُحتج بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؟ وهذا لو كان مجهول الحال عند أهل العلم بالحديث، فكيف وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يُعرف؟!

إنما الحديث المعروف مثل ما روى مسلم في صحيحه عن نافع، قال: جاء [عبد الله] بن عمرو إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحَرَّة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله. سمعته يقول: «من خلع يدًّا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية».

وهذا حدَّث به [عبد الله] بن عمر لعبد الله بن مطيع [بن الأسود] لما خلعوا طاعة أمير وقتهم يزيد، مع أنه كان فيه من الظلم ما كان. ثم إنه اقتتل هو وهم، وفعل بأهل الْحَرَّة أموراً منكرة.

فعُلم أن هذا الحديث دلّ على ما دلّ عليه سائر الأحاديث الآتية من أنه لا يُخْرَج على ولاة أمور المسلمين بالسيف، وأن من لم يكن مطيعاً لولاة الأمور مات ميتة جاهلية. وهذا ضد قول الرافضة، فإنهم أعظم الناس مخالفة لولاة الأمور، وأبعد الناس عن طاعتهم إلا كرهاً.

ونحن نطالبهم أولاً بصحة النقل، ثم بتقدير أن يكون ناقلة واحداً، فكيف يجوز أن يثبت أصل الإيمان بحبر مثل هذا [الذي] لا يُعرف له ناقل؟! وإن عُرف له ناقل أمكن خطؤه وكذبه، وهل يثبت أصل الإيمان إلا بطريق علمي؟!

الوجه السابع:

أن يقال: إن كان هذا الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فليس فيه حجة لهذا القائل. فإن النبي صلى الله عليه وسلم [قد] قال: «من مات ميتة جاهلية» في أمور ليست من أركان الإيمان التي من تركها كان كافراً.

كما في صحيح مسلم عن جُندب بن عبد الله البجلي – رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قُتل تحت راية عُمِّيَّة يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقِتْلَته جاهلية». وهذا الحديث يتناول من قاتل في العصبية، والرافضة رءوس هؤلاء. ولكن لا يكفر المسلم بالاقتتال في العصبية، كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة، فكيف يكفر بما هو دون ذلك؟!

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية». وهذا حال الرافضة فإنهم يخرجون عن الطاعة ويفارقون الجماعة.

وفي الصحيحين عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية». وفي لفظ: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإن من خرج من السلطان شبراً، مات ميتة جاهلية».

وهذه النصوص مع كونها صريحة في حال الرافضة، فهي وأمثالها المعروفة عند أهل العلم، لا بذلك اللفظ الذي نقله.

الوجه الثامن:

أن هذا الحديث الذي ذكره حجة على الرافضة لأنهم لا يعرفون إمام زمانهم، فإنهم يدَّعون أنه الغائب المنتظر محمد بن الحسن الذي دخل سرداب سامرَّا سنة سِتين ومائتين أو نحوها ولم يميز بعد، بل كان عمره إما سنتين أو ثلاثاً أو خمساً أو نحو ذلك، وله الآن – على قولهم – أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ولم يُر له عين ولا أثر، ولا سُمع له حس ولا خبر. فليس فيهم أحد يعرفه لا بعينه ولا صفته، لكن يقولون إن هذا الشخص الذي لم يره أحد ولم يسمع له خبر هو إمام زمانهم. ومعلوم أن هذا ليس هو معرفة بالإمام.

ونظير هذا أن يكون لرجل قريب من بني عمه في الدنيا ولا يعرف شيئاً من أحواله، فهذا لا يعرف ابن عمه. وكذلك المال المُلْتَقَط إذا عَرف أن له مالكاً ولم يعرف عينه لم يكن عارفاً لصاحب اللقطة. بل هذا أعرف، لأن هذا يمكن ترتيب بعض أحكام الملك والنسب [عليه]، وأما المنتظر فلا يعرف له حال ينتفع به في الإمامة.

فإن معرفة الإمام الذي يُخرِج الإنسان من الجاهلية، هي المعرفة التي يحصل بها طاعة وجماعة، خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية، فإنهم لم يكن لهم إمام يجمعهم ولا جماعة تعصمهم، والله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وهداهم به إلى الطاعة والجماعة. وهذا المنتظر لا يحل بمعرفته طاعة ولا جماعة، فلم يُعرف معرفة تخرج الإنسان من [حال] الجاهلية، بل المنتسبون إليه أعظم الطوائف جاهلية وأشبههم بالجاهلية، وإن لم يدخلوا في طاعة غيرهم – إما طاعة كافر وإما طاعة مسلم هو عندهم من الكفار أو النواصب – لم ينتظم لهم مصلحة، لكثرة اختلافهم وافتراقهم وخروجهم عن الطاعة والجماعة.

وهذا يتبين

بالوجه التاسع:

وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين [المعلومين]، الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلاً. كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتماع والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقاً، بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته، وهذا يبين أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين.

ففي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم». قال: قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من وُلِيّ عليه والٍ، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة».

وفي [صحيح] مسلم عن أم سَلَمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع». قالوا: [يا رسول الله]، أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلُّوا».

وهذا يبين أن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور، وأنه يُكره ويُنكر ما يأتونه من معصية الله، ولا تنزع اليد من طاعتهم، بل يطاعون في طاعة الله، وأن منهم خياراً وشراراً، من يُحَب ويُدعى له ويُحِب الناس ويدعو لهم، ومن يبغض ويدعو على الناس ويبغضونه ويدعون عليه.

وفي الصحيحين [عن أبي هريرة]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر. قالوا: فما تأمر؟ قال: يفُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عمّا استرعاهم». فقد أخبر أن بعده خلفاء كثيرين، وأمر أن يوفي ببيعة الأول فالأول وأن يعطوهم حقهم.

وفي الصحيحين عن [عبد الله] بن مسعود، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون بعدي أََثَرة وأموراً تنكرونها». قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم». وفي لفظ: «ستكون أثرة وأمور تنكرونها». قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم».

وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وعلى أَثَرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.

وفي الصحيحين عن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».

فإن قال: أنا أردت بقولي: إنها «أهم المطالب في الدين، وأشرف مسائل المسلمين» المطالب التي تنازعت الأمة فيها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي مسألة الإمامة.

قيل له: فلا لفظ فصيح، ولا معنى صحيح. فإن ما ذكرته لا يدل على هذا المعنى، بل مفهوم اللفظ ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مطلقاً، وأشرف مسائل المسلمين مطلقاً.

وبتقدير أن يكون هذا مرادك فهو معنى باطل، فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل أشرف من هذه. وبتقدير أن تكون هي الأشرف، فالذي ذكرته فيها أبطل المذاهب، وأفسد المطالب.

وذلك أن النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة علي – رضي الله عنه – [وأما] على عهد الخلفاء الثلاثة فلم يظهر نزاع إلا ما جرى يوم السقيفة، وما انفصلوا حتى اتفقوا، ومثل هذا لا يُعد نزاعاً. ولو قُدِّر أن النزاع فيها كان عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما تنوزع فيه عقب موته صلى الله عليه وسلم، يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهر طويل.
وإذا كان كذلك، فمعلوم أن مسائل القدر والتعديل والتجوير والتحسين والتقبيح والتوحيد والصفات والإثبات والتنزيه، أهم وأشرف من مسائل الإمامة. ومسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، والعفو والشفاعة والتخليد، أهم من مسائل الإمامة.

ولهذا كل من صنَّف في أصول الدين يذكر مسائل الإمامة في الآخر، حتى الإمامية يذكرون مسائل التوحيد والعدل والنبوة قبل مسائل الإمامة. وكذلك المعتزلة يذكرون أصولهم الخمس: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والخامس هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه تتعلق مسائل الإمامة.

ولهذا كان جماهير الأمة نالوا الخير بدون مقصود الإمامة التي تقولها الرافضة، فإنهم يُقرُّون بأن الإمام الذي هو صاحب الزمان مفقود لا ينتفع به أحد، وأنه دخل السرداب سنة ستين ومائتين أو قريباً من ذلك، وهو الآن غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة، فهم في هذه المدّة لم ينتفعوا بإمامته لا في دين ولا في دنيا، بل يقولون: إن عندهم علماً منقولاً عن غيره.

فإن كانت أهم مسائل الدين، وهم لم ينتفعوا بالمقصود منها، فقد فاتهم من الدين أهمه وأشرفه، وحينئذ فلا ينتفعون بما حصل لهم من التوحيد والعدل، لأنه يكون ناقصاً بالنسبة إلى مقصود الإمامة، فيسحقون العذاب. كيف، وهم يسلِّمون أن مقصود الإمامة إنما هو في الفروع الشرعية، وأما الأصول العقلية فلا يُحتاج فيها إلى الإمام، وتلك هي أهم وأشرف!

ثم بعد هذا كله، فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب، ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة لما فيها من مصلحة الخلق في دينهم ودنياهم، وإمامكم صاحب الوقت لم يحصل لكم من جهته مصلحة لا في الدين ولا في الدنيا، فأي سعي أضل من سعي من يتعب التعب الطويل، ويكثر القال والقيل، ويفارق جماعة المسلمين، ويلعن السابقين والتابعين، ويعاون الكفار والمنافقين، ويحتال بأنواع الحيل، ويسلك ما أمكنه من السبل، ويعتضد بشهود الزور، ويُدلي أتباعه بحبل الغرور، ويفعل ما يطول وصفه، ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ونهيه، ويعرّفه ما يقربه إلى الله [تعالى]؟!

ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ونسبه، لم يظفر بشيء من مطلوبه، ولا وصل إليه [شيء] من تعليمه وإرشاده، ولا أمره ولا نهيه، ولا حصل له من جهته منفعة ولا مصلحة أصلاً، إلا إذهاب نفسه وماله، وقطع الأسفار، وطول الانتظار بالليل والنهار، ومعاداة الجمهور لداخل في سرادب، ليس له عمل ولا خطاب، ولو كان موجوداً بيقين، لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين. فكيف وعقلاء الناس يعلمون، أنه ليس معهم إلا الإفلاس، وأن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ولم يُعْقِبَ، كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري، وعبد الباقي بن قانع، وغيرهما من أهل العلم بالنسب؟!

وهم يقولون إنه دخل السرداب بعد موت أبيه وعمره إما سنتان وإما ثلاث، وإما خمس، وإما نحو ذلك. ومثل هذا بنص القرآن يتيم يجب أن يُحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد، ويحضنه من يستحق حضانته من أقربائه، فإذا صار له سبع سنين أُمر بالطهارة والصلاة. فمن لا توضأ ولا صلى، وهو تحت جحر وليِّه في نفسه وماله بنص القرآن، لو كان موجوداً يشهده العيان، لما جاز أن يكون هو إمام أهل الإيمان، فكيف إذا كان معدوماً أو مفقوداً مع طول هذه الغيبة؟!

والمرأة إذا غاب عنها وليُّها، زوَّجها الحاكم أو الولي الحاضر لئلا تفوت مصلحة المرأة بغيبة الوليِّ المعلوم الموجود، فكيف تضيع مصلحة الأمة مع طول هذه المدَّة، مع هذا الإمام المفقود؟!

( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 1 / 75-123).
***************
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 2008-07-13, 12:07 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

الشبهة(20): ادعاؤهم منع أبي بكر فاطمة ميراثها

والجواب من وجوه:

أحدها: أن ما ذكر من قول فاطمة – رضي الله عنها -: أترث أباك ولا أرث أبي؟ لا يُعلم صحته عنها، وإن صحّ فليس فيه حجة، لأن أباها صلوات الله عليه وسلامه لا يُقاس بأحد من البشر، وليس أبو بكر أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم [كأبيها]، ولا هو ممن حرَّم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها، ولا هو أيضاً ممن جعل الله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال، كما جعل أباها كذلك.

والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورِّثوا دنيا، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلَّفوها لورثتهم. وأما أبو الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يُقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوّته عن الشبهة، وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة.

الثاني: أن قوله: «والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها» كذب؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نُورَثُ ما تركنا فهو صدقة» رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد، مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث، فقول القائل: إن أبا بكر انفرد بالرواية، يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب.

الثالث: قوله «وكان هو الغريم [لها]» كذب، فإن أبا بكر – رضي الله عنه – لم يدع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته، وإنما هو صدقة لمستحقها، كما أن المسجد حق للمسلمين. [والعدل] لو شهد على رجل أنه وصَّى بجعل بيته مسجداً، أو بجعل بئره مسبلة، أو أرضه مقبرة، ونحو ذلك، جازت شهادته باتفاق المسلمين، وإن كان هو ممن يجوز له أن يصلي في المسجد، ويشرب من تلك البئر، ويدفن في تلك المقبرة. فإن هذا شهادة لجهة عامة غير محصورة، والشاهد دخل فيها بحكم العموم لا بحكم التعيين، ومثل هذا لا يكون خصماً.

ومثل هذا شهادة المسلم بحق لبيت المال مثل كون هذا الشخص لبيت المال عنده حق، وشهادته بأن هذا ليس له وارث إلا بيت المال، وشهادته على الذميّ بما يوجب نقض عهده وكون ماله فيئاً لبيت المال، ونحو ذلك.

ولو شهد عدل بأن فلاناً وقّف ماله على الفقراء والمساكين قُبلت شهادته، وإن كان [الشاهد] فقيراً.

الرابع: أن الصديق – رضي الله عنه – لم يكن من أهل هذه الصدقة، بل كان مستغنياً عنها، ولا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة؛ فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصَّى بصدقة للفقراء؛ فإن هذه شهادة مقبولة بالاتفاق.

الخامس: أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقُبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة، والمحدِّث إذا حدَّث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قُبلت روايته للحديث، لأن الرواية تتضمن حكماً عاماً يدخل فيه الراوي وغيره. وهذا من باب الخير، كالشهادة برؤية الهلال؛ فإن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم يتناول الراوي وغيره، وكذلك ما نهى عنه، وكذلك ما أباحه.

وهذا الحديث تضمَّن رواية بحكم شرعي، ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة – رضي الله عنها -، وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتِّهابه لذلك منهم، وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة.

السادس: أن قوله: «علي أن ما رووه فالقرآن يخالف ذلك، لأن الله تعالى قال: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [سورة النساء: 11] ولم يجعل الله ذلك خاصًّا بالأُمَّة دونه صلى الله عليه وسلم.

فيقال: أولاً : ليس في عموم لفظ الآية [ما يقتضي] أن النبي صلى الله عليه وسلم يورث، فإن الله تعالى قال: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ{ [سورة النساء: 11]، وفي الآية الأخرى: }وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ{ إلى قوله: }مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ{ [سورة النساء: 12]، وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بها.

و«كاف» الخطاب يتناول من قصده المخاطب، فإن لم يعلم أن المعين مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ، حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقاً لا تقبل التخصيص [فكيف بضمير المخاطب؟] فإنه لا يتناول إلا من قُصد بالخطاب دون من لم يُقصد. ولو قُدِّر أنه عام يقبل التخصيص، فإنه عام للمقصودين بالخطاب، وليس فيها ما يقتضي كون النبي صلى الله عليه وسلم من المخاطبين بهذا.

فإن قيل: هب أن [الضمائر] ضمائر التكلم والخطاب والغيبة لا تدل بنفسها على شيء بعينه، لكن بحسب ما يقترن بها؛ فضمائر الخطاب موضوعة لمن يقصده المخاطِب بالخطاب، وضمائر التكلم لمن يتكلم كائناً من كان. لكن قد عرف أن الخطاب بالقرآن هو للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جميعاً، كقوله تعالى: }كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ{ [سورة البقرة: 183] وقوله: }إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ{ [سورة المائدة: 6] ونحو ذلك. وكذلك قوله تعالى: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [سورة النساء: 11].

قيل: بل «كاف» الجماعة في القرآن تارة تكون للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وتارة تكون لهم دونه. كقوله تعالى: }وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ{ [سورة الحجرات: 7]؛ فإن هذه «الكاف» للأمة دون النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك قوله تعالى: }لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ{ [سورة التوبة: 128].

وكذلك قوله تعالى: }أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ{ [سورة محمد:33]، وقوله تعالى: }كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ{ [سورة آل عمران: 31] ونحو ذلك؛ فإن كان الخطاب في هذه المواضع لم يدخل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، بل تناولت من أُرسل إليهم. فلم لا يجوز أن تكون الكاف في قوله تعالى: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ{ [سورة النساء: 11] مثل هذه الكافات، فلا يكون في السنة ما يخالف ظاهر القرآن.

ومثل هذه الآية قوله تعالى: }وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا{ [سورة النساء: 3 – 4]، فإن الضمير هنا في «خفتم» و«تقسطوا» و«انكحوا» و«طاب لكم» و«ما ملكت أيمانكم» إنما يتناول الأمة دون نبيها صلى الله عليه وسلم، فإن [النبي صلى الله عليه وسلم] له أن يتزوج أكثر من أربع، وله أن يتزوج بلا مهر، كما ثبت ذلك بالنص والإجماع.

فإن قيل: ما ذكرتموه من الأمثلة فيها ما يقتضي اختصاص الأمة، فإنه لما ذكر ما يجب من طاعة الرسول وخاطبهم بطاعته ومحبته، وذكر بعثه إليهم، عُلم أنه ليس داخلاً في ذلك.

قيل: وكذلك آية الفرائض لما قال: }آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً{ [سورة النساء: 11]، وقال: }مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ{ [سورة النساء: 11]، ثم قال: }تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ{ [سورة النساء: 13- 14]، فلما خاطبهم بعدم الدراية التي لا تناسب حال الرسول، وذكر بعد هذا ما يجب عليهم من طاعته فيما ذكره من مقادير الفرائض، وأنهم إن أطاعوا الله ورسوله في هذه الحدود استحقوا الثواب، وإن خالفوا الله والرسول استحقُّوا العقاب، وذلك بأن يعطوا الوارث أكثر من حقه، أو يمنعوا الوارث ما يستحقه – دلّ ذلك على أن المخاطبين المسلوبين الدراية [لما ذكر]، الموعودين على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، المتوعدين على معصية الله ورسوله وتعدّى حدوده فيما قدره من المواريث وغير ذلك، لم يدخل فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كما لم يدخل في نظائرها.

ولما كان ما ذكره من تحريم تعدّى الحدود عقب ذكر الفرائض المحدودة، دلّ على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على ما قُدِّر له، ودلّ على أنه لا تجوز الوصية لهم، وكان هذا ناسخاً لما أُمر به أولاً من الوصية للوالدين والأقربين.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» رواه أهل السنن كأبي داود وغيره، [ورواه أهل السير]، واتفقت الأمة عليه، حتى ظن بعض الناس أن آية الوصية إنما نُسخت بهذا الخبر، لأنه لم ير بين استحقاق الإرث وبين استحقاق الوصية منافاة، والنسخ لا يكون إلا مع تنافي الناسخ والمنسوخ.

وأما السلف والجمهور فقالوا: الناسخ هو آية الفرائض، لأن الله تعالى قدَّر فرائض محدودة، ومنع من تعدّي حدوده، فإذا أعطى الميت لوارثه أكثر مما حدَّه الله له، فقد تعدّى حدّ الله، فكان ذلك محرّماً، فإن ما زاد على المحدود يستحقه غيره من الورثة أو العصبة، فإذا أخذ حق العاصب فأعطاه لهذا كان ظالماً له.

ولهذا تنازع العلماء فيمن ليس له عاصب: هل يردّ عليه أم لا؟ فمن منع الردّ قال: الميراث حق لبيت المال، فلا يجوز أن يعطاه غيره. ومن جوَّز الرد قال: إنما يوضع المال في بيت المال، لكونه ليس له مستحق خاص، وهؤلاء لهم رحم عام ورحم خاص، كما قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: «ذو السهم أَوْلى ممن لا سهم له».

والمقصود هنا أنه لا يمكنهم إقامة دليل على شمول الآية للرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً.

فإن قيل: فلو مات أحد من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم ورثه، كما ماتت بناته الثلاث في حياته، ومات ابنه إبراهيم؟

قيل: الخطاب في الآية للموروث دون الوارث، فلا يلزم إذا دخل أولاده في كاف الخطاب لكونهم موروثين أن يدخلوا إذا كانوا وارثين.

يوضح ذلك أنه قال: }وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ{ [سورة النساء: 11]، فذكره بضمير الغَيْبة لا بضمير الخطاب، وهو عائد على المخاطب بكاف الخطاب وهو الموروث، فكل من سوى النبي صلى الله عليه وسلم من أولاده وغيرهم موروثون شملهم النص وكان النبي صلى الله عليه وسلم وراثاً لمن خوطب، ولم يخاطب هو بأن يورث أحداً شيئاً، وأولاد النبي صلى الله عليه وسلم ممن شملهم كاف الخطاب فوصَّاهم بأولادهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ففاطمة – رضي الله عنها - وصَّاها الله في أولادها للذكر مثل حظ الأنثيين، ولأبويها لو ماتت في حياتهما لكل واحد منهما السدس.
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 2008-07-13, 12:08 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

فإن قيل: ففي آية الزوجين قال: (ولكم)، (ولهن).

قيل: أولاً: الرافضة يقولون: إن زوجاته لم يرثنه ولا عمه العباس، وإنما ورثته البنت وحدها.

الثاني: أنه بعد نزول الآية لم يُعلم أنه ماتت واحدة من أزواجه ولها مال حتى يكون وارثاً لها. وأما خديجة – رضي الله عنها – فماتت بمكة، وأما زينب بنت خزيمة الهلالية فماتت بالمدينة، لكن من أين نعلم أنها خلَّفت مالاً، وأن آية الفرائض كانت قد نزلت. فإن قوله تعالى: }وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ{ [سورة النساء: 12] إنما تناول من ماتت له زوجة ولها تركة، فمن لم تمت زوجته أو ماتت ولا مال لها لم يخاطب بهذه الكاف.

وبتقدير ذلك فلا يلزم من شمول إحدى الكافين له شمول الأخرى، بل ذلك موقوف على الدليل.

فإن قيل: فأنتم تقولون: إن ما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق أمته وبالعكس. فإن الله إذا أمره بأمر تناول الأمة، وإن ذلك قد عرف بعادة الشرع. ولهذا قال تعالى: }فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا{ [سورة الأحزاب: 37]، فذكر أنه أحل ذلك له، ليكون حلالاً لأمته. ولما خصّه بالتحليل قال: }وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ{ [سورة الأحزاب: 50] فكيف يقال إن هذه الكاف لم تتناوله؟

قيل: من المعلوم أن من قال ذلك قاله لما عرف من عادة الشارع في خطابه، كما يعرف من عادة الملوك إذا خاطبوا أميراً بأمر أن نظيره مخاطَب بمثل ذلك، فهذا يُعلم بالعادة والعرف المستقر في خطاب المخاطب، كما يُعلم معاني الألفاظ بالعادة المستقرة لأهل تلك اللغة: أنهم يريدون ذلك المعنى.

وإذا كان كذلك فالخطاب بصيغة الجمع قد تنوعت عادة القرآن فيها: تارة تتناول الرسول صلى الله عليه وسلم، وتارة لا تتناوله، فلا يجب أن يكون هذا الموضع مما تناوله، وغاية ما يدّعي المدّعي أن يقال: الأصل شمول الكاف له، كما يقول: الأصل مساواة أمته له في الأحكام، ومساواته لأمته في الأحكام، حتى يقوم دليل التخصيص. ومعلوم أن له خصائص كثيرة خُصَّ بها عن أمته. وأهل السنة يقولون: من خصائصه أنه لا يورث، فلا يجوز أن يُنكر اختصاصه بهذا الحكم إلا كما ينكر اختصاصه بسائر الخصائص، لكن للإنسان أن يطالب بدليل الاختصاص. ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة المستفيضة، بل المتواترة [عنه] في أنه لا يورث، أعظم من الأحاديث المروية في كثير من خصائصه، مثل اختصاصه بالفيء وغيره.

وقد تنازع السلف والخلف في كثير من الأحكام: هل هو من خصائصه؟ كتنازعهم في الفيء والخمس، هل كان ملكاً له أم لا؟ وهل أُبيح له من حُرِّم عليه من النساء أم لا؟

ولم يتنازع السلف في أنه لا يُورث، لظهور ذلك عنه واستفاضته في أصحابه. وذلك أن الله تعالى قال في كتابه: }يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ{ [سورة الأنفال: 1]، وقال في [كتابه]: }وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ{ [سورة الأنفال: 41]، وقال في كتابه: }مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ{ [سورة الحشر: 7]. ولفظ آية الفيء كلفظ آية الخمس، وسورة الأنفال نزلت بسبب بدر، فدخلت الغنائم في ذلك بلا ريب، وقد يدخل في ذلك سائر ما نفله الله للمسلمين من مال الكفار. كما أن لفظ «الفيء» قد يُراد به كل ما أفاء الله على المسلمين، فيدخل فيه الغنائم، وقد يختص ذلك بما أفاء الله عليهم مما لم يُوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.

ومن الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخُمُس، والخمس مردود عليكم». فلما أضاف هذه الأموال إلى الله والرسول رأى طائفة من العلماء أن [هذه] الإضافة تقتضي أن ذلك ملك للرسول صلى الله عليه وسلم كسائر أملاك الناس، ثم جعلت الغنائم بعد ذلك للغانمين، وخُمُسها لمن سمى، وبقي الفيء، أو أربعة أخماسه، ملكاً للرسول صلى الله عليه وسلم، كما يقول ذلك الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، وإنما ترددوا في الفيء، فإن عامة العلماء لا يخمِّسون الفيء، وإنما قال بتخميسه الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقي. وأما مالك وأبو حنيفة وأحمد وجمهور أصحابه وسائر أئمة المسلمين فلا يرون تخميس الفيء، وهو ما أُخذ من المشركين بغير قتال، كالجزية والخراج.

وقالت طائفة ثانية من العلماء: بل هذه الإضافة لا تقتضي أن تكون الأموال ملكاً للرسول، بل تقتضي أن يكون أمرها إلى الله والرسول، فالرسول ينفقها فيما أمره الله [به].

كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني والله لا أُعطي أحداً ولا أمنع أحداً، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت».

وقال أيضاً في الحديث الصحيح: «تسُّموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم أُقسم بينكم».

فالرسول مبلِّغ عن الله أمره ونهيه، فالمال المضاف إلى الله ورسوله، هو المال الذي يُصرف فيما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب، بخلاف الأموال التي ملَّكها الله لعباده، فإن لهم صرفها في المباحات.

ولهذا لما قال الله في المكاتبين:}وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ{ [سورة النور:33] ذهب أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما، إلى أن المراد: آتاكم [الله] من الأموال التي ملَّكها الله لعباده، فإنه لم يضفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما أضافه إلى الله والرسول، فإنه لا يُعطي إلا فيما أمر الله به ورسوله.

فالأنفال لله والرسول، لأن قسمتها إلى الله والرسول ليست كالمواريث التي قسمها الله بين المستحقين. وكذلك مال الخُمس ومال الفيء.

وقد تنازع العلماء في الخمس والفيء، فقال مالك [وغيره من العلماء]: مصرفهما واحد، وهو فيما أمر الله به ورسوله، وعيَّن ما عيَّنه من اليتامى والمساكين وابن السبيل تخصيصاً لهم بالذكر. وقد رُوي عن أحمد بن حنبل ما يوافق ذلك، وأنه جعل مصرف الخُمس من الركاز مصرف الفيء، وهو تبع لخمس الغنائم. وقال الشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة: الخمس يقسم على خمسة أقسام. وقال أبو حنيفة: على ثلاثة، فأسقط سهم الرسول وذوي القربى بموته صلى الله عليه وسلم. وقال داود بن على: بل مال الفيء [أيضاً] يُقسَّم [على خمسة أقسام]. والقول الأول أصح [الأقوال] كما قد بُسطت أدلته في غير هذا الموضع، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين.

فقوله: (لله وللرسول) في الخمس والفيء، كقوله في الأنفال: (لله والرسول) فالإضافة للرسول لأنه هو الذي يقسِّم هذه الأموال بأمر الله، ليست ملكاً لأحد. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إني والله لا أعطي أحداً ولا أمنع أحداً، وإنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت» يدل على أنه ليس بمالك للأموال، وإنما هو منفذ لأمر الله عز وجل فيها، وذلك لأن الله خيَّره بين أن يكون ملكاً نبيًّا وبين أن يكون عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، وهذا أعلى المنزلتين، فالملك يصرف المال فيما أحب ولا إثم عليه، والعبد الرسول لا يصرف المال إلا فيما أُمر به، فيكون فيما يفعله عبادة لله وطاعة له، ليس في قسمه ما هو من المباح الذي لا يُثاب عليه، بل يُثاب عليه كله.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» يؤيد ذلك، فإن قوله: «لي» أي أمره إليّ، ولهذا قال: «والخمس مردود عليكم». وعلى هذا الأصل فما كان بيده من أموال بني النضير وفَدَك وخُمس خيبر وغير ذلك، هي كلها من مال الفيء الذي لم يكن يملكه فلا يورث عنه، وإنما يورث عنه ما يملكه.

بل تلك الأموال يجب أن تُصرف فيما يحبه الله ورسوله من الأعمال. وكذلك قال [أبو بكر] الصديق – رضي الله عنه -. وأما ما قد يظن أن مَلَكَه، كمال أوصى له به [مخيريق] وسهمه من خيبر، فهذا إما أن يُقال: حُكمه حكم المال الأول، وإما أن يُقال: هو ملكه، ولكن حكم الله في حقه أن يأخذ من المال حاجته، وما زاد على ذلك يكون صدقة ولا يُورث.

كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة». وفي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث، ما تركناه فهو صدقة» أخرجه البخاري عن جماعة منهم أبو هريرة – رضي الله عنه-، ورواه مسلم عنه وعن غيره.
رد مع اقتباس
  #16  
قديم 2008-07-13, 12:08 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

يبيِّن ذلك أن هذا مذكور في سياق قوله تعالى: }وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا{ [ سورة النساء: 3، 4] إلى قولـه: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [ سورة النساء: 11].

ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب بهذا، فإنه ليس مخصوصاً بمثنى ولا ثلاث ولا رباع، بل له أن يتزوج أكثر من ذلك، ولا مأموراً بأن يوفِّي كل امرأة صداقها، بل له أن يتزوج من تهب نفسها له بغير صداق. كما قال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ{ [سورة الأحزاب: 50] إلى قوله: }وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا{ [سورة الأحزاب: 50].

وإذا كان سياق الكلام إنما هو خطاب للأمة دونه لم يدخل هو في عموم هذه الآية.

فإن قيل: بل الخطاب متناول له وللأمة في عموم هذه الآية، لكن خُصَّ هو من آية النكاح والصداق.

قيل: وكذلك خص من آية الميراث، فما قيل في تلك يقال مثله في هذه وسواء قيل: إن لفظ الآية شمله وخُصَّ منه، أو قيل: إنه لم يشمله لكونه ليس من المخاطبين: يقال مثله هنا.

السابع: أن يقال: هذه الآية لم يُقصد بها بيان من يورث [ومن لا يورث]، ولا بيان صفة الموروث والوارث، وإنما قُصد بها أن المال الموروث يقسم بين الوارثين على هذا التفصيل. فالمقصود هنا بيان مقدار أنصبة هؤلاء المذكورين إذا كانوا ورثة. ولهذا لو كان الميت مسلماً وهؤلاء كفّاراً لم يرثوا باتفاق المسلمين، وكذلك لو كان كافراً وهؤلاء مسلمين لم يرثوا بالسنة وقول جماهير المسلمين، وكذلك لو كان عبداً وهم أحرار، أو كان حرًّا وهم عبيد. وكذلك القاتل عمداً عند عامة المسلمين، وكذلك القاتل خطأ من الدية. وفي غيرها نزاع.

وإذا علم أن في الموتى من يرثه أولاده، وفيهم من لا يرثه أولاده، والآية لم تفصِّل: من يرثه ورثته ومن لا يرثه، ولا صفة الوارث والموروث، عُلم أنه لم يُقصد بها بيان ذلك، بل قُصد بها بيان حقوق هؤلاء إذا كانوا ورثة.

وحينئذ فالآية إذا لم تبيِّن من يورث ومن يرثه، لم يكن فيها دلالة على كون [غير] النبي صلى الله عليه وسلم يرث أو لا يورث، فلأن لا يكون فيها دلالة على كونه هو يورث بطريق الأَوْلَى والأحرى.

وهكذا كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العُشر، فيما سُقِيَ بالدوالي والنواضح فنصف العُشر» فإن قصد به الفرق بين ما يجب فيه العشر وبين ما يجب فيه نصف العشر، ولم يقصد به بيان ما يجب فيه أحدهما وما لا يجب واحد منهما، فلهذا لا يحتج بعمومه على وجوب الصدقة في الخضروات.

وقوله تعالى: }وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا{ [سورة البقرة: 275] قصد فيه الفرق بين البيع والربا: في أن أحدهما حلال والآخر حرام، ولم يقصد فيه بيان ما يجوز بيعه وما لا يجوز، فلا يُحتج بعمومه على جواز بيع كل شيء. ومن ظن أن قوله: }وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ{ يعم بيع الميتة والخنزير والخمر والكلب وأم الولد والوقف وملك الغير والثمار قبل بدو صلاحها ونحو ذلك – كان غالطاً.

الوجه الثامن: أن يقال: هب أن لفظ الآية عام، فإنه خصَّ منها الولد الكافر والعبد والقاتل بأدلة هي أضعف من الدليل الذي دلّ على خروج النبي صلى الله عليه وسلم منها؛ فإن الصحابة الذين نقلوا عنه أنه لا يورث أكثر وأجل من الذين نقلوا عنه أن المسلم لا يرث الكافر، وأنه ليس لقاتل ميراث، وأن من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.

وفي الجملة فإذا كانت الآية مخصوصة بنص أو إجماع، كان تخصيصها بنص آخر جائزاً باتفاق علماء المسلمين. بل قد ذهب طائفة إلى أن العام المخصوص يبقى مجملاً. وقد تنازع العلماء في تخصيص عموم القرآن إذا لم يكن مخصوصاً [بخبر الواحد]، فأما العام المخصوص فيجوز تخصيصه بخبر الواحد عند عوامهم، لاسيما الخبر المتلقى بالقبول؛ فإنهم متفقون على تخصيص عموم القرآن به.

وهذا الخبر تلقته الصحابة بالقبول، وأجمعوا على العمل به، كما سنذكره [إن شاء الله تعالى].

والتخصيص بالنص المستفيض والإجماع متفق عليه. ومن سلك هذا المسلك يقول: ظاهر الآية العموم، لكنه عموم مخصوص. ومن سلك المسلك الأول لم يسلم ظهور العموم إلا فيمن عُلم أن هؤلاء يرثونه، ولا يُقال: إن ظاهرها متروك، بل نقول: لم يُقصد بها إلا بيان نصيب الوارث، لا بيان الحال التي يثبت فيها الإرث، فالآية عامة في الأولاد والموتى، مطلقة في [الموروثين. وأما] شروط الإرث فلم تتعرض له الآية، بل هي مطلقة فيه: لا تدل عليه بنفي ولا إثبات.

كما في قوله تعالى:}فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ{ [سورة التوبة: 5] عام في الأشخاص، مطلق في المكان والأحوال. فالخطاب المقيِّد لهذا المطلق يكون خطاباً مبتدأً مبيِّناً لحكم شرعي لم يتقدم ما ينافيه، لا يكون رافعاً لظاهر خطاب شرعي، فلا يكون مخالفاً للأصل.

الوجه التاسع: أن يقال: كون النبي صلى الله عليه وسلم لا يُورث ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة، وكل منهما دليل قطعي، فلا يُعارض ذلك بما يُظن أنه عموم، وإن كان عموماً فهو مخصوص، لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلا ظنياً، فلا يعارض القطعي؛ إذ الظني لا يعارض القطعي.

وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره، بل كلهم تلقَّاه بالقبول والتصديق. ولهذا لم يُصرّ أحد من أزواجه على طلب الميراث، ولا أصرّ العم على طلب الميراث، بل من طلب من ذلك شيئاً فأُخبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم رجع عن طلبه. واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى عليّ، فلم يغير شيئاً من ذلك ولا قسم له تركة.

الوجه العاشر: أن يقال: إن أبا بكر وعمر قد أعطيا عليًّا وأولاده من المال أضعاف، أضعاف ما خلَّفه النبي صلى الله عليه وسلم من المال. والمال الذي خلّفه صلى الله عليه وسلم لم ينتفع واحد [منهما] منه بشيء، بل سلَّمه عمر إلى عليّ والعباس – رضي الله عنهم ـ يليانه ويفعلان فيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك.

الوجه الحادي عشر: أن يقال: قد جرت العادة بأن الظلمة من الملوك إذا تولوا بعد غيرهم من الملوك الذين أحسنوا إليهم أو ربُّوهم، وقد انتزعوا الملك من بيت ذلك الملك، استعطفوهم وأعطوهم ليكفُّوا عنهم منازعتهم، فلو قُدِّر – والعياذ بالله – أن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – متغلبان متوثِّبان، لكانت العادة تقضي بأن لا يزاحما الورثة المستحقين للولاية والتركة [في المال]، بل يعطيانهم ذلك وأضعافه ليكفوا عن المنازعة في الولاية. وأما منع الولاية والميراث بالكلية فهذا لا يُعلم أنه فعله أحد من الملوك، وإن كان من أظلم الناس وأفجرهم. فعُلم أن الذي فعلوه مع النبي صلى الله عليه وسلم أمر خارج عن العادة الطبيعية في الملوك، كما هو خارج عن العادات الشرعية في المؤمنين، وذلك لاختصاصه صلى الله عليه وسلم بما لم يخص الله به غيره من ولاة الأمور وهو النبوة، إذ الأنبياء لا يورثون.

الوجه الثاني عشر: أن قوله تعالى: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، وقوله تعالى [عن زكريا]: }فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 5، 6] لا يدل على محل النزاع؛ لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع، والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز. فإذا قيل: هذا حيوان، لا يدل على أنه إنسان أو فرس أو بعير.

وذلك أن لفظ «الإرث» يُستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال، قال تعالى: }ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا{ [سورة فاطر: 32].

وقال تعالى: }أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ [سورة المؤمنون: 10، 11].

وقال تعالى: }وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{ [الزخرف: 72].

وقال تعالى: }وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا{ [سورة الأحزاب: 27].

وقال تعالى: }إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{ [سورة الأعراف: 128].

وقال تعالى: }وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا{ [سورة الأعراف: 137].

وقال تعالى: }وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ{ [سورة الأنبياء: 105].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه أبو داود وغيره.

وهكذا لفظ «الخلافة» ولهذا يقال: الوارث خليفة الميت، أي خلفه فيما تركه. والخلافة قد تكون في المال، وقد تكون في الملك، وقد تكون في العلم، وغير ذلك.

وإذا كان كذلك فقوله تعالى: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، وقوله: }يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 6] إنما يدل على جنس الإرث، لا يدل على إرث المال. فاستدلال المستدل بهذا الكلام على خصوص إرث المال جهل منه بوجه الدلالة، كما لو قيل: هذا خليفة هذا، وقد خلفه – كان دالاً على خلافة مطلقة، لم يكن فيها ما يدل على أنه خلفه في ماله أو امرأته أو ملكه أو غير ذلك من الأمور.
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 2008-07-13, 12:09 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

الوجه الثالث عشر: أن يقال: المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك لا إرث المال. وذلك لأنه قال: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، ومعلوم أن داود كان له أولاد كثيرون غير سليمان، فلا يختص سليمان بماله.

وأيضاً فليس في كونه ورث ماله صفة مدح، لا لداود ولا لسليمان، فإن اليهودي والنصراني يرث أباه ماله، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان، وما خصّه الله به من النعمة.

وأيضاً فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس، كالأكل، والشرب، ودفن الميت. ومثل هذا لا يُقصُّ عن الأنبياء إذ لا فائدة فيه، وإنما يُقص ما فيه عبرة وفائدة تُستفاد، وإلا فقول القائل: «مات فلان وورث ابنُه ماله» مثل قوله: «ودفنوه» ومثل قوله: «أكلوا وشربوا وناموا» ونحو ذلك مما لا يحسن أن يُجعل من قصص القرآن.

وكذلك قوله [عن زكريا]: }يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 6] [ليس المراد به إرث المال؛ لأنه لا يرث من آل يعقوب شيئاً من] أموالهم بل إنما يرثهم ذلك أولادهم وسائر ورثتهم لو ورثوا، ولأن النبي لا يطلب ولداً ليرث ماله؛ فإنه لو كان يورث لم يكن بد من أن ينتقل المال إلى غيره: سواء كان ابناً أو غيره، فلو كان مقصوده بالولد أن يرث ماله، كان مقصوده أنه لا يرثه أحد غير الولد.

وهذا لا يقصده أعظم الناس بخلاً وشحًّا على من ينتقل إليه المال، فإنه لو كان الولد موجوداً وقصد إعطاء الولد وأما إذا لم يكن له ولد، وليس مراده بالولد إلا أن يحوز المال دون غيره، كان المقصود أن لا يأخذ أولئك المال، وقصد الولد بالقصد الثاني، وهذا يقبح نم أقل الناس عقلاً وديناً.

وأيضاً فزكريا - عليه السلام - لم يُعرف له مال، بل كان نجاراً. ويحيى ابنه - عليه السلام – كان من أزهد الناس.

وأيضاً فإنه قال: }وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي{ [سورة مريم: 5] ومعلوم أنه لم يخف أن يأخذوا ماله [من بعده] إذا مات، فإن هذا ليس بمخوف.

فصل

قال الرافضي: «ولما ذكرت فاطمة أن أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبها فدك قال [لها]: هات أسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأم أيمن، فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يقبل قولها. وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة، فجاء أمير المؤمنين فشهد لها بذلك، فقال: هذا بعلك يجرّه إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لكِ وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور [معه] حيث دار لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فغضبت فاطمة – عليها السلام – عند ذلك وانصرفت، وحلفت أن لا تكلمه ولا تصاحبه حتى تلقى أباها وتشكو إليه، فلما حضرتها الوفاة أوصت عليًّا أن يدفنها ليلاً ولا يدع أحداً منهم يصلِّي عليها، وقد رووا جميعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا فاطمة! إن الله تعالى يغضب لغضبك ويرضى لرضاك. ورووا جميعاً [أنه قال]: فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله. ولو كان هذا الخبر صحيحاً حقًّا لما جاز له ترك البغلة التي خلَّفها النبي صلى الله عليه وسلم وسيفه وعمامته عند أمير المؤمنين عليّ، ولما حكم له بها لما ادّعاها العباس، ولكان أهل البيت الذين طهّرهم الله في كتابه من الرجس مرتكبين ما لا يجوز، لأن الصدقة عليهم محرَّمة. وبعد ذلك جاء إليه مال البحرين وعنده جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي: «إذا أتى مال البحرين حثوت لك، ثم حثوت لك، [ثلاثاً]، فقال له: تقدم فخذ بعددها، فأخذ [من بيت] مال المسلمين من غير بيِّنة بل بمجرد قوله».

والجواب: أن في هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفة، ولكن سنذكر من ذلك وجوهاً [إن شاء الله تعالى].

أحدها: أن ما ذكر من ادّعاء فاطمة – رضي الله عنها – فَدَك فإن هذا يناقض كونها ميراثاً لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت، فرسول الله صلى الله عليه وسلم منزّه، إن كان يُورث كما يورث غيره، أن يوصي لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئاً حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي صلى الله عليه وسلم فَدَك لفاطمة ولا يكون هذا أمراً معروفاً عند أهل بيته والمسلمين، حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي رضي الله عنهما؟

الوجه الثاني: أن ادّعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة، [وقد قال الإمام أبو العباس بن سريج في الكتاب الذي صنَّفه في الرد على عيسى بن أبان لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد، واحتجّ بما احتجّ، وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان، قال: وأما حديث البحتري بن حسَّان عن زيد بن عليّ أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها فَدَك، وأنها جاءت برجل وامرأة، فقال: رجل مع رجل، وامرأة مع امرأة، فسبحان الله ما أعجب هذا‍ قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله عليه وسلم أنه قال: لا نُورث، وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادّعتها بغير الميراث، ولا أن أحداً شهد بذلك.

ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فَدَك: «إن فاطمة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها لها فأبى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق منها ويعود على ضَعَفَة بني هاشم ويزوّج منه أَيِّمَهُمْ، وكانت كذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق، وإني أُشهدكم أني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم».

ولم يُسمع أن فاطمة – رضي الله عنها – ادّعت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها إياها في حديث ثابت متصل، ولا أن شاهداً شهد لها. ولو كان ذلك لحُكي، لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه، فلم يقل أحد من المسلمين: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة تدّعيها حتى جاء البحتري بن حسَّان يحكي عن زيد شيئاً لا ندري ما أصله، ولا من جاء به، وليس من أحاديث أهل العلم: فضل بن مرزوق عن البحتري عن زيد، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له، وكان الحديث قد حسن بقول زيد: لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبو بكر. وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا على فاطمة لو لم يخالفه أحد، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية، فكيف وقد جاءت؟ وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال أبو بكر بخلافه، إن هذا من أبي بكر - رحمه الله - كنحو ما كان منه في الجدّة، وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه.

ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة، لأن فاطمة لم تقل: إني أحلف مع شاهدي فمنعت. ولم يقل أبو بكر: إني لا أرى اليمين مع الشاهد.

قالوا: وهذا الحديث غلط؛ لأن أسامة بن زيد يروي عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحَدَثَان، قال: كان مما احتج به عمر أن قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك. فأما بنو النضير فكانت حُبساً لنوائبه. وأما فَدَك فكانت حُبُساً لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزَّأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزئين بين المسلمين، وجزءً نفقة لأهله، فما فَضَلَ عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين جزئين.

وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عُروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفَدَك وما بقي من خُمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نُورَث ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإني والله لا أغيّر شيئاَ من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.

ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: حدثني عُروة: أن عائشة أخبرته بهذا الحديث. قال: وفاطمة – رضي الله عنها – حينئذ تطلب صدقة رسول الله التي بالمدينة وفَدَك وما بقي من خًمس خيبر. قالت عائشة: فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد في هذا المال، يعني مال الله - عز وجل -، ليس لهم أن يزيدوا على المال.

ورواه صالح عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة قالت فيه: فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاَ من أمره أن أزيغ. فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعباس، فغلب عليّ عليها. وأما خيبر وفَدَك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرها إلى من وَلِيَ الأمر. قال: فهما على ذلك إلى اليوم.

فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم، وفيها ما يبيّن أن فاطمة – رضي الله عنها – طلبت ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت تعرف من المواريث، فأُخبرت بما كان من رسول الله فسلّمت ورجعت، فكيف تطلبها ميراثاً وهي تدّعيها مِلْكاً بالعطيّة؟ هذا ما لا معنى فيه. وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يتدبّر، ولا نحتج بما يوجد في الأحاديث الثابتة لرده وإبانة الغلط فيه، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم.

وقد روي عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه إني أقرأ مثل ما قرأت ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله. قالت فاطمة: هو لك ولقرابتك؟ قال: لا وأنت عندي مصدَّقة أمينة، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك في هذا، أو وعدك فيه موعداً أو أوجبه لكم حقًّا صدَّقتك. فقالت: لا غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أُنزل عليه: «أبشروا يا آل محمد وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى». قال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقت، فلكم الفيء، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن استلم هذا السهم كله كاملاً إليكم، ولكن الفيء الذي يسعكم. وهذا يبيّن أن أبا بكر كان يقبل قولها، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة؟ ولكنه يتعلق بكل شيء يجده.

الوجه الثالث: أن يقال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يورث فالخصم في ذلك أزواجه وعمه، ولا تُقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق المسلمين، وإن كان لا يُورث فالخصم في ذلك المسلمون، فكذلك لا يقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد باتفاق المسلمين، ولا رجل وامرأة. نعم يُحكم في [مثل] ذلك بشهادة ويمين الطالب عند فقهاء الحجاز [وفقهاء أصحاب] الحديث. وشهادة الزوج لزوجته فيها قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا تُقبل، وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق وغيرهم.

والثانية: تُقبل، وهي مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم. فعلى هذا لو قُدِّر صحة هذه القصة لم يجز للإمام أن يحكم بشهادة رجل واحد ولا امرأة واحدة باتفاق المسلمين، لاسيما وأكثرهم يجيزون شهادة الزوج، ومن هؤلاء من لا يحكم بشاهد ويمين، ومن يحكم بشاهد ويمين لم يُحكم للطالب حتى يحلّفه.

الوجه الرابع: قوله: «فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يُقبل قولها. وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أم أيمن امرأة من أهل الجنة».

الجواب: أن هذا احتجاج جاهل مفرط في الجهل يريد أن يحتج لنفسه فيحتج عليها، فإن هذا القول لو قاله الحجَّاج بن يوسف والمختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقًّا، فإن امرأة واحدة لا يقبل قولها في الحكم بالمال لمدعٍ يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره، فكيف إذا حُكي مثل هذا عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؟!

وأما الحديث الذي ذكره وزعم أنهم رووه جميعاً، فهذا الخبر لا يعرف في شيء من دواوين الإسلام ولا يُعرف عالم من علماء الحديث رواه. وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد، وهي حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من المهاجرات، ولها حق وحرمة، لكن الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون بالكذب عليه وعلى أهل العلم. وقول القائل: «رووا جميعاً» لا يكون إلا في خبر متواتر، فمن ينكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يُورث، وقد رواه أكابر الصحابة، ويقول: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث، إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحداً للحق.


وبتقدير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنها من أهل الجنة، فهو كإخباره عن غيرها أنه من أهل الجنة، وقد أخبر عن كل واحد من العشرة أنه في الجنة، وقد قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» وهذا الحديث في الصحيح ثابت عند أهل العلم بالحديث، وحديث الشهادة لهم بالجنة رواه أهل السنن من غير وجه، من حديث عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد. فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم بالحديث. ثم هؤلاء يكذِّبون من عُلِمَ أن الرسول شهد لهم بالجنة، وينكرون عليهم كونهم لم يقبلوا شهادة امرأة زعموا أنه شهد لها بالجنة، فهل يكون أعظم من جهل هؤلاء وعنادهم؟!

ثم يُقال: كون الرجل من أهل الجنة لا يوجب قبول شهادته، لجواز أن يغلط في الشهادة. ولهذا لو شهدت خديجة وفاطمة وعائشة ونحوهن، ممن يُعلم أنهن من أهل الجنة، لكانت شهادة إحداهن نصف شهادة رجل، كما حكم بذلك القرآن. كما أن ميراث إحداهن نصف ميراث رجل، وديَّتها نصف ديّة رجل. وهذا كله باتفاق المسلمين، فكون المرأة من أهل الجنة لا يُوجب قبول شهادتها لجواز الغلط عليها، فكيف وقد يكون الإنسان ممن يكذب ويتوب من الكذب ثم يدخل الجنة؟

الوجه الخامس: قوله: «إن عليًّا شهد لها فردّ شهادته لكونه زوجها» فهذا مع أنه كذب لو صح ليس يقدح، إذ كانت شهادة الزوج مردودة عند أكثر العلماء، ومن قبلها منهم لم يقبلها حتى يتم النصاب إما برجل آخر وإما بامرأة مع امرأة، وأما الحكم بشهادة رجل وامرأة مع عدم يمين المدّعي فهذا لا يسوغ.

الوجه السادس: قولهم: إنهم رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور حيث دار، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» من أعظم الكلام كذباً وجهلاً، فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. فكيف يقال: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث؟ وهل يكون أكذب ممن يروي عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثاً، والحديث لا يعرف عن واحد منهم أصلاً؟ بل هذا من أظهر الكذب. ولو قيل: رواه بعضهم، وكان يمكن صحته لكان ممكناً، فكيف وهو كذب قطعاً على ا لنبي صلى الله عليه وسلم؟!.

بخلاف إخباره أن أيمن في الجنة، فهذا يمكن أنه قاله، فإن أم أيمن امرأة صالحة من المهاجرات، فإخباره أنها في الجنة لا يُنكر، بخلاف قوله عن رجل من أصحابه أنه مع الحق [وأن الحق] يدور معه حيثما دار لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض؛ فإنه كلام ينزَّه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما أولاً: فلأن الحوض إنما يَرِدُه عليه أشخاص، كما قال للأنصار: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض» وقال: «إن حوضي لأبعد ما بين أيلة إلى عدن، وإن أول الناس وروداً فقراء المهاجرين الشعث رؤوساً الدنس ثياباً الذين لا ينكحون المتنعّمات ولا تفتح لهم أبواب السدد، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يجد لها قضاء» رواه مسلم وغيره.

وأما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض. وقد رُوي [نه قال]: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض». فهو من هذا النمط وفيه كلام يذكر في موضعه [إن شاء الله].

ولو صح هذا لكان المراد به ثواب القرآن. أما الحق الذي يدور مع شخص ويدور الشخص معه فهو صفة لذلك الشخص لا يتعداه ومعنى ذلك أن قوله صِدْقٌ وعمله صالح، ليس المراد به أن غيره لا يكون معه شيء من الحق.
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 2008-07-13, 12:09 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

وأيضاً فالحق لا يدور مع شخص غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولو دار الحق مع عليّ حيثما دار لوجب أن يكون معصوماً كالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم من جهلهم يدَّعون ذلك، ولكن من عُلم أنه لم يكن بأَوْلى بالعصمة من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وليس فيهم من هو معصوم، عُلم كذبهم، وفتاويه من جنس فتاوى عمر وعثمان ليس هو أَوْلى بالصواب منهم، ولا في أقوالهم من الأقوال المرجوحة أكثر مما في قوله، ولا كان ثناء النبي صلى الله عليه وسلم ورضاه عنه بأعظم من ثنائه عليهم ورضائه عنهم، بل لو قال القائل: إنه لا يعرف من النبي صلى الله عليه وسلم أنه عتب على عثمان في شيء، وقد عتب على عليّ في غير موضع لما أَبْعَدَ، فإنه لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل اشتكته فاطمة لأبيها وقالت: إن الناس يقولون إنك لا تغضب لبناتك، فقام [رسول الله صلى الله عليه وسلم] خطيباً وقال: «إن بني المغيرة استأذنوني أن يزوِّجوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، وإني لا آذن ثم لا آذن، ثم لا آذن: إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم، فإنما فاطمة بضعة مني [يريبني ما رابها] ويؤذيني ما آذاها» ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فقال: «حدثني فصدَّقني ووعدني فوفى لي» والحديث ثابت صحيح أخرجاه في الصحيحين.

وكذلك في الصحيحين لما طرقه وفاطمة ليلاً، فقال: «ألا تصليان؟» فقال له عليّ: إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانطلق وهو يضرب فخذه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً».

وأما الفتاوى فقد أفتى بأن المتوفى عنها زوجها وهي حامل تعتد أبعد الأجلين، وهذه الفتيا كان قد أفتى بها أبو السنابل بن بعكك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذب أبو السنابل» وأمثال ذلك كثير. ثم بكل حال فلا يجوز أن يحكم بشهادته وحده، كما لا يجوز له أن يحكم لنفسه.

الوجه السابع: أن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يليق بها، ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهل يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها؛ فإنه ليس فيما ذكره ما يوجب الغضب عليه، إذ لم يحكم – لو كان ذلك صحيحاً – إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه. ومن طلب أن يُحكم له بغير حكم الله ورسوله فغضب وحلف أن لا يكلم الحاكم ولا صاحب الحاكم، لم يكن هذا مما يُحْمد عليه ولا مما يذم به الحاكم، بل هذا إلى أن يكون جرحاً أقرب منه إلى أن يكون مدحاً. ونحن نعلم أن ما يُحكى عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين. وإذا كان بعضها ذنباً فليس القوم معصومين، بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم. وكذلك ما ذكره من حلفها أنها لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشتكي إليه، أمر لا يليق أن يُذكر عن فاطمة – رضي الله عنها -؛ فإن الشكوى إنما تكون إلى الله تعالى، كما قال العبد الصالح: }إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ{ [سورة يوسف: 86]، وفي دعاء موسى - عليه السلام -: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»، ولم يقل: سلني ولا استعن بي.

وقد قال تعالى: }فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ{ [سورة الشرح: 7، 8].

ثم من المعلوم لكل عاقل أن المرأة إذا طلبت مالاً من ولي أمر فلم يعطها [إياه] لكونها لا تستحقه عنده، وهو لم يأخذه ولم يعطه لأحد من أهله ولا أصدقائه، بل أعطاه لجميع المسلمين، وقيل: إن الطالب غضب على الحاكم – كان غاية ذلك أنه غضب لكونه لم يعطه مالاً، وقال الحاكم: إنه لغيرك لا لك، فأي مدح للطالب في هذا الغضب؟ لو كان مظلومًا محضًا لم يكن غضبه إلا للدنيا. وكيف والتهمة عن الحاكم الذي لا يأخذ لنفسه أبعد من التهمة عن الطالب الذي يأخذ لنفسه، فكيف تحال التهمة على من لا يطلب لنفسه مالاً، ولا تحال على من يطلب لنفسه المال؟

وذلك الحاكم يقول: إنما أمنع لله؛ لأني لا يحل لي أن آخذ المال من يستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه، والطالب يقول: إنما أغضب لحظي القليل من المال. أليس من يذكر [مثل] هذا عن فاطمة ويجعله من مناقبها جاهلاً؟!

أوليس الله قد ذم المنافقين الذين قال فيهم: }وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ{ [سورة التوبة: 58، 59] فذكر الله قوماً رضوا إن أُعطوا، وغضبوا إن لم يعطوا، فذمهم بذلك، فمن مدح فاطمة بما فيه شبه من هؤلاء ألا يكون قادحاً فيها؟ فقاتل الله الرافضة، وانتصف لأهل البيت منهم؛ فإنهم ألصقوا بهم من العيوب والشين ما لا يخفى على ذي عين.

ولو قال قائل: فاطمة لا تطلب حقها، لم يكن هذا بأولى من قول القائل: أبو بكر لا يمنع يهوديًّا ولا نصرانيًّا حقه فكيف يمنع سيدة نساء العالمين حقها؟ فإن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قد شهدا لأبي بكر أنه ينفق ماله لله، فكيف يمنع الناس أموالهم؟ وفاطمة – رضي الله عنها - قد طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم مالاً، فلم يعطها إياه. كما ثبت في الصحيحين عن عليّ – رضي الله عنه – في حديث الخادم لما ذهبت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فلم يعطها خادماً وعلَّمها التسبيح. وإذا جاز أن تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ما يمنعها [النبي صلى الله عليه وسلم] إياه ولا يجب عليه أن يعطيها إياه، جاز أن تطلب ذلك من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعُلم أنها ليست معصومة أن تطلب ما لا يجب إعطاؤها إياه. وإذا لم يجب عليه الإعطاء لم يكن مذموماً بتركه ما ليس بواجب وإن كان مباحاً. فأما إذا قدّرنا أن الإعطاء ليس بمباح، فإنه يستحق أن يُحمد على المنع. وأما أبو بكر فلم يُعلم أنه منع أحداً حقه، ولا ظلم أحد حقه: لا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعد موته.

وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تُدفن ليلاً ولا يُصلِّي عليها أحد منهم، لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجلٌ جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها، وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أَوْلى منه بالسعي المشكور، فإن صلاة المسلم على غيره زيادة خير تصل إليه، ولا يضر أفضل الخلق أن يصلي عليه شر الخلق، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي [ويسلم عليه] الأبرار والفجار بل والمنافقون، وهذا إن لم ينفعه لم يضره، وهو يعلم أن في أمته منافقين، ولم ينه أحداً من أمته عن الصلاة عليه، بل أمر الناس كلهم بالصلاة والسلام عليه، مع أن فيهم المؤمن والمنافق، فكيف يُذكر في معرض الثناء عليها والاحتجاج لها مثل هذا الذي لا يحكيه ولا يحتج به إلا مفرط في الجهل، ولو وصَّى موصٍ بأن المسلمين لا يصلون عليه لم تنفَّذ وصيته، فإن صلاتهم عليه خيرٌ له بكل حال.

ومن المعلوم أن إنساناً لو ظلمه ظالم، فأوصى بأن لا يصلِّي عليه ذلك الظالم، لم يكن هذا من الحسنات التي يُحمد عليها، ولا هذا مما أمر الله به ورسوله. فمن يقصد مدح فاطمة وتعظيمها، كيف يذكر مثل هذا الذي مدح فيه، بل المدح في خلافه، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع؟!.

وأما قوله: «ورووا جميعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا فاطمة! إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» فهذا كذب منه، ما رووا هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة، ولا له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا صحيح ولا حسن. ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة، وبأن الله يرضى عنها، فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن [بن عوف] بذلك نشهد، ونشهد بأن الله تعـالى أخبر برضاه عنهم في غـير مـوضع، كقـوله تعـالى: }وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ{ [سورة التوبة: 100]، وقوله تعالى: }لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ{ [سورة الفتح: 18]. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راضٍ، ومن رضي الله عنه ورسوله لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائناً من كان، بل من رضي الله عنه ورضي عن الله، يكون رضاه موافقاً لرضا الله، فإن الله راضٍ عنه، فهو موافق لما يرضي الله، وهو راضٍ عن الله، فحكم الله موافق لرضاه، وإذا رضوا بحكمه غضبوا لغضبه، فإن من رضي بغضب غيره لزم أن يغضب لغضبه، فإن الغضب إذا كان مرضياً لك، فعلت ما هو مرضٍ لك، وكذلك الرب [تعالى – وله المثل الأعلى] – إذا رضي عنهم غضب لغضبهم، إذ هو راضٍ بغضبهم.

وأما قوله: «رووا جميعاً أن فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني، ومن آذاني آذى الله» فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ، بل [روي] بغيره، كما روي في سياق حديث خطبة عليّ لابنة أبي جهل، لما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، إلا أن يريد أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم» وفي رواية: «إني أخاف أن تفتن في دينها» ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فأثنى عليه مصاهرته إياه فقال: «حدَّثني فصدقني، ووعدني فوفى لي. وإني لست أحلّ حراماً، ولا أحرم حلالاً، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً» رواه البخاري ومسلم [في الصحيحين] من رواية عليّ بن الحسين والمسور بن مخرمة، فسبب الحديث خِطبة علي – رضي الله عنه – لابنة أبي جهل، والسبب داخل في اللفظ قطعاً، إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق.

وقد قال في الحديث: «يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» ومعلوم قطعاً أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها، والنبي صلى الله عليه وسلم رابه ذلك وآذاه، فإن كان هذا وعيداً لاحقاً بفاعله، لزم أن يلحق هذا الوعيد عليَّ بن أبي طالب، وإن لم يكن وعيداً لاحقاً بفاعله، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من عليّ.

وإن قيل: إن عليًّا تاب من تلك الخطبة ورجع عنها.

قيل: فهذا يقتضي أنه غير معصوم. وإذا جاز أن من راب فاطمة وآذاها، يذهب ذلك بتوبته، جاز أن يذهب بغير ذلك من الحسنات الماحية، فإن ما هو أعظم من هذا الذهب تذهبه الحسنات الماحية والتوبة والمصائب المكفِّرة.

وذلك أن هذا الذنب ليس من الكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة، ولو كان كذلك لكان عليٌّ – والعياذ بالله – قد ارتد عن [دين] الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن الله تعالى نزَّه عليًّا من ذلك والخوارج الذين قالوا: إنه ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقولوا: إنه ارتد في حياته، ومن ارتد فلا بد أن يعود على الإسلام أو يقتله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يقع. وإذا كان هذا الذنب هو مما دون الشرك فقد قال تعالى: }إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء{ [سورة النساء: 48].

وإن قالوا بجهلهم: إن هذا الذنب كفر ليكفِّروا بذلك أبا بكر، لزمهم تكفير عليّ، واللازم باطل فالملزوم مثله. وهم دائماً: يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان، بل ويكفِّرونهم بأمور قد صدر من عليّ ما هو مثلها أو أبعد عن العذر منها، فإن كان مأجوراً أو معذوراً فهم أَوْلى بالأجر والعذر، وإن قيل باستلزام الأمر الأخف فسقاً أو كفراً، كان استلزام الأغلظ لذلك أَوْلى.

وأيضاً فيقال: إن فاطمة – رضي الله عنها – إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها، فإذا دار الأمر بين أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب. وهذا حال أبي بكر وعمر، فإنهما احترزا عن أن يؤذيا أباها أو يريباه بشيء، فإنه عهد عهداً وأمر بأمر، فخافا إن غيّرا عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره وعهده ويتأذى بذلك. وكل عاقل يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم، وطلب فاطمة أو غيرها ما يخالف ذلك الحكم، كان مراعاة حكم النبي صلى الله عليه وسلم أََوْلى، فإن طاعته واجبة، ومعصيته محرّمة، ومن تأذَّى لطاعته كان مخطئاً في تأذِّيه بذلك، وكان الموافق لطاعته مصيباً في طاعته. وهذا بخلاف من آذاها لغرض نفسه لا لأجل طاعة الله ورسوله.
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 2008-07-13, 12:10 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

ومن تدبَّر حال أبي بكر في رعايته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما قصد طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا أمراً آخر يحكم أن حاله أكمل وأفضل [وأعلى] من حال عليّ – رضي الله عنهما -، وكلاهما سيد كبير من أكابر أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، [وعباد الله الصالحين]، ومن السابقين الأوَّلين، ومن أكابر المقربين، الذين يشربون بالتسنيم. ولهذا كان أبو بكر – رضي الله عنه – يقول: «والله لَقَرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليَّ أن أصلْ من قرابتي». وقال: «ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته» رواه البخاري عنه.

لكن المقصود أنه لو قُدِّر أن أبا بكر آذاها، فلم يؤذها لغرض نفسه بل ليطيع الله ورسوله، ويوصِّل الحق إلى مستحقه. وعليٌّ – رضي الله عنه – كان قصده أن يتزوج عليها، فله في أذاها غرض، بخلاف أبي بكر. فعُلم أن أبا بكرٍ كان أبعد أن يُذمَّ بأذاها من عليّ، وأنه إنما قصد طاعة الله ورسوله بما لاحظ له فيه، بخلاف عليّ؛ فإنه كان له حظ فيما رابها به. وأبو بكر كان من جنس من هاجر إلى الله ورسوله، وهذا لا يشبه من كان مقصوده امرأة يتزوجها. والنبي صلى الله عليه وسلم يؤذيه ما يؤذي فاطمة إذا لم يعارض ذلك أمر الله تعالى، فإذا أمر الله تعالى بشيء فعله، وإن تأذَّى من تأذَّى من أهله وغيرهم، وهو في حال طاعته لله يؤذيه ما يعارض طاعة الله ورسوله. وهذا الإطلاق كقوله: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني» ثم قد بيّن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف». فإذا كانت طاعة أمرائه أطلقها ومراده بها الطاعة في المعروف، فقوله: «من آذاها فقد آذاني» يحمل على الأذى في المعروف بطريق الأَوْلى والأحرى، لأن طاعة أمرائه فرض، وضدها معصية كبيرة. وأما فعل ما يؤذي فاطمة فليس هو بمنزلة معصية أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لزم أن يكون عليّ قد فعل ما هو أعظم من معصية الله ورسوله، فإن معصية أمرائه معصيته، ومعصيته معصية الله. ثم إذا عارض معارض وقال: أبو بكر وعمر وليا الأمر، والله قد أمر بطاعة أولي الأمر، وطاعة ولي الأمر طاعة لله ومعصيته معصية لله، فمن سخط أمره وحكمه فقد سخط أمر الله وحكمه.

ثم أخذ يشنِّع على عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – بأنهما ردّا أمر الله، وسخطا حكمه، وكرها ما أرضى الله، لأن الله يرضيه طاعته وطاعة ولي الأمر، فمن كره طاعة ولي الأمر فقد كره رضوان الله، والله يسخط لمعصيته، ومعصية ولي الأمر معصيته، فمن اتّبع معصية ولي الأمر فقد اتبع ما أسخط الله وكره رضوانه. وهذا التشنيع ونحوه على عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر، وذلك لأن النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة ولاة الأمور، ولزوم الجماعة، والصبر على ذلك مشهورة كثيرة، بل لو قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة ولاة الأمور وإن استأثروا، والصبر على جَوْرهم، وقال: «إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» وقال: «أدُّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم» وأمثال ذلك. فلو قُدِّر أن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – كانا ظالمين مستأثرين بالمال لأنفسهما، لكان الواجب مع ذلك طاعتهما والصبر على جورهما.

ثم لو أخذ هذا القائل يقدح في عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – ونحوهما بأنهم لم يصبروا ولم يلزموا الجماعة، بل جزعوا وفرَّقوا الجماعة، وهذه معصية عظيمة – لكانت هذه الشناعة أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما -، فإن أبا بكر وعمر لا تقوم حجة بأنهما تركا واجباً، ولا فعلا محرماً أصلاً، بخلاف غيرهما، فإنه قد تقوم الحجة بنوع من الذنوب التي لم يفعل مثلها أبو بكر ولا عمر. وما ينزَّه علي وفاطمة – رضي الله عنهما - عن ترك واجب أو فعل محظور، إلا وتنزيه أبي بكر وعمر أَوْلى بكثير، ولا يمكن أن تقوم شبهة بتركهما واجباً أو تعدّيهما حدًّا، إلا والشبهة التي تقوم في عليّ وفاطمة أقوى وأكبر، فطلب الطالب مدح عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما - إما بسلامتهما من الذنوب، وإما بغفران الله لهما، مع القدح في أبي بكر وعمر بإقامة الذنب والمنع من المغفرة، من أعظم الجهل والظلم، وهو أجهل وأظلم ممن يريد مثل ذلك في عليّ ومعاوية – رضي الله عنهما -، إذا أراد مدح معاوية – رضي الله عنه -، والقدح في عليّ – رضي الله عنه -.

الوجه الثامن: أن قوله: «لو كان هذا الخبر صحيحاً حقًّا لما جاز له ترك البغلة والسيف والعمامة عند عليّ والحكم له بها لما ادّعاها العباس».

فيقال: ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لأحد، أو تركا ذلك عند أحد، على أن ذلك ملك له، فهذا من أبْيَن الكذب عليهما، بل غاية ما في هذا أن يُترك عند ما يُترك عنده، كما تركا صدقته عند عليّ والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية.

وأما قوله: «ولكان أهل البيت الذين طهَّرهم الله في كتابه مرتكبين ما لا يجوز».

فيقال له: أولاً إن الله لم يخبر أنه طهَّر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس، فإن هذا كذب على الله. كيف ونحن نعلم أن في بني هاشم من ليس بمطهّر من الذنوب، ولا أذهب عنهم الرجس، لاسيما عند الرافضة، فإن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – فليس بمطهَّر، والآية إنما قال فيها: }إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ{ [سورة الأحزاب: 33]. وقد تقدم أن هذا مثل قوله: }مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{ [سورة المائدة:6]، وقوله: }يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ{ [سورة النساء: 26]، ونحو ذلك مما فيه بيان أن الله يحب ذلك لكم، ويرضاه لكم، ويأمركم به، فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب المرضي، ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك.

وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع، وبُيِّن أن هذا ألزم لهؤلاء الرافضة القدرية؛ فإن عندهم [أن] إرادة الله بمعنى أمره، لا بمعنى أنه يفعل ما أراد، فلا يلزم إذا أراد الله تطهير أحد أن يكون ذلك قد تطهّر، ولا يجوز عندهم أن يطهِّر الله أحداً، [بل من أراد الله تطهيره، فإن شاء طهّر نفسه، وإن شاء لم يطهرها]، ولا يقدر الله عندهم على تطهير أحد.

وأما قوله: «لأن الصدقة محرَّمة عليهم».

فيقال له: أوّلا المحرّم عليهم صدقة الفرض، وأما صدقات التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبَّلة بين مكة والمدينة، ويقولون: إنما حُرِّم علينا الفرض، ولم يحرَّم علينا التطوع. وإذا جاز أن ينتفعوا بصدقات الأجانب التي هي تطوع، فانتفاعهم بصدقة النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلى وأحرى؛ فإن هذه الأموال لم تكن زكاة مفروضة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أوساخ الناس التي حُرِّمت عليهم، وإنما هي من الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، والفيء حلال لهم، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل ما جعله الله له من الفيء صدقة، إذ غايته أن يكون ملكاً للنبي صلى الله عليه وسلم تصدَّق به على المسلمين، وأهل بيته أحق بصدقته؛ فإن الصدقة [على المسلمين صدقة، والصدقة] على القرابة صدقة وصلة.

الوجه التاسع: في معارضته بحديث جابر – رضي الله عنه – فيقال: جابر لم يدع حقًّا لغيره يُنتزع من ذلك الغير ويُجعل له، وإنما طلب شيئاً من بيت المال يجوز للإمام أن يعطيه إياه، ولو لم يعده به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وعده به كان أَوْلى بالجواز، فلهذا لم يفتقر إلى بيِّنة. ومثال هذا أن يجئ شخص إلى عقار بيت المال فيدَّعيه لنفسه خاصة، فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال فيدَّعيه لنفسه خاصة، فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال ويدفعه إليه بلا حجة شرعية، وآخر طلب شيئاً من المال المنقول الذي يجب قسمه على المسلمين [من مال بيت المال]؛ فهذا يجوز أن يُعطى بلا بيِّنة. ألا ترى أن صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الموقوفة، وصدقة غيره من المسلمين لا يجوز لأحد [من المسلمين] أن يملك أصلها، ويجوز أن يُعطى من ريعها ما ينتفع به، فالمال الذي أُعطى منه جابر هو المال الذي يقسَّم بين المسلمين، بخلاف أصول المال.

ولهذا كان أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما – يعطيان العباس [وبنيه] وعليًّا والحسن والحسين وغيرهم من بني هاشم أعظم مما أعطوا جابر [بن عبد الله] من المال الذي يقسم بين الناس، وإن لم يكن معهما وعد من النبي صلى الله عليه وسلم.

فقول هؤلاء الرافضة الجهّال: إن جابر [بن عبد الله] أخذ مال المسلمين من غير بيّنة بل بمجرد الدعوى، كلام من لا يعرف حكم الله، لا في هذا ولا في ذاك؛ فإن المال الذي أُعطى [منه] جابر مال يجب قسمته بين المسلمين. وجابر أحد المسلمين، وله حقٌّ فيه، وهو أحد الشركاء، والإمام إذا أعطى أحد المسلمين من مال الفيء ونحوه من مال المسلمين، لا يقال: إنه أعطاه مال المسلمين من غير بيّنة؛ لأن القسم بين المسلمين وإعطاءهم لا يفتقر إلى بيِّنة بخلاف من يدَّعي أن أصل المال له دون المسلمين.

نعم الإمام يقسم المال باجتهاده في التقدير، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم المال بالحثيات. وكذلك رُوي عن عمر رضي الله عنه، وهو نوع من الكيل باليد. وجابر ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بثلاثة حثيات، وهذا أمر معتاد مثله من النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يذكر إلا ما عُهد من النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وما يجوز الإقتداء به فيه، فأعطاه حثية، ثم نظر عددها فأعطاه بقدر مرتين، تحرياً لما ظنه موافقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في القسم، فإن الواجب موافقته بحسب الإمكان، فإن أمكن العلم وإلا اتبع ما أمكن من التحرّي والاجتهاد.

أما قصة فاطمة – رضي الله عنها فما ذكروه من دعواها الهبة والشهادة المذكورة ونحو ذلك، لو كان صحيحاً لكان بالقدح فيمن يحتجون له أشبه منه بالمدح .

( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 4 / 194-264).
****************
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 2008-07-13, 12:10 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

****************
الشبهة(21): زعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن علي رضي الله عنه : إنه فاروق أمتي ، وأن المنافقين ماكانوا يُعرفون إلا ببغضه

والجواب أن يقال : كلٌّ من الحديثين يُعلم بالدليل أنه كذب، لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإنه يُقال: ما المعنى بكون عليّ أو غيره فاروق الأمة يفرق بين الحق والباطل؟ إن عنى بذلك أنه يميّز بين أهل الحق وأهل الباطل، فيميز [بين] المؤمنين والمنافقين، فهذا أمر لا يقدر عليه أحدٌ من البشر: لا نبي ولا غيره. وقد قال تعالى لنبيه: }وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ{ [سورة التوبة: 101]، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم عين كل منافق في مدينته وفيما حولها، فكيف يعلم ذلك غيره؟

وإن قيل: إنه يذكر صفات أهل الحق وأهل الباطل، فالقرآن قد بيَّن ذلك غاية البيان، وهو الفرقان الذي فرَّق الله فيه بين الحق والباطل بلا ريب.

وإن أُريد بذلك أن من قاتل معه كان على الحق ومن قاتله كان على الباطل.

فيقال: هذا لو كان صحيحاً لم يكن فيه إلا التمييز بين تلك الطائفة المعينة. وحينئذ فأبو بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – أَوْلى بذلك لأنهم قاتلوا بالمؤمنين أهل الحق الكفار أهل الباطل، فكان التمييز الذي حصل بفعلهم أكمل وأفضل؛ فإنه لا يشك عاقل أن الذين قاتلهم الثلاثة كانوا أَوْلى بالباطل ممن قاتلهم عليّ، وكلما كان العدو أعظم باطلاً كان عدوه أولى بالحق.

ولهذا كان أشد الناس عذاباً يوم القيامة من قتل نبيًّا أو [من] قتله نبي، وكان المشركون الذين باشروا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والمعاداة، كأبي لهب وأبي جهل، شرًّا من غيرهم. فإذا كان من قاتله الثلاثة أعظم باطلاً، كان الذين قاتلوهم أعظم حقاً، يكونون أَوْلى بالفرقان بهذا الاعتبار.

وإن قيل: إنه فاروق لأن محبته هي المفرّقة بين أهل الحق ولا باطل.

قيل: أولاً: هذا ليس من فعله حتى يكون هو به فاروقاً.

وقيل: ثانيًا: بل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم تفريقاً بين أهل الحق والباطل باتفاق المسلمين.

وقيل: ثالثًا: لو عارض هذا معارض فجعل محبة عثمان هي الفارقة بين الحق والباطل لم تكن دعواه دون دعوى ذلك في عليّ، مع ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله لما ذكر الفتنة: «هذا يومئذ وأصحابه على الحق». وأما إذا جعل ذلك في أبي بكر وعمر، فلا يخفى أنه أظْهَرُ في المقابلة. ومن كان قوله مجرد دعوى أمكن مقابلته بمثله.

وإن أُريد بذلك مطلق دعوى المحبة، دخل في ذلك الغالية كالمدَّعين لألوهيته ونبوته، فيكون هؤلاء أهل حق، وهذا كفر باتفاق المسلمين.

وإن أريد بذلك المحبة المطلقة فالشأن فيها، فأهل السنة يقولون: نحن أحق بها من الشيعة، وذلك أن المحبة المتضمنة للغلو هي كمحبة اليهود لموسى، والنصارى للمسيح، وهي محبة باطلة. وذلك أن المحبة الصحيحة أن يحب العبد ذلك المحبوب على ما هو عليه في نفس الأمر، فلو اعتقد رجل في بعض الصالحين أنه نبي من الأنبياء، أو أنه من السابقين الأوَّلين فأحبه، لكان قد أحب ما لا حقيقة له، لأنه أحب ذلك الشخص بناءً على أنه موصوف بتلك الصفة، وهي باطلة، فقد أحب معدوماً لا موجودًا، كمن تزوج امرأة توهم أنها عظيمة المال والجمال والدين والحسب فأحبها، ثم تبيَّن أنها دون ما ظنه بكثير، فلا ريب أن حبه ينقص بحسب نقص اعتقاده، إذْ الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها.

فاليهودي إذا أحب موسى بناء على أنه قال: تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض، وأنه نهى عن إتّباع المسيح ومحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن موسى كذلك، فإذا تبين له حقيقة موسى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة علم أنه لم يكن يحب موسى على ما هو عليه، وإنما أحب موصوفًا بصفات لا وجود لها، فكانت محبته باطلة، فلم يكن مع موسى المبشِّر بعيسى المسيح ومحمد.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المرء مع من أحب». واليهودي لم يحب إلا ما لا وجود له في الخارج، فلا يكون مع موسى المبشِّر بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يحب موسى هذا. والحب والإرادة ونحو ذلك يتبع العلم والاعتقاد، فهو فرع الشعور، فمن اعتقد باطلاً فأحبه، كان محباً لذلك الباطل، وكانت محبته باطلة فلم تنفعه، وهكذا من اعتقد في بشر الإلهية فأحبه لذلك، كمن اعتقد إلهية فرعون ونحوه، أو أئمة الإسماعيلية، أو اعتقد الإلهية في بعض الشيوخ، أو بعض أهل البيت، أو في بعض الأنبياء أو الملائكة، كالنصارى ونحوهم، ومن عرف الحق فأحبه، كان حبه لذلك الحق فكانت محبته من الحق فنفعته.

قال الله تعالى: }الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ{ [سورة محمد: 1- 3]. وهكذا النصراني مع المسيح: إذا أحبه معتقداً أنه إله – وكان عبداً – كان قد أحب ما لا حقيقة له, فإذا تبين له أن المسيح عبد رسول لم يكن قد أحبه، فلا يكون معه.

وهكذا من أحب الصحابة [والتابعين] والصالحين معتقداً فيهم الباطل، كانت محبته لذلك الباطل باطلة. ومحبة الرافضة لعليّ – رضي الله عنه – من هذا الباب؛ فإنهم يحبون ما لم يوجد ما لم يوجد، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته، الذي لا إمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا هو، الذي كان يعتقد أن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – ظالمان معتديان أو كافران، فإذا تبيّن لهم يوم القيامة أن عليًّا لم يكن أفضل من واحد من هؤلاء، وإنما غايته أن يكون قريباً من أحدهم، وأنه كان مقرًّا بإمامتهم وفضلهم، ولم يكن معصوماً لا هو ولا هم، ولا كان منصوصاً على إمامته، تبين لهم أنهم لم يكونوا يحبون عليًّا، بل هم من أعظم الناس بغضاً لعلي – رضي الله عنه – في الحقيقة، فإنهم يبغضون من اتصف بالصفات التي كانت في عليّ أكمل منها في غيره: من إثبات إمامة الثلاثة وتفضيلهم، فإن عليُّا – رضي الله عنه – كان يفضِّلهم ويقرُّ بإمامتهم. فتبيَّن أنهم مبغضون لعليّ قطعاً.

وبهذا يتبين الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عليّ – رضي الله عنه – أنه قال: إنه لعهد النبي الأميّ إليَّ أنه «لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق» إن كان هذا محفوظاً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الرافضة لا تحبه على ما هو عليه، بل محبتهم من جنس محبة اليهود لموسى والنصارى لعيسى، بل الرافضة تبغض نعوت عليّ وصفاته، كما تبغض اليهود والنصارى نعوت موسى وعيسى، فإنهم يبغضون من أقر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانا مقرين بها – صلى الله عليهم أجمعين -.

وهكذا كل من أحب شيخاً على أنه موصوف بصفات ولم يكن كذلك في نفس الأمر، كمن اعتقد في شيخ أنه يشفع في مريديه يوم القيامة، وأنه يرزقه وينصره ويفرج عنه الكربات ويجيبه في الضرورات، كم اعتقد أن عنده خزائن الله، أو أنه يعلم الغيب، أو أنه مَلَك، وهو ليس كذلك في نفس الأمر، فقد أحب ما لا حقيقة له.

وقول عليّ – رضي الله عنه – في هذا الحديث: لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق، ليس من خصائصه، بل قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» وقال: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر» وقال: «لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق». وفي [الحديث] الصحيح حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له ولأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين، قال: فلا تجد مؤمناً إلا يحبني وأمِّي.

وهذا مما يُبين به الفرق بين هذا [الحديث] وبين الحديث الذي روي عن ابن عمر: «ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم عليًّا» فإن هذا مما يعلم كل عالم أنه كذب، لأن النفاق له علامات كثيرة وأسباب متعددة غير بغض عليّ، فكيف لا يكون على النفاق علامة إلا بغض عليّ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «آية النفاق بغض الأنصار» وقال في الحديث الصحيح: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان».

وقد قال تعالى في القرآن في صفة المنافقين: }وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ{ [سورة التوبة: 58]، }وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ{ [سورة التوبة: 61]، }وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ{ [سورة التوبة: 75]، }وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي{ [سورة التوبة: 49]، }فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا{ [سورة التوبة: 124].

وذكر لهم سبحانه وتعالى في سورة براءة وغيرها من العلامات والصفات ما لا يتسع هذا الموضع لبسطه.

بل لو قال: كنا نعرف المنافقين ببغض عليّ لكان متوجهاً، كما أنهم أيضاً يُعرفون ببغض الأنصار، [بل] وبُبغض أبي بكر وعمر، وببغض غير هؤلاء، فإن كل من أبغض ما يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويواليه، وأنه كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويواليه، كان بغضه شعبة من شعب النفاق، والدليل يطَّرد ولا ينعكس. ولهذا كان أعظم الطوائف نفاقاً المبغضين لأبي بكر، لأنه لم يكن في الصحابة أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منه، ولا كان فيهم أعظم حبَّا للنبي صلى الله عليه وسلم منه، فبغضه من أعظم [آيات] النفاق. ولهذا لا يوجد المنافقون في طائفة أعظم منها في مبغضيه، كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم.

وإن قال قائل: فالرافضة الذين يبغضونه يظنون أنه كان عدوًّا للنبي صلى الله عليه وسلم لما يُذكر لهم من الأخبار التي تقتضي أنه كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته فأبغضوه لذلك.

قيل: إن كان هذا عذراً يمنع نفاق الذين يبغضونه جهلاً وتأويلاً، فكذلك المبغضون لعليّ الذين اعتقدوا أنه كافر مرتد، أو ظالم فاسق، فأبغضوه لبغضه لدين الإسلام، أو لما أحبه الله وأمر به من العدل، ولاعتقادهم أنه قتل المؤمنين بغير حق، وأراد علوًّا في الأرض وفساداً، وكان كفرعون ونحوه؛ فإن هؤلاء وإن كانوا جهالاً فليسوا بأجهل ممن اعتقد في عمر أنه فرعون هذه الأمة، فإن لم يكن بغض أولئك لأبي بكر وعمر نفاقاً لجهلهم وتأويلهم، فكذلك بغض هؤلاء لعليّ بطريق الأَوْلى والأحرى، وإن كان بغض عليّ نفاقاً وإن كان المبغض جاهلاً متأولاً فبغض أبي بكر وعمر أَوْلى أن يكون نفاقاً حينئذ، وإن كان المبغض جاهلاً متأولاً.

( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 4 / 290-301).
****************
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع الأقسام الرئيسية مشاركات المشاركة الاخيرة
الاسلام واخلاق الرافضة موحد مسلم الشيعة والروافض 0 2020-03-19 08:17 PM
اذية علي للمسلمين ما سببها موحد مسلم الشيعة والروافض 0 2020-03-18 07:44 PM
فأين رواية الانقلابيين او المنتصرين وهذه روايات المنهزمين موحد مسلم الشيعة والروافض 1 2020-03-13 04:31 PM

 link 
*** مواقع صديقة ***
للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب
 فارلي   شركة تنظيف بجدة   شركة نقل عفش بجدة   شركة تنظيف خزانات بجدة   شركة نقل عفش بجدة   شركة تنظيف بالطائف   شركة تنظيف خزانات بجدة 
 yalla shoot   يلا شوت   يلا شوت   برنامج موارد بشرية   يلا شوت 
 شركة تنظيف بالطائف   سحب مجاري   فني صحي   افضل شركة نقل اثاث بجدة   شراء اثاث مستعمل   شركة تنظيف منازل بالرياض   شركة تنظيف منازل بالرياض   pdf help   كورة لايف   koora live   شركة تنظيف في دبي   شركة تنظيف في رأس الخيمة   شركة تنظيف في دبي 24 ساعة   كحل الاثمد   متاجر السعودية   مأذون شرعي   كحل الاثمد الاصلي   تمور المدينة   شركة عزل خزانات بجدة   شركة تنظيف افران   صيانة غسالات الدمام   صيانة غسالات ال جي   صيانة غسالات بمكة   شركة صيانة غسالات الرياض   صيانة غسالات سامسونج 
شركة صيانة افران بالرياض  سطحة هيدروليك   سطحة بين المدن   سطحة غرب الرياض   سطحة شمال الرياض 
 yalla live   يلا لايف   bein sport 1   كورة لايف   بث مباشر مباريات اليوم   Kora live   yalla shoot 
 translation office near me   كورة سيتي kooracity   مظلات وسواتر   تركيب مظلات سيارات في الرياض   تركيب مظلات في الرياض   مظلات وسواتر   شركة تنظيف منازل بالرياض   شركة تنظيف مكيفات بالرياض   شركه تنظيف بالرياض 
 برنامج ادارة مطاعم فى السعودية   افضل برنامج كاشير سحابي   الفاتورة الإلكترونية فى السعودية   المنيو الالكترونى للمطاعم والكافيهات   افضل برنامج كاشير فى السعودية 
 شركة تنظيف مكيفات بجدة   عزل فوم بالرياض   شركة عزل اسطح بالرياض   الحلوى العمانية 
 يلا شوت 
 Yalla shoot   شركة حور كلين للتنظيف 
 تركيب ساندوتش بانل   تركيب مظلات حدائق 
 موقع الشعاع   بيت المعلومات   موقع فكرة   موقع شامل العرب   صقور الخليج   إنتظر 
 شركة نقل عفش بالرياض   شركة نقل عفش بالرياض 
 كشف تسربات المياه   شركة تنظيف منازل   نقل اثاث بالرياض   شراء اثاث مستعمل بالرياض   نقل اثاث   كشف تسربات المياه   شركة تنظيف بالرياض   شركة عزل اسطح   عزل اسطح بالرياض   شركة عزل اسطح بجدة   كشف تسربات المياه بالرياض   شركة عزل خزانات بالرياض   كشف تسربات المياه بالخرج   تنظيف خزانات بالرياض   مكافحة حشرات بالرياض   شركة عزل اسطح بالرياض   كشف تسربات المياه بالدمام   كشف تسربات المياه بالرياض   شركة عزل خزانات بالرياض   شركة عزل فوم   كشف تسربات المياه   عزل خزانات بالاحساء   شركة نقل اثاث بالرياض   نقل عفش بالرياض   عزل اسطح   شركة تنظيف بالرياض   شركات نقل الاثاث   شركة تنظيف منازل بجدة   شركة عزل فوم   شركة عزل خزانات بالرياض   شركة تنظيف خزانات بالرياض   شركة تخزين اثاث بالرياض   شركة تنظيف مكيفات بخميس مشيط   شركة تنظيف مكيفات بالرياض   شركة عزل اسطح   كشف تسربات المياه بالرياض   شركة كشف تسربات المياه   شركة نقل اثاث بالرياض   شركة عزل اسطح بجدة   شركة عزل اسطح   عزل خزانات   شركات عزل اسطح بالرياض   شركة عزل خزانات المياه   شركة تنظيف فلل بالرياض   كشف تسربات المياه بالدمام   شركة كشف تسربات المياه بالدمام   عزل خزانات بالاحساء   عزل فوم بالرياض   عزل اسطح بجدة   عزل اسطح بالطائف 
دليل السياح | تقنية تك | بروفيشنال برامج | موقع . كوم | شو ون شو | أفضل كورس سيو أونلاين بالعربي | المشرق كلين | الضمان | Technology News | خدمات منزلية بالسعودية | فور رياض | الحياة لك | كوبون ملكي | اعرف دوت كوم | طبيبك | شركة المدينة الذهبية للخدمات المنزلية

تطوير موقع الموقع لخدمات المواقع الإلكترونية

Powered by vBulletin Copyright ©2000 - 2024 Jelsoft Enterprises Ltd