اللهم ارحمنا
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
اقول وبالله التوفيق
يقول الله تعالى في سورة الأعراف (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)
جاء في تفسير بن كثير
قال السدي: إن اللّه أمر موسى أن يأتيه في سبعين من بين إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعداً، { واختار موسى قومه سبعين رجلا} على عينيه ثم ذهب بهم ليعتذروا، فلما أتوا ذلك المكان قالوا: { لن نؤمن لك} يا موسى { حتى نرى اللّه جهرة} فإنك قد كلمته فأرناه، { فأخذتهم الصاعقة} فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو اللّه، ويقول: يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكت خيارهم؟ { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} روي مثل هذا عن عباس وبعض السلف . وقال محمد بن إسحاق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً: الخِّير فالخير، وقال انطلقوا إلى اللّه فتوبوا إليه مما صنعتم، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لمقيات وقّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون - فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه - لموسى، اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه اللّه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام، وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم فقالوا يا موسى: { لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فأخذتهم الرجفة} وهي الصاعقة فالتقت أرواحهم فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} قد سفهوا، أفتهلك من ورائي بني إسرائيل؟ وقال ابن عباس وقتادة: إنهم أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل ولا نهوهم، ويتوجه هذا القول لقول موسى: { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} ، وقوله: { إن هي إلا فتنتك} أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك، يقول: إن الأمر إلا أمرك، وإن الحكم إلا لك فما شئت كان، تضل من تشاء وتهدي من تشاء ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لمن منعت، ولا مانع لما أعطيت، فالملك كله لك والحكم كله لك، لك الخلق والأمر، وقوله: { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} الغفر هو الستر وترك المؤاخذة بالذنب، والرحمة إذا قرنت مع الغفر يراد بها أن لا يوقعه في مثله في المستقبل: { وأنت خير الغافرين} أي لا يغفر الذنب إلا أنت، { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة} الفصل الأول من الدعاء لدفع المحذور، وهذا لتحصيل المقصود { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة} أي أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة، وقد تقدم تفسير الحسنة في سورة البقرة { إنا هدنا إليك} أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وأبو العالية والضحاك والسدي وقتادة وغيرهم . عن علي قال: إنما سميت اليهود لأنهم قالوا: { إنا هدنا إليك} ""أخرجه ابن جرير قال ابن كثير: وفيه جابر الجعفي ضعيف"". { قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } يقول تعالى مجيباً لموسى في قوله: { إن هي إلا فتنتك} الآية، { قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء} أي أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك سبحانه لا إله إلا هو، وقوله تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء} آية عظيمة الشمول والعموم، كقوله تعالى إخباراً عن حملة العرش ومن حوله إنهم يقولون: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} . عن جندب بن عبد اللّه البجلي قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته، ثم عقلها ثم صلى خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتى راحلته، فأطلق عقالها، ثم ركبها، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أتقولون هذا أضل أم بعيره، ألم تسمعوا ما قال؟) قالوا: بلى، قال: (لقد حظرت رحمة واسعة، إن اللّه عزَّ وجلَّ خلق مائة رحمة، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها، وأخرّ عنده تسعاً وتسعين رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره)؟ رواه أحمد وأبو داود، وقال الإمام أحمد أيضاً عن سلمان عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن للّه عزَّ وجلَّ مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخرّ تسعة وتسعين إلى يوم القيامة) عن أبي سعيد قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: )للّه مائة رحمة فقسم منها جزءاً واحداً بين الخلق، به يتراحم الناس والوحش والطير) ""رواه ابن ماجه والإمام أحمد"". وقوله: { فسأكتبها للذين يتقون} الآية، يعني فسأوجب حصول رحمتي منة مني وإحساناً إليهم، كما قال تعالى: { كتب ربكم على نفسه الرحمة} ، وقوله: { للذين يتقون} أي سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات وهم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم الذين يتقون أي الشرك والعظائم من الذنوب، قوله: { ويؤتون الزكاة} قيل: زكاة النفوس، وقيل: الأموال، ويحتمل أن تكون عامة لهما، فإن الآية مكية { والذين هم بآياتنا يؤمنون} أي يصدقون #اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين
|