جديد المواضيع |
للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب |
منتدى السنة | الأذكار | زاد المتقين | منتديات الجامع | منتديات شباب الأمة | زد معرفة | طريق النجاح | طبيبة الأسرة | معلوماتي | وادي العرب | حياتها | فور شباب | جوابى | بنك أوف تك |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
جمالية الإيمان بالغيب
جمالية الإيمان بالغيب تقوم العقيدة الإسلامية من حيث الأساس التصوري على مبدأ الإيمان بالغيب. والغيب في معناه اللغوي: هو كل واقع حقيقي مجهول. قال ابن فارس: ("الغين والياء والباء": أصْلٌ صحيحٌ، يدل على تَسَتُّرِ الشيء عن العيون. ثم يُقَاسُ من ذلك الغيْبُ: ما غاب مما لا يعلمه إلا الله. ويقال: غابت الشمس تَغِيبُ غيْبةً وغُيُوباً وغَيْباً. وغابَ الرَّجُلُ عن بلده (...) ووقَعْنَا في غَيْبَةٍ وغَيَابَةٍ: أي هَبْطَةٍ من الأرض، يُغاب فيها.)(1) وقال الزمخشري: (سمعت صوتا من وراء الغيب: أي من موضع لا أراه (...) "وألقوه في غَيَابَةِ الجُبِّ " وهي قعره، وكل ما غَيِّبَ شيئا فهو غَيَابَةٌ).(2) فأنت ترى أن مدار المادة اللغوية إنما هو على معنى كائن غير مشاهد بطبيعته، أو أنه يصبح كذلك لسبب ما، كغياب الشمس، وتواري المرء في الأرض المنخفضة ونحو ذلك، مما فيه معنى الوجود الغائب. إذ الغيب هنا ليس بمعنى (العدم)، أو الخيال أو الخرافة؛ لأن العرب إنما تسمي غيبا ما هو موجود حقيقة لا وهما. وكونه (غيبا) دالٌّ لغةً على أنه ممكن المشاهدة في وقت لاحق، أو كان كذلك في وقت سابق، فهو إذن (وجود) لكنه مُتَوَارٍ عن المشاهدة. ومن هنا كان الغيب في الاستعمال القرآني دالا على (وجود) غير مشاهَد. ولذا ورد مقابِلا (لِعَالَمِ الشَّهادَةِ) الذي هو العالَم المنظور. قال عز وجل في وصف ذاته سبحانه: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(الأنعام: 73) وبما أنه (وجود) فإنه قابل للعلم، أي أنه قابل لأن يحاط به علما. ومن هنا كان علمه عند الله. وهو عنده وعلم الشهادة سواء، كما في الآية المذكورة. وعالَم الغيب في القرآن يمتد من عالَم الشهادة، مما لا يعلمه الإنسان، جزئيا أو كليا؛ إلى ما وراء عالم الشهادة من العوالم الروحانية، كالعالم البرزخي، وهو عالم الأموات، وكعالم الملأ الأعلى، والعالم الأخروي؛ بما يتضمنه من أمور واقعة في علم الله، وإن لم تكن قد وقعت بالفعل في الوجود المادي. كالبعث والحشر والحساب ودخول الجنة أو النار.. إلخ مما هو مسطر في أصول الاعتقاد الإسلامي. قلت: إن الغيب يمتد من عالم الشاهدة، بمعنى أن عالم الشهادة نفسه غير معلوم على تمامه للإنسان، ومن هنا كان منه غيب لا يعلمه إلا الله. قال عز وجل: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ!)(هود: 123). وقال سبحانه: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ!)(النمل:65) وقال أيضا: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(النمل:75). فهذه الغيوب المذكورة ههنا مشتركة الدلالة على العالَمَيْن: عالَم الغيب المطلق، وعالَم الشهادة كما رأيت؛ ولذلك نسب عز وجل للأرض غيبا، كما جعل (فيها) غيبا، وهي من عالم الشهادة! وكذا شيء من عالم السماء بمعنى الفضاء، لا السماء الروحاني الذي هو مجال الملأ الأعلى، والذي هو غيب مطلق. فغيب السماء - بمعنى الفضاء - هو من غيب عالم الشهادة، الذي يعلم الإنسان منه شيئا جزئيا، وإن كان ضئيلا جدا بالنسبة إلى علم الله المطلق. والمتفكر في حقيقة الكون – المشهود منه وغير المشهود – يجد في النهاية أنه غيب مطلق! ذلك أن تفسير الظواهر الطبيعية والوجودية لدى الإنسان مازال قاصرا جدا إلى درجة يمكن القول معها: إنه لا علم له البتة! ولذلك وصف الله عز وجل علم الإنسان، المتعلق بالحياة الدنيا بأنه علم (ظاهر) فقط! قال سبحانه: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(الروم: 7). وعلماء الطبيعة مقرون بهذه الحقيقة الكبرى، سواء كانوا مؤمنين أم لم يكونوا! فالكون كله إذن غيب مطلق، وما يعلم الإنسان منه شيئا إلا بإذن الله، إما بواسطة الإلهام لبعض الحق عن طريق الاكتشاف التلقائي، الذي عرفه الإنسان منذ القديم، أو طريق البحث العلمي كما هو الأمر اليوم، أو عن طريق الوحي كما هو الأمر بالنسبة للأنبياء والرسل. قال تعالى عن ذلك كله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَ بِمَا شَاءَ)(البقرة: 254) وخص عز وجل الغيب الروحاني بكونه لا يعلم إلا عن طريق الوحي. قال سبحانه: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) (الجن: 26-27). فالغيب إذن أبواب مغلقة من علم الله الواسع المحيط. قال سبحانه: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ)(الأنعام: 59). إن غيبية الحياة أمر واقع إذن، لا ينكره إلا جاحد أو جاهل، سواء تعلق ذلك بعالم الغيب الروحاني أو بعالم الشهادة الطبيعي! ومن هنا كان الدين بعقيدته وشريعته غيبا كله! سواء منه ما عقلنا معناه أو ما لم نعقل معناه. إن مظاهر المدركات العقلية والحسية في الدين – كما هو الشأن في الكون كله – هي مظاهر عائمة في محيط من المحيطات الكبرى! فكل كبيرة وصغيرة من الدين إلا وهي قائمة على هذا الأساس! وهنا مكمن الجمال في الإسلام، عقيدة وشريعة. ذلك أن جمالية الغيب في الإسلام تتجلى في مظاهر كثيرة، منها هذا الفضاء النفسي الواسع، الذي تهبه العقيدة للإنسان المسلم، حيث يشعر أنه ممدود الصلة ببحر الغيب المطلق.. يستفيد من مده وجزره حركة من الحياة الزاخرة العميقة. إن المنكر للغيب إنسان تعيس حقا! وإن أول مظاهر هذه التعاسة ألا يرى من هذه الحياة إلا حدود نظره من جهة الإدراك، وحدود أجله من جهة المتعة المعيشية! تعاسة وأي تعاسة تلك التي تفرض على المرء ألا يصيب من الحياة إلا لحظات فانية، ميتة ابتداء! وهذا بحر الحياة الزاخر حواليه يمتد في المطلق إلى ما لا نهاية! فأي غبن هذا وأي خسارة!؟ إن نتيجة مثل هذا الشعور هي أن تنتج عقلا شريرا، لا يستريح حتى يرى الآخرين يتعذبون، تماما مثل ما يعانيه هو في داخله من عذاب، فيسارع إلى الإجرام، لإشراك الجميع في العذاب! في صورة ما، قد تكون فردية وقد تكون مؤسسية، أعني ما يسمى اليوم في عالم السياسة (بإرهاب الدولة)، كما نشاهده في الدول الظالمة الطاغية، التي تتسلط على شعوبها، أو على شعوب العالم بالتدمير والتخريب، وتتسلط على الأرض والفضاء بالتلويث والتسميم! دون أي تفكير في الأجيال اللاحقة لها، من أصلابها أو أصلاب غيرها! إن العقلية المنكرة للغيب الإيماني هي التي تقف وراء إنتاج الأسلحة البيولوجية، والجرثومية، وكل أسلحة الدمار الشامل! إن مفهوم (الغيب) في الإسلام هو الذي يمنح الحياة أنداءها وجمالها.. إنه ربيع الإحساس بالحياة! إن (الأنس) الذي يشعر به العبد المؤمن في سيره إلى الله عبادةً، وفي معاشه الأرضي عادةً، إنما هو ناتج عن الشعور بوجود، غير هذا الوجود المادي المحدود! إنه الشعور العميق بحياة أخرى، هي امتداد لحياتنا، أو حياتنا امتداد لها.. إنها حياة الأرواح في الأرض وفي السماء على السواء! من ملائكة، وحركات دائبة، مستمرة، فيما يتعلق بحياة الإنسان الغيبية، التي يدبرها الله عز وجل تدبيرا، يواكبها إحساس المؤمن مواكبة العبد المنقاد لربه؛ طاعة ورضى بقضائه الجميل وقدره الجليل! والعبد في كل ذلك إلى خير مما أصابه من الله، حامدا شاكرا راضيا! ولذلك كان الإحساس في الدين: (أن تعبد الله كأنك تراه!)(3) فإذا كان العبد قد استشعر الوجود الإلهي استشعار الرائي لحقيقته، فإنه من باب أولى وأحرى أن يكون – في كل أمره – قد استشعر الوجود الغيبي، من العالم الروحاني العلوي، والأخروي، استشعار الصحبة والمعية، التي تنافس الصحبة المادية، والمعية الحسية، في الإدراك والشعور! فيسيح المؤمن في فضاء الله الواسع سياحة لا تنتهي بحد! لا من حيث مجال الوجود، ولا من حيث مجال العمر! إذ يتحرك المؤمن في الدنيا وليس في حسابه وجود الأجيال المقبلة فحسب، ولكن أيضا وجود الخلائق الكونية الروحانية الأخرى، مما ينتمي إلى عالم الغيب الفسيح، فيخالق كل أولئك بخلق الود والمحبة! ومن أجمل الأحاديث في هذا الصدد قول النبي (صلى الله عليه و سلم): (من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم!) (4) .. هكذا يعيش المؤمن وهو يغرف من جمال صحبة الملائكة، ويعرف لها حقا، ويتذوق من جمال الطهر والصفاء ما يرقي شعوره بالوجود إلى درجة من الدين، لا ينـزع معه إلى الشر إلا خطأ! فأي تدين هذا أم أي فن! إن الإيمان بالغيب نعمة كبرى حقا! ولقد ارتبط تدين المرء المسلم بالإيمان بالغيب، الذي هو مصدر القوة في تدفق الشعور الديني، رائقا رقراقا، وإخلاص العمل لله عز وجل. فبدونه لا قيمة لأي عمل في مجال الدين! ولذلك كان هو أول شرط الفلاح، والفوز، في الدنيا والآخرة عند الله. يقول الله تعالى في فواتح سورة البقرة: (أَلَمِ. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(البقرة: 1-5). إن هذه الآيات الجامعات لتلخص قصة الإيمان وجماليته في الإسلام! ذلك أن هذا القرآن قام على مبدأ الغيب؛ ومن هنا فإن أنواره إنما تشرق بالقلوب التي لها استعداد للتلقي الغيبي! القلوب القادرة على استقبال أشعة الحقيقة الكبرى، التي لا يطيق استقبالها أي قلب! أشعة الحق سبحانه، الذي هو أصل الغيب كله! تلك هي القلوب المتقية، المتعاملة مع حقائق الوجود بحذر الإحساس الخاشع الخاضع لجلال الله وجماله. الإحساس الذي لا يغتر بمظاهر الوجود المادي، وينظر إلى أبعد من ذلك: إلى امتداداته الغيبية المطلقة عن الزمان والمكان!.. فيعيش لذة الإيمان، ومتعة الهدى.. وللأستاذ سيد قطب رحمه الله كلمات سطرها في هذا السياق بإحساس الفنان، المؤمن بالغيب، المتملي لجماله. قال: (إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية الإيجابية الفعالة، الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب، والقيام بالفرائض، والإيمان بالرسل كافة، واليقين بعد ذلك بالآخرة.. هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة (...) "الذين يؤمنون بالغيب".. فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق، وقوى، وطاقات، وحقائق، وخلائق، وموجودات (...) فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه، كمن يعيش في الكون الكبير، الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان، مما يدركه وعيه، في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون - ظاهِرِهِ وخافيهِ - حقيقةً أكبر من الكون، هي التي يصدر عنها، واستمد من وجودها وجوده، حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول)(5). إن الإيمان بالغيب بهذا المعنى الكلي الشامل ليستحق من الله عز وجل أحسن المدح والجزاء: الهدى والفلاح. ليس لأن الله أمر بذلك وحسب، ولكن وراء ذلك معنى لطيفا آخر: وهو أن (الغيب) من حيث هو (غيب)، لا يدرك الإنسان جوهره وحقيقته، فكان – من حيث التفسير العقلي المجرد – مجالا للحيرة والتردد والشك! ولذلك جاء السياق مبنيا على نفي الشك عن هذا الكتاب المتضمن خبر الغيب: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ)؛ لأن العقل – وهو قاصر عن إدراك مثل هذا – لا يستطيع أن يثبت ولا أن ينفي شيئا من حقائقه إلا حدسا، وإشارة، وظنا، وترجيحا! ولا يؤتى المؤمن فيه اليقين إلا ذوقا! ومن هنا كان القلب وحده هو الأجدر لتلقي حقائق الغيب بالإيمان والتسليم! ليس لأن العقل يستطيع إنكار شيء من حقائقه، ولكن لأنه أضعف من أن يتحمل ذلك، من حيث طاقته الاستيعابية المحدودة. فكان أن قال الله تعالى في هذا السياق: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) والتقوى معنى قلبي ذوقي! قلت: مع ذلك فإنه تبنى عليه الحياة الإسلامية بأكملها، عقيدة وشريعة: إقامة الصلاة، وإنفاق المال، والإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر! وفي تقديم أمور الشريعة ههنا (الصلاة والإنفاق)، على أمور العقيدة (الإيمان بالكتب واليوم الآخر)، إشارة إلى أن القضية الكبرى في المسألة، هي بناء أعمال حسية من حركات تعبدية ونفقات.. إلخ، على مبدأ الغيب المطلق! أي بناء المعلوم على المجهول! فهذا الإنسان الذي لا يفتأ يعبد الله راكعا وساجدا، صيفا وشتاء، ويسبغ الوضوء على المكاره، وينفق من حر ماله، ويصوم، ويحج، إنما يفعل ذلك رغبا في جزاء موعود لا يرى! قال سبحانه بعد توعد أهل الغي بالعذاب: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا. جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)(مريم: 60-61). إن الذي لا ينفذ إلى أعماق الكون بالتفكر والتدبر، ولا يسمح لبصيرته أن تتفتح على حركة الحياة، وسنن التاريخ، ونسبية الزمن، أو لا يستطيع أن يخرق بوجدانه جدران الحس المادي؛ فهو لا يقدر على توظيف لطائفه الروحانية الباطنة، التي تعاني من الكسل والخمود. ولن يبصر الجمالَ أبدا من لم يفتح على العالم عيون الروح! فهذه حقائق الغيب لا تدرك إلا بلطائف النفس الباطنة. ومن فاته ذلك بقي حبيس مدركاته المادية. فأنى له الإيمان بالغيب إذن؟ وأنى له أن يكون من المبصرين؟.. فإن آمن فعلى قلقٍ وحيرةٍ واضطراب! كيف وما الإيمان إلا أمن وطمأنينة وسلام؟! وما أدق الكلام المنسوب إلى المعري شاهداً في هذا السياق إذ يلخص جدلا بينه وبين بعض علماء عصره حول الإيمان بالبعث، حيث رجح هو أن يؤمن به؛ احتياطا أن يكون الأمر صحيحا! قال: قال الْمُنَجِّمُ والطبيبُ كِلاَهُمَا: *** لا تُبْعَثُ الأجسادُ، قلتُ: إلَيْكُمَا إنْ كَانَ قَوْلُكُمَا؛ فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ! *** أوْ كانَ قَوْلِي؛ فَالْخَسَـارُ عَلَيْكُمَا! إنه إيمان المقامِر، المغامر، المتردد، المرجح، لا إيمان التقي المسلم لله أمره، الراجي عفوه وفضله! والسبب في ذلك بناء قضية الإيمان بالغيب على المنطق العقلي المجرد، والتقدير الحسي المادي! وهو نظر قاصر قصور العين المحدقة في الشمس! لأن الشمس – وهي حقيقة كونية كبرى – أقوى من أن تستوعبها العين المجردة! ومن هنا سمى الله العمل التعبدي من جهد مادي، وحركات، ونفقات، مما بني على الغيب، بيعا، وتجارة! لأن التجارة تتعرض للربح والخسارة، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ)(فاطر: 29)، وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(التوبة: 111)؛ تأكيدا للحقيقة الدينية الكبرى: الإيمان بالغيب، الذي عليه بُني الكسب البشري في المجال الديني كله. ولذلك فإنه لن يقدم على الدين بقلب مطمئن إلا من آتاه الله قابلية الإيمان بالغيب، بدءا بالإيمان بالله، وانتهاء بالإيمان باليوم الآخر، على سبيل الجزم واليقين، لا على سبيل الشك والتخمين! ومن هنا قوله عز وجل في آيات البقرة: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)، وكذا قوله في غيرها: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)(يس: 11) وذكر المتقين فوصفهم بأنهم: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)(الأنبياء: 49)؛ لأن بها موعد الجزاء وإتمام الصفقة المرجوة. والمسألة بيع مصيري، لا بيع عارض جزئي؛ فلا بد من التأكد من حصول الربح! ومن هنا أيضا كان الإيمان بالغيب في الدين قضية كبرى، على مستوى الشعور والإحساس والإدراك، كما هو كذلك على مستوى صحة الاعتقاد وصحة الدين؛ فرتب الله عليه خير الجزاء، وأعظم الأجر: (وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)(ق: 31-33) وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)(الملك: 12) ثم إن الله جعل في الإيمان بالغيب متعة ولذة، لا تفضلها متعة ولا لذة من ملذات الحياة الدنيا! ذلك أنها – فضلا عن كونها تريح العقل من عذاب الشك، والحيرة، والقلق الوجودي القاتل – تعطي للإنسان إمكانية النظر بعين أخرى.. هي عين أقوى من عين العقل المادي القاصر، عين تستبصر الحياة؛ فترى عالم الروح عين اليقين! وتعيش مع الملأ الأعلى – وهي بالأرض – في عليين! فتذرو على القلب رذاذا من أنداء الجنة، تزيد الشوق إليها وإلى أهلها انتشاء، وابتهاجا.. وينشط العبد في سيره إلى الله نشاط الموقن بوعد ربه، المسارع نحو فضله.. (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)! (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ!)(الأعراف: 43). فاللهم لك الحمد!.. اللهم لك الحمد! الشيخ "فريد بن الحسن الأنصاري الخزرجي السجلماسي المغربي " رحمه الله: مقتطف من كتابه "جمالية الدين" -------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------- 1 - معجم مقاييس اللغة ك مادة (غيب).
2 - أساس البلاغة: مادة (غيب). 3 - جزء من حديث جبريل: رواه مسلم. 4 - رواه مسلم، وللبخاري نحوه مختصرا. 5 - في ظلال القرآن: 1 /39-40. |
#2
|
|||
|
|||
على هذا النقل الطيب والموضوع الرائع أخى عبد الرحمن.
فعلاً الغيب هو شئ واقعى موجود ولكنه بعيد عن الإدراك ، وليس بمستحيل عن الإدراك ، هكذا يؤمن المؤمن . أما الكافر المادى الجاحد فيظن أن الغيب عدم لا وجود له وأنه لا يمكن إدراكه. وبهذا يتضح لنا كيف أن الدين يعلم المؤمنين به كيفية القراءة الصحيحة فى كتاب الكون!!
__________________
قـلــت : [LIST][*]من كفر بالسـّنـّة فهو كافر بالسنة وكافر بالقرآن ، لأن الله تعالى يقول : (( وما آتاكم الرسول فخذوه )). [*]ومن كذّب رسولَ الله ، فهو كافر بالسنة وكافر بالقرآن ،لأن القرآن يقول : (( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )). [*]ومن كذّب أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو كافر بالسنة وكافر بالقرآن ، لأن الله سبحانه يقول فيهم : (( رضى الله عنهم ورضوا عنه )). [*]ومن كذّب المسلمين فهو على شفا هلكة ، لأن القرآن يقول : (( يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )) والنبي - صلى الله عليه وسلم يقول : ( من قال هلك الناس فهو أهلكهم ). [/LIST]
|
#3
|
|||
|
|||
بارك الله فيك على هذا الجهد وجعله الله في موازين صحائفك لو كان الغيب متيسر الإدراك لأدراكنا ذواتنا وما تحويه من أسرار واولها الروح التي تبعث فينا الحياة
__________________
قال الله تعالى:وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ .أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ |
#4
|
|||
|
|||
و جزاكم الله خيرا مشايخنا و أساتذتنا الكرام. و الحمد لله على نعمة الإسلام. |
#5
|
|||
|
|||
بارك الله فيك أخي الفاضل. مقال جميل من مقالات الدكتور رحمة الله عليه. يا ريت نسمع رد ملحد هنا. |
أدوات الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | الأقسام الرئيسية | مشاركات | المشاركة الاخيرة |
هل اتاك حديث ابي الفوارس | موحد مسلم | الشيعة والروافض | 1 | 2020-07-11 05:28 AM |