الرد على مزاعم م/ شحرور في تعقيبيه على مقاله الذي كذب فيه حديث "إنما الأعمال بالنيات"(2)

[ناصرالشيبي]

لا يدع م/ شحرور ما تعود عليه في مقالاته من استعمال أساليب المكر والخداع ، من ( ترديد المزاعم الكاذبة ، التشكيك في الحقائق الشرعية ، التلاعب في دلالات المصطلحات ، والمغالطة بعكس المفاهيم وتشويهها ، قلب الحقائق - - - الخ القائمة الطويلة) . لتضليل المسلمين وزعزعة ثقتهم في ثوابت دينهم الأساسية (الكتاب - السنة المشرفة - الصحابة - التابعين - المفسرين - المحدثين - الفقهاء) . فلم يسلم من طعنه أحد من أمة الإسلام .
ففي هذا المقال :
أولاً: شن هجومه المزدوج على الحديث الشريف ، وعلى الفقهاء :لاعتمادهم في تصنيفهم (وصفهم) للأخطاء الناتجة عن اجتهادات القضاة في بعض أحكامهم بين المتخاصمين ، أو الفقهاء في بعض ما توصلوا إليه من بيان لأحكام شرعية استنباطاً من أدلتها التفصيلية - على الحديث الشريف ، المتفق على صحته ( إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) . رواه البخاري ، برقم (7352) ، ومسلم ، برقم (1716) ، من حديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه . فذهبوا إلى أنهم يؤجرون لأنهم قد اجتهدوا ( في موضع الاجتهاد، وهم مؤهلون له) .
مع ضرورة ملاحظة أن الفقهاء لم يرجعوا تفهمهم لأخطاء المذكورين ، إلى حسن نواياهم . بل أرجعوها إلى كونهم قد بذلوا كل جهدهم في تحري الصواب . وهم من المؤهلين للاجتهاد . (أي أنهم من العلماء المتقنين لعلوم الآلة المؤهلة للحكم ، إتقاناً كاملاً) . إلا أنهم قد لا يوفقون للوصول إلى الصواب ، في بعض الحالات المحدودة النادرة . ولم يحدث أبداً، أن عذر الفقهاء أحداً على خطئه بسبب حسن نواياه .
ولكن م/ شحرور تعمد أن يلصق هذه الشبهة بالفقهاء . وألحق بهم الحكام ، لحاجة في نفسه (هي الطعن في السنة عموماً ، وفي هذا الحديث هنا بالذات) هذا من جهة .
ومن جهة أخرى فإنه قد لجأ للتذكير بالنتائج الوخيمة لأخطاء أحد القادة السياسيين الذي كان يمثل( رأس السلطة العسكرية الحاكمة في إحدى البلاد العربية) في القرن الماضي ، لهدفين:
أولهما: لإقحام الشأن السياسي - الذي تقوده ، وتؤثر فيه المصالح المادية - في النقاش المتعلق بفهم دلالات ومعاني ألفاظ هذا الحديث الشريف . متعمداً بذلك عدم إبقاء الكلام بشأن هذا الحديث الشريف داخل الميدان الشرعي الخالص .
لإدراكه بأنه لن يتمكن من تحقيق ما يهدف إليه - من التشكيك في صحة هذا الحديث الصحيح - من خلال الميدان الشرعي ، فلجأ لإقحام الشأن السياسي في الكلام عن معناه بواسطة المثال الذي ضربه .
والهدف الثاني: هو انتهاجه لأسلوب استجداء التعاطف الوجداني للناس . لتهيئة أذهانهم لقبول مزاعمه المشككة في ثوابت الدين ، بهدف تمرير تحميله الإسلام كمنهج أخطاء التطبيق . وهذا من أشد الباطل ، والظلم . فمن ذلك قوله (وبالتالي تدخل هزيمة حزيران ضمن اجتهاد خاطئ يجزى عليه عبد الناصر أجراً واحداً) . هذا علاوة على ما في قوله (وهذا ما اتبع طوال عصور سابقة ، ومنذ ابتداء " الخلفاء " بالخطأ ). من وقاحة مساواته فيه بين مواقف وتصرفات كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأجلاء رضي الله عنهم . وببين تصرف ذلك القائد العسكري الذي ذكره والمتسبب فيما ذكر من النتائج السيئة ، لتصرفاته - وخيمة الآثار- على الأمة !. ولا ريب أنه ، لا صحة ، بل لا وجه للمقارنة بينه . وبين ما جرى بين كبار الصحابة رضي الله عنهم. فشتان بين الثرى ، والثريا .
ثانياً : أما قوله (ويدخل ضمنه كل ما جرى في معركتي صفين والجمل - -) . فإنه يأتي ضمن منظومته المعروفة للطعن في الصحابة رضي الله عنهم . مع أن هناك العديد من النصوص الشرعية ، قد حذرت من التعرض لهم . وهي أظهر من أن تخفى على أحد من المسلمين .
منها على سبيل المثال وصف الله تعالى لهم بقوله سبحانه (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) 29 ، الفتح . فما من مسوغ مقبول للطعن في الصحابة رضي الله عنهم . مهما كان ، بعد تزكية الله تعالى لهم تزكية عامة .
بل يستفاد من هذه الآية الكريمة (أن ما وهبه الله تعالى لصحابة رسوله صلى الله عليه وسلم من علو الهمة ورفعة القدر، وسلامة السرائر) هو سبب (غيظ الكفار منهم) . وذلك بتقديمه سبحانه (لام التعليل) على فعل يغيظ (ليغيظ بهم) . إضافة لباء السببية المتصلة بالضمير العائد للصحابة. هذا بعد ذكره تعالى لصفاتهم الحميدة ، قال تعالى (ليغيظ بهم الكفار) .
ولذلك قال - جمع من المحققين من علماء الأمة - بعدم صواب الخوض (بإبداء الآراء) في تفاصيل ما جرى بين الصحابة من الخلافات والحروب . توخياً للسلامة من وخيم أوزار، وسوء نتائج الطعن في بعضهم .
فبينوا أن الواجب على الأمة هو الإعراض عن كل ذلك . والاكتفاء بالترضي عليهم جميعاً . فكلهم أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد حذر عليه الصلاة والسلام من سبهم في حديث ثابت عنه ، متفق على صحته رواه أَبِو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابي . فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْل أُحُدٍ ذَهَباً ، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ، وَلاَ نَصِيفَه ».
إلا أن م/ شحرور مع كل ذلك ، لم يشأ أن يفوت هذه كفرصة للطعن فيهم.
فابتدع وسيلة لذلك . حيث لجأ إلى (لمزهم بأسلوب المفهوم المخالف) ، الذي يشير إلى اتهامه الصحابة - رضي الله عنهم جميعاً - بأنهم كانوا أصحاب نوايا سيئة حيث قال(اعتبر المشاركون بهما - أي : الجمل ، وصفين - أصحاب نوايا حسنة). وقال كذلك في قوله (وبموجبه يدخل النار بعض من العشرة المبشرين بالجنة ، وهم من رفعوا سيوفهم على بعض واقتتلوا في الجمل وصفين ، ومعهم عدد لا بأس به من الصحابة الأخيار).
ومثله غمزه في السنة المشرفة ، وفي علماء المسلمين حيث قال (وباعتبار أن الجعبة واسعة ، فالأحاديث تستخدم وفق المناسبة ، فنخرج ما نريد ونغفل ما نريد).
مع أن الحقيقة هي أن (شحرور) هو الذي ينتقي من جعبة مكره وكيده الواسعة ، وفق المناسبة . فيخرج ما يريد ويغفل ما يريد . فانطبق عليه المثل القائل(رمتني بدائها واسلت).
وإلا فلماذا لم يراع نهيه صلى الله عليه وسلم عن" سب أصحابه " ؟! . فمعلوم أن التعريض باتهامهم بسوء النوايا، هو من أشد أنواع الشتم الممكن تصوره .
قال صاحب جامع لطائف التفسير ، ضمن كلامه عن تفسير الآية رقم (254) البقرة، بأن المقصود من الآية هو(تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك - يعني الذين قاتل بعضهم بعضاً من الأمم السابقة - وقد حَذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحذيراً متواتراً ، بقوله في خطبة حجة الوداع :" فَلاَ ترجعوا بعدي كُفّاراً يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعض ". يحذّرهم ما يقع - أي مما وقع بالفعل بعد عصر النبوة - والتي تبين بعد ذلك أنها حروب الردَّة ، وحروب الخوارج بدعوى التكفير. وهذه الوصية من دلائلِ النبوءة العظيمة - - - إلى أن ذكر صاحب اللطائف حديث ( إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا - -) ثم قال : وذلك يفسّر بعضه بعضاً ، أنّه القتالَ على اختلاف العقيدة) أ.هـ (أنظر: جامع لطائف التفسير، لعبدالرحمن القماش ، 8/ 143).
أقول وهذا ما يجب أن يحمل عليه قتال الصحابة رضي الله عنهم جميعاًً لبعضهم في موقعتي (الجمل ، وصفين). لأنهم رضي الله عنهم جميعاً لم يتحاربوا على خلاف بينهم في العقيدة كمحاربتهم للمرتدين ، أو للخوارج التكفيريين ، كما أنهم لم يتقاتلوا من أجل مصالح دنيوية (كالطموح للسلطة) كما يتهمهم البعض . بل حاشا الصحابة الأجلاء جميعا ، كل ذلكً .
وإنما اختلفت آراؤهم فقط بشأن توقيت الاقتصاص ممن قتلوا الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلماًًُ. (أي على تعجيل الاقتصاص منهم ، أو تأجيله). وقد اتفق كبارهم(قبيل اندلاع القتال) على رأي واحد اصطلحوا عليه ، وهو التعجيل به.
إلا أن المجرمين (المتورطين في ارتكاب جريمة قتل عثمان رضي الله عنه ، ومن عاونهم من أعداء الإسلام والحاقدين عليه ، وعلى رأسهم المجرم عبدالله بن سبأ وأعوانه) حين علموا باتفاق الصحابة جميعاً على رأي واحد (هو الشروع في الاقتصاص من قتلة عثمان من فورهم) ، أدركوا - لحظتها - شدة خطورة الاتفاق عليهم . وأيقنوا أن في ذلك الاتفاق هلاكهم لا محالة.
فبادروا - باستغلال ظلمة تلك الليلة - وشنوا هجوماً مباغتاً ، تحت جنح الظلام . فقتلوا رجالاً من كلا المعسكرين ، في آن واحد.
فظن معسكر كل فرقة من الصحابة ، أن المعسكر الآخر قد نقض الاتفاق ، وبادر بالقتال . فاقتتل الجيشان . فكان هذا سبب نشوب القتال بينهم . ( أنظر العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، للقاضي أبو بكر بن العربي ، ص 156 و157، تحقيق محب الدين الخطيب ،
ط - مكتبة أسامة بن زيد - بيروت).
ولمعرفة المزيد من الشرح الوافي والدقيق لكافة ملابسات ما جرى بين الصحابة تفصيلاً . ( شاهد حلقتي الجمل وصفين) لفضيلة الشيخ د/ سعيد الكملي . على اليوتيوب .
هذا وقد روى الحارث الأعورقال: سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه - وهو القدوة بعد النبي صلى الله عليه من أهل بيته - عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفين: أمشركون هم ؟ . قال : لا. من الشرك فروا. فقيل: أمنافقون ؟ . قال : لا ، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا . قيل له فما حالهم ؟ . قال(إخواننا بغوا علينا) . (أنظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، 16/ 323 و 324).
ولقد نصح عدد من المحققين من علماء المسلمين الأمة الراسخين بعدم الخوض فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم جميعاً . خشية التعرض لبعضهم بالانتقاص . فمن أحسن ذلك ما قاله القاضي أبو بكر بن العربي:(إياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد هلك من كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خصمه. ودعوا ما مضى فقد قضى الله فيه ما قضى . وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقاداً وعملاً . ولا تسترسلوا بألسنتكم فيما لا يعنيكم من كل ماجن اتخذ الدين هملاً . وأحسنوا فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا - - إلى أن قال: فهذا العقل والدين والكف عن أحوال المسلمين ، والتسليم لرب العالمين).(أنظر: العواصم من القواصم ، ص 300).
ثالثاً: أما قول شحرور(وما زلنا إلى اليوم ندفع ثمن خلافاتهم تلك). فنعم هذا صحيح . ولكن ذلك حدث ، ولا زال يحدث بسبب إذكاء (أعداء الإسلام والمسلمين) لنيران (أسباب) تلك الفتن بين المسلمين . ولا غرابة في هذا . فقد وصفهم لنا ربنا سبحانه وتعالى بهذه الصفة بالذات ، في قوله تعالى(كلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) 64 ، المائدة ، بمعاونة من يجندونهم(للأسف) من بني جلدتنا ، لقاء حفنة من المصالح الدنيوية الحقيرة .
رابعاً: وأما قوله(لكني اخترت ما أرى أن المنطق يقبله عن رسول الله). فهو إقرار صريح من م/ شحرور بمنهجه في التعامل مع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريفة من حيث القبول ، أو الرد، بان المعيار عنده في ذلك ، هو ما يحكم به منطقه الشخصي(المنحرف). فيرجح به بين قبول الحديث ، أو رده !.
كما يتبين من هذا أنه هو الذي يتغاضى حينما يريد التغاضي عن بعض الأحاديث ويتجاهلها ، وأنه هو صاحب الجعبة الواسعة. ففي كل مناسبة يثبت (شحرور) مجدداً انطباق المثل القائل (رمتني بدائها ، وانسلت) عليه تماماً .