جديد المواضيع |
للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب |
منتدى السنة | الأذكار | زاد المتقين | منتديات الجامع | منتديات شباب الأمة | زد معرفة | طريق النجاح | طبيبة الأسرة | معلوماتي | وادي العرب | حياتها | فور شباب | جوابى | بنك أوف تك |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
أسباب ظاهرة التطاول على العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد.
هذه رسالة قصيرة أحرى أن تكون حلقة في أذن كل صريع متساهل في التجريح، ذو بضاعة مجزاة في علم الرجال، اختلط عليه الحابل بالنابل واشتبه عليه الحق بالباطل في زمن فتنة الخوض في أعراض الناس، فخاض مغترا بأقوال العلماء بعضهم في بعض، جاهلا أقدار من يبارزهم بالحرابة والله المستعان . أسباب الظاهرة : جماعها: الانحراف عن هدي السلف الصالح في التربية والتأديب، والتعليم والتهذيب، أما بيانها؛ فدونكه: السبب الأول: تشييخ الصحف، وافتقاد القدوة: فقد كان السلف يمنعون من كانت وسيلته إلى الفقه الكتب من الفتوى، ومن التدريس، كما يمنعون من تلقي القرآن من المصحف من الإقراء. قال أبو زرعة: «لا يفتي الناس صحفي، ولا يقرئهم مصحفي»([1]). وقال بعضهم: «من أعظم البلية: تشييخ الصيحفة». وقال الإمام الشافعي -رحمه اللَّه-: «من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام». من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة *** يكن من الزيغ والتحريف في حرم ومن كان أخذه للعلم عن كتب *** فعلمه عند أهل العلم كالعدم وقال الإمام ابن جماعة -رحمه اللَّه-: «وليجتهد على أن يكون الشيخ ممن له على العلوم الشرعية تمام الاطلاع، وله مع من يوثق به من مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع، لا ممن أخذ عن بطون الأوراق، ولم يعرف بصحبة المشائخ الحذاق»([2]). قال القاضي عياض([3]) -رحمه اللَّه- في ترجمة أبي جعفر الداودي الأسدي: «بلغني أنه كان ينكر على معاصريه من علماء القيروان سكناهم في مملكة بني عبيد، وبقاءهم بين أظهرهم، وأنه كتب إليهم مرة بذلك فأجابوه: اسكت لا شيخ لك! أي: لأن درسه كان وحده، ولم يتفقه في أكثر علمه عند إمام مشهور، وإنما وصل إلى ما وصل بإدراكه، يشيرون أنه لو كان له شيخ يفقهه حقيقة الفقه؛ لعلم أن بقاءهم مع من هناك من عامة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام، وبقية صالحة للإيمان». وأصل هذا الجواب قديم، قائم في نفوس العلماء سلفًا وخلفًا، وممن روي عنه من الأئمة المتقدمين: أبو حنيفة -رحمه اللَّه تعالى-، فقد أسند الخطيب: قيل لأبي حنيفة: «في المسجد حلقة ينظرون في الفقه»، فقال: «لهم رأس؟»، قالوا: لا، قال: «لا يفقه هؤلاء أبدًا»([4]). وقال الإمام أبو إسحاق الشاطبي -رحمه اللَّه تعالى-: «وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله؛ فلذلك طريقان: أحدهما: المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ لوجهين([5]): الأول: خاصية جعلها اللَّه -تعالى- بين المعلم والمتعلم، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء، فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه، فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة؟ وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمر غير معتاد، ولكن بأمر يهبه اللَّه للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم، ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه. وهذا ليس ينكر؛ فقد نبه عليه الحديث الذي جاء: «إن الصحابة انكروا أنفسهم عندما مات رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم»([6]). وحديث حنظلة الأسدي حين شكا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حال يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم: «لو أنكم تكونون كما تكونون عندي؛ لأظلتكم الملائكة بأجنحتها»([7]). وقد قال عمر بن الخطاب: «وافقت ربي في ثلاث»([8])، وهي من فوائد مجالسة العلماء؛ إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وتأدبهم معه، واقتدائهم به؛ فهذا الطريق نافع على كل تقدير. وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل، وكانوا يكرهون ذلك، وقد كرهه مالك، فقيل له: فما نصنع؟ قال: «تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة». وحكي عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان، وخيف على الشريعة الاندراس. الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو -أيضًا- نافع في بابه؛ بشرطين: الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول، ومن مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال: «كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال»، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئًا، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد. والشرط الآخر: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر. أما التجربة؛ فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما يبلغه المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري، فأعمال المتقدمين -في إصلاح دنياهم ودينهم- على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم، وأقوالهم، وحكاياتهم؛ أبصر العجب في هذا المعنى. وأما الخبر؛ ففي الحديث: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»([9]). وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك. وعن ابن مسعود؛ أنه قال: «ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخضب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيهدم الإسلام ويثلم([10]). ومعناه موجود في «الصحيح» في قوله: «ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم؛ فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون»([11]). والأخبار هنا كثيرة، وهي تدل على نقص الدين والدنيا، وأعظم ذلك العلم؛ فهو إذًا في نقص بلا شك. فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم؛ أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصًا علم الشريعة، الذي هو العروة الوثقى، والوزر الأحمى، وباللَّه تعالى التوفيق»([12]). وفصل بكر بن عبداللَّه أبو زيد أهمية التلقي عن الأشياخ فقال: «الأصل في الطلب أن يكون بطريق التلقين والتلقي عن الأساتيذ، والمثافنة للأشياخ، والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف وبطون الكتب، والأول من باب أخذ النسيب عن النسيب الناطق وهو المعلم، أما الثاني عن الكتاب؛ فهو جماد فأنى له اتصال النسب. وقد قيل: «من دخل في العلم وحده خرج وحده»([13])؛ أي: من دخل في طلب العلم بلا شيخ خرج منه بلا علم؛ إذ العلم صنعة، وكل صنعة محتاج إلى صانع، فلا بد إذًا لتعلمها من معلمها الحاذق. وهذا يكاد يكون محل إجماع كلمة من أهل العلم إلا من شذ مثل: علي بن رضوان المصري الطبيب (م سنة 453 هـ)، وقد رد عليه علماء عصره، ومن بعدهم، قال الحافظ الذهبي -رحمه اللَّه تعالى- في ترجمته له([14]): «ولم يكن له شيخ، بل اشتغل بالأخذ عن الكتب، وصنف كتابًا في تحصيل الصناعة من الكتب، وأنها أوفق من المعلمين وهذا غلط» ا.هـ. وقد بسط الصفدي في «الوافي» الرد عليه، وعنه الزبيدي في «شرح الإحياء» عن عدد من العلماء معللين له بعدة علل؛ منها ما قاله ابن بطلان في الرد عليه: «السادسة: يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم وهي معدومة عند المعلم، وهي التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ، والغلط بروغان البصر، وقلة الخبرة والإعراب، أو فساد الموجود منه، وإصلاح الكتاب وكتابة ما لا يقرأ، وقراءة ما لا يكتب، ومذهب صاحب الكتاب، وسقم النسخ، ورداءة النقل، وإدماج القارئ مواضع المقاطع، وخلط مبادئ التعليم، وذكر ألفاظ مصطلح عليها في تلك الصناعة، وألفاظ يونانية لم يخرجها الناقل من اللغة كالنورس، فهذه كلها معوقة عن العلم، وقد استراح من تكلفها عند قراءته على المعلم. وإذا كان الأمر على هذه الصورة؛ فالقراءة على العلماء أجدى وأفضل من قراءة الإنسان لنفسه وهو ما أردنا بيانه... قال الصفدي: ولهذا قال العلماء: لا تأخذ العلم من صحفي، ولا من مصحفي؛ يعني: لا تقرأ القرآن على من قرأ من المصحف، ولا الحديث وغيره على من أخذ ذلك من الصحف...» ا.هـ. والدليل المادي القائم على بطلان نظرة ابن رضوان: أنك ترى آلاف التراجم والسير على اختلاف الأزمان ومر الأعصار وتنوع المعارف، مشحونة بتسمية الشيوخ والتلاميذ ومستقل من ذلك ومستكثر، وانظر شذرة من المكثرين عن الشيوخ حتى بلغ بعضهم الألوف كما في «العزاب» من «الإسفار» لراقمه. وكان أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي([15]) إذا ذكر عنده ابن مالك، يقول: أين شيوخه؟ وقال الوليد([16]): كان الأوزاعي يقول: «كان هذا العلم كريمًا يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب، دخل فيه غير أهله». ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه خلل، ولا سيما في ذلك العصر، حيث لم يكن بعد نقط ولا شكل، فتتصحف الكلمة بما يحيل المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال، وكذلك التحديث من الحفظ يقع فيه الوهم، بخلاف الرواية من كتاب محرر. ولابن خلدون مبحث نفيس في هذا كما في «المقدمة»([17]) له، ولبعضهم: من لم يشافه عالمًا بأصوله *** فيقينه في المشكلات ظنون وكان أبو حيان كثيرًا ما ينشد: يظن الغمر أن الكتب تهدي*** أخا فهمٍ لإدراك العلوم وما يدري الجهول بأن فيها *** غوامض حيرت عقل الفهيم إذا رمت العلوم بغير شيخ *** ضللت عن الصراط المستقيم وتلتبس الأمور عليك حتى *** تصير أضل من «توما الحكيم»([18]) السبب الثاني: استعجال التصدر قبل تحصيل الحد الأدنى من العلم الشرعي بحجة الدعوة. يقول: الدكتور ناصر العقل: «ومن الأخطاء التي ينبغي التنبيه عليها في مسألة الفقه، فصل الدعوة عن العلم، هذه توجد في الشباب أكثر من غيرهم، يقولون: الدعوة شيء، والفقه في الدين شيء آخر، فلذلك نجد أن بعض الشباب يهتم بالدعوة عمليًّا، ويبذل فيها جهده ووقته، لكن تحصيله للفقه والعلم الشرعي قليل جدًّا، مع أن العكس هو الصحيح، ينبغي أن يتعلم، وأن يتفقه، وأن يأخذ العلوم الشرعية ثم يدعو، ولا مانع أن يؤجل الدعوة سنة، أو سنتين، أو خمسًا حتى يشتد عوده، ويكون عنده من العلم الشرعي ما يدعو به، أما أن يبدأ بعض الشباب بالدعوة للَّه -سبحانه وتعالى- بمجرد العاطفة وعلم قليل، ثم ينقطع عن العلم وعن المشايخ، فهذه على المدى البعيد سيكون لها أثرها الخطير في الأمة، سيخرج دعاة بلا علماء، كما حصل في البلاد الإسلامية الأخرى»([19]). قال عمر -رضي اللَّه عنه-: «تفقهوا قبل أن تسودوا»([20]). وقال الشافعي -رحمه اللَّه-: «إذا تصدر الحدث؛ فاته علم كثير»([21]). وعن مالك قال: «أخبرني رجل دخل على ربيعة بن أبي عبدالرحمن، فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: «لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق»([22]). قال الإمام الشاطبي -رحمه اللَّه-: «... السائل لا يصح أن يسأل من لا يعتبر في الشرعية جوابه؛ لأنه إسناد أمرٍ إلى غير أهله، والإجماع على عدم صحة مثل هذا، بل لا يمكن في الواقع؛ لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه: أخبرني عما لا تدري! وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل به على سواء، ومثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء، إذ لو قال له: دلني في هذه المفازة على الطريق إلى الموضع الفلاني، وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء؛ لعدَّ من زمرة المجانين، فالطريق الشرعي أولى؛ لأنه هلاك أخروي، وذلك هلاك دنيوي خاصة»([23]). السبب الثالث: التعالم وتصدر الأحداث: فترى «أبتثيا»([24]) صريع الجهل، متشبعًا بما لم يعط، ينصب نفسه مرجعًا للفتيا، ويتملكه العجب؛ فيلمز أكابر العلماء، ويفري أعراضهم، ويسفه أقوالهم، فيصد الناس عن سبيل ربهم، يصدهم عن الأدلاء عليه. عن عبداللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-، قال: «إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كباركم، فإذا كان العلم في صغاركم سفَّه الصغير الكبير»([25]). وقال معاوية -رضي اللَّه عنه-: «إن أغرى الضلالة لرجل يقرأ القرآن؛ فلا يفقه فيه، فيعلمه الصبي والعبد والمرأة، فيجادلون به أهل العلم»([26]). ولقد أصاب المأمون عندما قال -متهكمًا بهذا الضرب من الطلبة-: يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام، ثم يقول: «أنا من أهل الحديث». وفي هؤلاء يقول أبو الحسن القالي -رحمه اللَّه-: لما تبدلت المجالس أوجهًا *** غير الذي عهدته من علمائها ورأيتها محفوفة بسوى الأولى *** كانوا ولاة صدورها وفنائها أنشدت بيتًا سائرًا متقدمًا *** والعين قد شرقت بجاري مائها أما الخيام فإنها كخيامهم *** وأرى نساء الحي غير نسائها ويقول -أيضًا-: تصدر للتدريس كل مهوس *** بليد تسمى بالفقيه المدرس فحق لأهل العلم أن يتمثلوا *** ببيت قديم شاع في كل مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها *** كلاها وحتى سامها كل مفلس السبب الرابع: الاغترار بكلام العلماء بعضهم في بعض. فيحاول بعضهم اعتبار ذلك موضع أسوة وقدوة، غافلاً عن القاعدة الجليلة التي أصلها العلماء في ذلك، وهي أن «كلام الأقران في بعضهم البعض يطوى، ولا يحكى»؛ إما لأنه ناشئ عن اجتهاد أو تأويل، وإما لأنه ناشئ عن تنافس ومعاصرة ومنافرة مذهبية، مما لا يكاد يسلم منه بشر، وما ينقل من ذلك إما لا يصح عنهم، وإما يصح فيجب أن نغض الطرف عنه، ونحمله ما أمكن على أحسن الوجوه، وإلا فيجب طيه وكتمانه، والاشتغال بالاستغفار لهم؛ كما رغبنا القرآن الكريم في ذلك. وقال الحافظ الذهبي -رحمه اللَّه تعالى-: «كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم اللَّه، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس»([27]). وقال الإمام أحمد بن حنبل: «كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه»([28]). وقال الإمام الطبري: «لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به، وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك؛ للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه»([29]). وقال الإمام أبو عمر بن عبدالبر -رحمه اللَّه-: «والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم؛ لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة، تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها، من المشاهدة والمعاينة لذلك، بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر»([30]). وقال الإمام تاج الدين السبكي -رحمه اللَّه-: «... فكثيرًا ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها، فيغير على الكتاب والمؤلف ومن عاشره، واستن بسنته مع أن المؤلف لم يرد ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل، فإذا كان الرجل ثقة ومشهودًا له بالإيمان والاستقامة؛ فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفظ كتاباته على غير ما تعود منه، ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله»([31]). وقال -أيضًا- رحمه اللَّه-: «ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض؛ إلا إذا أتى ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك، وإلا فاضرب صفحًا عما جرى بينهم، فإنك لم تخلق لهذا، فاشتغل بما يعنيك ودع ما لا يعنيك، ولا يزال طالب العلم عندي نبيلاً حتى يخوض فيما جرى بين السلف الماضين، ويقضي لبعضهم على بعض. فإياك ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري، أو بين مالك وابن أبي ذئب، أو بين أحمد بن صالح والنسائي، أو بين أحمد ابن حنبل والحارث المحاسبي، وهلم جرًّا إلى زمان الشيخ عز الدين بن عبدالسلام والشيخ تقي الدين ابن الصلاح، فإنك إن اشتغلت بذلك خشيت عليك الهلاك، فالقوم أئمة أعلام، ولأقوالهم محامل ربما لم يفهم بعضها، فليس لنا إلا الترضي عنهم، والسكوت عما جرى بينهم، كما يفعل ذلك فيما جرى بين الصحابة -رضي اللَّه عنهم-»([32]). فائدة: من يقضي بين العلماء([33])؟ سئل يومًا العلامة أبو العباس عبداللَّه بن أحمد بن إبراهيم الأبياني عن فقيهين من أصحابه وتلاميذه، وهما: أبو القاسم بن زيد، وسعيد بن ميمون، فقيل له: «أيهما أفقه»، فقال: «إنما يفصل بين عالمين من هو أعلم منهما»([34]). إذا تلاقى الفحول في لَجَب *** فكيف حال الغصيص في الوسط السبب الخامس: الاغترار بمسلك الإمام ابن حزم -رحمه اللَّه- في شدته على الأئمة. فيحسب طالب العلم أن هذه الشدة من الغيرة المحمودة على الحق، ومن نصرة الدين، وينسى أنه «لا أسوة في الشر». قال الإمام الحافظ الذهبي -رحمه اللَّه- في ترجمة ابن حزم: «...وصنف في ذلك كتبًا كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها انتقادًا، ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، و فتشوها انتقادًا واستفادة، وأخذًا ومؤاخذةً، ورأوا فيها الدُّرَّ الثمين ممزوجًا في الرَّصف بالخرز الثمين، فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزؤون، وفي الجملة؛ فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم»([1]). وقال الإمام الشاطبي -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن بين أن من علامات العالم المتحقق أن يكون قد تلقى العلم عن الشيوخ ولازمهم: «... وبهذا وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون، كالأئمة الأربعة وأشباههم»([2]). السبب السادس: جهل المنتقدين بأقدار من ينتقدونهم من العلماء: وبالتالي لا ينزلونهم منازلهم، ويبخسونهم مكانتهم التي يستحقونها، ولعل أنجع علاج لذلك التعامل المباشر مع العالم، ولحظ سلوكه وسمته وهديه، أو مطالعة ترجمته ومصنفاته إن فاتت لقياه، ومعاشرة تلامذته، وهاك هذه الواقعة. قال ابن المبارك: «قدمت الشام على الأوزاعي؛ فرأيته ببيروت، فقال لي: «يا خراساني من هذا المبتدع الذي خرج بالكوفة يكنى أبا حنيفة؟»، فرجعت إلى بيتي، فأقبلت على كتب أبي حنيفة، فأخرجت منها مسائل من جياد المسائل، وبقيت في ذلك ثلاثة أيام، فجئت يوم الثالث، وهو -أي: الأوزاعي- مؤذن مسجدهم وإمامهم، والكتاب في يدي، فقال: «أي شيء هذا الكتاب؟»، فناولته، فنظر في مسألة منها وقعت عليها: قاله النعمان، فما زال قائمًا بعد ما أذن حتى قرأ صدرًا من الكتاب، ثم وضع الكتاب في كمه، ثم أقام وصلى، ثم أخرج الكتاب حتى أتى عليها، فقال لي: «يا خراساني! من النعمان بن ثابت هذا؟»، قلت: «شيخ لقيته بالعراق»، فقال: «هذا نبيل من المشايخ؛ اذهب فاستكثر منه»، قلت: «هذا أبو حنيفة الذي نهيت عنه». ثم لما اجتمع الأوزاعي بأبي حنيفة بمكة جاراه في تلك المسائل، فكشفها له بأكثر مما كتبها ابن المبارك عنه، فلما افترقا قال الأوزاعي لابن المبارك: «غبطت الرجل بكثرة علمه ووفور عقله، وأستغفر اللَّه -تعالى-، لقد كنت في غلط ظاهر، الزم الرجل فإنه بخلاف ما بلغني عنه»([3]). ومما يبين أهمية مخالطة العالم ومعرفة سيرته وتأثير ذلك في حفظ حرمته، قول بعض من ترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن أفاض في الثناء عليه: «... ومن خالطه وعرفه فقد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه». ومثله قول الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه-: «إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال يلزمه التحري في النقل، فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالقول الشائع، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح، وإن كان في الواقعة أمر فادح -سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفًا- في حق المستور، فينبغي أن لا يبالغ في إفشائه، ويكتفي بالإشارة؛ لئلا يكون وقعت منه فلته، ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفًا بمقادير الناس وبأحوالهم ومنازلهم؛ فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع»([4]). وقال الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-: «... واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعًا بقسطهم من الحق؛ فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل». ألا ما أكثر المواقف العدائية التي بنيت على أساس مبدأ: «سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته»، فترى الرجل منحرفًا عن أهل الفضل بسبب الغواية في الرواية. فلا تلمهم على إنكار ما نكروا*** فإنما خلقوا أعداء ما جهلوا فإذا قيض اللَّه له من الأسباب ما يطلعه على الحقيقة؛ انقشعت سحب الأباطيل، وأسفرت شمس الحقيقة. السبب السابع: التأثر بفوضوية الغربيين ونعراتهم: ويتضح هذا في سلوك بعض الشباب الذين يبتلون بالإقامة في ديار الغرب، فيتشربون منهم بعض القيم، وبخاصة سلوكهم إزاء أكابرهم وعظمائهم، بحجة حرية الرأي والتعبير، واعتزازًا بما يدينون به من «الفوضوية» التي يسمونها «ديمقراطية»، دون أن يتفطن هؤلاء الشباب إلى الفروق بين القيم الإسلامية وبين القيم الغربية. فمن مظاهر الديمقراطية تحكيم رجل الشارع في قضايا الأمة المصيرية([5])، في حين أن الإسلام يجعل الحكم في ذلك إلى أولي الأمر، أهل الحل والعقد المؤهلين للنظر في هذه القضايا دون غيرهم، قال -تعالى-: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83]. وهذا رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم يسمي رجل الشارع هذا بالرويبضة، ويجعل إقحامه في القضايا العامة المصيرية من أشراط الساعة، فعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه، يتكلم في أمر العامة»([6]). وقال صلى الله عليه و سلم للأعرابي الذي سأله: متى الساعة؟ «فإذا ضيعت الأمانة؛ فانتظر الساعة»، قال: كيف إضاعتها؟، قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله؛ فانتظر الساعة»([7]). وتأمل موقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- لما أراد أن يتحدث في موسم الحج عن يوم السقيفة، قال له عبدالرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه-: «لا تفعل! فإن الموسم يجمع رعاع الناس، وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وألا يعوها وألا يضعوها على موضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنًا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعوها على موضعها»([8]). السبب الثامن: التعصب الحزبي، والبغي، وعقد الولاء على غير الكتاب والسنة. فبعض الناس يربون أتباعهم على الولاء لأشخاصهم، والانتماء لذواتهم، أو جماعاتهم، ويوالون في ذلك ويعادون، دون اعتبار لمبدأ الحب في اللَّه، والبغض في اللَّه، وفي هؤلاء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى-: «وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته، ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان، ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدًا بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه، ويقدم من قدم اللَّه ورسوله عليه، ويفضل من فضله اللَّه ورسوله»([9]). وقال -أيضًا- رحمه اللَّه تعالى-: «ومن نصب شخصًا كائنًا من كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل؛ فهو {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا} [الروم: 32]، وإذا تفقه الرجل، وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين، مثل أتباع الأئمة والمشايخ، فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم العيار، فيوالي من وافقهم، ويعادي من خالفهم»([10]). وقال -أيضًا- رحمه اللَّه تعالى-: «وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى... وإذا وقع بين معلم ومعلم، أو تلميذ وتلميذ، أو معلم وتلميذ خصومة ومشاجرة، لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق، فلا يعاونه بجهل ولا بهوى، بل ينظر في الأمر؛ فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل، سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره، وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره، فيكون المقصود عبادة اللَّه وحده، وطاعة رسوله، واتباع الحق والقيام بالقسط، قال اللَّه -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء للَّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللَّه أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن اللَّه كان بما تعملون خبيرًا} [النساء: 135]. ومن مال مع صاحبه سواء كان الحق له أو عليه، فقد حكم بحكم الجاهلية، وخرج عن حكم اللَّه ورسوله، والواجب على جميعهم أن يكونوا يدًا واحدة مع المحق على المبطل، فيكون المعظم عندهم من عظمه اللَّه ورسوله، والمقدم عندهم من قدمه اللَّه ورسوله، والمحبوب ما يرضي اللَّه ورسوله، لا بحسب الأهواء، فإن من يطع اللَّه ورسوله فقد رشد، ومن يعص اللَّه ورسوله؛ فإنه لا يضر إلا نفسه»([11]) ا.هـ. السبب التاسع: التحاسد والتنافس على الغلو والرياسة. عن يوسف بن أسباط: سمعت سفيان يقول: «ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع في الرئاسة، حامى عليها وعادى». وقال الفضيل بن عياض: «ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير». وقال سفيان الثوري: «ما أحب أحد الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب، ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يذكر الناس أحدًا عنده بخير». وما عبر الإنسان عن فضل نفسه *** بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى *** يد النقص عنه بانتقاص الأفاضل وقال الأوزاعي -رحمه اللَّه- لبقية بن الوليد: «... يا بقية لا تذكر أحدًا من أصحاب محمد نبيك صلى الله عليه و سلم إلا بخير، ولا أحدًا من أمتك، وإذا سمعت أحدًا يقع في غيره؛ فاعلم أنه إنما يقول: أنا خير منه». لطيفة: إذا كنت خاملاً؛ فتعلق بعظيم! «كان أحمد بن عبدالدائم بن يوسف بن ساهل شاعرًا مشهورًا مولعًا بالهجاء، حتى إنه لما دخل دمشق، قدم لقاضيها شهاب الدين الخوئي قصيدة هجو، فردها إليه، وقال: «كأنك ذاهل»، قال: «بل لست بذاهل، بل صنعت ذلك عمدًا لأشتهر؛ لأني رأيت الناس اجتمعوا على الثناء عليك، فرأيت أن أخالفهم، فإني لو مدحتك فأعطيتني لم يشعر بي أحد، فإذا هجوتك وعزرتني يقال: «ما هذا؟»، فيقال: «هذا غريم القاضي»، فأشتهر([12]). السبب العاشر: عدم التثبت في النقل: «فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله»([13]). وقال الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه تعالى-: «إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال، يلزمه التحري في النقل، فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالقول الشائع، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح، وإن كان في الواقعة أمر فادح، سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفًا في حق المستور، فينبغي أن لا يبالغ في إفشائه، ويكتفي بالإشارة؛ لئلا يكون وقعت منه فلتة، ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفًا بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم، فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع»([14]) ا.هـ. وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه اللَّه تعالى-: «من الغلط الفاحش الخطر قبول قول الناس بعضهم ببعض، ثم يبني عليه السامع حبًّا وبغضًا ومدحًا وذمًّا، فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أمورًا لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة، فنميت بالكذب والزور، وخصوصًا من عرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبت والتحرز وعدم التسرع، وبهذا يعرف دين العبد ورزانته وعقله»([15]) ا.هـ. السبب الحادي عشر: الفراغ: فإن الاشتغال بلغو القول وتجريح الآخرين وسائر آفات اللسان إنما هو ثمرة الفراغ الذي لم يبادر صاحبه إلى ملئه بالعمل الصالح. قال صلى الله عليه و سلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»([16]). وقال الحسن البصري: «نفسك إن لم تشغلها بالحق، شغلتك بالباطل». فالطاعن في أهل الحق فارغ، وأهل الحق مشغولون بحقهم، ويقول المثل العربي: «ويل للشجي من الخلي، وويل للعالم من الجاهل»، والشجي: هو المشغول، والخلي: هو الفارغ. السبب الثاني عشر: الجحود وعدم الإنصاف. ومن مظاهره: تنكر الطالب لشيخه الذي طالما أفاده، وعلمه، وأحسن إليه لأجل زلة زلها، أو غضبة غضبها، فيجحد كل ما مضى من إحسانه إليه، ويقول كما تقول كافرات العشير: «ما رأيت منك خيرًا قط»، ويطلق لسانه في ذم شيخه، والتشنيع عليه، ويقول الشاعر في مثل هذا: فيا عجبًا لمن ربَّيت طفلاً *** ألقمه بأطراف البنان أعلمه الرماية كل يوم *** فلما اشتد ساعده رماني أعلمه الفتوة كل حين *** فلما طرَّ شاربه جفاني أعلمه الرواية كل وقت *** فلما صار شاعرها هجاني قال الشافعي -رحمه اللَّه-: «الحر من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة». صحبة يوم نسب قريب *** وذمة يعرفها اللبيب وكان محمد بن واسع يقول: «لا يبلغ العبد مقام الإحسان حتى يحسن إلى كل من صحبه ولو ساعة، وكان إذا باع شاة يوصي بها المشتري، ويقول: «قد كان لها معنا صحبة». وكان الأولى بالجاحد الكفور أن يتمثل ما قاله الضيف الكريم لمضيفه الذي أحسن إليه؛ فقد «كان الرجل شجرة عنب كثيرة الثمر، فكان غارسها إذا مر به صديق له؛ اقتطف عنقودًا ودعاه، فيأكله، وينصرف شاكرًا. فلما كان اليوم العاشر؛ قالت امرأة صاحب الشجرة لزوجها: ما هذا أدب الضيافة، ولكن أرى إن دعوت أخاك، فأكل النصف، مددت يدك معه مشاركًا، إيناسًا له، وتبسطًا، وإكرامًا، فقال: «لأفعلن ذلك غدًّا». فلما كان الغد، وانتصف الضيف في أكله، مد الرجل يده، وتناول حبة، فوجدها حامضة لا تساغ، وتفلها وقطب حاجبيه، وأبدى عجبه من صبر ضيفه على أكل أمثالها، فقال الضيف: «قد أكلت من يدك من قبل على مر الأيام حلوًا كثيرًا، ولم أحب أن أريك من نفسي كراهة لهذا، تشوب في نفسك عطاءك السالف»([17]). ومن مظاهر الجحود: الرجوع عن التعديل والتزكية إلى التجريح والذم لمحض الهوى وشهوات الأنفس، قال الزعفراني: «حج بشر المريسي، فلما قدم قال: رأيت بالحجاز رجلاً ما رأيت مثله سائلاً ولا مجيبًا -يقصد الإمام الشافعي -رحمه اللَّه- قال: فقدم علينا ، فاجتمع إليه الناس، وخفوا عن بشر، فجئت إلى بشر، فقلت: «هذا الشافعي الذي كنت تزعم قد قدم»، قال: «إنه قد تغير عما كان عليه»، قال: «فما كان مثل بشر إلا مثل اليهود في شأن عبداللَّه بن سلام»([18]). رصاص من أحببته ذهب *** وذهب من لم ترض عنه رصاص ومن مظاهر الجحود: الانكباب على مصنفات العالم والنهل من فيض علمه سرًّا، مع إظاهر الاستغناء عنه، وذم كتبه في الملأ([19]). ومن مظاهره: تنكر منتسبي الدعوة للجيل السابق الذي عاصر مراحل التأسيس، وعانى ما اكتنفها من جهد وآلام، وليتهم إذ جحدوا كفوا ألسنتهم عن الأذى؛ إذًا لحمدوا أبلغ الحمد في زمن يصدق عليه قول القائل: إنا لفي زمن ترك القبيح به *** من أكثر الناس: إحسان وإجمال وقول الآخر: عدنا في زماننا *** عن حديث المكارم من كفى الناس شره *** فهو في جود حاتم السبب الثالث عشر: اسثمار المغرضين لزلات العلماء: الحكم على زلة العالم هو من وظائف المجتهدين، فهم العارفون بما وافق أو خالف، أما غيرهم؛ فلا تمييز لهم في هذا المقام([20]). «فإن قيل: فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا؟ فالجواب: إن له ضابطًا تقريبيًّا، وهو أن ما كان معدودًا في الأقوال غلطًا وزللاً قليل جدًّا في الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة؛ فليكن اعتقادك أن الحق في المسألة مع السواد الأعظم من المجتهدين، لا من المقلدين»([21]). وخطه يراع الشيخ الكريم الفاضل سليم بن عيد الهلالي عفا الله عنه وعن والديه وأحسن الله إليه وسائر المسلمين. -------------------------------------------------------------------------------- ([1]) «الفقيه والمتفقه» (2/ 97). ([2]) «تذكرة السامع والمتكلم» (ص 87). ([3]) «ترتيب المدارك» (4/ 623). ([4]) «الفقيه والمتفقه» (2/ 83). ([5]) لم يذكر إلا وجهًا واحدًا؛ فتأمل. ([6]) «صحيح البخاري» (1242). ([7]) أخرجه مسلم (2750). ([8]) أخرجه البخاري (402)، ومسلم (2399). ([9]) رواه البخاري (3651)، ومسلم (2533) بلفظ: «خير الناس قرني». ([10]) رواه الدارمي (1/ 65)، والطبراني في «الكبير» (9/ 109) وغيرهما. ([11]) رواه البخاري (100)، ومسلم (2673). ([12]) «الموافقات» (1/ 145-154). ([13]) «الجواهر والدرر» للسخاوي (1/ 58). ([14]) «سير أعلام النبلاء» (18/ 105). ([15]) مقدمة التحقيق لكتاب «الغنية» للقاضي عياض (ص 16-17). ([16]) «سير أعلام النبلاء» (7/ 114). ([17]) (4/ 1245). ([18]) «حلية طالب العلم» (22- 24). ([19]) «الفقه في الدين» (ص 58). ([20]) «فتح الباري» (1/ 166). ([21]) «فتح الباري» (1/ 166). ([22]) «جامع بيان العلم» (1225/ 2410). ([23]) «الموافقات» (4/ 192-193). ([24]) الذي يعرف حروف الهجاء: أ ب ت ث ... إلخ. ([25]) «جامع بيان العلم» رقم (1059). ([26]) «جامع بيان العلم» رقم (2365) (ص 1203). ([27]) «ميزان الاعتدال» (1/ 111). ([28]) «تهذيب التهذيب» (7/ 273). ([29]) «هدي الساري مقدمة فتح الباري» (ص 428). ([30]) «جامع بيان العلم» (2/ 1093). ([31]) «قاعدة في الجرح والتعديل» (ص 53). ([32]) «طبقات الشافعية» (2/ 39). ([33]) انظر: «الرد الوافر» (ص 14-20). ([34]) «ترتيب المدارك» (2/ 350). ([1]) «سير أعلام النبلاء» (18/ 186-187). ([2]) «الموافقات» (1/ 144). ([3]) رواه الخطيب في «تاريخه» (13/ 338). ([4]) «ذيل التبر المسبوك» للسخاوي (ص 4). ([5]) حتى لو كان ساقط العدالة، أو غارقًا في الجهالة يحتاج ليتعرف على مرشحه أن يوضع له «الرمز الانتخابي» كالساعة والسيارة والنخلة!! ([6]) حسن - أخرجه ابن ماجه (4042)، والحاكم (4/ 465، 512)، والإمام أحمد (2/ 291)، وحسنه الألباني -رحمه اللَّه- في «الصحيحة» رقم (1887). ([7]) رواه البخاري في «صحيحه» (1/ 142 - «فتح»). ([8]) رواه البخاري في «صحيحه» (8/ 209). ([9]) «مجموع الفتاوى» (11/ 512). ([10]) المصدر السابق (20/ 8-9). ([11]) المصدر السابق نفسه (28/ 15-17). ([12]) «الدرر الكامنة» (1/ 171). ([13]) «المقدمة» لابن خلدون (35 - 36). ([14]) «ذيل التبر المسبوك» للسخاوي (ص 4). ([15]) «الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة» (272-273). ([16]) رواه البخاري (11/ 229). ([17]) انظر: «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي (2/ 121). ([18]) «تاريخ بغداد» (2/ 65). ([19]) وأكثر ما يقع هذا في زماننا مع العلامة الألباني الذي هو حقيق بقول القائل: عتا في عرضه قوم سلاط *** لهم من نثر جوهره التقاط همو حسدوه لما لم ينالوا *** مناقبه فقد فسقوا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كسالى *** ولكن في أذاه لهم نشاط ([20]) «الموافقات» (5/ 139). ([21]) المصدر السابق (5/ 140).
__________________
متغيب لفترة عن المنتدى جراء السفر . بعض مواضيعي : إفحام اللادينية بيان أن الجرح والتعديل له أصل من الكتاب والسنة مناظرتي مع لاديني جواب سؤال حول منزلة معاوية رضي الله عنه السنة كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي |
أدوات الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | الأقسام الرئيسية | مشاركات | المشاركة الاخيرة |
كل نعمةً ظاهرة خلفها عمل خفي | معاوية فهمي إبراهيم مصطفى | المجتمع المسلم | 0 | 2020-03-15 01:12 PM |