جديد المواضيع |
للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب |
منتدى السنة | الأذكار | زاد المتقين | منتديات الجامع | منتديات شباب الأمة | زد معرفة | طريق النجاح | طبيبة الأسرة | معلوماتي | وادي العرب | حياتها | فور شباب | جوابى | بنك أوف تك |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
الناسخ والمنسوخ : من كتاب مناهل العرفان فى علوم القرآن للشيخ عبد الرحيم الزرقانى
إليكم هذا البحث النفيس فى مسألة الناسخ والمنسوخ ، والتى يتهوك فيها كثيرون من أبناء هذه الأمة الآن. البحث استخرجته من كتاب مناهل العرفان فى علوم القرآن للشيخ / عبد الرحيم الزرقانى ، رحمه الله. وهو يرد على الكثير من الشبهات المثارة وبأسلوب نقلى وعقلى . نفعنا الله وإياكم به رابط التحميل : http://www.shy22.com/dldMEB37434.rar.html كما يمكن تحميله من المرفقات: كما سوف أقوم بوضع نص المبحث فى المشاركات التالية. |
#2
|
|||
|
|||
المبحث الرابع عشر في النسخ
أهمية هذا المبحث لهذا المبحث أهمية خاصة وذلك من وجوه خمسة أولها أنه طويل الذيل كثير التفاريع متشعب المسالك ثانيها أنه تناول مسائل دقيقة كانت مثارا لخلاف الباحثين من الأصوليين الأمر الذي يدعو إلى اليقظة والتدقيق وإلى حسن الاختيار مع الإنصاف والتوفيق ثالثها أن أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين قد اتخذوا من النسخ في الشريعة الإسلامية أسلحة مسمومة طعنوا بها في صدر الدين الحنيف ونالوا من قدسية القرآن الكريم ولقد أحكموا شراك شبهاتهم واجتهدوا في ترويج مطاعنهم حتى سحروا عقول بعض المنتسبين إلى العلم والدين من المسلمين فجحدوا وقوع النسخ وهو واقع وأمعنوا في هذا الجحود الذي ركبوا له أخشن المراكب من تمحلات ساقطة وتأويلات غير سائغة رابعها أن الإلمام بالناسخ والمنسوخ بكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي ويطلع الإنسان على حكمة الله في تربيته للخلق وسياسته للبشر وابتلائه للناس مما يدل دلالة واضحة على أن نفس محمد النبي الأمي لا يمكن أن تكون المصدر لمثل هذا القرآن ولا المنبع لمثل هذا التشريع إنما هو تنزيل من حكيم حميد خامسها أن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم في فهم الإسلام وفي الاهتداء إلى صحيح الأحكام خصوصا إذا ما وجدت أدلة متعارضة لا يندفع التناقض بينها إلا بمعرفة سابقها من لاحقها وناسخها من منسوخها ولهذا كان سلفنا الصالح يعنون بهذه الناحية يحذقونها ويلفتون أنظار الناس إليها ويحملونهم عليها حتى لقد جاء في الأثر أن ابن عباس رضي الله عنهما فسر الحكمة في قوله تعالى :(( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا )) بمعرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وورد أن عليا كرم الله وجهه دخل المسجد فإذا رجل يخوف الناس فقال ما هذا قالوا رجل يذكر الناس فقال ليس برجل يذكر الناس ولكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني فأرسل إليه فقال أتعرف الناسخ ومن المنسوخ قال لا قال فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه وروي أنه كرم الله وجهه مر على قاص فقال أتعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت يريد أنه عرض نفسه وعرض الناس للهلاك ما دام أنه لا يعرف الناسخ من المنسوخ لهذه الوجوه الخمسة التي بسطناها يقتضينا الواجب أن نعنى بهذا المبحث وأن نسير فيه بقدر على حذر متوسعين فيما ينبغي التوسيع فيه مقتصدين فيما وراء ذلك وحسبنا الله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى ما هو النسخ النسخ في اللغة يطلق النسخ في لغة العرب على معنيين أحدهما إزالة الشيء وإعدامه ومنه قول الله تعالى :(( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم )) ومنه قولهم نسخت الشمس الظل ونسخ الشيب الشباب ومنه تناسخ القرون والأزمان والآخر نقل الشيء وتحويله مع بقائه في نفسه وفيه يقول السجستاني من أئمة اللغة والنسخ أن تحول ما في الخلية من النحل والعسل إلى أخرى ومنه تناسخ المواريث بانتقالها من قوم إلى قوم وتناسخ الأنفس بانتقالها من بدن إلى غيره عند القائلين بذلك ومنه نسخ الكتاب لما فيه من مشابهة النقل وإليه الإشارة بقوله تعالى :(( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون )) والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف ومن الصحف إلى غيرها اه وقد اختلف العلماء بعد ذلك في تعيين المعنى الذي وضع له لفظ النسخ فقيل إن لفظ النسخ وضع لكل من المعنيين وضعا أوليا وعلى هذا يكون مشتركا لفظيا وهو الظاهر من تبادر كلا المعنيين بنسبة واحدة عند إطلاق لفظ النسخ وقيل إنه وضع المعنى الأول وحده فهو حقيقة فيه مجاز في الآخر وقيل عكس ذلك وقيل وضع للقدر المشترك بينهما ولكن هذه الآراء الأخيرة يعوزها الدليل ولا يخلو توجيهها من تكلف وتأويل النسخ في الاصطلاح لقد عرف النسخ في الاصطلاح بتعاريف كثيرة مختلفة لا نرى من الحكمة استعراضها ولا الموازنة بينها ونقدها وما دام الغرض منها كلها هو تصوير حقيقة النسخ في لسان الشرع فإننا نجتزئ بتعريف واحد نراه أقرب وأنسب وهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي ومعنى رفع الحكم الشرعي قطع تعلقه بأفعال المكلفين لا رفعه هو فإنه أمر واقع والواقع لا يرتفع والحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين إما على سبيل الطلب أو الكف أو التخيير وإما على سبيل كون الشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا والدليل الشرعي هو وحي الله مطلقا متلوا أو غير متلو فيشمل الكتاب والسنة أما القياس والإجماع ففي نسخهما والنسخ بهما كلام تستقبله في موضع آخر وقولنا رفع جنس في التعريف خرج عنه ما ليس برفع كالتخصيص فإنه لا يرفع الحكم وإنما يقصره على بعض أفراده وسيأتي بسط الفروق بين النسخ والتخصيص فانتظره وقولنا الحكم الشرعي قيد أول خرج به ابتداء إيجاب العبادات في الشرع فإنه يرفع حكم العقل ببراءة الذمة وذلك كإيجاب الصلاة فإنه رافع لبراءة ذمة الإنسان منها قبل ورود الشرع بها ومع ذلك لا يقال له نسخ وإن رفع هذه البراءة لأن هذه البراءة حكم عقلي لا شرعي بمعنى أنه حكم يدل عليه العقل حتى من قبل مجيء الشرع ولا يقدح في كونه حكما عقليا أن الشرع جاء يؤيده بمثل قوله تعالى :(( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا )) وقولنا بدليل شرعي قيد ثان خرج به رفع حكم شرعي بدليل عقلي وذلك كسقوط التكليف عن الإنسان بموته أو جنونه أو غفلته فإن سقوط التكليف عنه بأحد هذه الأسباب يدل عليه العقل إذ الميت والمجنون والعاقل لا يعقلون خطاب الله حتى يستمر تكليفهم والعقل يقضي بعدم تكليف المرء إلا بما يتعقله وأن الله تعالى إذا أخذ ما وهب أسقط ما وجب ولا يقدح في كون هذا الدليل عقليا مجيء الشرع معززا له بمثل قوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاث النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق توجيهات أربعة وإني أوجه نظرك في هذا التعريف إلى نقاط أربع أولاها أن التعبير برفع الحكم يفيد أن النسخ لا يمكن أن يتحقق إلا بأمرين أحدهما أن يكون هذا الدليل الشرعي متراخيا عن دليل ذلك الحكم الشرعي المرفوع والآخر أن يكون بين هذين الدليلين تعارض حقيقي بحيث لا يمكن الجمع بينهما وإعمالهما معا أما إذا انتفى الأمر الأول ولم يكن ذلك الدليل الشرعي متراخيا عن دليل الحكم الأول فلا نسخ وذلك كقوله تعالى :(( أتموا الصيام إلى الليل )) فإن الغاية المذكورة وهي قوله :(( إلى الليل )) تفيد انتهاء حكم الصوم وهو وجوب إتمامه بمجرد دخول الليل ولكن لا يقال لهذه الغاية الدالة على انتهاء هذا الحكم إنها نسخ وذلك لاتصالها بدليل الحكم الأول وهو قوله :(( ثم أتموا الصيام )) بل تعتبر الغاية المذكورة بيانا أو إتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة أو شرط فلا يكون رافعا وإنما يكون رافعا إذا ورد الدليل الثاني بعد أن ورد الحكم مطلقا واستقر من غير تقييد بحيث يدوم لولا الناسخ ولهذا زاد بعضهم تقييد الدليل الشرعي في تعريف الناسخ بالتراخي وزاد بعضهم كلمة على وجه لولاه لكان الحكم الأول ثابتا وقد علمت من هذا الذي ذكرناه أنه لا حاجة إلى هاتين الزيادتين بل هما تصريح بما علم من التعبير في التعريف بكلمة رفع وأما إذا انتفى الأمر الثاني بأن لم يكن بين الدليلين تعارض حقيقي فإنه لا نسخ لأن النسخ ضرورة لا يصار إليها إلا إذا اقتضاها التعارض الحقيقي دفعا للتناقض في تشريع الحكيم العليم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وحيث لا تعارض هناك على الحقيقة فلا حاجة إلى النسخ لأنه لا تناقض ولا ريب أن إعمال الدليلين ولو بنوع تأويل خير من إعمال دليل وإهدار آخر ولهذا حكم الغزالي في كتابه المستصفى بغلط من زعموا تعارضا وتوهموا نسخا بين قوله سبحانه :(( واستشهدوا شهيدين من رجالكم )) وبين الخبر الوارد بقبول شهادة الواحد واليمين معتمدين على ما ظهر لهم في ا لآية من أنها تدل على أنه لا حجة للحكم سوى المذكور فيها من شهادة اثنين مع أن هذا الظاهر لهم غير صحيح لأن الآية لا تدل إلا على كون الشاهدين حجة وعلى جواز الحكم بقولهما أما امتناع الحكم بحجة أخرى كما فهموا فلا تدل الآية عليه حتى يكون تعارض بينها وبين الخبر المذكور بل هو كالحكم بالإقرار وذكر حجة واحدة لا يمنع وجود حجة أخرى ثانيتها أن التعريف المذكور يفيد أن النسخ لا يتوجه إلا إلى الحكم وهو كذلك في الواقع ونفس الأمر وتقسيمهم النسخ إلى نسخ تلاوة ونسخ حكم تقسيم صوري للإيضاح فحسب لأن ما أسموه نسخ تلاوة لم يخرج عن كونه نسخ حكم إذ أن نسخ تلاوة الآية لا معنى له في الحقيقة إلا نسخ حكم من أحكامها وهو رفع الإثابة على مجرد ترتيلها وصحة الصلاة بها ونحوهما ثالثتها أن هذا التعريف يشمل النسخ الواقع في الكتاب وفي السنة جميعا سواء أكانت السنة قولية أم فعلية أو وصفية أم تقريرية وسواء منها ما كان نبويا وما كان قدسيا لأنها كلها وحي بالفعل أو بالقوة والرسول صلى الله عليه وسلم أقامه الله في محراب الإمامة لخلقه وجعله الأسوة الحسنة لعباده وأمر الجميع باتباعه فهو إذن لا يمكن أن يصدر فيما يشرع لأمته ابتداء أو نسخا إلا عن إيحاء الله إليه تصريحا أو تقريرا مثال نسخ الكتاب بالكتاب قوله سبحانه :(( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج )) فإنها نسخت بقوله سبحانه :(( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين )) ومثال نسخ السنة بالسنة نسخ الوضوء مما مست النار بأكله صلى الله عليه وسلم من الشاة ولم يتوضأ رابعتها أن الإضافة في كلمة رفع الحكم الشرعي الواردة في تعريف النسخ من قبيل إضافة المصدر لمفعوله والفاعل مضمر وهو الله تعالى وذلك يرشد إلى أن الناسخ في الحقيقة هو الله كما يدل عليه قوله سبحانه :(( ما ننسخ من آية أو ننسها )) ويرشد أيضا إلى أن المنسوخ في الحقيقة هو الحكم المرتفع وقد يطلق الناسخ على الحكم الرافع فيقال وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء وقد يطلق النسخ على دليله كذلك فيقال آية المواريث نسخت آية الوصية للوالدين والأقربين ويقال خبر أكل الرسول من الشاة ولم يتوضأ ناسخ لخبر وضوئه صلى الله عليه وسلم مما مست النار وهلم والخطب في ذلك جد يسير |
#3
|
|||
|
|||
ما لا بد منه في النسخ
ولعلك تدرك مما سبق أنه لا بد في تحقق النسخ من أمور أربعة أولها أن يكون المنسوخ حكما شرعيا ثانهيا أن يكون دليل رفع الحكم دليلا شرعيا ثالثها أن يكون هذا الدليل الرافع متراخيا عن دليل الحكم الأول غير متصل به كاتصال القيد بالمقيد والتأقيت بالمؤقت رابعها أن يكون بين ذينك الدليلين تعارض حقيقي تلك أربعة لا بد منها لتحقيق النسخ باتفاق جمهرة الباحثين وثمة شروط اختلفوا في شرطيتها منها أن يكون ناسخ القرآن قرآنا وناسخ السنة سنة ومنها كون النسخ مشتملا على بدل للحكم المنسوخ ومنها كون الناسخ مقابلا للمنسوخ مقابلة الأمر للنهي والمضيق للموسع ومنها كون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين إلى غير ذلك مما يطول شرحه وقد يأتيك نبؤه الفرق بين النسخ والبداء البداء بفتح الباء يطلق في لغة العرب على معنيين متقاربين أحدهما الظهور بعد الخفاء ومنه قوله الله سبحانه :(( وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون )) :(( وبدا لهم سيئات ما عملوا )) ومنه قولهم بدا لنا سور المدينة والآخر نشأة رأي جديد لم يك موجودا قال في القاموس وبدا له في الأمر بدوا وبداء وبداة أي نشأ له فيه رأي ومنه قول الله تعالى :(( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين )) أي نشأ لهم في يوسف رأي جديد هو أن يسجن سجنا وقتيا بدليل قوله :(( ليسجننه حتى حين )) ولعل هذا المعنى الثاني هو الأنسب والأوفق بمذهب القائلين به قبحهم الله ولأن عباراتهم المأثورة عنهم جرت هذا المجرى في الاستعمال دون الاستعمال الأول كتلك الكلمة التي نسبوها كذبا إلى جعفر الصادق رضي الله عنه ما بدا لله تعالى في شيء كما بدا له في إسماعيل ذانك معنيان متقاربان للبداء وكلاهما مستحيل على الله تعالى لما يلزمهما من سبق الجهل وحدوث العلم والجهل والحدوث عليه محالان لأن النظر الصحيح في هذا العالم دلنا على أن خالقه ومدبره متصف أزلا وأبدا بالعلم الواسع المطلق المحيط بكل ما كان وما سيكون وما هو كائن كما هدانا هذا النظر الصحيح إلى أنه تعالى لا يمكن أن يكون حادثا ولا محلا للحوادث وإلا لكان ناقصا يعجز عن أن يبدع هذا الكون ويدبره هذا التدبير المعجز ذلك إجمال لدليل العقل أما أدلة النقل فنصوص فياضة ناطقة بأنه تعالى أحاط بكل شيء علما وأنه لا تخفى عليه خافية :(( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير )) :(( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين )) :(( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار )) إلى غير ذلك من مئات الآيات والأحاديث ولكن على رغم أنف هذه البراهين الساطعة من عقلية ونقلية ضل أقوام سفهوا أنفسهم فأغمضوا عيونهم عن النظر في كتاب الكون الناطق وصموا آذانهم عن سماع كلام الله وكلام نبيه الصادق وزعموا أن النسخ ضرب من البداء أو مستلزم للبداء وهكذا اشتبهوا أو شبهوا على الناس الأمر لولا ظهور مصلحة لله ونشوء رأي جديد له ما نسخ أحكامه وبدل تعاليمه ونسوا أو تناسوا أن الله تعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض ما ظهر له أمر كان خافيا عليه وما نشأ له رأي جديد كان يفقده من قبل إنما كان سبحانه يعلم الناسخ والمنسوخ أزلا من قبل أن يشرعهما لعباده بل من قبل أن يخلق الخلق ويبرأ السماء والأرض إلا أنه جلت حكمته علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء في هذا الميقات المعلوم منوطا بحكمة وبمصلحة أخرى ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحوالهم وأن الأحكام وحكمها والعباد ومصالحهم والنواسخ والمنسوخات كانت كلها معلومة لله من قبل ظاهرة لديه لم يخف شيء منها عليه والجديد في النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده لا ظهور ذلك له على حد التعبير المعروف شؤون يبديها ولا يبتديها :(( وما كان ربك نسيا )) اجتمعت اليهود والرافضة على هذه الضلالة ضلالة استلزام النسخ للبداء لكنهم افترقوا بعد ذلك إلى ناحيتين خطيرتين فاليهود أنكروا النسخ وأسرفوا في الإنكار لاستلزامه في زعمهم البداء وهو محال وسنناقشهم الحساب فيما بعد إن شاء الله أما الرافضة فأثبتوا النسخ ثم أسرفوا في إثبات هذا البداء اللازم له في زعمهم ونسبوه إلى الله في صراحة ووقاحة :(( سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا )) ولقد رأيت كيف أبطلنا مزاعمهم بأدلة عقلية ونقلية ورأيت كيف فندنا شبهتهم التي زعموها دليلا وما هي بدليل إن هي إلا خلط في أوهام ومشي في غير سبيل وشتان شتان بين النسخ القائم على الحكمة ورعاية المصلحة وبين البداء المستلزم لسبق الجهل وطرو العلم بقي أنهم تمسحوا في أمرين أولهما قوله سبحانه :(( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب )) والجواب أنه لا مستند لهم في الآية الكريمة بل هي ترد عليهم كما ردت على أشباههم ممن عابوا النسخ على النبي صلى الله عليه وسلم ومعناها أن الله يغير ما شاء من شرائعه وخلقه على وفق علمه وإرادته وحكمته وعلمه سبحانه لا يتغير ولا يتبدل إنما التغير في المعلوم لا في العلم بدليل قوله :(( وعنده أم الكتاب )) أي وعنده المرجع الثابت الذي لا محو فيه ولا إثبات وإنما يقع المحو والإثبات على وفقه فيمحو سبحانه شريعة ويثبت مكانها أخرى ويمحو حكما ويثبت آخر ويمحو مرضا ويثبت صحة ويمحو فقرا ويثبت غنى ويمحو حياة ويثبت موتا وهكذا تعمل يد الله في خلقه وتشريعاته تغييرا وتبديلا وهو الحق وحده لا يعروه تغيير ولا تبديل ولا يتطرق إلى علمه محو ولا إثبات وخلاصة هذا التوجيه أن النسخ تبديل في المعلوم لا في العلم وتغيير في المخلوق لا في الخالق وكشف لنا وبيان عن بعض ما سبق به علم الله القديم المحيط بكل شيء ولهذا ذهب كثير من علمائنا إلى تعريف النسخ بأنه بيان انتهاء الحكم الشرعي الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي ثم قالوا توجيها لهذا الاختيار إن هذا التعريف دفعا ظاهرا للبداء وتقريرا لكون النسخ تبديلا في حقنا بيانا محضا في حق صاحب الشرع الأمر الثاني أنهم تشبثوا بآثار نسبوها إلى أئمة طاهرين منها أن عليا كرم الله وجهه كان يقول لولا البداء لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة ومنها أن جعفر الصادق رضي الله عنه قال ما بدا الله تعالى في شيء كما بدا له في إسماعيل ومنها أن موسى بن جعفر قال البداء ديننا ودين آبائنا في الجاهلية وندفع هذا بأنها مفتريات وأكاذيب كان أول من حاك شباكها الكذاب الثقفي الذي كان ينتحل لنفسه العصمة وعلم الغيب فإذا ما افتضح أمره وكذبته الأيام قال إن الله وعدني ذلك غير أنه بدا له فإذا أوجس في نفسه خيفة من أن يؤاخذه الناس وينتقموا منه على هذا الكفر الشنيع نسب تلك الكفريات إلى أعلام بيت النبوة وهم منها براء وهكذا كان اللعين وأشياعه يحتجون بكفر على كفر ويستدلون بكذب على كذب ويعالجون داء بداء :(( ومن يضلل الله فما له من هاد )) نسأل الله السلامة بمنه وكرمه آمين الفرق بين النسخ والتخصيص قد عرفنا النسخ بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي وقد عرفوا التخصيص بأنه قصر العام على بعض أفراده وبالنظر في هذين التعريفين نلاحظ أن هناك تشابها قويا بين المعرفين فالنسخ فيه ما يشبه تخصيص الحكم ببعض الأزمان والتخصيص فيه ما يشبه رفع الحكم عن بعض الأفراد ومن هذا التشابه وقع بعض العلماء في الاشتباه فمنهم من أنكر وقوع النسخ في الشريعة زاعما أن كل ما نسميه نحن نسخا فهو تخصيص ومنهم من أدخل صورا من التخصيص في باب النسخ فزاد بسبب ذلك في عداد المنسوخات من غير موجب لهذا نقيم لك فروقا سبعة بين النسخ والتخصيص تهديك في ظلمات هذا الاشتباه وتعصمك من أن تتورط فيما تورط فيه سواك أولها أن العام بعد تخصيصه مجاز لأن مدلوله وقتئذ بعض أفراده مع أن لفظه موضوع للكل والقرينة هي ا لمخصص وكل ما كان كذلك فهو مجاز أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له غايته أن الناسخ دل على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان ويظهر ذلك جليا فيما إذا قال الشارع مثلا افعلوا كذا أبدا ثم نسخه بعد زمن قصير فإنه لا يعقل أن يكون مدلوله ذلك الزمن القصير دون غيره بل هو ما زال كما كان مستعملا في جميع الأزمان نصا بدليل قوله أبدا غير أن العمل بهذا النص الشامل لجميع الأزمان لفظا قد أبطله الناسخ لأن استمرار العمل بالنص مشروط بعدم ورود ناسخ ينسخه أيا كان ذلك النص وأيا كان ناسخه فإن سأل سائل ما حكمة تأبيد النص لفظا بينما هو مؤقت في علم الله أزلا أجبناه بأن حكمته ابتلاء الله لعباده أيخضعون لحكمه مع تأبيده عليهم هذا التأبيد الظاهري أم لا فإذا ماز الله الخبيث من الطيب والمطمئن إلى حكمه من التمرد عليه جاء النسخ لحكمة أخرى من التخفيف ونحوه ثانيها أن حكم ما خرج بالتخصيص لم يك مرادا من العام أصلا بخلاف ما خرج بالنسخ فإنه كان مرادا من المنسوخ لفظا ثالثها أن التخصيص لا يتأتى أن يأتي على الأمر لمأمور واحد ولا على النهي لمنهي واحد أما النسخ فيمكن أن يعرض لهذا كما يعرض لغيره ومن ذلك نسخ بعض الأحكام الخاصة به صلى الله عليه وسلم رابعها أن النسخ يبطل حجية المنسوخ إذا كان رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام ويبقى على شيء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض أما التخصيص فلا يبطل حجية العام أبدا بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد تخصيصه خامسها أن النسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنة بخلاف التخصيص فإنه يكون بهما وبغيرهما كدليل الحس والعقل هذا قوله الله سبحانه :(( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما )) قد خصصه قوله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار وهذا قوله سبحانه :(( تدمر كل شيء بأمر ربها )) قد خصصه ما شهد به الحس من سلامة السماء والأرض وعدم تدمير الريح لهما وهذا قوله تعالى :(( إن الله على كل شيء قدير )) قد خصصه ما حكم به العقل من استحالة تعلق القدرة الإلهية بالواجب والمستحيل العقليين سادسها أن النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ عن المنسوخ أما التخصيص فيكون بالسابق واللاحق والمقارن وقال قوم لا يكون التخصيص إلا بمقارن فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه كما إذا قال الشارع اقتلوا المشركين وبعد وقت العمل به قال ولا تقتلوا أهل الذمة ووجهة نظر هؤلاء أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام فلو تأخر وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك لا يجوز فلم يبق إلا اعتباره ناسخا سابعها أن النسخ لا يقع في الأخبار بخلاف التخصيص فإنه يكون في الأخبار وفي غيرها |
#4
|
|||
|
|||
النسخ بين مثبتيه ومنكريه
يذهب أهل الأديان مذاهب ثلاثة في النسخ أولها أنه جائز عقلا وواقع سمعا وعليه إجماع المسلمين من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه وعليه أيضا إجماع النصارى ولكن من قبل هذا العصر الذي خرقوا فيه إجماعهم وركبوا فيه رؤوسهم وهو كذلك رأي العيسوية وهم طائفة من طوائف اليهود الثلاث ثانيها أن النسخ ممتنع عقلا وسمعا وإليه جنح النصارى جميعا في هذا العصر وتشيعوا له تشيعا ظهر في حملاتهم المتكررة على الإسلام وفي طعنهم على هذا الدين القويم من هذا الطريق طريق النسخ وبهذه الفرية أيضا يقول الشمعونية وهم طائفة ثمانية من اليهود ثالثها أن النسخ جائز عقلا ممتنعا سمعا وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود ويعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ولكن على اضطراب في النقل عنه وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهرة المسلمين شبيها بالخلاف اللفظي إلا يكنه ذلك إجمالا لآراء المتدينين في النسخ وسنفصل القول فيها بما نعرضه عليك ففرغ له بالك ووجه إليه انتباهك ولنبدأ بتأييد المذهب الحق وعرض أدلته ثم لنبين حكمة الله فيه وبعد ذلك نستعرض المذاهب الأخرى وما استندت إليه على أنها شبهات ندفعها عن عرين الحق وأغشية نرفعها عن وجه الصواب أدلة ثبوت النسخ عقلا وسمعا لأجل أن نثبت النسخ في مواجهة منكريه جميعا نقيم أدلة على جوازه العقلي وأدلة أخرى على وقوعه السمعي أدلة جواز النسخ عقلا أما أدلة جوازه العقلي فأربعة إجمالا ولا يضير بعضها أن يكون دليلا على الجواز والوقوع معا الدليل الأول أن النسخ لا محظور فيه عقلا وكل ما كان كذلك جائز عقلا أما الكبرى فمسلمة وأما الصغرى فيختلف دليلها عند أهل السنة عن دليلها عند المعتزلة تبعا لاختلاف الفرقتين في أن أحكام الله تعالى يجب أن تتبع المصلحة لعبادة أو لا يجب أن تتبعها فأهل السنة يقولون إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال وله بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته أن يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما شاء وأن يبقي من أحكامه على ما شاء وأن ينسخ منها ما شاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده ولكن ليس معنى هذا انه عابث أو مستبد أو ظالم بل إن أحكامه وأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو عن حكمة بالغة وعلم واسع وتنزه عن البغي والظلم :(( وما ربك بظلام للعبيد )) :(( ولا يظلم ربك )) :(( إن ربك عليم حكيم )) :(( إن الله بالناس لرؤوف رحيم )) والمعتزلة يقولون إنه تعالى يجب أن يتبع في أحكامه مصالح عباده فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة أخرى أمرهم به تارة ونهاهم عنه أخرى إذا تقرر هذا فإن صغرى ذلك الدليل نستدل عليها من مذهب أهل السنة هكذا النسخ تصرف في التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال الذي لا يجب عليه رعاية مصالح عباده في تشريعه وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمة وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا وما على مذهب أهل الاعتزال فننظم الدليل هكذا النسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا وكيف يكون محظور عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال فالطبيب يأمر مريضه بتناول الدواء ما دام مريضا ثم ينهاه عنه إذا أبل من مرضه وعاد سليما والمربية تقدم إلى طفلها أخف الأغذية من لبن ونحوه دون غيره فإذا ترعرع ودرج حرمت عليه المراضع ثم انتقلت به إلى غذاء غير اللبن ونحوه وهكذا تنتقل به من الخفيف إلى الثقيل ومن الثقيل إلى الأثقل تبعا لتدرجه في مدارج القوة والنضج والمعلم يتعهد تلاميذه البادئين بأسهل المعلومات ثم يتدرج بهم من الأسهل إلى السهل ومن السهل إلى الصعب ومن الصعب إلى الأصعب حتى يصل بهم إلى أدق النظريات مقتفيا في ذلك آثار خطاهم إلى السمو الفكري والكمال العقلي كذلك الأمم تتقلب كما يتقلب الأفراد في أطوار شتى فمن الحكمة في سياستها وهدايتها أن يصاغ لها من التشريعات ما يناسب حالها في الطور الذي تكون فيه حتى إذا انتقلت منه إلى طور آخر لا يناسبه ذلك التشريع الأول حق أن يصاغ لها تشريع آخر يتفق وهذا الطور الجديد وإلا لاختل ما بين الحكمة والأحكام من الارتباط والإحكام ولم يجر تدبير الخلق على ما نشهده من الإبداع ودقة النظام وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة :(( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )) فإنه يفهم منها أن كل آية يذهب بها الله تعالى على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل فإنه جلت حكمته يأتي عباده بنوع آخر هو خير لهم من الآية الذاهبة أو مثلها والخيرية قد تكون في النفع وقد تكون في الثواب وقد تكون في كليهما أما المثلية فلا تكون إلا في الثواب فقط وذلك لأن المماثلة في النفع لا تتصور لأنه على تقدير ارتفاع الحكم الأول فإن المصلحة المنوط بها ذلك الحكم ترتفع ولا تبقى إلا مصلحة الآية المأتي بها فتكون خيرا من الذاهبة في نفعها لا محالة وإذا قدر بقاء الحكم الأول وكان النسخ للتلاوة وحدها فالمصلحة الأولى باقية على حالها لم يجد غيرها حتى يكون خيرا منها أو مثلها الدليل الثاني وهو دليل إلزامي للمنكرين أن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته لكنهم يجوزون هذا عقلا ويقولون بوقوعه سمعا فليجوزوا هذا لأنه لا معنى للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ وهذا ليس بفارق مؤثر فقول الشارع مثلا أول يوم من رمضان صوموا إلى نهاية هذا الشهر مساو لأن يقول أول يوم من رمضان صوموا من غير تقييد بغاية حتى إذا ما انتهى شهر رمضان قال أول يوم من شوال أفطروا وهذا الأخير نسخ لا ريب فيه وقد جوز منكروه المثال الأول فليجوزوا هذا المثال الثاني لأنه مساويه والمتساويات يجب أن يتحد حكمهما وإلا لما كانا متساويين الدليل الثالث أن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما ثبتت رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة لكن رسالته العامة للناس ثابتة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي يطول شرحها إذن فالشرائع السابقة ليست باقية بل هي منسوخة بهذه الشريعة الختامية وإذن فالنسخ جائز وواقع أما ملازمة هذا الدليل فنبرهن عليها بأن النسخه لو لم يكن جائزا وواقعا لكانت الشرائع الأولى باقية ولو كانت باقية ما ثبتت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة الدليل الرابع ما يأتي من أدلة الوقوع السمعي لأن الوقوع يستلزم الجواز وزيادة |
#5
|
|||
|
|||
أدلة وقوع النسخ سمعا
الأدلة السمعية على وقوع النسخ نوعان أحدهما تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى من غير توقف على إثبات نبوة الرسول لهم والآخر تقوم به الحجة على من آمن بنبوته صلى الله عليه وسلم كأبي مسلم الأصفهاني من المسلمين وكالعيسوية من اليهود فإنهم يعترفون برسالته عليه الصلاة والسلام ولكن يقولون إلى العرب خاصة وهؤلاء تلزمهم بأنهم متى سلموا برسالته وجب أن يصدقوه في كل ما جاء به ومن ذلك عموم دعوته والنسخ الوارد في الكتاب والسنة النوع الأول أما النوع الأول فآحاده كثيرة تفيض بها كتبهم الدينية ونحن نجتزئ منها بما يلي إلزاما لهم وإن كنا لا نؤمن بكل ما آمنوا به أولا جاء في السفر الأول من التوارة أن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من السفينة إني جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا من الدواب على أصحاب الشرائع من بعد نوح ومنهم موسى نفسه كما جاء في السفر الثالث من توراتهم ثانيا جاء في التوراة أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وورد أنه كان يولد له في كل بطن من البطون ذكر وأنثى فكان يزوج توأمه هذا للآخر ويزوج توأمه الآخر لهذا وهكذا إقامة لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم ثالثا أن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده عليهما السلام ثم قال الله له لا تذبحه وقد اعترف منكرو النسخ بذلك رابعها أن عمل الدنيا كان مباحا يوم السبت ومنه الاصطياد ثم حرم الله الاصطياد على اليهود باعترافهم خامسا أن الله أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ثم أمرهم برفع السيف عنهم سادسا أن الجمع بين الأختين كان مباحا في شريعة يعقوب ثم حرم في شريعة موسى عليهما الصلاة والسلام سابعا أن الطلاق كان مشروعا في شرعة موسى ثم جاءت شريعة عيسى فحرمته إلا إذا ثبت الزنى على الزوجة ثامنا أنهم نقلوا عن عيسى في إنجيل متى أنه قال لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة فهذا يدل على أن رسالة عيسى رسالة محلية خاصة بالإسرائيليين ثم نقلوا عن عيسى نفسه في إنجيل مرقس أنه قال اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها فإذا أحسنا النية بالإنجيلين كان لا مناص لنا من القول بنسخ النص الأول بالثاني وإلا فإن النصين يتناقضان ويتساقطان ويسقط بسقوطهما الإنجيلان بل تسقط الأناجيل كلها لأنها متماثلة وما جاز على أحد الأمثال يجوز على الآخر تاسعا أن الختان كان فريضة في دين إبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم ولكن الحواريين جاؤوا بعد رفع عيسى فنهوا عن الختان كما ثبت ذلك في رسائل الحواريين فإما أن يكون هذا نسخا وإما أن يكون افتراء وكذبا لأنه لم يؤثر عن عيسى كلمة واحدة تدل على نسخ الختان عاشرا أن أكل لحم الخنزير محرم في اليهودية ومضى عهد عيسى دون أن يعرف عنه ما يدل على إباحته ولكن الحورايين جاؤوا بعد عروج عيسى أيضا فأباحوا لحم ا لخنزير على زعم المسيحيين فإما أن يكون هذا نسخا وإما أن يكون افتراء وكذبا نحو ما سبق النوع الثاني ذلك هو النوع الأول من أدلة النسخ السمعية أما النوع الثاني فمنه ما يأتي أولا قوله تعالى :(( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )) ثانيا قوله تعالى :(( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب )) وقد أسلفنا الكلام على هاتين الآيتين ونزيدك أن دلالتهما على وقوع النسخ ملحوظ فيهما أنهما نزلتا ردا على طعن الطاعنين على الإسلام ونبي الإسلام بوقوع النسخ في الشريعة المطهرة ثالثا قوله تعالى :(( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون )) ووجه الدلالة في هذه الآية أن التبديل يتألف من رفع لأصل وإثبات لبدل وذلك هو النسخ سواء أكان المرفوع تلاوة أم حكما رابعا قوله تعالى :(( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم )) ووجه الدلالة فيها أنها تفيد تحريم ما أحل من قبل وما ذلك إلا نسخ وكلمة :(( أحلت لهم )) يفهم منها أن الحكم الأول كان حكم شرعيا لا براءة أصلية خامسا أن سلف الأمة أجمعوا على أن النسخ وقع في الشريعة الإسلامية كما وقع بها سادسا أن في القرآن آيات كثيرة نسخت أحكامها وهذا دليل في طيه أدلة متعددة لأن كل آية من هذه الآيات المنسوخة تعتبر مع ناسخها دليلا كاملا على وقوع النسخ إذا الوقوع يكفي في إثباته وجود فرد واحد وسنتحدث فيها بعد إن شاء الله عن هذه الآيات المنسوخة وما نسخها حكمة الله في النسخ الآن وقد عرفنا النسخ وفرقنا بينه وبين ما يلتبس به وأيدناه بالأدلة يجدر بنا أن نبين حكمة الله تعالى فيه لأن معرفة الحكمة تريح النفس وتزيل اللبس وتعصم من الوسوسة والدس خصوصا في مثل موضوعنا الذي كثر منكروه وتصيدوا لإنكاره الشبهات من هنا وهناك ولأجل تفصيل القول في الحكمة نذكر أن النسخ وقع بالشريعة الإسلامية ووقع فيها على معنى أن الله نسخ بالإسلام كل دين سبقه ونسخ بعض أحكام هذا الدين ببعض أما حكمته سبحانه في أنه نسخ به الأديان كلها فترجع إلى أن تشريعه أكمل تشريع يفي بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها بعد أن بلغت أشدها واستوت وبيان ذلك أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دورا غيره فالبش ر أول عهدهم بالوجود كانوا كالوليد أول عهده بالوجود سذاجة وبساطة وضعفا وجهالة ثم أخذوا يتحولون من هذا العهد رويدا رويدا ومروا في هذا التحول أو مرت عليهم أعراض متباينة من ضآلة العقل وعماية الجهل وطيش الشباب وغشم القوة على تفاوت في ذلك بينهم اقتضى وجود شرائع مختلفة لهم تبعا لهذا التفاوت حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه جاء هذا الدين الحنيف ختاما للأديان ومتمما للشرائع وجامعا لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية ومرونة القواعد جمعا وفق بين مطالب الروح والجسد وآخى بين العلم والدين ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد وأسر وجماعات وأمم وشعوب وحيوان ونبات وجماد مما جعله بحق دينا عاما خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هذا إجمال له تفاصيله التي ألمعنا إليها في مناسبات سابقة وسنعرض لها إن شاء الله في مناسبات آتية وأما حكمة الله في أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض فترجع إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرقيها ويمحصها وبيان ذلك أن الأمة الإسلامية في بدايتها حين صدعها الرسول بدعوته كانت تعاني فترة انتقال شاق بل كان أشق ما يكون عليها في ترك عقائدها وموروثاتها وعادتها خصوصا مع ما هو معروف عن العرب الذي شوفهوا بالإسلام من التحمس لما يعتقدون أن من مفاخرهم وأمجادهم فلو أخذوا بهذا الدين الجديد مرة واحدة لأدى ذلك إلى نقيض المقصود ومات الإسلام في مهده ولم يجد أنصارا يعتنقونه ويدافعون عنه لأن الطفرة من نوع المستحيل الذي لا يطيقه الإنسان من هنا جاءت الشريعة إلى الناس تمشي على مهل متألفة لهم متلطفة في دعوتهم متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئا فشيئا منتهزة فرصة الألف والمران والأحداث الجادة عليهم لتسير بهم من الأسهل إلى السهل ومن السهل إلى الصعب ومن الصعب إلى الأصعب حتى تم الأمر ونجح الإسلام نجاحا لم يعرف مثله في سرعته وامتزاج النفوس به ونهضة البشرية بسببه تلك الحكمة على هذا الوجه تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من المنسوخ كموقف الإسلام في سموه ونبله من مشكلة الخمر في عرب الجاهلية بالأمس وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية ويأتونها لا على أنها عادة مجردة بل على أنها أمارة القوة ومظهر الفتوة وعنوان الشهامة فقل لي بربك هل كان معقولا أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها ولو لم يتألفهم ويتلطف بهم إلى درجة أن يمتن عليهم بها أول الأمر كأنه يشاركهم في شعورهم وإلى حد أنه أبى أن يحرمها عليهم في وقت استعدت فيه بعض الأفكار لتسمع كلمة تحريمه حين سألوه صلى الله عليه وسلم :(( يسألونك عن الخمر والميسر )) أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه فالتخفيف على الناس ترفيها عنهم وإظهارا لفضل الله عليهم ورحمته بهم وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده وتحبيب لهم فيه وفي دينه وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته أو سهولته فالابتلاء والاختبار ليظهر المؤمن فيفوز والمنافق فيهلك ليميز الخبيث من الطيب يبقى الكلام في حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم وفي حكمة نسخ التلاوة مع بقاء الحكم أما حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم فتسجل تلك الظاهرة الحكيمة ظاهرة سياسة الإسلام للناس حتى يشهدوا أنه هو الدين الحق وأن نبيه نبي الصدق وأن الله هو الحق المبين العليم الحكيم الرحمن الرحيم يضاف إلى ذلك ما يكتبونه من الثواب على هذه التلاوة ومن الاستمتاع بما حوته تلك الآيات المنسوخة من بلاغة ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية بها وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فحكمته تظهر في كل آية تناسبها وإنه لتبدو لنا حكمة رائعة في مثال مشهور من هذا النوع ذلك أنه صح في الرواية عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا كان فيما أنزل من القرآن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة أي كان هذا النص آية تتلى ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها معمولا به إلى اليوم والسر في ذلك أنها كانت تتلى أولا لتقرير حكمها ردعا لمن تحدثه نفسه أنه يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات حتى إذا ما تقرر هذا الحكم في النفوس نسخ الله تلاوته لحكمة أخرى هي الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة حيث سلكها مسلك ما لا يليق أن يذكر فضلا عن أن يفعل وسار بها في طريق يشبه طريق المستحيل الذي لا يقع كأنه قال نزهوا الأسماع عن سماعها والألسنة عن ذكرها فضلا عن الفرار منها ومن التلوث برجسها كتب الله لنا الحفظ والعصمة إنه ولي كل نعمة وتوفيق |
#6
|
|||
|
|||
شبهات المنكرين للنسخ ودفعها
نستطيع أن ننوع المنكرين للنسخ أنواعا فنوع ينكر جوازه عقلا ووقوعه سمعا وهم نصارى هذا العصر وفرقة الشمعونية من اليهود ونوع ينكره سمعا ويجوزه عقلا وهم العنانية من اليهود أيضا ونوع يجوزه ع قلا ويقول بوقوعه سمعا بيد أنه ينكر أن الشريعة الإسلامية ناسخة لليهودية وهم العيسوية تمام فرق اليهود الثلاث ونوع يجوزه عقلا وينكره سمعا ولكن إنكاره صوري يتأول فيه بما يجعل خلافه لجمهرة المسلمين خلافا لفظيا أو شبيها باللفظي وهو أبو مسلم الاصفهاني ومن تبعه فبين أيدينا إذن من انفردوا بإنكار النسخ عقلا وهم نصارى هذا العصر وشمعونية اليهود ومن توفقوا على إنكاره سمعا وإن اختلفوا في مدى هذا الإنكار وفي كيفيته وهم نصارى هذا العصر وعنانية اليهود والعيسويون منهم وأبو مسلم الأصفهاني وأتباعه من المسلمين ولكل من هؤلاء جميعا شبهات حسبوها أدلة وليست أدلة كما يتبين لك ذلك في هذا الاستعراض الجامع شبهات المنكرين لجوازه عقلا لا ريب أن مذهب المنكرين لجواز النسخ عقلا هو أخطر المذاهب وأشنعها وأبعدها عن الحق وأوغلها في ا لباطل ومجرد إنكاره الجواز العقلي يستلزم إنكار الوقوع الشرعي وهل يقع في الوجود ما أحاله العقل لهذا نبدأ بتفنيد هذا المذهب ودفع شبهاته الشبهة الأولى ودفعها يقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما من أحكامه لكان ذلك إما لحكمة ظهرت له كانت خافية عليه وإما لغير حكمة وكل هذين باطل أما الأول فلأنه يستلزم تجويز البداء والجهل بالعواقب على علام الغيوب وأما الثاني فلأنه يستلزم تجويز العبث على الحكيم العليم اللطيف الخبير والبداء والعبث مستحيلان عليه سبحانه بالأدلة العقلية والنقلية فما أدى إليهما وهو جواز النسخ محال وندفع هذه الشبهة بأن نسخ الله تعالى ما شاء من أحكامه مبني على حكمة كانت معلومة له أولا ظاهرة لم تخف عليه ولن تخفى عليه أبدا غاية الأمر أن مصالح العباد تتجدد بتجدد الأزمان وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال وأسراره وحكمه سبحانه لا تتناهى ولا يحيط بها سواه فإذا نسخ حكما بحكم لم يخل هذا الحكم الثاني من حكمة جديدة غير حكمة الحكم الأول هي مصلحة جديدة للعباد في الحكم الجديد أو هي غير تلك وسبحان من أحاط بكل شي علما وإذن فلا يستلزم نسخ الله لأحكامه بداء ولا عبثا ولكن هؤلاء الجاحدين غفلوا أوتغالفوا عن هذا حتى جاء الترديد في شبهتهم ناقصا لم يستوف وجوه الاحتمالات كما ترى ولو استوفوه لقالوا النسخ إما أن يكون لحكمة ظهرت لله كانت خافية عليه أو لحكمة كانت معلومة له لم تكن خافية عليه أو لغير حكمة وأكبر الظن أنهم لم يفطنوا إلى هذا ولو فطنوا له ما اشتبهوا ولو اشتبهوا بعد فطنتهم له لاخترنا الشق الثاني من هذا الترديد ثم أيدناه بتوافر أدلة العقل والنقل عليه كما قررنا الشبهة الثانية ودفعها يقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم للزم على ذلك أحد باطلين جهله جل وعلا وتحصيل الحاصل وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد وإما أن يكون قد علمه على أنه مؤقت فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال وإن كان قد علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت ورد عليه أن المؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل وهو باطل وندفع هذه الشبهة بأن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد ولكنه علم بجانب ذلك أن تأقيته إنما هو بورود الناسخ لا بشيء آخر كالتقييد بغاية في دليل الحكم الأول وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له شأنه تعالى في الأسباب ومسبباتها وقد تعلق علمه بها كلها ولا تنس ما قررناه ثمة من أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله رفع بالنسبة إلينا الشبهة الثالثة ودفعها يقولون لو جاز النسخ للزم أحد باطلين تحصيل الحاصل وما هو في معناه وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهي عندها أو يكون قد أبده نصا فإن كان قد غياه بغاية فإنه ينتهي بمجرد وجود هذه الغاية وإذن لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ وإلا لزم تحصيل الحاصل وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد لزم المحال من وجوه ثلاثة أولها التناقض لأن التأبيد يقتضي بقاء الحكم ولا ريب أن النسخ ينافيه ثانيها تعذر إفادة التأبيد من الله للناس لأن كل نص يمكن أن يفيد تبطل إفادته باحتمال نسخه وذلك يفضي إلىالقول بعجز الله وعيه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم تعالى الله عن ذلك ثالثها استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ وندفع هذه الشبهة أولا بأن حصر الحكم المنسوخ في هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع غير صحيح لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتا ولا مؤبدا بل يجيء مطلقا عن التأقيت وعن التأبيد كليهما وعليه فلا يستلزم طرو النسخ عليه شيئا من المحالات التي ذكروها وإطلاق هذا الحكم كاف في صحة نسخه لأنه يدل على الاستمرار بحسب الظاهر وإن لم يعرض له النص ثانيا أن ما ذكروه من امتناع نسخ الحكم المؤبد غير صحيح أيضا وما استندوا إليه منقوض بوجوه ثلاثة أولها أن استدلالهم بأنه يؤدي إلىالتناقض مدفوع بأن الخطابات الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ كما أنها مقيدة بأهلية المكلف لتكليف وألا يطرأ عليه جنون أو غفلة أو موت وإذن فمجيء الناسخ لا يفضي إلى تناقض بينه وبين المنسوخ بحال ثانيها أن استدلالهم بأنه يؤدي إلى أن يتعذر على الله بيان التأبيد لعباده مدفوع بأن التأبيد يفهمه الناس بسهولة من مجرد خطابات الله الشرعية المشتملة على التأبيد وهو ما يشعر به كل واحد منا وذلك لأن الأصل بقاء الحكم الأول وما اتصل به من تأقيت أو تأبيد وطرو الناسخ احتمال مرجوح واستصحاب الأصل أمر يميل إليه الطبع كما يؤيده العقل والشرع ثالثها أن جواز نسخ الشريعة الإسلامية إن لزمنا معاشر القائلين بالنسخ فإنه يلزمنا على اعتبار أنه احتمال عقلي لا شرعي بدليل أننا نتكلم في الجواز العقلي لا الشرعي أما نسخ الشريعة الإسلامية بغيرها من الناحية الشرعية فهو من المحالات الظاهرة لتظافر الأدلة على أن الإسلام دين عام خالد ولا يضير المحال في حكم الشرع أن يكون من قبيل الجائز في حكم العقل الشبهة الرابعة ودفعها يقولون إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين واجتماعهما محال وبيان ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أنه حسن وطاعة ومحبوب لله والنهي عنه يقتضي أنه قبيح ومعصية ومكروه له تعالى فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه او نهى عن الشيء ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير بل هي تابعة لتعلق أمر الله ونهيه بالفعل وعلى هذا يكون الفعل حسنا وطاعة ومحبوبا لله ما دام مأمورا به من الله ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى ما دام منهيا عنه منه تعالى والقائلون بالحسن والقبح العقليين من المعتزلة يقرون بأنهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال وبهذا التوجيه ينتفي اجتماع الضدين لأن الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا غير الوقت الذي يكون فيه ذلك الفعل قبيحا فلم يجتمع الحسن والقبح في وقت واحد على فعل واحد ب |
#7
|
|||
|
|||
شبهات المنكرين للنسخ سمعا
لقد نوعنا هؤلاء فيما سبق إلى أنواع وقلنا إن لكل منهم طريقة خاصة في تكييف دعواه وفي صياغة شبهته وها هي ذي دعاويهم وشبهاتهم تلقى حتفها بين يديك فيما نسوقه إليك شبهة العنانية والشمعونية يقولون إن التوارة التي أنزلها الله على موسى لم تزل محفوظة لدينا منقولة بالتواتر فيما بيننا وقد جاء فيها هذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض وجاء فيها أيضا الزموا يوم السبت أبدا وذلك يفيد امتناع النسخ لأن نسخ شيء من أحكام التوراة لا سيما تعظيم يوم السبت إبطال لما هو من عنده تعالى وندفع هذه الشبهة بوجوه خمسة أولها أن شبهتهم هذه أقصر من مدعاهم قصورا بينا لأن قصارى ما تقتضيه إن سلمت هو امتناع نسخ شريعة موسى عليه السلام بشريعة أخرى أما تناسخ شرائع سواها فلا تدل هذه الشبهة على امتناعه بل يبعد أن ينكر اليهود انتساخ شرائع الإسرائيليين قبل اليهودية بشريعة موسى فكان المنظور أن تجيء دعواهم اقصر مما هو محكى عنهم بحيث تتكافأ ودليلهم الذي زعموه أو أن يجيء دليلهم الذي زعموه أعم من هذا حتى يتكافأ ودعواهم التي ادعوها ثانيها أنا لا نسلم لهم ما زعموه من أن التوراة لم تزل محفوظة في أيديهم حتى يصح استدلالهم بها بل الأدلة متضافرة على أن التوراة الصحيحة لم يعد لها وجود وأنه أصاب من التغيير والتبديل ما جعلها في خبر كان من تلك الأدلة أن نسخة التوراة التي بأيدي السامريين تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء في نسخة العنانيين وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة ومنها أنه جاء في بعض نسخ التوراة ما يفيد أن نوحا أدرك جميع آبائه إلى آدم وأنه أدرك من عهد آدم نحوا من مائتي سنة وجاء في بعض نسخ أخرى ما يفيد أن نوحا أدرك من عمر إبراهيم ثمانيا وخمسين سنة وكل هذا باطل تاريخيا ومنها أن نسخ التوراة التي بأيديهم تحكي عن الله وعن أنبيائه وملائكته أمورا ينكرها العقل ويمجها الطبع ويتأذى بها السمع مما يستحيل معه أن يكون هذا الكتاب صادرا عن نفس بشرية مؤمنة طاهرة فضلا عن أن ينسب إلى ولي فضلا عن أن ينسب إلى نبي فضلا عن أن ينسب إلى الله رب العالمين من ذلك أن الله ندم على إرسال الطوفان إلى العالم وأنه بكى حتى رمدت عيناه وأن يعقوب صارعه جل الله عن ذلك كله ون ذلك أن لوطا شرب الخمر حتى ثمل وزنى بابنتيه ومنه أن هارون هو الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل ودعاهم إلى عبادته من دون الله ومن الأدلة أيضا على فساد دعوى بقاء التوراة وحفظها ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين بل عند اليهود أنفسهم من أن بني إسرائيل وهم حملة التوراة وحفاظها قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة وعبدوا الأصنام وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل ولا ريب أن هذه مطاعن شنيعة جارحة لا تبقى لأي واحد منهم أي نصيب من عدالة أو ثقة ولا تحمل لهذه النسخ التي زعموا أنها التوراة أقل شيء من القيمة أو الصحة ما داموا هم رواتها وحفاظها وما دامت هي لم تعرف إلا عن طريقهم وبروايتهم ثالثها أن هذا التواتر الذي خلعوه على التوراة لا يسلم لهم أيضا لأنها لو كانت متواترة لحاجوا بها أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم ولعارضوا دعواه عموم رسالته بقول التوراة التي يؤمن بها ولا يجحدها بل يجهر بأنه جاء مصدقا لها ويدعو المسلمين أنفسهم إلى الإيمان بها ولكن ذلك لم يكن ولو كان لنقل واشتهر بل الذي نقل واشتهر هو أن كثيرا من أخبار اليهود وعلمائهم كعبد الله بن سلام وأضرابه قد القوا القياد لرسول الله مؤمنين ودنوا لشريعته مسلمين واعترفوا بأنه الرسول الذي بشرت به التوراة والإنجيل رابعها أن لفظ التأبيد الذي اعتمدوا عليه فيما نقلوه لا يصلح حجة لهم لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقة من ذلك ما جاء في البقرة التي أمروا بذبحها هذه سنة لكم أبدا وما جاء في القربان قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما مع أن هذين الحكمين منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم على رغم التصريح فيهما بما يفيد التأبيد كما ترى خامسها أن نسخ الحكم المؤبد لفظا جائز على الصحيح كما أشرنا إلى ذلك قبلا فلتكن هاتان العبارتان اللتان اعتمدوا عليهما منسوختين أيضا وشهبة التناقض تندفع بأن التأبيد مشروط بعدم ورود ناسخ فإذا ورد الناسخ انتفى ذلك التأبيد وتبين أنه كان مجرد تأبيد لفظي للابتلاء والاختبار فتأمل شبهة النصارى يقولون إن المسيح عليه السلام قال السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول وهذا يدل على امتناع النسخ سمعا وندفع هذه الشبهة أولا بأنا لا نسلم أن الكتاب الذي بأيديهم هو الإنجيل الذي نزل على عيسى إن هو إلا قصة تاريخية وضعها بعض المسيحيين يبين فيها حياة المسيح وولادته ونشأته ودعوته والأماكن التي تنقل فيها والآيات التي ظهرت على يديه ومواعظه ومناظراته كما يتحدث فيها عن ذلك الحادث الخيالي حادث الصلب وعلى رغم أنها قصة فقد عجزوا عن إقامة الدليل على صحتها وعدالة كاتبها وأمانته وضبطه كما أعياهم اتصال السند وسلامته من الشذوذ والعلة بل ثبت علميا تناقض نسخ هذه القصة التي أسموها الإنجيل مما يدل على أنها ليست من عند ا لله ولو كانت من عند ا لله ما أتاها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وصدق الله في قوله عن القرآن :(( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )) ثانيا أن سياق هذه الكلمة في إنجليهم يدل على أن مراده بها تأبيد تنبؤاته وتأكيد أنها ستقع لا محالة أما النسخ فلا صلة لها به نفيا ولاإثباتا وذلك لأن المسيح حدث أصحابه بأمور مستقبلة وبعد أن انتهى من حديثه هذا أتى بهذه الجملة التي تشبثوا بها السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول ولا ريب أن لسياق الكلام تأثيره في المراد منه وهكذا شرحها المفسرون منهم للإنجيل وقالوا إن فهمها على عمومها لا يتفق وتصريح المسيح بأحكام ثم تصريحه بما يخالفها من ذلك أنه قال لأصحابه كما جاء في إنجيل متى إلى طريق أمم لا تمضوا ومدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالجري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة وهذا اعتراف بخصوص رسالته لنبي إسرائيل ثم قال مرة أخرى كما في إنجيل مرقس اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة فالقول الثاني ناسخ للأول ثالثا أن هذه الجملة على تسليم صحتها وصحة رواته وكتابها الذي جاءت فيه لا تدل على امتناع النسخ مطلقا إنما تدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح فقط فشبهتهم على ما فيه قاصرة قصورا بينا عن مدعاهم شبهة العيسوية يقول هؤلاء اليهود أتباع أبي عيسى الأصفهاني لا سبيل إلى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى قد أيده بالمعجزات الكثيرة القاهرة ولأن التوراة قد بشرت بمجيئه ولا سبيل أيضا إلى القول بعموم رسالته لأن ذلك يؤدي إلى انتساخ شريعة إسرائيل بشريعته وشريعة إسرائيل مؤبدة بدليل ما جاء في التوراة من مثل هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السموات والأرض وإنما هو رسول إلى العرب خاصة وعلى هذا فالخلاف بينهم وبين من سبقهم أن دعواهم مقصورة على منع انتساخ شريعة موسى بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وشبهتهم التي ساقوها متكافئة مع دعواهم هذه ويفهم من اقتصارهم على هذا أنهم يجوزون أن تتناسخ الشرائع سمعا فيما عدا هذه الصورة |
#8
|
|||
|
|||
وندفع شبهتهم هذه بأمرين
أولهما أن دليلهم الذي زعموه هو دليل العنانية والشمعونية من قبلهم ولقد أشبعناه تزييفا وتوهينا بالوجوه الستة التي أسلفناها آنفا فالدفع هنا هو عين الدفع هناك فيما عدا الوجه الأول ثانيهما أن اعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول أيده الله بالمعجزات وجاءت البشارة به في التوراة يقضي عليهم لا محالة أن يصدقوه في كل ما جاء به ومن ذلك أن رسالته عامة وأنها ناسخة للشرائع قبله حتى شريعة موسى نفسه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم بخصوصه لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي أما أن يؤمنوا برسالته ثم لا يصدقوه في عموم دعوته فذلك تناقض منهم لأنفسهم ومكابرة للحجة الظاهرة لهم : يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون شبهة أبي مسلم النقل عن أبي مسلم مضطرب فمن قائل إنه يمنع وقوع النسخ سمعا على الإطلاق ومن قائل إنه ينكر وقوعه في شريعة واحدة ومن قائل إنه ينكر وقوعه في القرآن خاصة ورجحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن وأبعد الروايات عن الرجل هي الرواية الأولى لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبي مسلم ينكر وقوع النسخ جملة اللهم إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط فإنها تهون حينئذ على معنى أن ما نسميه نحن نسخا يسميه هو تخصيصا بالزمان مثلا وإلى ذلك ذهب بعض المحققين قال التاج السبكي إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذي نسميه نحن نسخا ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه ويسميه تخصيصا اه احتج أبو مسلم بقوله سبحانه : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وشبهته في الاستدلال أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا والنسخ فيه أبطال لحكم سابق وندفع مذهب أبي مسلم وشبهته بأمور أربعة أولها أنه لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته لكان دليله قاصرا عن مدعاه لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ وهو نسخ الحكم دون التلاوة فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن أما نسخ التلاوة مع الحكم أو مع بقائه فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل ثانيها أن معنى الباطل في الآية ما خالف الحق والنسخ حق ومعنى الآية أن عقائد القرآن موافقة للعقل وأحكامه مسايرة للحكمة وأخباره مطابقة للواقع ألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ولعلك تدرك معي أن تفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه لأن النسخ كما قررنا تصرف إلهي حكيم تقتضيه الحكمة وترتبط به المصلحة ثالثها أن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي لا يعدو حدود التسمية نأخذ عليه أنه أساء الأدب مع الله في تحمسه لرأي قائم على تحاشي لفظ اختاره جلت حكمته ودفع عن معناه بمثل قوله : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وهل بعد اختيار الله اختيار وهل بعد تعبير القرآن تعبير : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم رابعها أن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص وقد فصلناها فيما سبق فارجع إليها إن شئت حتى تعلم شطط صاحبنا فيما ذهب إليها جنبنا الله الشطط وطريق العوج ملاحظة تشيع لأبي مسلم بعض الباحثين من قدامى ومحدثين وحطبوا في حبله قليلا أو كثيرا وذاعت شبهات حديثه فاسدة حول تشريع الإسلام للنسخ ولكنها لا تخرج عند الإمعان عن نطاق الشبهات الآنفة التي دحضناها لهذا نكتفي بما ذكرناه عما لم نذكره فرارا من التكرار وتجنبا لإثارة الخصام وحبا في الوصول إلى الحقيقة بسلام طرق معرفة النسخ لا بد في تحقيق النسخ كما علمت من ورود دليلين عن الشارع وهما متعارضان تعارضا حقيقيا لا سبيل إلى تلافيه بإمكان الجمع بينهما على أي وجه من وجوه التأويل وحينئذ فلا مناص من أن نعتبر أحدهما ناسخا والآخر منسوخا دفعا للتناقض في كلام الشارع الحكيم ولكن أي الدليلين يتعين أن يكون ناسخا وأيهما يتعين أن يكون منسوخا هذا ما لا يجوز الحكم فيه بالهوى والشهوة بل لا بد من دليل صحيح يقوم على أن أحدهما متأخر عن الآخر وإذن فيكون السابق هو المنسوخ واللاحق هو الناسخ ولنا إلى هذا الدليل مسالك ثلاثة أولها أن يكون في أحد النصين ما يدل على تعيين المتأخر منهما نحو قوله تعالى : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون ونحو قوله : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ونحو قوله صلى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ولا تقولوا هجرا ثانيها أن ينعقد إجماع من الأمة في أي عصر من عصورها على تعيين المتقدم من النصين والمتأخر منهما ثالثها أن يرد من طريق صحيحة عن أحد من الصحابة ما يفيد تعيين أحد النصين المتعارضين للسبق على الآخر أو التراخي عنه كأن يقول نزلت هذه الآية بعد تلك الآية أو نزلت هذه الآية قبل تلك الآية أو يقول نزلت هذه عام كذا وكان معروفا سبق نزول الآية التي تعارضها أو كان معروفا تأخرها عنها أما قول الصحابي هذا ناسخ وذاك منسوخ فلا ينهض دليلا على النسخ لجواز أن يكون الصحابي صادرا في ذلك عن اجتهاد أخطأ فيه فلم يصب فيه عين السابق ولا عين اللاحق خلافا لابن الحصار وكذلك لا يعتمد في معرفة الناسخ والمنسوخ على المسالك الآتية اجتهاد المجتهد من غير سند لأن اجتهاده ليس بحجة قول المفسر هذا ناسخ أو منسوخ من غير دليل لأن كلامه ليس بدليل ثبوت أحد النصين قبل الآخر في المصحف لأن ترتيب المصحف ليس على ترتيب ا لنزول أن يكون أحد الروايين من أحداث الصحابة دون الراوي للنص الآخر فلا يحكم بتأخر حديث الصغير عن حديث الكبير لجواز أن يكون الصغير قد روى المنسوخ عمن تقدمت صحبته ولجوز أن يسمع الكبير الناسخ من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن يسمع الصغير منه المنسوخ إما إحالة على زمن مضى وإما لتأخر تشريع الناسخ والمنسوخ كليهما أن يكون أحد الروايين أسلم قبل الآخر فلا يحكم بأن ما رواه سابق الإسلام منسوخ وما رواه المتأخر عنه ناسخ لجواز أن يكون الواقع عكس ذلك أن يكون أحد الراويين قد انقطعت صحبته لجواز أن يكون حديث من بقيت صحبته سابقا حديث من انقطعت صحبته أن يكون أحد النصين موافقا للبراءة الأصلية دون الآخر فربما يتوهم أن لها هو السابق والمتأخر عنها هو اللاحق مع أن ذلك غير لازم لأنه لا مانع من تقدم ما خالف البراءة الأصلية على ما وافقها مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا وضوء مما مست النار فإنه لا يلزم أن يكون سابقا على الخبر الوارد بإيجاب الوضوء مما مست النار ولا يخلو وقوع هذا من حكمة عظيمة هي تخفيف الله من عباده بعد أن ابتلاهم بالتشديد قانون التعارض وعلى ذكر التعارض في هذا الباب نبين لك أن النصين المتعارضين إما أن يتفقا في أنهما قطعيان أو ظنيان وإما أن يختلفا فيكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا أما المختلفان فلا نسخ بينهما لأن القطعي أقوى من الظني فيؤخذ به وما كان اليقين ليترك بالظن وأما المتفقان فإن علم تأخر أحدهما بطريق من تلك الطرق الثلاث المعتمدة فهو الناسخ والآخر المنسوخ وإن لم يدل عليه واحد منها وجب التوقف وقيل يتخير الناظر بين ا لعمل بهما هذا كله إذا لم يكن الجمع بين النصين بوجه من وجوه التخصيص والتأويل وإلا وجب الجمع لأن إعمال الدليلين أولى من إعمال دليل وإهدار آخر ولأن الأصل في الأحكام بقاؤها وعدم نسخها فلا ينبغي أن يترك استصحاب هذا الأصل إلا بدليل بين ما يتناوله النسخ إن تعريف النسخ بأنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي يفيد في وضوح أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ لكن في خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء أما العقائد فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغيير والتبديل فبدهي ألا يتعلق بها نسخ وأما أمهات الأخلاق فلأن حكمة الله في شرعها ومصلحة الناس في التخلق بها أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير وأما أصول العبادات والمعاملات فلوضوح حاجة الخلق إليهما باستمرار لتزكية النفوس وتطهيرها ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة في رفعها بالنسخ وأما مدلولات الأخبار المحضة فلأن نسخها يؤدي إلى كذب الشارع في أحد خبريه الناسخ والمنسوخ وهو محال عقلا ونقلا أما عقلا فلأن الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال وأما نقلا فمثل قوله سبحانه : ومن أصدق من الله قيلا : ومن أصدق من الله حديثا نعم إن نسخ لفظ الخبر دون مدلوله جائز بإجماع من قالوا بالنسخ ولذلك صورتان إحداهما أن تنزل الآية مخبرة عن شيء ثم تنسخ تلاوتها فقط والأخرى أن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شيء ثم ينهانا أن نتحدث به وأما الخبر الذي ليس محضا بأن كان في معنى الإنشاء ودل على أمر أو نهي متصلين بأحكام فرعية عملية فلا نزاع في جواز نسخه والنسخ به لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ مثال الخبر بمعنى الأمر قوله تعالى : تزرعون سبع سنين دأبا فإن معناه ازرعوا ومثال الخبر بمعنى النهي قوله سبحانه : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فإن معناه لا تنكحوا مشركة ولا زانية بفتح التاء ولا تنكحوهما بضم التاء لكن على بعض وجوه ا لاحتمالات دون بعض والفرق بين أصول العبادات والمعامالات وبين فروعها أن فروعها هي ما تعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد أو هي كمياتها وكيفياتها وأما أصولها فيه ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف واعلم أن ما قررناه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل الأحكام الفرعية العلمية دون سواها هو الرأي السائد الذي ترتاح إليه النفس ويؤيده الدليل وقد في نازع في ذلك قوم لا وجه لهم فلنضرب عن كلامهم صفحا ( وليس كل خلاف جاء معتبرا % إلاخلاف له خط من النظر ) ويتصل بما ذكرنا أن الأديان الإلهية لا تناسخ بينها فيما بيناه من الأمور التي لا يتناولها النسخ بل هي متحدة في العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقا لا يقبل النسخ والنقض وإن شئت أدلة فهاك ما يأتي من القرآن الكريم : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق : واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة : قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم : وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله |
#9
|
|||
|
|||
أنواع النسخ في القرآن
النسخ الواقع في القرآن يتنوع إلى أنوع ثلاثة نسخ التلاوة والحكم معا ونسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دون الحكم أما نسخ الحكم والتلاوة جميعا فقد أجمع عليه القائلون بالنسخ من المسلمين ويدل على وقوعه سمعا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن وهو حديث صحيح وإذا كان موقوفا على عائشة رضي الله عنها فإن له حكم المرفوع لأن مثله لا يقال بالرأي بل لا بد فيه من توقيف وأنت خبير بأن جملة عشر رضعات معلومات يحرمن ليس لها وجود في المصحف حتى تتلى وليس العمل بما تفيده من الحكم باقيا وإذن يثبت وقوع نسخ التلاوة والحكم جميعا وإذا ثبت وقوعه ثبت جوازه لأن الوقوع أول دليل على الجواز وبطل مذهب المانعين لجوازه شرعا كأبي مسلم وأضرابه وأما نسخ الحكم دون التلاوة فيدل على وقوعه آيات كثيرة منها أن آية تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة منسوخة بقوله سبحانه : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله على معنى أن حكم الآية الأولى منسوخ بحكم الآية الثانية مع أن تلاوة كلتيهما باقية ومنها أن قول سبحانه : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين منسوخ بقوله سبحانه : فمن شهد منكم الشهر فليصمه على معنى أن حكم تلك منسوخ بحكم هذه مع بقاء التلاوة في كلتيهما كما ترى وأما نسخ التلاوة دون الحكم فيدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر ابن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا كان فيما أنزل من القرآن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة اه وأنت تعلم أن هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفتي المصحف ولا على ألسنة القراء مع أن حكمها باق على إحكامه لم ينسخ ويدل على وقوعه أيضا ما صح عن أبي بن كعب أنه قال كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة أو أكثر مع أن هذا القدر الكبير الذي نسخت تلاوته لا يخلو في الغالب من أحكام اعتقادية لا تقبل النسخ ويدل على وقوعه أيضا الآية الناسخة في الرضاع وقد سبق ذكرها في النوع الأول ويدل على وقوعه أيضا ما صح عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرؤون سورة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول سورة براءة وأنها نسيت إلا آية منها وهي لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وإذا ثبت وقوع هذين النوعين كما ترى ثبت جوازهما لأن الوقوع أعظم دليل على الجواز كما هو مقرر وإذن بطل ما ذهب إليه المانعون له من ناحية الشرع كأبي مسلم ومن لف لفه ويبطل كذلك ما ذهب إليه المانعون له من ناحية العقل وهم فريق من المعتزلة شذ عن الجماعة فزعم أن هذين النوعين الأخيرين مستحيلان عقلا ويمكنك أن تفحم هؤلاء الشذاذ من المعتزلة بدليل على الجواز العقلي الصرف لهذين النوعين فتقول إن ما يتعلق بالنصوص القرآنية من التعبد بلفظها وجواز الصلاة بها وحرمتها على الجنب في قراءتها ومسها شبيه كل الشبه بما يتعلق بها من دلالتها على الوجوب والحرمة ونحوهما في أن كلا من هذه المذكورات حكم شرعي يتعلق بالنص الكريم وقد تقتضي المصلحة نسخ الجميع وقد تقتضي نسخ بعض هذه المذكورات دون بعض وإذن يجوز أن تنسخ الآية تلاوة وحكما ويجوز أن تنسخ تلاوة لا حكما ويجوز أن تنسخ حكما لا تلاوة وإذا ثبت هذا بطل ما ذهب إليه أولئك الشذاذ من الاستحالة العقلية للنوعين الأخيرين شبهات أولئك المانعين ودفعها وتتميما للفائدة نعرض عليك شبهاتهم مفندين لها شبهة شبهة الشبهة الأولى ودفعها يقولون إن الآية والحكم المستفاد منها متلازمان تلازم المنطوق والمفهوم فلا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر والجواب أن التلازم بين الآية وحكمها مشروط فيه انتفاء المعارض وهو الناسخ أما إذا وجد الناسخ فلا تلازم والأمر حينئذ للناسخ إن شاء رفع الحكم وأبقى على التلاوة وإن شاء عكس وإن شاء رفعهما معا على حسب ما تقتضيه الحكمة أو المصلحة ونظير ذلك أن التلازم بين منطوق اللفظ ومفهومه مشروط فيه انتفاء المعارض أما إذا وجد منطوق معارض للمفهوم فإن المفهوم حينئذ يعطل ويبقى العمل بالمنطوق وحده الشبهة الثانية ودفعها يقولون إن نسخ الحكم دون التلاوة يستلزم تعطيل الكلام الإلهي وتجريده من الفائدة وهذا عيب لا يرضى به عاقل لأقل نوع من كلامه فكيف يرضى به الله لأفضل كلامه والجواب أنا لا نسلم هذا اللزوم بل الآية بعد نسخ حكمها دون تلاوتها تبقى مفيدة للإعجاز وتبقى عبادة للناس وتبقى تذكيرا بعناية الله ورحمته بعباده حيث سن لهم في كل وقت ما يساير الحكمة والمصلحة من الأحكام يضاف إلى ذلك أن الآية بعد نسخ حكمها لا تحلو غالبا من دعوة إلى عقيدة أو إرشاد إلى فضيلة أو ترغيب في خير ومثل ذلك لا ينسخ بنسخ الحكم بل تبقى الآية مفيدة له لأن النسخ لا يتعلق به كما مر الشبهة الثالثة ودفعها يقولون إن بقاء التلاوة بعد نسخ الحكم يوقع في روع المكلف بقاء هذا الحكم وذلك تلبيس وتوريط للعبد في اعتقاد فاسد ومحال على الله أن يشكك أو يورط عبده والجواب أن ذلك التلبيس وهذا التوريط كان يصح ادعاوهما واستلزام نسخ الحكم دون التلاوة لهما لو لم ينصب الله دليلا على النسخ أما وقد نصب عليه الدلائل فلا عذر لجاهل ولا محل لتوريط ولا تلبيس لأن الذي أعلن الحكم الأول بالآية وشرعه هو الذي أعلن بالناسخ أنه نسخه ورفعه : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين اللهم اهدنا بهداك يا رب العالمين فإنه لا هادي إلا أنت : ومن يضلل الله فما له من هاد الشبهة الرابعة ودفعها يقولون إن الآية دليل على الحكم فلو نسخت دونه لأشعر نسخها بارتفاع الحكم وفي ذلك ما فيه من التلبيس على المكلف والتوريط له في اعتقاد فاسد وندفع هذه الشبهة بان تلك اللوازم الباطلة تحصل لو لم ينصب الشارع دليلا على نسخ التلاوة وعلى إبقاء الحكم أما وقد نصب الدليل على نسخ التلاوة وحدها وعلى إبقاء الحكم وتقرير استمراره كما في رجم الزناة المحصنين فلا تلبيس من الشارع على عبده ولا توريط الشبهة الخامسة ودفعها يقولون إن نسخ التلاوة مع بقاء الحكم عبث لا يليق بالشارع الحكيم لأنه من التصرفات التي لا تعقل لها فائدة وندفع هذه الشبهة بجوابين أحدهما أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجردا من الحكمة ولا خاليا من الفائدة حتى يكون عبثا بل فيه فائدة أي فائدة وهي حصر القرآن في دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه وذلك سور محكم وسياج منيع يحمي القرآن من أيدي المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص لأن الكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع ثم حاول أحد تحريفه سرعان ما يعرف وشد ما يقابل بالإنكار وبذلك يبقى الأصل سليما من التغيير والتبديل مصداقا لقوله سبحانه : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون والخلاصة أن حكمة الله قضت أن تنزل بعض الآيات في أحكام شرعية عملية حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام نسخ سبحانه هذه الآيات في تلاوتها فقط رجوعا بالقرآن إلى سيرته من الإجمال وطردا لعادته في عرض فروع الأحكام من الإقلال تيسيرا لحفظه وضمانا لصونه : والله يعلم وأنتم لا تعلمون ثانيهما أنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة في هذا النوع من النسخ فإن عدم العلم بالشيء لا يصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء وإلا فمتى كان الجهل طريقا من طرق العلم ثم إن الشان في كل ما يصدر عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم أن يصدر لحكمة أو لفائدة نؤمن بها وإن كنا لا نعلمها على التعيين وكم في الإسلام من أمور تعبدية استأثر الله بعلم حكمتها أو أطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه والمحبوبين لديه : وفوق كل ذي علم عليم : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ولا بدع في هذا فرب البيت قد يأمر أطفاله بما لا يدركون فائدته لنقص عقولهم على حين أنه في الواقع مفيد وهم يأتمرون بأمره وإن كانوا لا يدركون فائدته والرئيس قد يأمر مرؤوسيه بما يعجزون عن إدراك سره وحكمته على حين أن له في الواقع سرا وحكمة وهم ينفذون أمره وإن كانوا لا يفهمون سره وحكمته كذلك شأن الله مع خلقه فيما خفي عليهم من أسرار تشريعه وفيما لم يدركوا من فائدة نسخ التلاوة دون الحكم : ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم النسخ ببدل وبغير بدل الحكم الشرعي الذي ينسخه الله إما أن يحل سبحانه محله آخر أو لا فإذا أحل محله حكما آخر فذلك هو النسخ ببدل وإذا لم يحل محله حكما آخر فذلك هو النسخ بغير بدل وكلاهما جائز عقلا وواقع سمعا على رأي الجمهور مثال النسخ ببدل أن الله تعالى نهى المسلمين أول الأمر عن قتال الكفار ورغبهم في العفو والصفح بمثل قوله سبحانه : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ثم نسخ الله هذا النهي وأذنهم بالجهاد فقال : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ثم شدد الله وعزم عليهم في النفير للقتال وتوعدهم إن لم ينفروا فقال : إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ومثال النسخ بلا بدل أن الله تعالى أمر بتقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول فقال : يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ثم رفع هذا التكليف عن الناس من غير أن يكلفهم بشيء مكانه بل تركهم في حل من ترك الحكم الأول دون أن يوجه حكما آخر فقال : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله |
#10
|
|||
|
|||
شبهة ودفعها
ذلك مذهب الجمهور من العلماء ولكن بعض المعتزلة والظاهرية يقولون إن النسخ بغير بدل لا يجوز شرعا وشبهتهم في هذا أن الله تعالى يقول : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ووجه اشتباههم أن الآية تفيد أنه لا بد أن يؤتى مكان الحكم المنسوخ بحكم آخر هو خير منه أو مثله ولكنها شبهة مدفوعة بما ذكرنا من النصين السابقين في تقديم الصدقة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم واحتجاجهم بآية : ما ننسخ على الوجه الذي ذكروه احتجاج داحض لأن الله تعالى إذا نسخ حكم الآية بغير بدل فهمنا بمقتضى حكمته أو رعايته لمصلحة عباده أن عدم الحكم صار خيرا من ذلك الحكم المنسوخ في نفعه للناس وصح أن يقال حينئذ إن الله نسخ حكم الآية السابقة وأتى بخير منها في الدلالة على عدم الحكم الذي بات في وقت النسخ أنفع للناس وخيرا لهم من الحكم المنسوخ ومعنى آية : ما ننسخ لا يأبى هذا التأويل بل يتناوله كما يتناول سواه والنسخ فيها أعم من نسخ التلاوة والحكم مجتمعين ومنفردين ببدل وبغير بدل والخيرية والمثلية فيها أعم من الخيرية والمثلية في الثواب وفي النفع وقد مر بيان ذلك فيما سبق عند الكلام على أدلة النسخ عقلا نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل $ النسخ إلى بدل يتنوع إلى أنواع ثلاثة أولها النسخ إلى بدل أخف على نفس المكلف من الحكم السابق كنسخ تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم في ليل رمضان بإباحة ذلك إذ قال سبحانه : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثانيها النسخ إلى بدل مساو للحكم الأول في خفته أو ثقله على نفس المكلف كنسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة في قوله سبحانه : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وهذان النوعان لا خلاف في جوازهما عقلا ووقوعهما سمعا عند القائلين بالنسخ كافة ثالثها النسخ إلى بدل أثقل من الحكم المنسوخ وفي هذا النوع يدب الخلاف فجمهور العلماء يذهبون إلى جوازه عقلا وسمعا كالنوعين السابقين ويستدلون على هذا بأمثلة كثيرة تثبت الوقوع السمعي وهو أدل دليل على الجواز العقلي كما علمت من تلك الأمثلة أن الله تعالى نسخ إباحة الخمر بتحريمها ومنها أنه تعالى نسخ ما فرض من مسالمة الكفار المحاربين بما فرض من قتالهم : كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنها أن حد الزنى كان في فجر الإسلام لا يعدو التعنيف والحبس في البيوت ثم نسخ ذلك بالجلد والنفي في حق البكر وبالرجم في حق الثيب ومنها أن الله تعالى فرض على المسلمين أولا صوم يوم عاشوراء ثم نسخه بفرض صوم شهر رمضان كله مع تخيير الصحيح المقيم بين صيامه والفدية ثم نسخ سبحانه هذا التخيير بتعيين الصوم على هذا الصحيح المقيم إلزاما شبهات المانعين ودفعها ذلك ما ارتآه الجمهور ولكن قوما شطوا فمنعوا هذا النوع الثالث عقلا وآخرون أسرفوا فمنعوه سمعا وكلهم محجوجون بما ذكرنا من الأدلة غير أنا لا نكتفي بذلك بل نعرض عليك شبهاتهم ونفندها بين يديك لئلا تنخدع ولا نسمح لأحد أن ينخدع الشبهة الأولى ودفعها يقول المانعون لهذا النوع عقلا إن تكليف الله لعباده لا بد أن يكون لمصلحة راجعة إلى العباد لا إليه ومحال أن يكون لغير مصلحة وإلا كان الله سبحانه عابثا ومحال أن يكون لمصلحة تعود على الله لأنه تعالى هو الغني عن خلقه جميعا وإذا كان التكليف راجعا لمصلحة العباد وحدهم فلا بد أن يكون على حالة تدعو إلى امتثالهم وليس في نقل العباد من الأخف إلى الأشد داعية إلى امتثالهم بل هو العكس من ذلك فيه تزهيد لهم في الطاعة وتثبيط لهم عن الواجب وكل ما كان كذلك يمتنع أن يصدر من الله عقلا وندفع هذه الشبهة أولا بأن هذه سفسطات مفضوحة ومغالطات مكشوفة عمي فيها هؤلاء أو تعاموا عن الحقائق الواقعة في التشريع وهي نقل العباد فعلا من أحكام خفيفة إلى أحكام أشد منها كما مثلنا آنفا ثانيا أننا نقلب حجة هؤلاء عليهم ونرد كيدهن في نحرهم ونعمل سلاحهم في أعناقهم ونقول لهم إن مصلحة العباد التي هي مقصود الشارع الحكيم الرحيم تقضي أن يكون تكليفه إياهم على حالة تدعو إلى امتثالهم وذلك بأن يتدرج بهم فيمهد ويمهد للتكليف الخفيف بتكليف أخف منه ويمهد للتكليف الثقيل بتكليف خفيف وللتكليف الأثقل بتكليف ثقيل لأن الناس لو بوغتوا من أول الأمر بالثقيل مثلا لعجزوا ونفروا وانعكس المقصود من هدايتهم ولذلك نشاهد حكماء المربين وساسة الأمم القادرين يبتدئون في تربيتهم وسياستهم بأيسر الأمور ثم بعد ذلك يتدرجون ولا يطفرون ثالثا أن دليلهم هذا منقوض بما لا يسعهم إنكاره وهو تكليف الله عباده ابتداء ونقلهم من الإباحة المطلقة أو البراءة الأصلية إلى مشقة التكاليف المتنوعة فما يكون جوابا لهم عن هذه يكون جوابا لنا عما منعوه هنا رابعا أنهم متناقضون فإن مصلحة العباد التي جعلوها مناط شبهتهم تأبى مفاجأة الناس بالأشد من غير تمهيد بالأخف ومذهبهم لا يأبى التكليف من أول الأمر بالأشد دون تمهيد بالأخف خامسا أننا لا نسلم أن مقصود الشارع من التكاليف هو مجرد مصالح الناس بل تارة يكون المقصد هو المصلحة وتارة يكون المقصد هو الابتلاء والاختبار ليميز الله الخبيث من الطيب حتى لا يكون لأحد بعد تمايز الناس بابتلائه حجة وقد أعلن الله هذا المقصد الثاني في آيات كثيرة منها قوله سبحانه : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ومنها قوله عز اسمه : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ومنها قوله جلت حكمته : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وإذن فنسخ الحكم بأشد قد يكون ابتلاء للعباد إن لم يكن مصلحة لهم وتلك حكمة بالغة تلغي عن الله العبث سادسا أن الحكم الأشد الناسخ قد يكون هو المصلحة للعباد دون الحكم الأخف المنسوخ لأنه على رغم شدته وثقله يشتمل على داعية لامتثاله لا توجد في الحكم الأول وقت النسخ من ترغيب أو ترهيب أو تجلية لمزايا وفوائد من وراء الحكم الجديد في الدنيا أو في الآخرة تأمل آيتي التحريم النهائي للخمر وما انطوتا عليه من هذه الألوان ثم تأمل آيات مشروعية الجهاد وما فيها من ضروب الترغيب والترهيب وتحريك العزائم إلى السخاء بالنفوس والأموال إلى غير ذلك مما تدركه في الأحكام الناسخة بأقل تبصر وإمعان الشبهة الثالثة ودفعها يقول المانعون لنسخ الأخف بالأثقل سمعا فقط إن الله تعالى يقول : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ومعنى هذا أن الشدائد التي كانت على من قبلنا رفعها الله عنا ونسخ الأخف بالأشد مخالف لهذا الوعد الصريح فهو ممنوع سمعا وندفع هذه الشبهة بأن قصارى ما تفيده هذه الآية أن الله تعالى أعفى هذه الأمة المحمدية من أن يكلفها بما يصل في شدته إلى تلك الأحكام القاسية التي فرضها على الأمم الماضية والتي ألزمهم بها إلزاما كأنها أغلال في أعناقهم وهذا لا ينفي أن تكون بعض الأحكام في الشريعة الإسلامية أشد من بعض وأن ينسخ الله فيها حكما اخف بحكم أثقل منه ولكن لا يصل في شدته وصرامته إلى مثل أحكام الماضين في شدتها وصرامتها فوعد الله بالتخفيف على هذه الأمة حق ونسخه حكما بما هو أثقل منه حق وخلاصة الجواب أن شدة بعض الأحكام الإسلامية إنما هو بالنسبة إلى بعضها الآخر أما بالنسبة إلى أحكام الشرائع الأخرى فهي أخف منها قطعا الشبهة الثالثة ودفعها يقول هؤلاء أيضا إن الله تعالى يقول : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ويقول : يريد الله أن يخفف عنكم ولا تيسير ولا تخفيف في نقلنا من الأخف إلى الأثقل وندفع هذه الشبهة أولا بأن قصارى ما يدل عليه هذان النصان الكريمان هو أن الأحكام الشرعية كلها ميسرة مخففة في ذاتها لا إرهاق فيها للمكلفين وإن كانت فيما بينها متفاوتة فبعضها أثقل أو أخف بالنسبة إلى بعض ثانيا أنه لو كان مفهوم الآية هو ما فهموا من التيسير والتخفيف المطلقين لانتقض ذلك بأصل التكليف لأن التكليف إلزام ما فيه كلفة ثالثا أن النص الأول : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر قد سيق في معرض خاص هو الترخيص للمرضى والمسافرين أن يفطروا ويقضوا عدة من أيام أخر وعلى هذا يكون معناه يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر في ترخيصه للمرضى والمسافرين أن يفطروا رمضان ويقضوا عدة ما افطروا وكذلك النص الثاني ( يريد الله أن يخفف عنكم ) قد سيق في معرض خاص هو إباحة الله لعباده أن يتزوجوا الفتيات المؤمنات من الإماء إذا لم يستطيعوا طولا أن يتزوجوا الحرائر من المحصنات المؤمنات وبشرط أن يخشوا العنت أي يخافوا الوقوع في الزنى وعلى هذا فالتخفيف المذكور في هذا السياق معناه التخفيف بالترخيص لهؤلاء الفقراء الخائفين من العنت أن يتزوجوا إماء الله المؤمنات الشبهة الرابعة ودفعها يقول هؤلاء أيضا إن قوله سبحانه : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها يفيد أن النسخ لا يكون إلا بالأخف لأنه الخير أو بالمساوي لأنه المثل أما الأثقل فلا وندفع هذه الشبهة بأن الخيرية والمثلية في الآية الكريمة ليس المراد منهما ما فهموا من الخفة عن الحكم الأول أو المساواة به بل المراد بها الخيرية والمثلية في النفع والثواب على ما مر تفصيله وعلى هذا فما المانع من أن يكون الأثقل الناسخ أكثر فائدة في الدنيا وأعظم أجرا في الآخرة من الأخف المنسوخ أو يكون مساويا له في الثواب ومماثلا له في الأجر نسخ الطلب قبل التمكن في امتثاله علماؤنا اتفقوا على أن نسخ الطلب قبل التمكن من العلم به ممتنع كما اتفقوا على أن نسخه بعد تمكن المكلف من امتثاله جائز لم يخالف في ذلك إلا الكرخي فيما روي عنه امتناع النسخ قبل تحقق الامتثال بالفعل أما نسخ الطلب بعد التمكن من العلم وقبل التمكن من الامتثال ففيه اختلاف العلماء ذهب جمهور أهل السنة ومن وافقهم إلى جوازه وذهب جمهور المعتزلة ومن وافقهم إلى منعه مثال ذلك قوله سبحانه : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فإن جمهورنا يجوزون نسخ وجوب الوصية المذكور في هذه الآية بعد التمكن من العلم به وقبل أن يحضر الموت أحد المكلفين أما جمهور المعتزلة فيقولون باستحالة نسخ هذا التشريع إلا بعد احتضار أحد المكلفين وتمكنه من الوصية ولا يكتفي الكرخي فيما روي عنه بمجرد تمكن المكلف من الوصية بل لا بد عنده من أن يوصي بالفعل حتى يجوز النسخ بعده |
#11
|
|||
|
|||
أدلة المثبتين لهذا النوع من النسخ
إن الذين أجازوا هذا النوع من النسخ استدلوا له بثلاثة أدلة أحدها أن نسخ الطلب قبل التمكن من امتثاله لا يترتب على وقوعه محال عقلي وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلا ثانيها أن النسخ قبل التمكن من الفعل مانع كسائر الموانع التي تمنع العبد منه إذ لا فارق بينه وبينها يؤثر فلو لم يجز هذا النوع من النسخ لم يجز أن يأمر الله عبده بفعل في مستقبل زمانه ثم يعوقه عنه بمرض أو نوم أو نحوهما لكن المشاهد غير ذلك باعتراف المانعين أنفسهم فكثيرا ما تحول الحوائل بين المرء وما أمره الله في مستقبله فليجز هذا النوع من النسخ أيضا ثالثها أن هذا النوع من النسخ قد وقع فعلا والوقوع دليل الجواز وزيادة ثم إن لهم على وقوع هذا النوع من النسخ دليلين الدليل الأول أن الله تعالى حين حدثنا عن إبراهيم وولده إسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما قال : فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين فأنت ترى في هذا العرض الكريم لقصة إبراهيم الخليل وولده الذبيح إسماعيل ما يفيد أنه سبحانه قد أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نسخ ما أمره به قبل أن يتمكن من تنفيذه وفعله أما أنه أمره بالذبح فيرشد إليه أولا قول إبراهيم لولده : إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى لأن رؤيا الأنبياء حق من ناحية ولأن مفاوضة إبراهيم لولده في هذا الأمر الجلل تدل على أن هذا أمر لا بد منه من ناحية أخرى وإلا لما فاوضه تلك المفاوضة الخطيرة المزعجة التي هي أول مراحل السعي إلى التنفيذ ثانيا أن إسماعيل أجاب أباه بإعلان خضوعه وامتثاله لأمر ربه : قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ثالثا أن إبراهيم اتخذ سبيله إلى مباشرة الأسباب القريبة للذبح حيث أسلم ولده وأسلم إسماعيل نفسه : فلما أسلما وتله للجبين رابعا أن الله ناداه بأنه قد صدق الرؤيا أي فعل فعل من صدقها وحققها ولو لم يكن هذا أمرا من الله واجب الطاعة ما مدحه الله على تصديقه لرؤياه وسعيه إلى تحقيق ما أمره مولاه خامسا أن الله فدى إبراهيم يذبح عظيم فلو لم يكن ذبح إسماعيل مطلوبا لما كان ثمة داع يدعو إلى الفداء سادسا أن الله امتدح إبراهيم بأنه من المؤمنين ومن المحسنين المستحقين لإكرام الله إياه بالفرج بعد الشدة وقرر سبحانه أن هذا هو البلاء المبين وكافأه بأنه ترك عليه في الآخرين : سلام على إبراهيم وكل ذلك يدل على أن الله أمره فأطاع وابتلاه أشد الابتلاء فاستسلم وانصاع وأما أن الله نسخ هذا الأمر قبل تمكن إبراهيم من امتثاله فيرشد إليه محاولة إبراهيم للتنفيذ بالخطوات التي خطاها والمحاولات التي حاولها وهي مفاوضة ولده حتى يستوثق منه أو يتخذ إجراء آخر ثم استسلامهما بالفعل لحادث الذبح وصرعه فلذة كبده وقرة عينه على جبينه كيما يضع السكين ويذبحه كما أمره رب العالمين ولكن جاء النداء بالفداء قبل التمكن من الامتثال وتنفيذ الذبح وبعيد كل البعد بل محال في مجرى العادة أن يكون إبراهيم قد وجد فرصة يتمكن فيها من الامتثال قبل ذلك ثم تركها حتى يقال إن النسخ بالفداء حصل بعد التمكن من الذبح فثبت أن أمره بالذبح قد نسخ بالفداء قبل التمكن من الامتثال ووقع هذا دليل الجواز بل هو أول دليل على الجواز الدليل الثاني أنه جاء في السنة المطهرة ما يفيد أن الله فرض ليلة المعراج على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته خمسين صلاة ثم نسخ الله في هذه الليلة نفسها خمسا وأربعين منها بعد مراجعات تسع من النبي صلى الله عليه وسلم بين موسى وربه وواضح أن هذا النسخ في تلك المرات التسع كان قبل أن يتمكن النبي وأمته من الامتثال وهذا الوقوع أول دليل على الجواز كما هو مقرر شبهات المنكرين ودفعها للمنكرين شبهات كثيرة منها ما صاغوه في صورة أدلة على إنكارهم ومنها ما وجهوه إلى أدلة المثبتين السابقة في صورة مناقشة لها وإبطال لدلالتها وها هي ذي نضعها بين يديك مشفوعة بما يدحضها الشبهة الأولى ودفعها يقولون لو نسخ الطلب قبل التمكن من امتثاله لكن طلبا مجردا من الفائدة ومثل هذا يكون عبثا والعبث على الله محال وندفع هذه الشبهة بأن الطلب في هذه الصورة لم يتجرد من الفائدة كما يزعمون بل إن من فوائده وحكمته ابتلاء الله لعباده أيقبلون أم يرفضون فإن قبلوه وأذعنوا له وآمنوا به ووطنوا أنفسهم على امتثاله فلهم أجر كبير وظهر فضلهم كما ظهر فضل إبراهيم في ابتلائه بذبح ولده إسماعيل مع أنه لم يتمكن من تنفيذ ما أمر به ومن أبى من عباد الله مثل هذا الطلب بأن ضلاله وخذلانه واستحق الحرمان والهوان عن عدل وإنصاف : وما ربك بظلام للعبيد الشبهة الثانية ودفعها يقولون إن الفعل الذي ينسخ طلبه قبل التمكن من امتثاله إما أن يكون مطلوبا وقت ورود النسخ أو لا فإن كان مطلوبا وقت ورود النسخ أدى ذلك إلى توارد النفي والإثبات على شيء واحد وهو محال وإن لم يكن الفعل مطلوبا وقت ورود النسخ فلا نسخ لأن النسخ لا بد لتحققه من حكم سابق يرد عليه ويرفعه والفرض هنا أنه ورد والحكم مرتفع وندفع هذه الشبهة أولا بأن الفعل لم يكن مطلوبا وقت ورود الناسخ ولكن هذا لا ينفي حقيقة النسخ كما زعموا بل هو المحقق له لأن النسخ كالعلة في ارتفاع الحكم والمعلوم مقارن للعلة في الزمن وإن تأخر عنها في التعقل فالحكم إذن لا بد أن يرتفع عند ورود الناسخ بسبب وروده وإلا لم يعقل النسخ ثانيا أن هذه الشبهة تجري في كل صورة من صور النسخ وحينئذ لا مفر لهم من إحدى اثنتين أن يمنعوا النسخ مطلقا مع أنهم لا يقولون به أو يكونوا في شبهتهم هذه مبطلين الشبهة الثالثة ودفعها يقولون إذا قال الشارع صوموا غدا لزم أن يكون صوم الغد حسنا وفيه مصلحة فإذا نهى عنه قبل مجيء الغد لزم أن يكون قبيحا فيه مفسدة واجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في آن واحد محال وندفع هذه الشبهة أولا بأنها قامت على أساس باطل هو قاعدة الحسن والقبح العقليين وتقرير بطلان هذه القاعدة معروف عند الأشاعرة من أهل السنة ثانيا أن نهي الشارع عن الشيء المطلوب قبل التمكن من أدائه يتبين منه أن ذلك الشيء قبيح عقلا متى نهى الله عنه أما طلبه قبل ذلك فلا يدل على حسنه هو إنما يدل على حسن ما اتصل به مما استلزمه ذلك الطلب وهو إيمان العباد به واطمئنان نفوسهم إليه وعزمهم على تنفيذه وفي ذلك ما فيه من ترويضهم على الطاعة وتعويدهم الامتثال وإثابتهم على حسن نياتهم وكأن المأمور به في هذه الصورة هو المقدمات التي تسبق الفعل لا نفس الفعل بدليل نسخ الفعل قبل التمكن من امتثاله لكنهم أمروا بالفعل نفسه لأن عزمهم عليه والإتيان بمقدماته لا يتأتى إلا بالأمر على هذه الصورة فتأمل الشبهة الرابعة ودفعها يقولون إن استدلالكم بقصة إبراهيم وولده الذبيح استدلال لا يسلم من جملة مؤخذات أولها أن رؤيا إبراهيم ما هي إلا رؤيا رآها فخيل إليه أنه مأمور بالذبح والحقيقة أنه لم يؤمر به والجواب أن رؤيا الأنبياء وحي حق لا باطل فيه ولا تخييل والوحي يصحبه علم ضروري في الموحى إليه بأن ما أوحي إليه حق والأنبياء لا يتمثل لهم الشيطان ولا سلطان له عليهم لا في اليقظة ولا في المنام ومن ذا الذي يهمل عقله ويسفه نفسه فيصدق أن شيخا كبيرا في جلالة إبراهيم خليل الرحمن يتأثر بخيال فاسد ويصدر عن وهم كاذب في أن يقدم على أكبر الكبائر وهو قتل ولده وذبح وحيده وفلذة كبده بعد أن بشره مولاه بأنه غلام حليم ورزقه إياه على شيخوخة وهرم وحقق فيه ما بشره به فشب الوليد وترعرع حتى بلغ مع أبيه السعي فكان إبراهيم يراه وهو يسعى معه فيملأ عينه نورا وقلبه بهجة وحبورا ثانيا قالوا إن إبراهيم على فرض كون رؤياه حقا لم يك مأمورا بذبح ولده إنما كان مأمورا بالعزم على الذبح فحسب امتحانا له بالصبر على هذا العزم ولا ريب أن إبراهيم بمحاولته التي حاولها وصورها القرآن قد عزم وأدى ما وجب عليه فلا نسخ والجواب من وجهين أحدهما أن الامتحان الذي ذكروه لا يتحقق إلا بالعزم على ما أوجبه عليه لأن العزم على ما ليس بواجب لا يجب وإذن فإبراهيم كان قد وجب عليه ذبح ولده حتى يكون عزمه على ذلك واجبا يتحقق به معنى الابتلاء والاختبار والآخر أن المأمور به لو كان هو العزم دون الذبح لما كان هناك معنى للفداء لأن إبراهيم قد فعل كل ما أمره به ربه لم يترك شيئا ولم يخفف الله عنه شيئا على زعمهم ثالثها قالوا إن الأمر في الحقيقة كان بمقدمات الذبح من إضجاع إبراهيم لولده وصرعه إياه على جبينه وإمراره لسكينه وما أمر إبراهيم بالذبح والجواب أن إبراهيم قد جاء بهذه المقدمات فإذا كانت هي المأمور به دون الذبح فقد أدى إبراهيم كل ما عليه فأي معنى للفداء إذن رابعها قالوا أن إبراهيم على فرض أنه كان مأمورا بالذبح نفسه قد بذل وسعه في الامتثال والتنفيذ ولكن الله تعالى قلب عنق الذبيح نحاسا أو حديدا حتى لا ينقطع فسقط التكليف عن إبراهيم لهذا العذر المانع لا لوجود الناسخ والجواب من ثلاثة أوجه الأول أن ما ذكروه من انقلاب عنقه حديدا أو نحاسا خبر موضوع ورواية هازلة لا أصل لها الثاني أن وجوب الذبح لو سقط لهذا العذر لما كان هناك معنى للفداء الثالث أنهم إذا جوزوا أن يأمرنا الله تعالى بالشيء ثم يحول بيننا وبينه بالناسخ لأنه ليس بين الحيلولتين فارق مؤثر خامسها قالوا إن إبراهيم قد أدى الواجب وذبح ولده فعلا ولكن الجرح قد اندمل وعنق الذبيح قد اتصل والتأم فلا نسخ والجواب أولا أن هذه الرواية موضوعة أيضا بل هي أدخل في الكذب وأبعد عن ظاهر آيات القصة من الرواية السابقة ولو حصل ذلك لحدثنا القرآن به لأنه ليس أقل شأنا من أمر الفداء أو لحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم به على الأقل ولو كان النقل متواترا لأن مثله مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره ثانيا أن هذا الواجب إذا كان قد أدى على أتم وجوهه وذبح إبراهيم ولده بالفعل ولم يحدث مانع ولم يوجد ناسخ فأي معنى للفداء سادسها قالوا لا نسلم أن وجوب الذبح قد سقط عن إبراهيم بورود الفداء بل هو باق حتى يذبح الفداء فلو قصر في ذبحه لأثم إثم من كلف بذبح ولده ولم يذبحه ولو كان وجوب ذبح الولد مرتفعا بورود الفداء ما صح تسمية الفداء فداء كما لم يصح تسمية استقبال الكعبة بعد استقبال بيت المقدس فداء وذلك لأن حقيقة الفداء لا بد فيها من أمرين يقوم أحدهما مقام الآخر في تلقي المكروه وعلى هذا لا نسخ والجواب أن هذا كلام أشبه باللغو فإنهم لا يستطيعون أن ينكروا أن إبراهيم لو ذبح ولده بعد نزول الفداء كان آثما فيكون ذبحه إياه وقتئذ حراما وقد كان قبل نزول الفداء واجبا وينطبق عليه تمام الانطباق أنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي ولا معنى للنسخ إلا ذلك الشبهة الخامسة ودفعها يقولون إن استدلالكم بنسخ فرضية الصلوات الخمسين في ليلة المعراج استدلال باطل لأنه خبر غير ثابت وجمهور المعتزلة ينكرون المعراج جملة ومن أثبته منهم نفى خبر فرضية الصلوات الخمسين وما ورد عليها من نسخ وقال إن ذلك من وضع القصاص واستدل على أنها زيادة موضوعة بأنها تقتضي نسخ الحكم قبل التمكن من العلم به وهو ممنوع بالإجماع ووجه هذا الاقتضاء أن فرض الخمسين صلاة لم يكن على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بل كان عليه وعلى أمته معه وقد نسخ قبل أن تعلم به الأمة وعلى تسليم صحة هذه الزيادة لا نسلم أن ذلك كان فرضا على العزم والتعيين بل فوض الله تعالى ذلك إلى اختيار الرسول ومشيئته فإن اختار الخمسين فرضها وإن اختار الخمس فرض الخمس وندفع هذه الشبهة أولا بأن خبر المعراج ثابت من طرق صحيحة متعددة لا من طريق واحد وإنكار أهل الأهواء والبدع له لا يغض من قيمة ثبوته بل يغض من قيمتهم هم قال بعد الظاهر البغدادي وليس إنكار القدرية خبر المعراج إلا كإنكارهم خبر الرؤية والشفاعة وعذاب القبر والحوض والميزان والخبر الصحيح لا يرد بطعن أهل الأهواء كما لم يرد خبر المسح على الخفين بطعن الروافض فيه وكما لم يرد خبر الرجم بإنكار الخوارج له ثانيا أن هذه الزيادة ثابتة في الصحيحين وغيرهما وعلى فرض خلو بعض الروايات منها فإن ذلك لا يضيرها لأن زيادة الثقة مقبولة وهذه رواية ثقات عدول ضابطين بلغوا شأوا بعيدا من الثقة والعدالة والضبط حتى روى البخاري ومسلم عنهم في صحيحهما وحسبك برجال البخاري ومسلم في الصحيحين ثالثا أن قولهم هذا نسخ للحكم قبل تمكن الأمة من العلم به لا يفيدهم شيئا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض الله عليه الخمسين صلاة في كل يوم وليلة كما فرضها على أمته وقد علم الرسول بذلك طبعا ونسخ الله هذا الفرض بعد علم الرسول به وقبل تمكنه من امتثاله وذلك كاف في إثبات ما نحن بسبيله من نسخ الطلب قبل التمكن من الامتثال رابعا أن قولهم إن فرض الخمسين لم يكن فرضا عزما كلام فاسد لا برهان لهم به بل نفس الرواية ترد عليهم وتثبت أن الأمر لم يوكل إلى مشيئة الرسول إن اختار الخمسين فرضها الله خمسين وإن اختار الخمس فرضها الله خمسا كما يزعمون ذلك أن الله قال له في هذا المعرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة وقبل الرسول ذلك طائعا مختارا وهبط على اسم الله حتى إذا لقي موسى سأله موسى ما فعل ربك قال فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة فقال له موسى ارجع إلى ربك واسأله التخفيف وذكر له أنه خبر بني إسرائيل من قبله فعجزوا وما زال به حتى رجع إلى مقام المناجاة وسأل التخفيف من مولاه فحط عنه خمسا وعاد إلى موسى فراجعه وما زال يرجع بين موسى وربه وفي كل مرة يحط الله عنه خمسا حتى لم يبق إلا خمس من الخمسين وأشار عليه موسى أيضا أن يرجع ويسأل التخفيف فاعتذر بأنه سأل حتى استحيى فهل بعد ذلك كله يصح في الأذهان أن يقال أو أن يفهم أن فرض الخمسين لم يكن فرضا عزما وأن الله فرض الأمر في اختيار الخمسين أو الخمس إلى مشيئة رسوله : إن يقولون إلا كذبا |
#12
|
|||
|
|||
النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة
النسخ في الشريعة الإسلامية قد يرد به القرآن وقد ترد به السنة والمنسوخ كذلك قد يرد به القرآن وقد ترد به السنة فالأقسام أربعة نسخ القرآن بالقرآن القسم الأول نسخ القرآن بالقرآن وقد أجمع القائلون بالنسخ من المسلمين على جوازه ووقوعه أما جوازه فلأن آيات القرآن متساوية في العلم بها وفي وجوب العمل بمقتضاها وأما وقوعه فلما ذكرنا وما سنذكر من الآيات الناسخة والمنسوخة وهذا القسم يتنوع إلى أنواع ثلاثة نسخ التلاوة والحكم معا ونسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دون الحكم وقد أشبعنا الكلام عليها فيما سبق نسخ القرآن بالسنة القسم الثاني نسخ القرآن بالسنة وقد اختلف العلماء في هذا القسم بين مجوز ومانع ثم اختلف المجوزون بين قائل بالوقوع وقائل بعدمه وإذن يجري البحث في مقامين اثنين مقام الجواز ومقام الوقوع مقام الجواز القائلون بالجواز هم مالك وأصحاب أبي حنيفة وجمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وحجتهم أن نسخ القرآن بالسنة ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن السنة وحي من الله كما أن القرآن كذلك لقوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ولا فارق بينهما إلا أن ألفاظ القرآن من ترتيب الله وإنشائه وألفاظ السنة من ترتيب الرسول وإنشائه والقرآن له خصائصه وللسنة خصائصها وهذه الفوارق لا أثر لها فيما نحن بسبيله ما دام أن الله هو الذي ينسخ وحيه بوحيه وحيث لا أثر لها فنسخ أحد هذين الوحيين بالآخر لا مانع يمنعه عقلا كما أنه لا مانع يمنعه شرعا أيضا فتعين جوازه عقلا وشرعا هذه حجة المجيزين أما المانعون وهم الشافعي وأحمد في إحدى روايتين عنه وأكثر أهل الظاهر فيستدلون على المنع بأدلة خمسة وها هي ذي مشفوعة بوجوه نقضها دليلهم الأول أن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وهذا يفيد أن وظيفة الرسول منحصرة في بيان القرآن والسنة إن نسخت القرآن لم تكن حينئذ بيانا له بل تكون رافعة إياه وننقض هذا الاستدلال أولا بأن الآية لا تدل على انحصار وظيفة السنة في البيان لأنها خالية من جميع طرق الحصر وكل ما تدل عليه الآية هو أن سنة الرسول مبينة للقرآن وذلك لا ينفي أن تكون ناسخة له ونظير هذه الآية قول سبحانه : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا فإنه يفيد أنه صلى الله عليه وسلم نذير للعالمين ولا تنفي عنه أنه بشير أيضا للعالمين ثانيا أن وظيفة السنة لو انحصرت في بيان القرآن ما صح أن تستقل بالتشريع من نحو إيجاب وتحريم مع أن إجماع الأمة قائم على أنها قد تستقل بذلك كتحريمه صلى الله عليه وسلم كل ذي مخلب من الطيور وكل ذي ناب من السباع وكحظره أن يورث بقوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ثالثها أن السنة نفسها نصت على أنها قد تستقل بالتشريع وإفادة الأحكام يحدثنا العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال أيحسب أحدكم متكئا على أريكة يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا إني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إلا إذا أعطوكم الذي فرض عليهم رابعا أنه على فرض دلالة الآية على الحصر فالمراد بالبيان فيها التبليغ لا الشرح وقد بلغ الرسول كل ما أنزله الله إلى الناس وهذا لا ينافي أنه نسخ ما شاء الله نسخه بالسنة خامسا أنه على فرض دلالة الآية على الحصر ودلالة البيان على خصوص الشرح فإن المراد بما أنزل إلى الناس هو جنسه الصادق ببعضه وهذا لا ينافي أن تكون السنة ناسخة لبعض آخر فيكون الرسول مبينا لما ثبت من الأحكام وناسخا لما ارتفع منها دليلهم الثاني أن القرآن نفسه هو الذي أثبت أن السنة النبوية حجة فلو نسخته السنة لعادت على نفسها بالإبطال لأن النسخ رفع وإذا ارتفع الأصل ارتفع الفرع والدليل على أن القرآن هو الذي أثبت حجية السنة ما نقرؤه فيه من مثل قوله سبحانه : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وننقض هذا الاستدلال أولا بأن كلامنا ليس في جواز نسخ السنة لنصوص القرآن الدالة على حجيتها حتى ترجع على نفسها بالإبطال بل هو في جواز نسخ ما عدا ذلك مما يصح أن يتعلق به النسخ ثانيا أن ما استدلوا به حجة عليهم لأن وجوب طاعة الرسول وابتاعه يقضي بوجوب قبول ما جاء به على أنه ناسخ دليلهم الثالث أن قوله تعالى : قل نزله روح القدس من ربك بالحق قد جاء ردا على من أنكروا النسخ وعابوا به الإسلام ونبي ا لإسلام بدليل قوله سبحانه قبل هذه الآية : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ومعلوم أن روح القدس إنما ينزل بالقرآن وإذن فلا ينسخ القرآن إلا بقرآن وننقض هذه الاستدلال بأن الكتاب والسنة كلاهما وحي من الله وكلاهما نزل به روح القدس بدليل قوله سبحانه : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فالذهاب إلى أن ما ينزل به روح القدس هو خصوص القرآن باطل دليلهم الرابع أن الله تعالى يقول : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي وهذا يفيد أن السنة لا تنسخ القرآن لأنها نابعة من نفس الرسول صلى الله عليه وسلم وندفع هذا الاستدلال بمثل ما دفعنا به سابقه وهو أن السنة ليست نابعة من نفس الرسول على أنها هوى منه وشهوة بل معانيها موحاة من الله تعالى إليه وكل ما استقل به الرسول أنه عبر عنها بألفاظ من عنده فهي وحي يوحى وليست من تلقاء نفسه على هذا الاعتبار وإذن فليس نسخ القرآن بها تبديلا له من تلقاء نفسه إنما هو تبديل يوحى دليلهم الخامس أن آية : ما ننسخ من آية أو ننسها تدل على امتناع نسخ القرآن بالسنة من وجوه ثلاثة أولها أن الله تعالى قال : نأت بخير منها أو مثلها والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثله ثانيها أن وقوله : نأت يفيد أن الآتي هو الله والسنة لم يأت بها الله إنما الذي أتى بها رسوله ثالثها أن قوله : ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير : ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير يفيد أن النسخ لا يصدر إلا عمن له الاقتدار الشامل والملك الكامل والسلطان المطلق وهو الله وحده وندفع الوجه الأول من هذا الاستدلال بأن النسخ في الآية الكريمة أعم من أن يكون في الأحكام أو في التلاوة والخيرية والمثلية أعم من أن تكونا في المصلحة أو في الثواب وقد سبق بيان ذلك وإذن فقد تكون السنة الناسخة خيرا من القرآن المنسوخ من هذه الناحية وإن كان القرآن خيرا من السنة من ناحية امتيازه بخصائصه العليا دائما وندفع الوجه الثاني بأن السنة وحي من الله وما الرسول إلا مبلغ ومعبر عنها فقط فالآتي بها على الحقيقة هو الله وحده وندفع الوجه الثالث بانا نقول بموجبه وهو أن الناسخ في الحقيقة هو الله وحده والسنة إذا نسخته فإنما تنسخه من حيث إنها وحي صادر منه سبحانه شبهتان ودفعهما لقائل أن يقول إن من السنة ما يكون ثمرة لاجتهاده صلى الله عليه وسلم وهذا ليس وحيا أوحي إليه به بدليل العتاب الذي وجهه القرآن إلى الرسول في لطف تارة وفي عنف أخرى فكيف يستقيم بعد هذا أن نقول إن السنة وحي من الله والجواب أن مرادنا هنا بالسنة ما كانت عن وحي جلي أو خفي أما السنة الاجتهادية فليست مرادة هنا ألبتة لأن الاجتهاد لا يكون إلا عند عدم النص فكيف يعارضه ويرفعه وقد شرحنا أنواع السنة في كتابنا المنهل الحديث في علوم الحديث فارجع إليه إن شئت ولقائل أن يقول إن من السنة ما كان آحاديا وخبر الواحد مهما صح فإنه لا يفيد القطع والقرآن قطعي المتن فكيف ينسخ بالسنة التي لا تفيد القطع ومتى استطاع الظن أن يرفع اليقين والجواب أن المراد بالسنة هنا السنة المتواترة دون الآحادية والسنة المتواترة قطيعة الثبوت أيضا كالقرآن فهما متكافئان من هذه الناحية فلا مانع أن ينسخ أحدهما الآخر أما خبر الواحد فالحق عدم جواز نسخ القرآن به للمعنى المذكور وهو أنه ظني والقرآن قطعي والظني أضعف من القطعي فلا يقوى على رفعه والقائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة الأحادية اعتمادا على أن القرآن ظني للدلالة حجتهم داحضة لأن القرآن إن لم يكن قطعي الدلالة فهو قطعي الثبوت والسنة الآحادية ظنية الدلالة والثبوت معا فهي أضعف منه فكيف ترفعه ب مقام الوقوع ما أسلفناه بين يديك كان في الجواز أما الوقوع فقد اختلف المجوزون فيه منهم من أثبته ومنهم من نفاه ولكل وجهة هو موليها وهاك وجهة كل من الفريقين لتعرف أن الحق مع النافين استدل المثبتون على الوقوع بأدلة أربعة الدليل الأول أن آية الجلد وهي : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة تشمل المحصنين وغيرهم من الزناة ثم جاءت السنة فنسخت عمومها بالنسبة إلى المحصنين وحكمت بأن حزاءهم الرجم وقد ناقش النافون هذا الدليل بأمرين أحدهما أن الذي ذكروه تخصيص لا نسخ والآخر أن آية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة هي المخرجة لصور التخصيص وإن جاءت السنة موافقة لها وقد سبق الكلام على آية الشيخ والشيخة في عداد ما نسخت تلاوته وبقي حكمه فلا تغفل الدليل الثاني أن قوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث وقد ناقشه النافون بأمرين أولهما أن الحديث المذكور خبر آحاد وقد تقرر أن الحق عدم جواز نسخ القرآن بخبر الآحاد ثانيهما أن الحديث بتمامه يفيد أن الناسخ هو آيات المواريث لا هذا الحديث وإليك النص الكامل للحديث المذكور إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في صحيحه ونصه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين وكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية المواريث الدليل الثالث أن قوله سبحانه : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم وقد ناقشه النافون أولا بأن الناسخ هنا هو آية الجلد وآية الشيخ والشيخة وإن جاء الحديث موافقا لهما ثانيا بأن ذلك تخصيص لا نسخ لأن الحكم الأول جعل الله له غاية هو الموت أو صدور تشريع جديد في شأن الزانيات وقد حققنا أن رفع الحكم ببلوغ غايته المضروبة في دليله الأول ليس نسخا الدليل الرابع أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور ناسخ لقوله سبحانه : قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به وقد ناقشه النافون بأن الآية الكريمة لم تتعرض لإباحة ما عدا الذي ذكر فيها إنما هو مباح بالبراءة الأصلية والحديث المذكور ما رفع إلا هذه البراءة الأصلية ورفعها لا يسمى نسخا كما سلف بيانه من هذا العرض يخلص لنا أن نسخ القرآن بالسنة لا مانع يمنعه عقلا ولا شرعا غاية الأمر أنه لم يقع لعدم سلامة أدلة الوقوع كما رأيت نسخ السنة بالقرآن هذا هو القسم الثالث وفيه خلاف العلماء أيضا بين تجويز ومنع على نمط ما مر في القسم الثاني بيد أن صوت المانعين هنا خافت وحجتهم داحضة أما المثبتون فيؤيدهم دليل الجواز كما يسعفهم برهان الوقوع ولهذا نجد في صف الإثبات جماهير الفقهاء والمتكلمين ولا نرى في صف النفي سوى الشافعي في أحد قوليه ومعه شرذمة من أصحابه ومع ذلك فنقل هذا عن الشافعي فيه شيء من الاضطراب أو إرادة خلاف الظاهر دليل الجواز استدل المثبتون على الجواز هنا بمثل ما استدلوا على القسم السالف فقالوا إن نسخ السنة بالقرآن ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن السنة وحي كما أن القرآن وحي ولا مانع من نسخ وحي بوحي لمكان التكافؤ بينهما من هذه الناحية أدلة للوقوع والجواز واستدلوا على الوقوع بوقائع كثيرة كل واقعة منها دليل على الجواز كما هي دليل على الوقوع لما علمت من أن الوقوع يدل على الجواز وزيادة من تلك الوقائع أن استقبال بيت المقدس في الصلاة لم يعرف إلا من السنة وقد نسخه قوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ومنها أن الأكل والشرب والمباشرة كان محرما في ليل رمضان على من صام ثم نسخ هذا التحريم بقوله تعالى : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أبرم مع أهل مكة عام الحديبية صلحا كان من شروطه أن من جاء منهم مسلما رده عليهم وقد وفى بعده في أبي جندل وجماعة من المكيين جاؤوا مسلمين ثم جاءته امرأة فهم أن يردها فأنزل الله : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن الآية شبهة للمانعين ودفعها أورد المانعون على هذا الاستدلال المعتمد على تلك الوقائع شبهة قالوا في تصويرها يجوز أن يكون النسخ فيما ذكرتم ثابتا بالسنة ثم جاء القرآن موافقا لها وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ السنة بالسنة ويجوز أن الحكم المنسوخ كان ثابتا أولأ بقرآن نسخت تلاوته ثم جاءت السنة موافقة له وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ قرآن بقرآن وندفع هذه الشبهة بأنها قائمة على مجرد احتمالات واهية لا يؤيدها دليل ولو فتحنا بابها وجعلنا لها اعتبارا لما جاز لففيه أن يحكم على نص بأنه ناسخ لآخر إلا إذا ثبت ذلك صريحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ذلك باطل بإجماع الأمة على خلافه واتفاقها على أن الحكم إنما يسند إلى دليله الذي لا يعرف سواه بعد الاستقراء الممكن أدلة المانعين ونقضها قالوا إن قوله سبحانه وتعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم يفيد أن السنة ليست إلا بيانا للقرآن فإذا نسخها القرآن خرجت عن كونها بيانا له وننقض هذا بأن الآية ليس فيها طريق من طرق الحصر وعلى فرض وجود الحصر فالمراد بالبيان في الآية التبليغ لا الشرح ولا ريب أن التبليغ إظهار وعلى فرض أن الآية حاصرة للسنة في البيان بمعنى الشرح لا التبليغ فبيانها بعد النسخ باق في الجملة وذلك بالنسبة لما لم ينسخ منها وأنت تعلم أن بقاء الحكم الشرعي مشروط بعدم ورود ناسخ فتدبر ولاحظ التفصيل الذي ذكرناه هناك في نقض الدليل لمانعي نسخ القرآن بالسنة فإنه يفيدك هنا قال المانعون أيضا إن نسخ السنة بالقرآن يلبس على الناس دينهم ويزعزع ثقتهم بالسنة ويوقع في روعهم أنها غير مرضية لله وذلك يفوت مقصود الشارع من وجوب اتباع الرسول وطاعته واقتداء الخلق به في أقواله وأفعاله ولا ريب أن هذا باطل فما استلزمه وهو نسخ السنة بالقرآن باطل وننقض هذا الاستدلال أولا بأن مثله يمكن أن يقال في أي نوع آخر من أنواع النسخ التي تقولون بها فما يكون جوابا لكم يكون مثله جوابا لنا ثانيا أن ما ذكروه من استلزام نسخ السنة بالقرآن لهذه الأمور الباطلة غير صحيح لأن أدلة القرآن متوافرة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وذلك يمنع لزوم هذه المحاولات الفاسدة ويجعل نسخ السنة بالقرآن كنسخ السنة بالسنة والقرآن بالقرآن في نظر أي منصف كان نسخ السنة بالسنة نسخ السنة بالسنة يتنوع إلى أنواع أربعة نسخ سنة متواترة بمتواترة ونسخ سنة آحادية بآحاديه ونسخ سنة آحادية بسنة متواترة ونسخ سنة متواترة بسنة آحادية أما الثلاثة الأول فجائزة عقلا وشرعا وأما الرابع وهو نسخ سنة متوارترة بآحادية فاتفق علماؤنا على جوازه عقلا ثم اختلفوا في جوازه شرعا فنفاه الجمهور وأثبته أهل الظاهر أدلة الجمهور استدل الجمهور على مذهبهم بدليلين أولهما أن المتواتر قطعي الثبوت وخبر الواحد ظني والقطعي لا يرتفع بالظني لأنه أقوى منه والأقوى لا يرتفع بالأضعف ثانيهما أن عمر رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى مع أن زوجها طلقها وبت طلاقها وقد أقر الصحابة عمر على رده هذا فكان إجماعا وما ذاك إلا لأنه خبر آحادي لا يفيد إلا الظن فلا يقوى على معارضة ما هو أقوى منه وهو كتاب الله إذ يقول : أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم وسنة رسوله المتواترة في جعل السكن حقا من حقوق المبتوتة ملاحظة روت كتب الأصول في هذا الموضوع خبر فاطمة بنت قيس بصيغة مدخولة فيها أن عمر قال حين بلغه الخبر لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت حفظت أم نسيت وعزا بعضهم هذه الرواية المدخولة إلى الإمام مسلم في صحيحة والحقيقة أن الرواية بهذا الصورة غير صحيحة كما أن عزوها إلى مسلم غير صحيح والرواية الصحيحة في مسلم وغيره ليس فيها كلمة أصدقت أم كذبت بل اقتصرت على كلمة أحفظت أم نسيت ومثلك حماك الله يعلم أن الشك في حفظ فاطمة ونسيانها لا يقدح في عدالتها وصدقها فإياك أن تخوض مع الخائضين من المستشرفين وأذنابهم فتطعن في الصحابة وتجرحهم في تثبتهم لمثل هذا الخبر المردود وإن شئت المزيد من التعليق على هذا الخبر وما شابهه فاقرأ ما كتبناه تحت عنوان دفع شبهات في هذا المقام من كتابنا المنهل الحديث في علوم الحديث أدلة الظاهر اعتمد أهل الظاهر في جواز نسخ المتواتر بالآحاد شرعا على شبهات ظنوها أدلة وما هي بأدلة منها أن النسخ تخصيص لعموم الأزمان فيجوز بخبر الواحد وإن كان المنسوخ متواترا كما أن تخصيص عموم الأشخاص يجوز بخبر الواحد وإن كان العام المخصوص متواترا وندفع هذا أولا بأن المقصود من النص المنسوخ جميع الأزمان وليس المقصود منه استمرار الحكم إلى وقت النسخ فقط وإذن فالنسخ رفع لمقتضى العموم لا تخصيص للعموم فكيف يقاس النسخ على التخصيص الذي هو بيان محض للمقصود من اللفظ ثانيا أننا نمنع جواز تخصيص المتواتر بخبر الواحد كما هو رأي الحنفية ومنها أن أهل قباء كانوا يصلون متجهين إلى بيت المقدس فأتاهم آت يخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة فاستجابوا له وقبلوا خبره واستداروا وهم في صلاتهم وبلغ ذلك رسول الله فأقرهم وهذا دليل على أن خبر الواحد ينسخ المتواتر وندفع هذا بأن خبر الواحد في هذه الحادثة احتفت به قرائن جعلته يفيد القطع وكلامنا في خبر الواحد الذي لا يفيد القطع وهذه القرائن التي تفيد القطع هنا نعلمها من أن الحادثة المروية حادثة جزئية حسية لا تحتمل الخطأ ولا النسيان وأنها تتصل بأمر عظيم هو صلاة جمع من المسلمين وأن الراوي لها صحابي جليل وأنه لا واسطة بينه وبين الرسول وأنه واثق من أنه إن كذب فسيتفتضح أمره لا محالة وسيلاقي من العنت والعقاب ما يحيل العقل عادة معه تسبب هذا الراوي العظيم له يضاف إلى هذا أن التوجه إلى بيت المقدس كان متوقع الانتساخ لما هو معروف من حب العرب وحب الرسول معهم لاستقبال الكعبة التي هي مفخرتهم ومفخرة آبائهم وأجدادهم فكان عليه الصلاة والسلام يرفع وجهه إلى السماء انتظارا لنزول الوحي بذلك : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره |
#13
|
|||
|
|||
نسخ القياس والنسخ به
ينطوي تحت نسخ القياس والنسخ به صور ثلاث أولاها أن ينسخ القياس حكما دل عليه قياس ومثلوا لذلك بأن يوجب الشارع إكرام زيد لسخائه فنقيس عليه عمرا لوجود علة السخاء فيه ثم بعد ذلك يوجب الشارع إهانة بكر لكونه سكيرا فنقيس عليه عمر المذكور لوجود علة السكر فيه وبذلك ينتسخ وجوب إكرام عمر وبوجوب إهانته عند ترجيح هذا القياس الثاني على الأول ثانيتها أن ينسخ القياس حكما دل عليه نص كأن ينص الشارع على إباحة النبيذ ثم بعد ذلك يحرم الخمر لإسكاره فنقيس النبيذ عليه لوجود علة الإسكار فيه وبذلك ينتسخ حكم الإباحة الثابت نصا بحكم التحريم الثابت قياسا ثالثتها أن ينسخ النص قياسا كأن يحرم الشارع الخمر لكونه مسكرا فنحمل عليه النبيذ لإسكاره ثم بعد ذلك ينص الشارع على إباحة النبيذ فتنسخ حرمة النبيذ الثابتة قياسا بإباحته الثابتة نصا وقد اختلف علماؤنا فمنهم من منع نسخ القياس والنسخ به مطلقا ومنهم من جوزه مطلقا ومنه من فصل والجمهور على جواز نسخه والنسخ به إن كان قطعيا وعلى منعه إن كان ظنيا والقطعي ما قطع فيه بنفي الفارق كقياس صب البول في الماء الراكد على البول فيه فيأخذ حكمه وهو الكراهة أدلة المانعين مطلقا وقد استدل القائلون بمنع نسخ القياس مطلقا بأن نسخه يقتضي ارتفاع حكم الفرع مع بقاء حكم الأصل وهذا لا يقبله العقل لأن العلة التي رتب عليها الشارع حكم الأصل موجودة في الفرع وهي قاضية ببقاء الحكم في الفرع ما دام باقيا في الأصل ونوقش هذا الاستدلال بأمرين أحدهما أن نسخ القياس لا يقتضي ما ذكروه بل يقتضي ارتفاع حكم الأصل تبعا لارتفاع حكم الفرع على معنى أن نسخ حكم الفرع يدل على أن الشارع قد ألغى العلة التي رتب عليها حكم الأصل وإلغاؤها يقتضي ارتفاع حكمه والآخر أنه لا مانع عقلا من أن ينسخ الشارع الفرع بناء على أنه اعتبر قيدا في العلة لم يكن معتبرا من قبل وهذا القيد موجود في الأصل وليس موجودا في الفرع هذا دليل المانعين لجواز نسخ القياس مطلقا مع مناقشته أما الدليل على منعهم جواز النسخ به مطلقا فيتلخص في أن المنسوخ به إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا لا جائز أن يكون نصا لأن دلالته أقوى من دلالة القياس والضعيف لا يرفع ما هو أقوى منه ولا جائز أن يكون المنسوخ به إجماعا لأن الإجماع لا يصلح أن يكون ناسخا ولا منسوخا كما سيأتي تحقيقه ولا جائز أن يكون قياسا لأنه يشترط لصحة القياس أن يسلم من المعارض المساوي له والأرجح منه وهذا القياس المتأخر مفروض أنه أرجح من الأول وإذن يتبين بظهوره بطلان القياس الأول وإذا تبين بطلانه بطل القول بنسخه لأن النسخ رفع لحكم ثابت من قبل وهذا قد تبين خطؤه وعدم ثبوته ونوقش هذا الاستدلال بأن إطلاق القول بأن النص أقوى دلالة من القياس غير مسلم فإن هناك من النصوص ما تخفي دلالته حتى لا يفقهها إلا الخواص على حين أن هناك من الأقيسة ما تظهر دلالته لكل باحث منصف دليل المجوزين مطلقا واستند المجوزون لنسخ القياس والنسخ به مطلقا إلى أن القياس دليل شرعي لم يقم دليل عقلي ولا نقلي على امتناع نسخه أو النسخ به ونوقش هذا الاستدلال بأن إطلاقهم هذا يستلزم التسوية بين ظني القياس وقطعيه ويستلزم جواز ارتفاع القطعي منه بالظني وكلاهما غير مقبول عقلا ولا نقلا دليل الجمهور واستدل الجمهور على جواز نسخه والنسخ به إن كان قطعيا بأن القياس القطعي لا يستلزم نسخه ولا النسخ به محالا عقليا ولا شرعيا واستدلوا على عدم جواز نسخه والنسخ به إن كان ظنيا بأن جواز ذلك يستلزم المحال أما بيانه بالنسبة لعدم جواز نسخه فهو أن الناسخ له إما أن يكون قطعيا أو ظنيا لا جائز أن يكون قطعيا لأن الظن لا يقوى على رفع اليقين ولا جائز أن يكون ظنيا وكلا هذين مبطل للقياس الأول والباطل لا ثبوت له حتى ينتسخ ويستدلون على أن كلا هذين مبطل للقياس الأول بأن اقتضاء القياس للحكم مشروط بألا يظهر له معارض مساو له أو أرجح منه ولا ريب أن القياس القطعي المتأخر أقوى من الأول وأن الظني أرجح منه حتى يعقل نسخه له فبظهور أحدهما يتبين بطلان ذلك القياس الأول وإذن فلا نسخ ودليلهم على عدم جواز النسخ به هو أن المنسوخ بالقياس الظني إما أن يكون قطعيا أو ظنيا لأن اقتضاء القياس الظني للحكم مشروط بألا يظهر له معارض مساو له أو أرجح منه وفي هذه الصورة قد ظهر له معارض وهو القياس المتأخر عنه الذي لا بد أن يكون أرجح منه حتى يعقل نسخه له وعلى هذا يكون القياس المتأخر مبينا بطلان اقتضاء القياس المتقدم للحكم لا ناسخا له نسخ الإجماع والنسخ به جمهور الأصوليين على أن الإجماع لا يجوز أن يكون ناسخا ولا منسوخا واستدلوا على أنه لا يجوز أن يكون ناسخا بأن المنسوخ به إ ما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا لا جائز أن يكون نصا لأن الإجماع لا بد أن يكن له نص يستند إليه خصوصا إذا انعقد على خلاف النص وإذن يكون الناسخ هو ذلك النص الذي استند إليه الإجماع لا نفس الإجماع ولا جائز أن يكون المنسوخ بالإجماع إجماعا لأن الإجماع لا يكون إلا عن مستند يستند إليه من نص أو قياس إذ الإجماع بدون مستند قول على الله بغير علم والقول على الله بغير علم ضلالة والأمة لا تجتمع على ضلالة ومستند الإجماع الثاني لا بد أن يكون نصا حدث بعد الإجماع الأول لأن ذلك النص لو تحقق قبل الإجماع الأول ما أمكن أن ينعقد الإجماع على خلافه ولا ريب أن حدوث نص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم محال فما أدى إليه وهو نسخ الإجماع بالإجماع محال ولا جائز أن يكن المنسوخ بالإجماع قياسا لأن الإجماع على خلاف القياس يقتضي أحد أمرين إما خطأ القياس وإما انتساخه بمستند الإجماع وعلى كلا التقديرين فلا يكون الإجماع ناسخا واستدلوا على أنه لا يجوز أن يكون الإجماع منسوخا بأن الإجماع لا يعتبر حجة إلا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذن فالناسخ له إما أن يكون نصا أو قياسا أو إجماعا لا جائز أن يكون نصا لأن الناسخ متأخر عن المنسوخ أو لا يعقل أن يحدث نص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جائز أن يكون الناسخ للإجماع قياسا لأن نسخ الإجماع بالقياس يقتضي أن يكون الحكم الدال على الأصل حادثا بعد الرسول وهو باطل ولا جائز أن يكون الناسخ للإجماع إجماعا لما سبق وأما قولهم هذا الحكم منسوخ إجماعا فمعناه أن الإجماع انعقد على أنه نسخ بدليل من الكتاب أو السنة لا أن الإجماع هو الذي نسخه المجوزون ومناقشتهم ما تقدم هو مذهب الجمهور ولكن بعض المعتزلة وآخرون جوزوا أن يكون الإجماع ناسخا لكل حكم صلح النص ناسخا له واستدلوا بأدلة منها أن نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكوات ثابت بصريح القرآن وقد نسخ بإجماع الصحابة في زمن الصديق على إسقاطه ونوقش هذا بوجوه أولها أن الإجماع المذكور لم يثبت بدليل اختلاف الأئمة المجتدين في سقوط نصيب هؤلاء ثانيها أن العلة في اعتبار المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة هي إعزاز الإسلام بهم وفي عهد أبي بكر اعتز الإسلام فعلا بكثرة أتباعه واتساع رقعته فأصبح غير محتاج إلى إعزاز وسقط نصيب هؤلاء المؤلفة لسقوط علته ثالثها أنه على فرض صحة هذا الإجماع فإن الإجماع لا بد له من مستند وإذن فالناسخ هو هذا المستند لا الإجماع نفسه موقف العلماء من الناسخ والمنسوخ العلماء في موقفهم من الناسخ والمنسوخ يختلفون بين مقصر ومقتصد وغال فالمقصرون هم الذين حاولوا التخلص من النسخ إطلاقا سالكين به مسلك التأويل بالتخصيص ونحوه كأبي مسلم ومن وافقه وقد بينا الرأي في هؤلاء سابقا والمقتصدون هم الذين يقولون بالنسخ في حدوده المعقولة فلم ينفوه إطلاقا كما نفاه أبو مسلم وأضرابه ولم يتوسعوا فيه جزافا كالغالين بل يقفون به موقف الضرورة التي يقتضيها وجود التعارض الحقيقي بين الأدلة مع معرفة التقدم منها والمتأخر والغالون هم الذين تزيدوا فأدخلوا في النسخ ما ليس منه بناء على شبه ساقطة ومن هؤلاء أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ وهبة الله بن سلامة وأبو عبد الله محمد بن حزم وغيرهم فإنهم ألفوا كتبا في النسخ أكثروا فيها من ذكر الناسخ والمنسوخ اشتباها منهم وغلطا ومنشأ تزيدهم هذا أنهم انخدعوا بكل ما نقل عن السلف أنه منسوخ وفاتهم أن السلف لم يكونوا يقصدون بالنسخ هذا المعنى الاصطلاحي بل كانوا يقصدون به ما هو أعم منه مما يشمل بيان المجمل وتقييد المطلق ونحوها منشأ غلط المتزيدين تفصيلا ونستطيع أن نرد أسباب هذا الغلط إلى أمور خمسة أولها ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال سببه من المنسوخ وعلى هذا عدوا الآيات التي وردت في الحث على الصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين وقلتهم منسوخة بآيات القتال مع أنها ليست منسوخة بل هي من الآيات التي دارت أحكامها على أسباب فالله أمر المسلمين بالصبر وعدم القتال في أيام ضعفهم وقلة عددهم لعلة الضعف والقلة ثم أمرهم بالجهاد في أيام قوتهم وكثرتهم لعلة القوة والكثرة وأنت خبير بأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما وأن انتفاء الحكم لانتفاء علته لا يعد نسخا بدليل أن وجوب التحمل عند الضعف والقلة لا يزال قائما إلى اليوم وأن وجوب الجهاد والدفاع عند القوة والكثرة لا يزال قائما كذلك إلى اليوم ثانيها توهمهم أن إبطال الإسلام لما كان عليه أهل الجاهلية من قبيل ما نسخ الإسلام فيه حكما بحكم كإبطال نكاح نساء الآباء وكحصر عدد الطلاق في ثلاث وعدد الزواج في أربع بعد أن لم يكونا محصورين مع أن هذا ليس نسخا لأن النسخ رفع حكم شرعي وما ذكروه من هذه الأمثلة ونحوها رفع الإسلام فيه البراءة الأصلية وهي حكم عقلي لا شرعي ثالثها اشتباه التخصيص عليهم بالنسخ كالآيات التي خصصت باستثناء أو غاية مثل قوله سبحانه : والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ومثل قوله : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره رابعها اشتباه البيان عليهم بالنسخ في مثل قوله سبحانه : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإن منهم من توهم أنه ناسخ لقوله سبحانه : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا مع أنه ليس ناسخا له وإنما هو بيان لما ليس بظلم وببيان ما ليس بظلم يعرف الظلم وبضدها تتميز الأشياء خامسها توهم وجود تعارض بين نصين على حين أنه لا تعارض في الواقع وذلك مثل قوله تعالى : أنفقوا من ما رزقناكم وقوله : ومما رزقناهم ينفقون فإن بعضهم توهم أن كلتا الآيتين منسوخة بآية الزكاة لتوهمه أنها تعارض كلا منهما على حين أنه لا تعارض ولا تنافي لأنه يصح حمل الإنفاق في كلتا الآيتين الأوليين على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقارب ونحو ذلك وتكون آية الزكاة معهما من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام ومثل هذا لا يقوى على تخصيص العام فضلا عن أن ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقي لا بالنسبة إلى كل أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا الآيات التي اشتهرت بأنها منسوخة قد عرفت أن المتزيدين أكثروا القول بالآيات المنسوخة غلطا منهم واشتباها ونزيدك هنا أن بعض فطاحل العلماء تعقب هؤلاء المتزيدين بالنقد كالقاضي أبي بكر بن العربي وكجلال الدين السيوطي الذي حصر ما يصح لدعوى النسخ من آيات القرآن في اثنتين وعشرين آية ثم ذكر أن الأصح في آيتي الاستئذان والقسمة الإحكام لا النسخ وها هي ذي مشفوعة بالتعليق عليها مرتبة بترتيب المصحف الشريف الآية الأولى : ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله قيل إنها منسوخة بقوله سبحانه : فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لأن الآية الأولى تفيد جواز استقبال غير المسجد الحرام في الصلاة ما دامت الآفاق كلها لله وليست له جهة معينة والثانية تفيد عدم جواز استقبال غيره فيها ما دامت تحتم استقبال المسجد الحرام في أي مكان نكون فيه وقيل إن الآية المذكورة ليست منسوخة وإنما هي محكمة وهذا ما نرجحه لأنها نزلت ردا على قول اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها إذن فهي متأخرة في النزول عن آية التحويل كما قال ابن عباس وليس بمعقول أن يكون الناسخ سابقا على المنسوخ ثم إن معناها هكذا إن الآفاق كلها لله وليس سبحانه في مكان خاص منها وليس له جهة معينة فيها وإذن فله أن يأمر عباده باستقبال ما يشاء من الجهات في الصلاة وله أن يحولهم من جهة إلى جهة وهذا المعنى كما ترى لا يتعارض وأن يأمر الله عباده وجوبا باستقبال الكعبة دون غيرها بعد أن أمرهم باستقبال بيت المقدس وحيث لا تعارض فلا نسخ بل الآيتان محكمتان ويؤيد إحكام هذه الآية أن جملة : ولله المشرق والمغرب وردت بنصها في سياق الآيات النازلة في التحويل إلى الكعبة ردا على من طعنوا فيه اقرأ إن شئت قوله سبحانه : سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب وبعضهم يمنع التعارض ويدفع النسخ بأن آية : ولله المشرق والمغرب تفيد جواز التوجه إلى غير الكعبة في خصوص صلاة النافلة سفرا على الدابة ويقول إن هذا الحكم باق لم ينسخ أما الآية الثانية فتفيد وجوب استقبال الكعبة في الفرائض وبعضهم يحمل الآية الأولى على التوجه في الدعاء والثانية على التوجه في الصلاة وإذن لا تعارض على هذين الاحتمالين وحيث لا تعارض فلا نسخ ولكن هذين الرأيين وإن وافقا الرأي السابق في إحكام الآية فهما مبنيان على تأويل في معنى الآية يخالف الظاهر كما هو ظاهر نعم إن آية : فول وجهك شطر المسجد الحرام ناسخة لما كان واجبا بالسنة من وجوب استقبال بيت المقدس على رأي من لا يمنع نسخ السنة بالقرآن الآية الثانية : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فإنها تفيد أن الوصية للوالدين والأقربين فرض مكتوب وحق واجب على من حضرهم الموت من المسلمين وقد اختلف في نسخ هذه الآية وفي ناسخها فالجمهور على أنها منسوخة وأن ناسخها آيات المواريث وقيل إنها منسوخة بالسنة وهي قوله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث وقيل منسوخة بإجماع الأمة على عدم وجوب الوصية للوالدين والأقربين وقيل إنها محكمة لم تنسخ ثم اختلف هؤلاء القائلون بالإحكام فبعضهم يحملها على من حرم الإرث من الأقربين وبعضهم يحملها على من له ظروف تقضي بزيادة العطف عليه كالعجزة وكثيري العيال من الورثة ورأيي أن الحق مع الجمهور في أن الآية منسوخة وأن ناسخها آيات المواريث أما القول بإحكامها فتكلف ومشي في غير سبيل لأن الوالدين وقد جاء ذكرهما في الآية لا يحرمان من الميراث بحال ثم إن أدلة السنة متوافرة على عدم جواز الوصية لوارث محافظة على كتلة الوارثين أن تتفتت وحماية للرحم من القطعية التي نرى آثارها السيئة بين من زين الشيطان لمورثهم أن يزرع لهم شجرة الضغينة قبل موته بمفاضلته بينهم في الميراث عن طريق الوصية وأما القول بأن الناسخ السنة فيدفعه أن هذا الحديث آحادي والآحادي ظني والظني لا يقوى على نسخ القطعي وهو الآية وأما القول بأن الناسخ هو الإجماع فيدفعه ما بيناه من عدم جواز نسخ الإجماع والنسخ به نعم إن نسخ آية الوصية بآيات المواريث فيه شيء من الخفاء والاحتمال ولكن السنة النبوية أزالت الحفاء ورفعت الاحتمال حين أفادت أنها ناسخة إذ قال صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية المواريث إن ا لله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وفي هذا المعنى ينقل عن الشافعي ما خلاصته إن الله تعالى أنزل آية الوصية وأنزل آية المواريث فاحتمل أن تكون الوصية باقية مع المواريث واحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية وقد طلب العلماء ما يرجح أحد الاحتمالين فوجدوه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث وهذا الخبر وإن كان آحاديا لا يقوى على نسخ الآية فإنه لا يضعف عن بيانها وترجيح احتمال النسخ على احتمال عدمه فيها هذا ولا يفوتنا أن نشير إلى أن ا لشعبي والنخعي ذهبا إلى عدم نسخ آية الوصية مستندين إلى أن حكمها هو الندب لا الوجوب فلا تعارض بينها وبين آية المواريث كما لا تعارض بينها وبين حديث لا وصية لوارث لأن معناه لا وصية واجبة وهو لا ينافي ندب الوصية وحيث لا تعارض فلا نسخ ولكن هذا الرأي سقيم فيما نفهم لأنه خلاف الظاهر المتبادر من لفظ كتب المعروف في معنى الفرضية ومن لفظ حقا على المتقين المعروف في معنى الإلزام ومن شواهد السنة الناهية عن الوصية لوارث الآية الثالثة : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون فإنها تفيد تخيير من يطيق الصوم بين الصوم والإفطار مع الفدية وقد نسخ ذلك بقوله سبحانه : فمن شهد منكم الشهر فليصمه المفيد لوجوب الصوم دون تخيير على كل صحيح مقيم من المسلمين وقيل إ ن الآية محكمة لم تنسخ لأنها على حذف حرف النفي والتقدير : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ويدل على هذا الحذف قراءة يطوقونه بتشديد الواو وفتحها والمعنى يطيقونه بجهد ومشقة وإذن لا تعارض ولا نسخ ويرد هذا الرأي أولا بأنه مبني على أن في الآية حذفا ولا ريب أن الحذف خلاف الأصل أما قراءة يطوقونه بالتشديد فلا تدل على مشقة تصل بصاحبها إلى جواز الفطر بعد إيجاب الصوم من غير تخيير بل تدل على مشقة ما ولا شك أن كل صوم فيه مشقة ما خصوصا أول مشروعيته ثانيا أن أبا جعفر النحاس روى في كتابه الناسخ والمنسوخ عن أبي سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت هذه الآية ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) كان من شاء منا صام ومن شاء أن يفتدي فعل حتى نسختها الآية بعدها الآية الرابعة : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم فإن هذا التشبيه يقتضي موافقة من قبلنا فيما كانوا عليه من تحريم الوطء والأكل بعد النوم ليلة الصوم وقد نسخ ذلك بقوله سبحانه : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم كذلك قالوا ولكنك تعلم أن التشبيه لا يجب أن يكون من كل وجه وإذن فالتشبيه في الآية الأولى لا يقضي بما ذكروه من وجوب موافقة أهل الكتاب فيما كانوا عليه في صومهم استدلالا بالتشبيه في قوله : كما كتب على الذين من قبلكم وعلى هذا فلا تعارض بين الآيتين وحيث انتفى التعارض انتفى النسخ الآية الخامسة : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير فإنها تفيد حرمة القتال في الشهر الحرام وقد روى ابن جرير عن عطاء بن ميسرة أنها منسوخة بقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ونقل أبو جعفر النحاس إجماع العلماء ما عدا عطاء على القول بهذا النسخ ووجه ذلك أن آية : وقاتلوا المشركين كافة أفادت الإذن بقتال المشركين عموما والعموم في الأشخاص يستلزم العموم في الأزمان وأيدوا ذلك بأن رسول صلى الله عليه وسلم قاتل هوزان بحنين وثقيفا بالطائف في شوال وذي القعدة سنة ثمان من الهجرة ولا ريب أن ذا القعدة شهر حرام وقيل إن النسخ لم يقع بهذه الآية إنما وقع بقوله سبحانه : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فإن عموم الأمكنة يستلزم عموم الأزمنة ذلك رأي الجمهور وهو محجوج فيما نفهم بما ذهب إليه عطاء وغيره من أن عموم الأشخاص في الآية الأولى وعموم الأمكنة في الآية الثانية ولا يستلزم واحد منهما عموم الأزمنة وإذن فلا تعارض ولا نسخ بل الآية الأولى نهت على العموم في الأشخاص والثانية نبهت على العموم في الأمكنة وكلاهما غير مناف لحرمة القتال في الشهر الحرام لأن عموم الأشخاص وعموم الأمكنة يتحققان في بعض الأزمان الصادق بما عدا الأشهر الحرم ويؤيد ذلك أن حرمة القتال في الشهر الحرام لا تزال باقية اللهم إلا إذا كان جزاء لما هو أشد منه فإنه يجوز حينئذ لهذا العارض كما دل عليه قول الله في الآية نفسها : وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل الآية السادسة : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف فإنها منسوخة بقوله سبحانه : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف لأن الآية الأولى أفادت أن من توفي عنها زوجها يوصي لها بنفقة سنة وبسكنى مدة حول ما لم تخرج فإن خرجت فلا شيء لها وأما الثانية فقد أفادت وجوب انتظارها أربعة أشهر وعشرا ولازم هذا أنه لا يجوز لها أن تخرج في هذه المدة أو تتزوج وقيل إن ذلك تخصيص لا نسخ فإن المرأة قد تكون عدتها سنة كاملة إذا كانت حاملا ويرد هذا بأن الآية الأولى تفيد اعتداد المرأة حولا كاملا إذا كانت غير حامل أو كانت حاملا ولم يمكث حملها سنة والآية الثانية قد رفعت هذا جزما وذلك محقق للنسخ على أن الاعتداد حولا كاملا فيما إذا كانت المرأة حاملا ليس لدلالة الآية الأولى عليه بل لآية : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وهذا لا يتقيد بعام بل ربما يزيد أو ينقص وقيل إن الآية الأولى محكمة ولا منافاة بينها وبين الثانية لأن الأولى فيما إذا كان هناك وصية للزوجة بذلك ولم تخرج ولم تتزوج أما الثانية ففي بيان العدة والمدة التي يجب عليها أن تمكثها وهما مقامان مختلفان ويرد هذا بأن الآية الأولى تجعل للمتوفى عنها حق الخروج في أي زمن وحق الزواج ولم تحرم عليها شيئا منهما قبل أربعة أشهر وعشر أما الثانية فقد حرمتهما وأوجبت عليها الانتظار دون خروج وزواج طوال هذه المدة فالحق هو القول بالنسخ وعليه جمهور العلماء الآية السابعة : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فإنها منسوخة بقوله سبحانه : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لأن الآية الأولى تفيد أن الله يكلف العباد حتى بالخطرات التي لا يملكون دفعها والآية الثانية تفيد أنه لا يكلفهم بها لأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها والذي يظهر لنا أن الآية الثانية مخصصة للأولى وليست ناسخة لأن إفادة الأولى لتكليف الله عباده بما يستطيعون مما أبدوا في أنفسهم أو أخفوا لا تزال هذه الإفادة باقية وهذا لا يعارض الآية الثانية حتى يكون ثمة نسخ وقال بعضهم إن الآية محكمة لأنها خاصة بكتمان الشهادة وإظهارها ويرده أنه لا دليل على هذا التخصيص وقال بعضهم إنها محكمة مع بقائها على عمومها والمعنى أن الله يحاسب المؤمنين والكافرين بما أبدوا وبما أخفوا فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين والمنافقين ويرده أن هذا العموم لا يسلم بعد ما تقرر من أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها سواء أكانت نفسا مؤمنة أم كافرة لأن لفظ نفسا نكرة في سياق النفي فيعم الآية الثامنة : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته قال السيوطي ليس في آل عمران آية يصح فيها دعوى النسخ إلا هذه الآية فقد قيل إنها منسوخة بقول الله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) والذي يبدو لنا أنها غير منسوخة لأن الآيتين غير مسلم فإن تقوى الله حق تقوه المأمور بها في الآية الأولى معناها الإتيان بما يستطيعه المكلفون من هداية الله دون ما خرج عن استطاعتهم وقد ورد تفسيرها بأن يحفظ الإنسان رأسه وما وعى وبطنه وما حوى ويذكر الموت والبلى ولا ريب أن ذلك مستطاع بتوفيق الله فإذن لا تعارض بينها وبين قوله ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وحيث لا تعارض فلا نسخ الآية التاسعة ( 8وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ) قيل إنها منسوخة بآيات المواريث والظاهر أنها محكمة لأنها تأمر بإعطاء أولي القربى والمساكين الحاضرين لقسمة التركة شيئا منها وهذا الحكم باق على وجه الندب ما دام المذكورون غير وارثين ولا تعارض ولا نسخ نعم لو كان حكم إعطاء هؤلاء هو الوجوب ثم رفع بآيات المواريث وتقرر الندب بدليل آخر بدلا من الحكم الأول فلا مفر من القول بالنسخ ولكن المأثور عن ابن عباس أن الآية محكمة غير أن الناس تهاونوا بالعمل بها وهذا يجعلنا نرجع أن في الآية كان للندب لا للوجوب من أول الأمر حتى يتأتى القول بإحكامها فتأمل الآية العاشرة ( 8والذين عقدت أيمانكم فئاتوهم نصيبكم ) نسخها قوله الله ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وقيل إنها على توريث الموالاة وتوريثهم باق غير أن رتبتهم في الإرث بعد رتبة ذوي الأرحام وبذلك يقول فقهاء العراق الآية الحادية عشرة ( 8والاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعه منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا والذان يأتيانها منكم فئاذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) فإنها منسوخة بآية النور وهي ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جادة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) وذلك بالنسبة إلى البكر رجلا كان أو امرأة أما الثيب من الجنسين فقد نسخ الحكم الأول بالنسبة إليهما وأبدل بالرجم الذي دلت عليه تلك الآية المنسوخة التلاوة وهي الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة دلت عليه السنة أيضا وبعضهم يقول بالإحكام وعدم النسخ ذاهبا إلى أن الآية الأولى جاءت فيمن أتين مواضع الريب والفسوق ولم يتحقق زناهن أما الثانية فإنها فيمن تحقق زناهن ولكن هذا مردود من وجهين أحدهما أنه تأويل يصادم الظاهر بدون دليل لأن قوله : يأتين الفاحشة يتبادر منه مقارفتهن نفس الفاحشة لا مجرد غشيان مكانها والأخذ بأسبابها والآخر قوله صلى الله عليه وسلم خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب جلد مائة والرجم أولي القربى واليتامى والمساكين الحاضرين لقسمة التركة شيئا منها وهذا الحكم باق على وجه الندب ما دام المذكورون غير وارثين ولا تعارض ولا نسخ نعم لو كان حكم إعطاء هؤلاء هو الوجوب ثم رفع بآيات المواريث وتقرر الندب بدليل آخر بدلا من الحكم الأول فلا مفر من القول بالنسخ ولكن المأثور عن ابن عباس أن الآية محكمة غير أن الناس تهاونوا بالعمل بها وهذا يجعلنا نرجح أن في الأمر الآية كان للندب لا للوجوب من أول الأمر حتى يتأتى القول بإحكامها فتأمل الآية العاشرة : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم نسخها قوله الله ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وقيل إنها غير منسوخة لأنها تدل على توريث الموالاة وتوريثهم باق غير أن رتبتهم في الإرث بعد رتبة ذوي الأرحام وبذلك يقول فقهاء العراق الآية الحادية عشرة : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما فإنها منسوخة بآية النور وهي : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وذلك بالنسبة إلى البكر رجلا كان أو امرأة أما الثيب من الجنسين فقد نسخ الحكم الأول بالنسبة إليهما وأبدل بالرجم الذي دلت عليه تلك الآية المنسوخة التلاوة وهي الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة دلت عليه السنة أيضا وبعضهم يقول بالإحكام وعدم النسخ ذاهبا إلى أن الآية الأولى جاءت فيمن أتين مواضع الريب والفسوق ولم يتحقق زناهن أما الثانية فإنها فيمن تحقق زناهن ولكن هذا مردود من وجهين أحدهما أنه تأويل يصادم الظاهر بدون دليل لأن قوله : يأتين الفاحشة يتبادر منه مقارفتهن نفس الفاحشة لا مجرد غشيان مكانها والأخذ بأسبابها والآخر قوله صلى الله عليه وسلم خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم الآية الثانية عشرة : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام قيل إن قوله : ولا الشهر الحرام منسوخ بمقتضى عموم قوله : وقاتلوا المشركين كافة وقد سبق القول في هذا فالحق عدم النسخ الآية الثالثة عشرة : فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فإنها منسوخة بقوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقد قيل بعدم النسخ وأن الآية الثانية متممة للأولى فالرسول مخير بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرض عنهم وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية وهذا ما نرجحه لأن النسخ لا يصح إلا حيث تعذر الجمع الآية الرابعة عشرة : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم فإن قوله : أو آخران من غيركم منسوخ بقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم وقيل إنه لا نسخ لأن الآية الأولى خاصة بما إذا نزل الموت بأحد المسافرين وأراد أن يوصي فإن الوصية تثبت بشهادة اثنين عدلين من المسلمين أو غيرهم توسعة على المسافرين لأن ظرف السفر ظروف دقيقة قد يتعسر أو يتعذر وجود عدلين من المسلمين فيها فلو لم يبح الشارع إشهاد غير المسلمين لضاق الأمر وربما ضاعت الوصية أما الآية الثانية فهي القاعدة العامة في غير ظروف السفر الآية الخامسة عشرة : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون فإنها منسوخة بقوله سبحانه : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ووجه النسخ أن الآية الأولى أفادت وجوب ثبات الواحد للعشرة وأن الثانية أفادت وجوب ثبات الواحد للاثنين وهما حكمان متعارضان فتكون الثانية ناسخة للأولى وقيل لا تعارض بين الآيتين ولا نسخ لأن الثانية لم ترفع الحكم الأول بداهة أنه لم يقل فيها لا يقاتل الواحد العشرة إذا قدر على ذلك بل هي مخففة فحسب على معنى أن المجاهد إن قدر على قتال العشرة فله الخيار رخصة من الله له بعد أن اعتز المسلمون ولكنك ترى أن النسخ على هذا الوجه لا مفر منه أيضا لأن الآية الأولى عينت على المجاهد أن يثبت لعشرة والثانية خيرته بين الثبات لعشرة وعدم الثبات لأكثر من اثنين ولا ريب أن التخيير يعارض الإلزام على وجه التعيين الآية السادسة عشرة : انفروا خفافا وثقالا فإنها نسخت بآيات العذر وهي قوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله وقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وقيل إن الآية الأخيرة في النفر للتعليم والتفقه لا للحرب والآيتان قبلها مخصصتان لا ناسختان للآية الأولى كأنه قال من أول الأمر لينفر منكم خفافا وثقالا كل من احتيج إليه وهو قادر لا عذر له الآية السابعة عشرة : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فإنها منسوخة بقوله سبحانه : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم لأن الآية خبر بمعنى النهي بدليل قراءة : لا ينكح بالجزم والقراءات يفسر بعضها بعضا وقيل بعدم النسخ تفسير للآية الأولى بأن الزاني المعروف بالزنى لا يستطيع أن ينكح إلا زانية أو مشركة لنفور المحصنات المؤمنات من زواجه وكذلك المرأة المعروفة بالزنى لا يرغب في نكاحها إلا زان أو مشرك لنفور المؤمنين الصالحين من زواجها والحق أن الآية منسوخة لأنها خبر بمعنى النهي كما سبق ولأن الأمر بالنسبة للمشرك والمشركة لا يستقيم إلا مع القول بالنسخ الآية الثامنة عشرة : يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء قيل إن هذه الآية منسوخة لكن لا دليل على نسخها فالحق أنها محكمة وهي أدب عظيم يلزم الخدم والصغار البعد عن مواطن كشف العورات حماية للأعراض من الانتهاك وحفظا للأنظار أن ترى ما لا تليق رؤيته في أوقات التبذل الآية التاسعة عشرة : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج نسخها قول الله : يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين واعلم أن هذا النسخ لا يستقيم إلا على أن هذه الآية متأخرة في النزول عن الآية الأولى وأن الله قد أحل للرسول في آخر حياته ما كان قد حرمه عليه من قبل في قوله : لا يحل لك النساء من بعد الخ وذلك مروي عن علي كرم الله وجهه وعن ابن عباس رضي الله عنه وعن أم سلمة رضوان الله عليها وعن الضحاك رحمه الله وعن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أخرج أبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه أيضا وابن المنذر وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء إلا ذات محرم الخ والسر في أن الله حرم على الرسول أولا ما عدا أزواجه ثم أحل له ما حرمه عليهن هو أن التحريم الأول فيه تطبيب لقلوب نسائه ومكافأة لهن على اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة بعد أن نزلت آيات التخيير في القرآن ثم إن إحلال هذا الذي حرم على رسوله مع عدم زواج الرسول من غيرهن بعد هذا الإحلال كما ثبت ذلك فيه بيان لفضله صلى الله عليه وسلم ومكرمته عليهن حيث قصر نفسه ولم يتزوج بغيرهن مع إباحة الله له ذلك وقد جاءت روايات أخرى في هذا الموضوع تخالف ما ذكرناه لكن لم يثبت لدينا صحة شيء منها ولهذا رجحنا ما بسطناه ولا يعكر صفو القول بالنسخ هنا ما نلاحظه من تأخر الآية المنسوخة عن الناسخة في المصحف لأن المدار على ترتيب النزول لا على ترتيب المصحف كما تعلم الآية العشرون : يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير فإنها نسخت بقوله سبحانه عقب تلك الآية ( ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله ) قيل لا نسخ بحجة أن الآية الثانية بيان للصدقة المأمور بها في الأولى وأنه يصح أن تكون صدقة غير مالية من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله وأنت خبير بأن هذا ضرب من التكلف في التأويل يأباه ما هو معروف من معنى الصدقة حتى أصبح لفظها حقيقة عرفية في البذل المالي وحده وقيل إن وجوب تقديم الصدقة إنما زال بزوال سببه وهو تمييز المنافق من غيره وهذا مردود بأن كل حكم منسوخ فإنما نسخه الله لحكمة من نحو مصلحة أو سبب كان يرتبط به الحكم الأول ثم زالت تلك المصلحة أو ذلك السبب الآية الحادية والعشرون : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا قيل نسختها آية الغنيمة وهي قوله سبحانه ( واعملوا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) وبيان ذلك أن الآية الأولى تفيد أن زوجات المسلمين اللاتي ارتددن ولحقن بدار الحرب يجب أن يدفع إلى أزواجهن مثل مهورهن من الغنائم التي يغنمها المسلمون ويعاقبون العدو بأخذها والآية الثانية تفيد أن الغنائم تخمس أخماسا ثم تصرف كما رسم الشارع ولكنك بالتأمل تستظهر معنا أنه لا نسخ لأن الآيتين لا تتعارضان بل يمكن الجمع بينهما بأن يدفع من الغنائم أولا مثل مهور هذه الزوجات المرتدات اللاحقات بدار الحرب ثم تخمس الغنائم بعد ذلك أخماسا وتصرف في مصارفها الشرعية الآية الثانية والعشرون : يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا فإنها منسوخة بقوله سبحانه في آخر هذه السورة : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن الخ وبيان ذلك أن الآية الأولى أفادت وجوب قيامه صلى الله عليه وسلم من الليل نصفه أو أنقص منه قليلا أو أزيد عليه أما الثانية فقد أفادت أن الله تاب على النبي وأصحابه في هذا بأن رخص لهم في ترك هذا القيام المقدر ورفع عنهم كل تبعة في ذلك الترك كما رفع التبعات عن المذنبين بالتوبة إذا تابوا ولا ريب أن هذا الحكم الثاني رافع للحكم الأول فتعين النسخ وقد قيل في تفسير هذه الآيات كلام كثير لا نرى حاجة إلى ذكره والله يكفينا كثرة القيل والقال ويتوب علينا من النزاع والخلاف ويجمع صفوفنا على دينه وحبه آمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين |
#14
|
|||
|
|||
نسخ القياس والنسخ به
ينطوي تحت نسخ القياس والنسخ به صور ثلاث أولاها أن ينسخ القياس حكما دل عليه قياس ومثلوا لذلك بأن يوجب الشارع إكرام زيد لسخائه فنقيس عليه عمرا لوجود علة السخاء فيه ثم بعد ذلك يوجب الشارع إهانة بكر لكونه سكيرا فنقيس عليه عمر المذكور لوجود علة السكر فيه وبذلك ينتسخ وجوب إكرام عمر وبوجوب إهانته عند ترجيح هذا القياس الثاني على الأول ثانيتها أن ينسخ القياس حكما دل عليه نص كأن ينص الشارع على إباحة النبيذ ثم بعد ذلك يحرم الخمر لإسكاره فنقيس النبيذ عليه لوجود علة الإسكار فيه وبذلك ينتسخ حكم الإباحة الثابت نصا بحكم التحريم الثابت قياسا ثالثتها أن ينسخ النص قياسا كأن يحرم الشارع الخمر لكونه مسكرا فنحمل عليه النبيذ لإسكاره ثم بعد ذلك ينص الشارع على إباحة النبيذ فتنسخ حرمة النبيذ الثابتة قياسا بإباحته الثابتة نصا وقد اختلف علماؤنا فمنهم من منع نسخ القياس والنسخ به مطلقا ومنهم من جوزه مطلقا ومنه من فصل والجمهور على جواز نسخه والنسخ به إن كان قطعيا وعلى منعه إن كان ظنيا والقطعي ما قطع فيه بنفي الفارق كقياس صب البول في الماء الراكد على البول فيه فيأخذ حكمه وهو الكراهة أدلة المانعين مطلقا وقد استدل القائلون بمنع نسخ القياس مطلقا بأن نسخه يقتضي ارتفاع حكم الفرع مع بقاء حكم الأصل وهذا لا يقبله العقل لأن العلة التي رتب عليها الشارع حكم الأصل موجودة في الفرع وهي قاضية ببقاء الحكم في الفرع ما دام باقيا في الأصل ونوقش هذا الاستدلال بأمرين أحدهما أن نسخ القياس لا يقتضي ما ذكروه بل يقتضي ارتفاع حكم الأصل تبعا لارتفاع حكم الفرع على معنى أن نسخ حكم الفرع يدل على أن الشارع قد ألغى العلة التي رتب عليها حكم الأصل وإلغاؤها يقتضي ارتفاع حكمه والآخر أنه لا مانع عقلا من أن ينسخ الشارع الفرع بناء على أنه اعتبر قيدا في العلة لم يكن معتبرا من قبل وهذا القيد موجود في الأصل وليس موجودا في الفرع هذا دليل المانعين لجواز نسخ القياس مطلقا مع مناقشته أما الدليل على منعهم جواز النسخ به مطلقا فيتلخص في أن المنسوخ به إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا لا جائز أن يكون نصا لأن دلالته أقوى من دلالة القياس والضعيف لا يرفع ما هو أقوى منه ولا جائز أن يكون المنسوخ به إجماعا لأن الإجماع لا يصلح أن يكون ناسخا ولا منسوخا كما سيأتي تحقيقه ولا جائز أن يكون قياسا لأنه يشترط لصحة القياس أن يسلم من المعارض المساوي له والأرجح منه وهذا القياس المتأخر مفروض أنه أرجح من الأول وإذن يتبين بظهوره بطلان القياس الأول وإذا تبين بطلانه بطل القول بنسخه لأن النسخ رفع لحكم ثابت من قبل وهذا قد تبين خطؤه وعدم ثبوته ونوقش هذا الاستدلال بأن إطلاق القول بأن النص أقوى دلالة من القياس غير مسلم فإن هناك من النصوص ما تخفي دلالته حتى لا يفقهها إلا الخواص على حين أن هناك من الأقيسة ما تظهر دلالته لكل باحث منصف دليل المجوزين مطلقا واستند المجوزون لنسخ القياس والنسخ به مطلقا إلى أن القياس دليل شرعي لم يقم دليل عقلي ولا نقلي على امتناع نسخه أو النسخ به ونوقش هذا الاستدلال بأن إطلاقهم هذا يستلزم التسوية بين ظني القياس وقطعيه ويستلزم جواز ارتفاع القطعي منه بالظني وكلاهما غير مقبول عقلا ولا نقلا دليل الجمهور واستدل الجمهور على جواز نسخه والنسخ به إن كان قطعيا بأن القياس القطعي لا يستلزم نسخه ولا النسخ به محالا عقليا ولا شرعيا واستدلوا على عدم جواز نسخه والنسخ به إن كان ظنيا بأن جواز ذلك يستلزم المحال أما بيانه بالنسبة لعدم جواز نسخه فهو أن الناسخ له إما أن يكون قطعيا أو ظنيا لا جائز أن يكون قطعيا لأن الظن لا يقوى على رفع اليقين ولا جائز أن يكون ظنيا وكلا هذين مبطل للقياس الأول والباطل لا ثبوت له حتى ينتسخ ويستدلون على أن كلا هذين مبطل للقياس الأول بأن اقتضاء القياس للحكم مشروط بألا يظهر له معارض مساو له أو أرجح منه ولا ريب أن القياس القطعي المتأخر أقوى من الأول وأن الظني أرجح منه حتى يعقل نسخه له فبظهور أحدهما يتبين بطلان ذلك القياس الأول وإذن فلا نسخ ودليلهم على عدم جواز النسخ به هو أن المنسوخ بالقياس الظني إما أن يكون قطعيا أو ظنيا لأن اقتضاء القياس الظني للحكم مشروط بألا يظهر له معارض مساو له أو أرجح منه وفي هذه الصورة قد ظهر له معارض وهو القياس المتأخر عنه الذي لا بد أن يكون أرجح منه حتى يعقل نسخه له وعلى هذا يكون القياس المتأخر مبينا بطلان اقتضاء القياس المتقدم للحكم لا ناسخا له نسخ الإجماع والنسخ به جمهور الأصوليين على أن الإجماع لا يجوز أن يكون ناسخا ولا منسوخا واستدلوا على أنه لا يجوز أن يكون ناسخا بأن المنسوخ به إ ما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا لا جائز أن يكون نصا لأن الإجماع لا بد أن يكن له نص يستند إليه خصوصا إذا انعقد على خلاف النص وإذن يكون الناسخ هو ذلك النص الذي استند إليه الإجماع لا نفس الإجماع ولا جائز أن يكون المنسوخ بالإجماع إجماعا لأن الإجماع لا يكون إلا عن مستند يستند إليه من نص أو قياس إذ الإجماع بدون مستند قول على الله بغير علم والقول على الله بغير علم ضلالة والأمة لا تجتمع على ضلالة ومستند الإجماع الثاني لا بد أن يكون نصا حدث بعد الإجماع الأول لأن ذلك النص لو تحقق قبل الإجماع الأول ما أمكن أن ينعقد الإجماع على خلافه ولا ريب أن حدوث نص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم محال فما أدى إليه وهو نسخ الإجماع بالإجماع محال ولا جائز أن يكن المنسوخ بالإجماع قياسا لأن الإجماع على خلاف القياس يقتضي أحد أمرين إما خطأ القياس وإما انتساخه بمستند الإجماع وعلى كلا التقديرين فلا يكون الإجماع ناسخا واستدلوا على أنه لا يجوز أن يكون الإجماع منسوخا بأن الإجماع لا يعتبر حجة إلا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذن فالناسخ له إما أن يكون نصا أو قياسا أو إجماعا لا جائز أن يكون نصا لأن الناسخ متأخر عن المنسوخ أو لا يعقل أن يحدث نص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جائز أن يكون الناسخ للإجماع قياسا لأن نسخ الإجماع بالقياس يقتضي أن يكون الحكم الدال على الأصل حادثا بعد الرسول وهو باطل ولا جائز أن يكون الناسخ للإجماع إجماعا لما سبق وأما قولهم هذا الحكم منسوخ إجماعا فمعناه أن الإجماع انعقد على أنه نسخ بدليل من الكتاب أو السنة لا أن الإجماع هو الذي نسخه المجوزون ومناقشتهم ما تقدم هو مذهب الجمهور ولكن بعض المعتزلة وآخرون جوزوا أن يكون الإجماع ناسخا لكل حكم صلح النص ناسخا له واستدلوا بأدلة منها أن نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكوات ثابت بصريح القرآن وقد نسخ بإجماع الصحابة في زمن الصديق على إسقاطه ونوقش هذا بوجوه أولها أن الإجماع المذكور لم يثبت بدليل اختلاف الأئمة المجتدين في سقوط نصيب هؤلاء ثانيها أن العلة في اعتبار المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة هي إعزاز الإسلام بهم وفي عهد أبي بكر اعتز الإسلام فعلا بكثرة أتباعه واتساع رقعته فأصبح غير محتاج إلى إعزاز وسقط نصيب هؤلاء المؤلفة لسقوط علته ثالثها أنه على فرض صحة هذا الإجماع فإن الإجماع لا بد له من مستند وإذن فالناسخ هو هذا المستند لا الإجماع نفسه موقف العلماء من الناسخ والمنسوخ العلماء في موقفهم من الناسخ والمنسوخ يختلفون بين مقصر ومقتصد وغال فالمقصرون هم الذين حاولوا التخلص من النسخ إطلاقا سالكين به مسلك التأويل بالتخصيص ونحوه كأبي مسلم ومن وافقه وقد بينا الرأي في هؤلاء سابقا والمقتصدون هم الذين يقولون بالنسخ في حدوده المعقولة فلم ينفوه إطلاقا كما نفاه أبو مسلم وأضرابه ولم يتوسعوا فيه جزافا كالغالين بل يقفون به موقف الضرورة التي يقتضيها وجود التعارض الحقيقي بين الأدلة مع معرفة التقدم منها والمتأخر والغالون هم الذين تزيدوا فأدخلوا في النسخ ما ليس منه بناء على شبه ساقطة ومن هؤلاء أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ وهبة الله بن سلامة وأبو عبد الله محمد بن حزم وغيرهم فإنهم ألفوا كتبا في النسخ أكثروا فيها من ذكر الناسخ والمنسوخ اشتباها منهم وغلطا ومنشأ تزيدهم هذا أنهم انخدعوا بكل ما نقل عن السلف أنه منسوخ وفاتهم أن السلف لم يكونوا يقصدون بالنسخ هذا المعنى الاصطلاحي بل كانوا يقصدون به ما هو أعم منه مما يشمل بيان المجمل وتقييد المطلق ونحوها منشأ غلط المتزيدين تفصيلا ونستطيع أن نرد أسباب هذا الغلط إلى أمور خمسة أولها ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال سببه من المنسوخ وعلى هذا عدوا الآيات التي وردت في الحث على الصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين وقلتهم منسوخة بآيات القتال مع أنها ليست منسوخة بل هي من الآيات التي دارت أحكامها على أسباب فالله أمر المسلمين بالصبر وعدم القتال في أيام ضعفهم وقلة عددهم لعلة الضعف والقلة ثم أمرهم بالجهاد في أيام قوتهم وكثرتهم لعلة القوة والكثرة وأنت خبير بأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما وأن انتفاء الحكم لانتفاء علته لا يعد نسخا بدليل أن وجوب التحمل عند الضعف والقلة لا يزال قائما إلى اليوم وأن وجوب الجهاد والدفاع عند القوة والكثرة لا يزال قائما كذلك إلى اليوم ثانيها توهمهم أن إبطال الإسلام لما كان عليه أهل الجاهلية من قبيل ما نسخ الإسلام فيه حكما بحكم كإبطال نكاح نساء الآباء وكحصر عدد الطلاق في ثلاث وعدد الزواج في أربع بعد أن لم يكونا محصورين مع أن هذا ليس نسخا لأن النسخ رفع حكم شرعي وما ذكروه من هذه الأمثلة ونحوها رفع الإسلام فيه البراءة الأصلية وهي حكم عقلي لا شرعي ثالثها اشتباه التخصيص عليهم بالنسخ كالآيات التي خصصت باستثناء أو غاية مثل قوله سبحانه : والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ومثل قوله : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره رابعها اشتباه البيان عليهم بالنسخ في مثل قوله سبحانه : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإن منهم من توهم أنه ناسخ لقوله سبحانه : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا مع أنه ليس ناسخا له وإنما هو بيان لما ليس بظلم وببيان ما ليس بظلم يعرف الظلم وبضدها تتميز الأشياء خامسها توهم وجود تعارض بين نصين على حين أنه لا تعارض في الواقع وذلك مثل قوله تعالى : أنفقوا من ما رزقناكم وقوله : ومما رزقناهم ينفقون فإن بعضهم توهم أن كلتا الآيتين منسوخة بآية الزكاة لتوهمه أنها تعارض كلا منهما على حين أنه لا تعارض ولا تنافي لأنه يصح حمل الإنفاق في كلتا الآيتين الأوليين على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقارب ونحو ذلك وتكون آية الزكاة معهما من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام ومثل هذا لا يقوى على تخصيص العام فضلا عن أن ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقي لا بالنسبة إلى كل أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا الآيات التي اشتهرت بأنها منسوخة قد عرفت أن المتزيدين أكثروا القول بالآيات المنسوخة غلطا منهم واشتباها ونزيدك هنا أن بعض فطاحل العلماء تعقب هؤلاء المتزيدين بالنقد كالقاضي أبي بكر بن العربي وكجلال الدين السيوطي الذي حصر ما يصح لدعوى النسخ من آيات القرآن في اثنتين وعشرين آية ثم ذكر أن الأصح في آيتي الاستئذان والقسمة الإحكام لا النسخ وها هي ذي مشفوعة بالتعليق عليها مرتبة بترتيب المصحف الشريف الآية الأولى : ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله قيل إنها منسوخة بقوله سبحانه : فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لأن الآية الأولى تفيد جواز استقبال غير المسجد الحرام في الصلاة ما دامت الآفاق كلها لله وليست له جهة معينة والثانية تفيد عدم جواز استقبال غيره فيها ما دامت تحتم استقبال المسجد الحرام في أي مكان نكون فيه وقيل إن الآية المذكورة ليست منسوخة وإنما هي محكمة وهذا ما نرجحه لأنها نزلت ردا على قول اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها إذن فهي متأخرة في النزول عن آية التحويل كما قال ابن عباس وليس بمعقول أن يكون الناسخ سابقا على المنسوخ ثم إن معناها هكذا إن الآفاق كلها لله وليس سبحانه في مكان خاص منها وليس له جهة معينة فيها وإذن فله أن يأمر عباده باستقبال ما يشاء من الجهات في الصلاة وله أن يحولهم من جهة إلى جهة وهذا المعنى كما ترى لا يتعارض وأن يأمر الله عباده وجوبا باستقبال الكعبة دون غيرها بعد أن أمرهم باستقبال بيت المقدس وحيث لا تعارض فلا نسخ بل الآيتان محكمتان ويؤيد إحكام هذه الآية أن جملة : ولله المشرق والمغرب وردت بنصها في سياق الآيات النازلة في التحويل إلى الكعبة ردا على من طعنوا فيه اقرأ إن شئت قوله سبحانه : سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب وبعضهم يمنع التعارض ويدفع النسخ بأن آية : ولله المشرق والمغرب تفيد جواز التوجه إلى غير الكعبة في خصوص صلاة النافلة سفرا على الدابة ويقول إن هذا الحكم باق لم ينسخ أما الآية الثانية فتفيد وجوب استقبال الكعبة في الفرائض وبعضهم يحمل الآية الأولى على التوجه في الدعاء والثانية على التوجه في الصلاة وإذن لا تعارض على هذين الاحتمالين وحيث لا تعارض فلا نسخ ولكن هذين الرأيين وإن وافقا الرأي السابق في إحكام الآية فهما مبنيان على تأويل في معنى الآية يخالف الظاهر كما هو ظاهر نعم إن آية : فول وجهك شطر المسجد الحرام ناسخة لما كان واجبا بالسنة من وجوب استقبال بيت المقدس على رأي من لا يمنع نسخ السنة بالقرآن الآية الثانية : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فإنها تفيد أن الوصية للوالدين والأقربين فرض مكتوب وحق واجب على من حضرهم الموت من المسلمين وقد اختلف في نسخ هذه الآية وفي ناسخها فالجمهور على أنها منسوخة وأن ناسخها آيات المواريث وقيل إنها منسوخة بالسنة وهي قوله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث وقيل منسوخة بإجماع الأمة على عدم وجوب الوصية للوالدين والأقربين وقيل إنها محكمة لم تنسخ ثم اختلف هؤلاء القائلون بالإحكام فبعضهم يحملها على من حرم الإرث من الأقربين وبعضهم يحملها على من له ظروف تقضي بزيادة العطف عليه كالعجزة وكثيري العيال من الورثة ورأيي أن الحق مع الجمهور في أن الآية منسوخة وأن ناسخها آيات المواريث أما القول بإحكامها فتكلف ومشي في غير سبيل لأن الوالدين وقد جاء ذكرهما في الآية لا يحرمان من الميراث بحال ثم إن أدلة السنة متوافرة على عدم جواز الوصية لوارث محافظة على كتلة الوارثين أن تتفتت وحماية للرحم من القطعية التي نرى آثارها السيئة بين من زين الشيطان لمورثهم أن يزرع لهم شجرة الضغينة قبل موته بمفاضلته بينهم في الميراث عن طريق الوصية وأما القول بأن الناسخ السنة فيدفعه أن هذا الحديث آحادي والآحادي ظني والظني لا يقوى على نسخ القطعي وهو الآية وأما القول بأن الناسخ هو الإجماع فيدفعه ما بيناه من عدم جواز نسخ الإجماع والنسخ به نعم إن نسخ آية الوصية بآيات المواريث فيه شيء من الخفاء والاحتمال ولكن السنة النبوية أزالت الحفاء ورفعت الاحتمال حين أفادت أنها ناسخة إذ قال صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية المواريث إن ا لله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وفي هذا المعنى ينقل عن الشافعي ما خلاصته إن الله تعالى أنزل آية الوصية وأنزل آية المواريث فاحتمل أن تكون الوصية باقية مع المواريث واحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية وقد طلب العلماء ما يرجح أحد الاحتمالين فوجدوه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث وهذا الخبر وإن كان آحاديا لا يقوى على نسخ الآية فإنه لا يضعف عن بيانها وترجيح احتمال النسخ على احتمال عدمه فيها هذا ولا يفوتنا أن نشير إلى أن ا لشعبي والنخعي ذهبا إلى عدم نسخ آية الوصية مستندين إلى أن حكمها هو الندب لا الوجوب فلا تعارض بينها وبين آية المواريث كما لا تعارض بينها وبين حديث لا وصية لوارث لأن معناه لا وصية واجبة وهو لا ينافي ندب الوصية وحيث لا تعارض فلا نسخ ولكن هذا الرأي سقيم فيما نفهم لأنه خلاف الظاهر المتبادر من لفظ كتب المعروف في معنى الفرضية ومن لفظ حقا على المتقين المعروف في معنى الإلزام ومن شواهد السنة الناهية عن الوصية لوارث الآية الثالثة : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون فإنها تفيد تخيير من يطيق الصوم بين الصوم والإفطار مع الفدية وقد نسخ ذلك بقوله سبحانه : فمن شهد منكم الشهر فليصمه المفيد لوجوب الصوم دون تخيير على كل صحيح مقيم من المسلمين وقيل إ ن الآية محكمة لم تنسخ لأنها على حذف حرف النفي والتقدير : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ويدل على هذا الحذف قراءة يطوقونه بتشديد الواو وفتحها والمعنى يطيقونه بجهد ومشقة وإذن لا تعارض ولا نسخ ويرد هذا الرأي أولا بأنه مبني على أن في الآية حذفا ولا ريب أن الحذف خلاف الأصل أما قراءة يطوقونه بالتشديد فلا تدل على مشقة تصل بصاحبها إلى جواز الفطر بعد إيجاب الصوم من غير تخيير بل تدل على مشقة ما ولا شك أن كل صوم فيه مشقة ما خصوصا أول مشروعيته ثانيا أن أبا جعفر النحاس روى في كتابه الناسخ والمنسوخ عن أبي سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت هذه الآية ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) كان من شاء منا صام ومن شاء أن يفتدي فعل حتى نسختها الآية بعدها الآية الرابعة : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم فإن هذا التشبيه يقتضي موافقة من قبلنا فيما كانوا عليه من تحريم الوطء والأكل بعد النوم ليلة الصوم وقد نسخ ذلك بقوله سبحانه : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم كذلك قالوا ولكنك تعلم أن التشبيه لا يجب أن يكون من كل وجه وإذن فالتشبيه في الآية الأولى لا يقضي بما ذكروه من وجوب موافقة أهل الكتاب فيما كانوا عليه في صومهم استدلالا بالتشبيه في قوله : كما كتب على الذين من قبلكم وعلى هذا فلا تعارض بين الآيتين وحيث انتفى التعارض انتفى النسخ الآية الخامسة : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير فإنها تفيد حرمة القتال في الشهر الحرام وقد روى ابن جرير عن عطاء بن ميسرة أنها منسوخة بقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ونقل أبو جعفر النحاس إجماع العلماء ما عدا عطاء على القول بهذا النسخ ووجه ذلك أن آية : وقاتلوا المشركين كافة أفادت الإذن بقتال المشركين عموما والعموم في الأشخاص يستلزم العموم في الأزمان وأيدوا ذلك بأن رسول صلى الله عليه وسلم قاتل هوزان بحنين وثقيفا بالطائف في شوال وذي القعدة سنة ثمان من الهجرة ولا ريب أن ذا القعدة شهر حرام وقيل إن النسخ لم يقع بهذه الآية إنما وقع بقوله سبحانه : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فإن عموم الأمكنة يستلزم عموم الأزمنة ذلك رأي الجمهور وهو محجوج فيما نفهم بما ذهب إليه عطاء وغيره من أن عموم الأشخاص في الآية الأولى وعموم الأمكنة في الآية الثانية ولا يستلزم واحد منهما عموم الأزمنة وإذن فلا تعارض ولا نسخ بل الآية الأولى نهت على العموم في الأشخاص والثانية نبهت على العموم في الأمكنة وكلاهما غير مناف لحرمة القتال في الشهر الحرام لأن عموم الأشخاص وعموم الأمكنة يتحققان في بعض الأزمان الصادق بما عدا الأشهر الحرم ويؤيد ذلك أن حرمة القتال في الشهر الحرام لا تزال باقية اللهم إلا إذا كان جزاء لما هو أشد منه فإنه يجوز حينئذ لهذا العارض كما دل عليه قول الله في الآية نفسها : وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل الآية السادسة : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف فإنها منسوخة بقوله سبحانه : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف لأن الآية الأولى أفادت أن من توفي عنها زوجها يوصي لها بنفقة سنة وبسكنى مدة حول ما لم تخرج فإن خرجت فلا شيء لها وأما الثانية فقد أفادت وجوب انتظارها أربعة أشهر وعشرا ولازم هذا أنه لا يجوز لها أن تخرج في هذه المدة أو تتزوج وقيل إن ذلك تخصيص لا نسخ فإن المرأة قد تكون عدتها سنة كاملة إذا كانت حاملا ويرد هذا بأن الآية الأولى تفيد اعتداد المرأة حولا كاملا إذا كانت غير حامل أو كانت حاملا ولم يمكث حملها سنة والآية الثانية قد رفعت هذا جزما وذلك محقق للنسخ على أن الاعتداد حولا كاملا فيما إذا كانت المرأة حاملا ليس لدلالة الآية الأولى عليه بل لآية : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وهذا لا يتقيد بعام بل ربما يزيد أو ينقص وقيل إن الآية الأولى محكمة ولا منافاة بينها وبين الثانية لأن الأولى فيما إذا كان هناك وصية للزوجة بذلك ولم تخرج ولم تتزوج أما الثانية ففي بيان العدة والمدة التي يجب عليها أن تمكثها وهما مقامان مختلفان ويرد هذا بأن الآية الأولى تجعل للمتوفى عنها حق الخروج في أي زمن وحق الزواج ولم تحرم عليها شيئا منهما قبل أربعة أشهر وعشر أما الثانية فقد حرمتهما وأوجبت عليها الانتظار دون خروج وزواج طوال هذه المدة فالحق هو القول بالنسخ وعليه جمهور العلماء الآية السابعة : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فإنها منسوخة بقوله سبحانه : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لأن الآية الأولى تفيد أن الله يكلف العباد حتى بالخطرات التي لا يملكون دفعها والآية الثانية تفيد أنه لا يكلفهم بها لأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها والذي يظهر لنا أن الآية الثانية مخصصة للأولى وليست ناسخة لأن إفادة الأولى لتكليف الله عباده بما يستطيعون مما أبدوا في أنفسهم أو أخفوا لا تزال هذه الإفادة باقية وهذا لا يعارض الآية الثانية حتى يكون ثمة نسخ وقال بعضهم إن الآية محكمة لأنها خاصة بكتمان الشهادة وإظهارها ويرده أنه لا دليل على هذا التخصيص وقال بعضهم إنها محكمة مع بقائها على عمومها والمعنى أن الله يحاسب المؤمنين والكافرين بما أبدوا وبما أخفوا فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين والمنافقين ويرده أن هذا العموم لا يسلم بعد ما تقرر من أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها سواء أكانت نفسا مؤمنة أم كافرة لأن لفظ نفسا نكرة في سياق النفي فيعم الآية الثامنة : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته قال السيوطي ليس في آل عمران آية يصح فيها دعوى النسخ إلا هذه الآية فقد قيل إنها منسوخة بقول الله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) والذي يبدو لنا أنها غير منسوخة لأن الآيتين غير مسلم فإن تقوى الله حق تقوه المأمور بها في الآية الأولى معناها الإتيان بما يستطيعه المكلفون من هداية الله دون ما خرج عن استطاعتهم وقد ورد تفسيرها بأن يحفظ الإنسان رأسه وما وعى وبطنه وما حوى ويذكر الموت والبلى ولا ريب أن ذلك مستطاع بتوفيق الله فإذن لا تعارض بينها وبين قوله ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وحيث لا تعارض فلا نسخ الآية التاسعة ( 8وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ) قيل إنها منسوخة بآيات المواريث والظاهر أنها محكمة لأنها تأمر بإعطاء أولي القربى والمساكين الحاضرين لقسمة التركة شيئا منها وهذا الحكم باق على وجه الندب ما دام المذكورون غير وارثين ولا تعارض ولا نسخ نعم لو كان حكم إعطاء هؤلاء هو الوجوب ثم رفع بآيات المواريث وتقرر الندب بدليل آخر بدلا من الحكم الأول فلا مفر من القول بالنسخ ولكن المأثور عن ابن عباس أن الآية محكمة غير أن الناس تهاونوا بالعمل بها وهذا يجعلنا نرجع أن في الآية كان للندب لا للوجوب من أول الأمر حتى يتأتى القول بإحكامها فتأمل الآية العاشرة ( 8والذين عقدت أيمانكم فئاتوهم نصيبكم ) نسخها قوله الله ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وقيل إنها على توريث الموالاة وتوريثهم باق غير أن رتبتهم في الإرث بعد رتبة ذوي الأرحام وبذلك يقول فقهاء العراق الآية الحادية عشرة ( 8والاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعه منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا والذان يأتيانها منكم فئاذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) فإنها منسوخة بآية النور وهي ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جادة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) وذلك بالنسبة إلى البكر رجلا كان أو امرأة أما الثيب من الجنسين فقد نسخ الحكم الأول بالنسبة إليهما وأبدل بالرجم الذي دلت عليه تلك الآية المنسوخة التلاوة وهي الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة دلت عليه السنة أيضا وبعضهم يقول بالإحكام وعدم النسخ ذاهبا إلى أن الآية الأولى جاءت فيمن أتين مواضع الريب والفسوق ولم يتحقق زناهن أما الثانية فإنها فيمن تحقق زناهن ولكن هذا مردود من وجهين أحدهما أنه تأويل يصادم الظاهر بدون دليل لأن قوله : يأتين الفاحشة يتبادر منه مقارفتهن نفس الفاحشة لا مجرد غشيان مكانها والأخذ بأسبابها والآخر قوله صلى الله عليه وسلم خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب جلد مائة والرجم أولي القربى واليتامى والمساكين الحاضرين لقسمة التركة شيئا منها وهذا الحكم باق على وجه الندب ما دام المذكورون غير وارثين ولا تعارض ولا نسخ نعم لو كان حكم إعطاء هؤلاء هو الوجوب ثم رفع بآيات المواريث وتقرر الندب بدليل آخر بدلا من الحكم الأول فلا مفر من القول بالنسخ ولكن المأثور عن ابن عباس أن الآية محكمة غير أن الناس تهاونوا بالعمل بها وهذا يجعلنا نرجح أن في الأمر الآية كان للندب لا للوجوب من أول الأمر حتى يتأتى القول بإحكامها فتأمل الآية العاشرة : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم نسخها قوله الله ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وقيل إنها غير منسوخة لأنها تدل على توريث الموالاة وتوريثهم باق غير أن رتبتهم في الإرث بعد رتبة ذوي الأرحام وبذلك يقول فقهاء العراق الآية الحادية عشرة : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما فإنها منسوخة بآية النور وهي : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وذلك بالنسبة إلى البكر رجلا كان أو امرأة أما الثيب من الجنسين فقد نسخ الحكم الأول بالنسبة إليهما وأبدل بالرجم الذي دلت عليه تلك الآية المنسوخة التلاوة وهي الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة دلت عليه السنة أيضا وبعضهم يقول بالإحكام وعدم النسخ ذاهبا إلى أن الآية الأولى جاءت فيمن أتين مواضع الريب والفسوق ولم يتحقق زناهن أما الثانية فإنها فيمن تحقق زناهن ولكن هذا مردود من وجهين أحدهما أنه تأويل يصادم الظاهر بدون دليل لأن قوله : يأتين الفاحشة يتبادر منه مقارفتهن نفس الفاحشة لا مجرد غشيان مكانها والأخذ بأسبابها والآخر قوله صلى الله عليه وسلم خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم الآية الثانية عشرة : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام قيل إن قوله : ولا الشهر الحرام منسوخ بمقتضى عموم قوله : وقاتلوا المشركين كافة وقد سبق القول في هذا فالحق عدم النسخ الآية الثالثة عشرة : فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فإنها منسوخة بقوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقد قيل بعدم النسخ وأن الآية الثانية متممة للأولى فالرسول مخير بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرض عنهم وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية وهذا ما نرجحه لأن النسخ لا يصح إلا حيث تعذر الجمع الآية الرابعة عشرة : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم فإن قوله : أو آخران من غيركم منسوخ بقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم وقيل إنه لا نسخ لأن الآية الأولى خاصة بما إذا نزل الموت بأحد المسافرين وأراد أن يوصي فإن الوصية تثبت بشهادة اثنين عدلين من المسلمين أو غيرهم توسعة على المسافرين لأن ظرف السفر ظروف دقيقة قد يتعسر أو يتعذر وجود عدلين من المسلمين فيها فلو لم يبح الشارع إشهاد غير المسلمين لضاق الأمر وربما ضاعت الوصية أما الآية الثانية فهي القاعدة العامة في غير ظروف السفر الآية الخامسة عشرة : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون فإنها منسوخة بقوله سبحانه : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ووجه النسخ أن الآية الأولى أفادت وجوب ثبات الواحد للعشرة وأن الثانية أفادت وجوب ثبات الواحد للاثنين وهما حكمان متعارضان فتكون الثانية ناسخة للأولى وقيل لا تعارض بين الآيتين ولا نسخ لأن الثانية لم ترفع الحكم الأول بداهة أنه لم يقل فيها لا يقاتل الواحد العشرة إذا قدر على ذلك بل هي مخففة فحسب على معنى أن المجاهد إن قدر على قتال العشرة فله الخيار رخصة من الله له بعد أن اعتز المسلمون ولكنك ترى أن النسخ على هذا الوجه لا مفر منه أيضا لأن الآية الأولى عينت على المجاهد أن يثبت لعشرة والثانية خيرته بين الثبات لعشرة وعدم الثبات لأكثر من اثنين ولا ريب أن التخيير يعارض الإلزام على وجه التعيين الآية السادسة عشرة : انفروا خفافا وثقالا فإنها نسخت بآيات العذر وهي قوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله وقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وقيل إن الآية الأخيرة في النفر للتعليم والتفقه لا للحرب والآيتان قبلها مخصصتان لا ناسختان للآية الأولى كأنه قال من أول الأمر لينفر منكم خفافا وثقالا كل من احتيج إليه وهو قادر لا عذر له الآية السابعة عشرة : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فإنها منسوخة بقوله سبحانه : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم لأن الآية خبر بمعنى النهي بدليل قراءة : لا ينكح بالجزم والقراءات يفسر بعضها بعضا وقيل بعدم النسخ تفسير للآية الأولى بأن الزاني المعروف بالزنى لا يستطيع أن ينكح إلا زانية أو مشركة لنفور المحصنات المؤمنات من زواجه وكذلك المرأة المعروفة بالزنى لا يرغب في نكاحها إلا زان أو مشرك لنفور المؤمنين الصالحين من زواجها والحق أن الآية منسوخة لأنها خبر بمعنى النهي كما سبق ولأن الأمر بالنسبة للمشرك والمشركة لا يستقيم إلا مع القول بالنسخ الآية الثامنة عشرة : يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء قيل إن هذه الآية منسوخة لكن لا دليل على نسخها فالحق أنها محكمة وهي أدب عظيم يلزم الخدم والصغار البعد عن مواطن كشف العورات حماية للأعراض من الانتهاك وحفظا للأنظار أن ترى ما لا تليق رؤيته في أوقات التبذل الآية التاسعة عشرة : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج نسخها قول الله : يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين واعلم أن هذا النسخ لا يستقيم إلا على أن هذه الآية متأخرة في النزول عن الآية الأولى وأن الله قد أحل للرسول في آخر حياته ما كان قد حرمه عليه من قبل في قوله : لا يحل لك النساء من بعد الخ وذلك مروي عن علي كرم الله وجهه وعن ابن عباس رضي الله عنه وعن أم سلمة رضوان الله عليها وعن الضحاك رحمه الله وعن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أخرج أبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه أيضا وابن المنذر وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء إلا ذات محرم الخ والسر في أن الله حرم على الرسول أولا ما عدا أزواجه ثم أحل له ما حرمه عليهن هو أن التحريم الأول فيه تطبيب لقلوب نسائه ومكافأة لهن على اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة بعد أن نزلت آيات التخيير في القرآن ثم إن إحلال هذا الذي حرم على رسوله مع عدم زواج الرسول من غيرهن بعد هذا الإحلال كما ثبت ذلك فيه بيان لفضله صلى الله عليه وسلم ومكرمته عليهن حيث قصر نفسه ولم يتزوج بغيرهن مع إباحة الله له ذلك وقد جاءت روايات أخرى في هذا الموضوع تخالف ما ذكرناه لكن لم يثبت لدينا صحة شيء منها ولهذا رجحنا ما بسطناه ولا يعكر صفو القول بالنسخ هنا ما نلاحظه من تأخر الآية المنسوخة عن الناسخة في المصحف لأن المدار على ترتيب النزول لا على ترتيب المصحف كما تعلم الآية العشرون : يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير فإنها نسخت بقوله سبحانه عقب تلك الآية ( ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله ) قيل لا نسخ بحجة أن الآية الثانية بيان للصدقة المأمور بها في الأولى وأنه يصح أن تكون صدقة غير مالية من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله وأنت خبير بأن هذا ضرب من التكلف في التأويل يأباه ما هو معروف من معنى الصدقة حتى أصبح لفظها حقيقة عرفية في البذل المالي وحده وقيل إن وجوب تقديم الصدقة إنما زال بزوال سببه وهو تمييز المنافق من غيره وهذا مردود بأن كل حكم منسوخ فإنما نسخه الله لحكمة من نحو مصلحة أو سبب كان يرتبط به الحكم الأول ثم زالت تلك المصلحة أو ذلك السبب الآية الحادية والعشرون : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا قيل نسختها آية الغنيمة وهي قوله سبحانه ( واعملوا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) وبيان ذلك أن الآية الأولى تفيد أن زوجات المسلمين اللاتي ارتددن ولحقن بدار الحرب يجب أن يدفع إلى أزواجهن مثل مهورهن من الغنائم التي يغنمها المسلمون ويعاقبون العدو بأخذها والآية الثانية تفيد أن الغنائم تخمس أخماسا ثم تصرف كما رسم الشارع ولكنك بالتأمل تستظهر معنا أنه لا نسخ لأن الآيتين لا تتعارضان بل يمكن الجمع بينهما بأن يدفع من الغنائم أولا مثل مهور هذه الزوجات المرتدات اللاحقات بدار الحرب ثم تخمس الغنائم بعد ذلك أخماسا وتصرف في مصارفها الشرعية الآية الثانية والعشرون : يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا فإنها منسوخة بقوله سبحانه في آخر هذه السورة : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن الخ وبيان ذلك أن الآية الأولى أفادت وجوب قيامه صلى الله عليه وسلم من الليل نصفه أو أنقص منه قليلا أو أزيد عليه أما الثانية فقد أفادت أن الله تاب على النبي وأصحابه في هذا بأن رخص لهم في ترك هذا القيام المقدر ورفع عنهم كل تبعة في ذلك الترك كما رفع التبعات عن المذنبين بالتوبة إذا تابوا ولا ريب أن هذا الحكم الثاني رافع للحكم الأول فتعين النسخ وقد قيل في تفسير هذه الآيات كلام كثير لا نرى حاجة إلى ذكره والله يكفينا كثرة القيل والقال ويتوب علينا من النزاع والخلاف ويجمع صفوفنا على دينه وحبه آمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين |
#15
|
|||
|
|||
انتهى النقل عن الكتاب ، جزى الله الشيخ خير الجزاء.
|
أدوات الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | الأقسام الرئيسية | مشاركات | المشاركة الاخيرة |
الدياثة والاستخناث الامامي الاثنى عشري الشيعي عبد الرزاق محسن مشرف موقع شيعة الدياثة العالمية مثال | ابو هديل | الشيعة والروافض | 3 | 2020-04-24 10:00 PM |
لماذا نظر الله ابليس الى يوم يبعثون شيعي يقول بأن النبي النبي محمد ص زير نساء ودين الأئمة قذر نجس | ابو هديل | الشيعة والروافض | 0 | 2019-12-25 05:20 AM |
أكذوبة الامامية الاثنى عشرية أحد فرق الشيعة الصحابة الاصحاب المنتجبين | ابو هديل | الشيعة والروافض | 3 | 2019-11-15 04:20 AM |
أبرز علماء الإسلام | معاوية فهمي إبراهيم مصطفى | السير والتاريخ وتراجم الأعلام | 0 | 2019-11-13 01:54 PM |
هل تعلم أن مقولة من هم حواري الرسول الأعظم ومن هم حواري علي بن ابي طالب أكذوبة | ابو هديل | الشيعة والروافض | 0 | 2019-10-27 12:15 AM |