ناصرالشيبي
2023-07-22, 12:28 PM
الحمد لله تعالى القائل ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) . (1) وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد الأمين ، وعلى آله الطيبين ، وعلى صحبه أجمعين ، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد
فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات . وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله . فهجرته إلى الله ورسوله . ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها. فهجرته إلى ما هاجر إليه) . (2) أصل عظيم من أصول دين الإسلام القويم . لأنه يبين المعيار الأساس لاحتساب ما يقبله الله تعالى من أعمال عباده ، فيأجرهم عليها ، وبين أعمالهم التي لا يتقبلها منهم ولا يحتسبها لهم . فلا يأجرهم عليها في الآخرة . بل ويتعرضون بها لعقوبته .
وقد نقل القسطلاني عن بعض الأئمة قولهم بأن هذا الحديث ثلث الدين . ووجهه : أن الدين : قول ، وعمل ، ونية . (3)
ولإدراك علماء الأمة - لاسيما الراسخين منهم - مدى جلال هذا الحديث الشريف المنيف ، وعظيم قدره - وأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم - فقد استهلوا به مصنفاتهم.
ومن أشهرهم الإمام البخاري - في جامعه الصحيح . الذي أفنى في جمعه و تأليفه - رحمه الله - شطراً كبيراً من حياته . الذي اعتبرته الأمة أصح الكتب وأوثقها بعد كتاب الله تعالى . فقد جعل هذا الحديث غرة لصحيحه . وفي ذلك إشارة منه - رحمه الله - بتفويضه العلم بنيته من تأليفه إلى الله تعالى .
فأسأل الله تعالى أن يجزيه على تأليفه خير الجزاء وأوفره . وأن يجزي كذلك شارحيه من علماء الأمة الأجلاء خير الجزاء . وعلى رأسهم الحافظ الثبت الجليل ابن حجر العسقلاني صاحب الشرح الموسوم بـ (فتح الباري) وما أدراك ما فتح الباري . ذلك السفر العظيم المتضمن فوائد عزيزة غزيرة . فهو شرح مبارك مهم ، رفيع القدر .
حتى أن علماء الحديث وغيرهم رأوا وصفه - لتمييزه عن غيره من الشروح - بمثل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في بيانه ليوم انتهاء هجرة أصحابه رضوان الله عليهم الى الله ورسوله بحلول يوم فتحه صلى الله عليه وسلم لمكة المكرمة .
حيث قال:(لا هجرة بعد الفتح - -) (4). فاستعملوا لفظ هذا الحديث وصفاًً لشرح ابن حجر، أي لا شرح غيره يبلغ حسنه . لمجانسة اسم الكتاب للفظ (الفتح) الوارد في هذا الحديث الشريف . قاصدين بانه أفضل شروح صحيح الإمام البخاري على الإطلاق .
ومن كبار شارحي صحيح البخاري بعده الإمام بدر الدين العيني ، في شرحه الموسوم بـ (عمدة القاري) . وهو شرح مفيد ومهم . وقد استهل كذلك الإمام ابن رجب الحنبلي كتابه القيم الجليل (جامع العلوم و الحكم ) بهذا الحديث . حيث قال : (أسأل الله تعالى الإمداد بالعون لبيان نفائس المعاني السامية المودعة في الفاظ هذا الحديث الشريف ، وجني درر لطائفه، وجم فوائده . متوخياً فيه القصد والإيجاز غير المخل) أ.هـ (5)
والنيات جمع نية . ومعناها في اللغة القصد والإرادة والعزم (6) . يقال : نويت الشيء . إذا قصدته وعزمت عَلَيْهِ بقلبك . وَقَالَ بعضهم النية الطلب . يقال لفلان عندي نية ونواة . أي طلبة وحاجة . ويجوز ِفيهِ التخفيف والتشديد . (7)
وفي بيان قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال) قال ابن الجوزي (إِنَّمَا " كلمة ترَادُ للحصر، تثبت الْمشَار إِلَيْهِ وتنفي مَا عداهُ . فَهِيَ تعْمل بركنيها إِثْبَاتًا ونفيا. ومَعْلُوم أَن الرَّسُول لم يرد نفي الأعْمَال الحسية. لأنَّهَا قد تُوجد بِغَيْر نِيَّة . وَإِنَّمَا أَرَادَ صِحَة الأفْعَال الشَّرْعِيَّة . فَبين أَن النِّيَّة هِيَ الفاصلة بَين مَا يَصح ، وَمَا لا يَصح . وَمعنى النِّيَّة : قصدك الشَّيْء وتحريك طلبه) أ.هـ (8)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الاصطلاح الشرعي للنية يزيد عن اللغوي باقتران القصد والإرادة والعزم بالشروع في أداء العمل . كما يظهر هذا من قول ابن حزم :(لأنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْقَصْدُ بِالْعَمَلِ وَالإرَادَةُ بِهِ - مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ - وَهَذَا لا يَكُونُ إلا مُعْتَقَداً قَبْلَ الْعَمَلِ وَمَعَهُ) .(9) ويظهر كذلك من قول الشيرازي من الشافعية ، والكاساني من الحنفية .(10)
وقد وصف الرازي النية بأنها (انْبِعَاثُ النَّفْسِ . وَمَيْلُهَا إِلَى مَا ظَهَرَ لَهَا أَنَّ فِيهِ غَرَضَهَا . إِمَّا عَاجِلا، وَإِمَّا آجِلا) . (11) وقال ابن قدامة المقدسي (إنما النية انبعاث القلب . وتجرى مجرى الفتوح من الله تعالى . وليست النية داخلة تحت الاختيار. فقد تتيسر في بعض الأوقات ، وقد تتعذر. وإنما تتيسر في الغالب لمن قلبه يميل إلى الدين ، دون الدنيا) أ.هـ (12)
ولعل من خير من عرف النية القاضي البيضاوي بقوله :(النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضرّ . حالا، أو مالا) . (13)
فالإنسان مكوَّن من قلب ، وجوارح . ولكل منهما عمله . ولما كانت النية من أهم أعمال القلوب . فقد أوضح هذا الحديث الشريف كيفية وأهمية العلاقة بين أعمال الجوارح ، وبين أهم أعمال القلوب ، وهي النية .
فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن النية التي هي مقصود القلب من العمل . وإنما تُسَخّرُ الجوارح للقيام بالأعمال وفقاً لبلوغ تلك المقصودات . فـأوضح الحديث أن الجزاء المترتب على أي عمل يكون موافقاً لنية فاعله - ثواباً ، وعقاباً - بحسب كون العمل (خيراً فيثاب عليه - أو شراً فيعاقب عليه) . فيجازي الله تعالى كل عامل على وفق نيته التي أرادها قلبه من كل عمل عمله .
فالمعول عليه في ترتب الثواب ، أو العقاب على أي عمل هو مدى إخلاص قلب عامله فيه لله تعالى أولاً، ثم موافقة ذلك العمل لأحكام شرع الله تعالى .
فتقوم النية في الإنسان بعمل (بدور) جهاز التوجيه الذي يحدد مقصوده الفعلي من أي عمل يقوم به . ويحدد كذلك الجهة التي يعمل العمل من أجلها (الجهة ، أو الشخص الذي عمله لأجله) . وهذا بالتحديد هو مجال إخلاص التوجه بالأعمال لله تعالى فيقبلها . أو لغيره فيردها .
فعلى سبيل المثال: لو كان العمل هو إنشاء مبنى فإن النية هي التي تحدد نوعه : منزل - مسجد - مدرسة - سوق - - - ، فإن حددتها أنها مدرسة مثلاً . تقوم النية بعد ذلك بالقسم الثاني من عملها ، وهو تحديد الفئة التي يراد للمدرسة خدمتها ( أبناء الحي الفلاني مثلاً ، أو النوع الفلاني من الطلاب) .
وبهذا يتضح أن ما عناه الحديث هي (نية الإنسان) التي دفعته للقيام بكل عمل (سواء كان قولاً، أو فعلاً) ، وما قصده به ، وما عمله لأجله . ولهذا فأن النية جزء لا يتجزأ من عمل الإنسان القلبي . بل هي أهم جزء فيه . لتوقف جزاء الأعمال عليها .
وعلى خلاف القائلين بوجوب اقتران النية بالعمل لصحته شرعاً . فقد فرق بعض العلماء بين النية (وهي إرادة العمل) وبين أداء العمل . كأبي طالب المكي - وغيره - واستدلوا على ما ذهبوا إليه بقول الله تعالى ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم )(14) حيث قال: يعني أنه علَّق العذاب بالإرادة، دون الفعل . (15) وعن الغزالي مثله . حيث قال (أي أنه على مجرد الإرادة) أ.هـ (16)
وهذا ما اختاره ابن كثير ونقله عن ابن أبي حاتم بقوله :( وهذا من خصوصية الحرم .أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازما عليه . وإن لم يوقعه . كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره) أ.هـ (17)
وقال الحميدي ( توعد الله عز و َجل على النِّيَّة الْفَاسِدَة الَّتِي عزم عَلَيْهَا من الْإِلْحَاد فِي الْحرم ، وَأوجب لَهُ على هَذِه الْإِرَادَة الْعَذَاب الْأَلِيم ، دون ظُهُور الْفِعْل) أ.هـ (18) وقال مثله الغزنوي النيسابوري في تفسيره للآية الكريمة : ( أي: ومن يرد صداً ،" بإلحاد " ميل عن الحق . ثم فسر- سبحانه - الإلحاد - بقوله تعالى " بظلمٍ ". إذ يكون إلحاد وميل بغير ظلم ، فلذلك تكررت الباء) أ.هـ (19)
قلت : لعل النيسابوري أراد أن هناك أنواعاً من الظلم التي يرتكبها المسلمون في الحرم . ولكنها ليست من الشرك . كأنواع ظلم العباد . فبهذا المعنى يكون الوعيد على الإلحاد في الحرم الوارد في آية سورة الحج هذه منصب على أعظم الظلم ، وهو الشرك بالله تعالى . كما بينه الله تعالى في قوله(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) .(20) والله تعالى أعلم بمراده .
وقد أوضح الحميدي الفرق بين النية والفعل . بقوله : (لأن هَذَا (21) من عمل الْقلب ، لا يفْتَقر إِلَى إِظْهَاره . وَإِنَّمَا إِظْهَاره زِيَادَة فِي الإثْم ) أ.هـ (22) قلت : ويصح أن يقال مثله في نية الخير والبر. فهي لا تفتقر إلى إظهار لتحصيل الأجر والثواب . ولكن في إظهارها بالعمل زيادة في الأجر والثواب .
ويخطئ من يتوهم وجود تعارض بين عدم كتابة السيئة على المكلف بمجرد إرادتها دون فعلها كما دلت عليه الآية الكريمة ، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ . وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ . فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ . وَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ حَسَنَةً ) . (23)
وهناك زيادة لفظ - ذكرها ابن كثير - في أخر هذا الحديث جاءت في رواية أخرى له هي قوله صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله تعالى : إنما تركها من مخافتي ") (24) وضحت سبب كتابتها له حسنة .
وقد فصَّل ابن كثير هذه المسألة بقوله :(اعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام :
تارة يتركها لله : فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى . وهذا عمل ونية . ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة . كما في لفظ مسلم " إنما تركها من جراي ". (25) أي : من أجلي .
وتارة يتركها نسياناً وذهولاً عنها : فهذا لا له ، ولا عليه . لأنه لم ينو خيراً ، ولا فعل شراً .
وتارة يتركها عجزاً وكسلا عنها : بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها . فهذا بمنزلة فاعلها . كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» . قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال :« إنه كان حريصاً على قتل صاحبه » . (26)
وقال ابن الملقن ( فصح أن المصر على الإثم (27) بإصراره هو: الذي عمل السيئة ، ثم أصر عليها . وهذا جمع النية السوء ، والعمل السوء معًا) أ.هـ (28)
فدلالة الحديث باقية على العموم .أي على اعتداد الشرع بأعمال العباد . لا بما يهموا به (أي يريدونه) دون أن يعملوه . وأن السيئة لا تكتب على المكلف لمجرد همه بالسيئة . وإنما تكتب بفعله لها .
أما القرطبي فقد خالف ذلك . وذهب إلى ان الله تعالى يعاقب على مجرد نية عمل السيئة وإن لم يعملها الإنسان . واحتج له بالأدلة التالية:
١- بقوله تعالى (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) .(29) قال القرطبي: (فَعُوقِبُوا قَبْلَ فِعْلِهِمْ بِعَزْمِهِمْ) .(30)
٢ - بقوله صلى الله عليه وسلم (لأنه كان حريصا على قتل صاحبه) . من حديث (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) . قالوا يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال :(إنه كان حريصا على قتل صاحبه) . (31) قال القرطبي : فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم . ثم قال:
3 ـ وأَنَصُّ من هذا (32) قوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَعِلْماً ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ "، قَالَ : فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ " قَالَ : " وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا؟ " قَالَ :" فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ " قَالَ :" فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ "، قَالَ : " وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ " قَالَ: " وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا، وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ ، قَالَ : هِيَ نِيَّتُهُ ، فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ) . (33)
وعقب القرطبي بقوله:( وهذا الذي صار إليه القاضي(34) هو الذي عليه عامة السلف ، وأهل العلم من الفقهاء ، والمحدثين ، والمتكلمين . ولا يلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يهم الإنسان به وإن وطن عليه نفسه لا يؤاخذ به . ولا حجة له ) . (35)
وقد بين ابن الجوزي معنى قوله صلى الله عليه وسلم ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) . بقوله:( أَن الشَّرْع إِنَّمَا يعْتد بِالْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ النِّيَّة ) . (36)
ولقد ذكر الدكتور عمر الأشقر تفصيلاً ما عرف به علماء الأمة النية لغة ، وشرعاً . ثم خلص إلى صواب ما قرره القاضي البيضاوي بأن : الشارع استعمل " النيَّة " بمعناها اللغوي - أنها القصد - ولم يضع لها معنى اصطلاحيا خاصاً . (37)
ولقد طرح الدكتور الأشقر سؤالا مهماً تحت عنوان ( لم أثيب الهام بالحسنة ، ولم يعاقب على الهم بالسيئة ؟) . ثم أجاب عليه كما يلي:
(قد يقال: لم أثيب الذي هم بالخير أو حدث به نفسه ، ولم يعاقب الذي هم بالشر، أو حدث نفسه به ؟. فالجواب : إن إرادة الخير خير في ذاتها . ولقد أحسن القائل:
لأشْكُرَنَّكَ مَعْرُوُفَا هَمَمْتَ بِهِ - - إنَّّ اهْتِمَامَكَ بِالمَعْرُوُفِ مَعْرُوُفُ .
وَلا ألُوُمُكَ إِنْ لَمْ يُمْضِهِ قَدَرٌ - - فَالشَّيْءُ بِالْقَدَر الَمحْتُوُمِ مَصْرُوُفُ .
وإرادة الخير عمل القلب . وعمل القلب فيه الثواب . وإرادة السيئة يكفرها تركها . فإن كان الترك خوفاًً من الله ، فالخوف عبادة تستحق الإثابة .
ثم الإثابة على إرادة الخير مقتضى رحمة الله . وعدم العقوبة على إرادة الشر مقتضى عفو الله . وحسبنا هذا دليلاً) أ.هـ (38)
أما حديث ( نية المرء خير من عمله ) فقد رواه الطبراني في معجمه الكبير من حديث سهل بن سعد - رضى الله عنه. (39) ورواه بعض أصحاب السنن بعدة أسانيد . إلا أن الحافظ ابن حجر قال بأنه حديث ضعيف . (40) قلت : وقد وافقه السخاوي على ضعفه ، إلا أنه قال عن مجموع طرق إسناده : " وإن كانت ضعيفة . فبمجموعها يتقوى الحديث . وقد أفردت فيه وفي معناه جزءا " أ.هـ (41) كما روي بلفظ ( نية المؤمن أبلغ من عمله) .
وقال المناوي بعد أن ذكر بعض تلك الأسانيد ( والحاصل أن له عدة طرق تجبر ضعفه . وأن من حكم بحسنه فقد فرط ) أ.هـ (42) قلت : أرى أن كلامه هذا يمكن اعتباره تردداً منه ، أو توقفاً في حكم هذا الحديث .
وقال الباحث أ/ ابن التيمي: " أضف إلى ذلك حديث علي رضي الله عنه - التالي - فلعلهم لم يقفوا عليه . فلم أر أحدا ذكره بعد طول تتبعي في كتب التخريج ولا أشار إليهِ .
ثم أورد الرواية التي ذكر ابن عبد البر سندها، وكل رجالها من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بأن ابن عبد البر قد استدل بالحديث بهذه الرواية في مواضع كثيرة . وهي: أن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ ، وَ نِيَّةُ الْفَاجِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ ، وَكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى نِيَّتِهٍ) .(43) . - - - إلى أن قال ابن التيمي :( ولكن قد قوى معناه شيخ الإسلام في فتاواه من خمسة أوجه : فكان منها أن المسلم لو نوى الخير ولم يعمل تكتب له حسنة . ولو عمل ولم ينوي لم يكتب له شيء " - - الخ كلامه (44)
قال ابن عبد البر: (وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ النِّيَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ بِلا نِيَّةٍ . وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِلا نِيَّةٍ لا يُرْفَعُ وَلا يَصْعَدُ . فَالنِّيَّةُ بِغَيْرِ عَمَلٍ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ . لأنَّ النِّيَّةَ تَنْفَعُ بِلا عَمَلٍ ، وَالْعَمَلُ بِلا نِيَّةٍ لا مَنْفَعَةَ فِيهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فيه: نِيَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَقْوَى عَلَيْهِ مِنْها . وَنِيَّةَ الْفَاجِرِ فِي الأعْمَالِ السَّيِّئَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَعْمَلُهُ مِنْهَا . وَلَوْ أَنَّهُ يَعْمَلُ مَا نَوَى فِي الشَّرِّ أَهْلَكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ) أ.هـ (45)
اما المناوي - في شرحه لحديث ( نية المؤمن خير من عمله - -) فقال : " لأن تخليد الله العبد في الجنة ليس بعمله وإنما هو لنيته . لأنه لو كان بعمله كان خلوده فيها بقدر مدة عمله ، أو أضعافه . لكنه جازاه بنيته لأنه كان ناويا أن يطيع الله أبدا ، فلما اخترمته منيته جوزي بنيته . وكذا الكافر لأنه لو جوزي بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقدر مدة كفره ، لأنه نوى الإقامة على كفره أبدا ، لو بقي . فجوزي بنيته .
ثم نقل عن الكرماني قوله :" المراد أن النية خير من العمل بلا نية . إذ لو كان المراد خير من عمل مع نية ، لزم كون الشيء خيرا من نفسه مع غيره .
أو المراد أن الجزء الذي هو النية خير من الجزء الذي هو العمل لاستحالة دخول الرياء فيها .
أو أن النية خير من جملة الخيرات الواقعة بعمله .
أو أن النية فعل القلب . وفعل الأشرف أشرف .
أو لأن القصد من الطاعة تنوير القلب . وتنويره بها أكثر لأنها صفته . ثم نقل عن ابن الكمال قوله ( هذا ترجيح لعمل القلب على عمل الجوارح " أ.هـ (46)
وقال ابن دريد الأزدي بأن معنى الحديث ( أن المؤمن ينوى الأشياء وأبواب البر نحو الصدقة والصوم وغير ذلك . فلعله يعجز عن بعض ذلك، وهو معقود النية عليه . فنيته خير من عمله) . (47)
قلت : ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتني بالنية ويهتم بها غاية الاهتمام . لدرجة أنه كان يستحلف أصحابه ليستوثق منها .
فقد روى الشيخان في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خرج على حلقة من أصحابه فقال " ما أجلسكم". قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ، ومنَّ به علينا . قال : آلله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ . قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك . قال : " أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكنه إنما أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة ") أ.هـ (48)
و أرى أن مما يقوي دلالة حديث ( نية المؤمن خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ - - -) ما رواه البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال " إِنَّ أَقْوَامَاً خلْفَنَا بالمدِينةِ ، مَا سَلَكْنَا شِعْباً وَلاَ وَادِياً إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا . حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ) . (49)
قال ابن هبيرة الشيباني في بيانه لمعنى هذا الحديث :" في هذا الحديث أنه من أراد الغزو وعزم عليه وحبسه في عذر. فإن له من الثواب مثل ثواب المجاهدين . حتى في نزوله ورحيله وقطعه الأودية ، وغير ذلك" أ.هـ (50)
وعن هذا الحديث كذلك نقل المناوي عن البيضاوي ضمن تفسيره لقوله تعالى ( والله يضاعف لمن يشاء - -) الآية (51) قوله : " بفضله . على حسب حال المنفق ، من إخلاصه وثقته بربه . ومن أجله تفاوتت الأعمال في مقادير الثواب . فالمعنى أن جنس النية راجح على جنس العمل . بدلالة أن كلا من الجنسين إذا انفرد عن الآخر يثاب العامل على الأول، دون الثاني . وهذا لا يتمشى في حق الكافر. ولذا قال (نية المؤمن) .
ثم نقل المناوي كذلك عن بعض أهل العلم قولهم :" إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن النية عبودية القلب ، والعمل عبودية الجوارح . وعمل القلب أبلغ وأنفع . وهو أمير، والجوارح رعية . وعمل الملك أعظم ، وأبلغ .(52)
أما بشأن تفسير التخليد في الجنة ، والتخليد في النار : فلأن العمل يدخل تحت الحصر . والنية لا . إذ المتحقق في إيمانه عقد نيته على أن يطيع الله ما أحياه . فلو أماته ثم أحياه ، وثم ، وثم . أي : لأطاعه كلما أوجده حياً . لأن اعتقاده منبرم مستدام . فيترتب له من الجزاء على نيته ما لا يترتب له على عمله .
ثم نقل عن غيره من العلماء قولهم : " معناه أن المؤمن كلما عمل خيرا نوى أن يعمل ما هو خير منه . فليس لنيته في الخير منتهى . والفاجر كلما عمل شرا نوى أن يعمل ما هو شر منه . فليس لنيته في الشر منتهى ) . (53)
وقال ابن رجب الحنبلي ( جاء عن عبد الله بن المبارك قوله ( رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمهُ النيَّةُ ، و ربَّ عمل كبيرٍ تُصَغِّره النيَّةُ ) أ.هـ (54)
وقد سأل عبدالله بن أحمد بن حنبل أباه أن يوصيه فقال له :( إنْوِ الخير. فَإِنَّكَ لا تَزالُ بِخَيْرٍ ما نَوَيْتَ الخَيْرَ) . (55)
قلت : ما أوجزها وأعظمها من وصية . جامعة مانعة . فإن من حرص على أن يحسن النية دائماً لم يكد يفوته شيء من الخير. فإن لم يدرك الخير بعمله ، أدركه بنيته . ومن علم فضل النية على العمل فإنه لن يدخر جهداً في أن يطلب العلم ليعرف به مواقع العمل الصالح - في كل مظانه - فلا يفوِّت على نفسه أن ينويه ، مع الشروع من فوره في عمله . فإن لم يدرك بعمله تمامه، فقد نواه . فشروعه في العمل يصدِّق نيته .
ومن واسع رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن جعل احكام شريعته السمحة تعين المسلم على استحضار النية دائماً سواء في العبادات أو المعاملات ، أو أعمال البر والصلات ، وحتى في أعمالهم العامة من المباحات، وهي أمورالعادات .
فمن أمثلة ذلك في العبادات : مشروعية أن يصبح المسلم صائما صيام نافلة في سائر أيام العام . دون تحرز من الحرج فقد أجاز له الشرع أن يفطر إن رأى أن يفطر(56) - لأي سبب كان - فقد صحت الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح صائماً . فإذا وجد عند أهله طعاماً أفطر . وإن لم يجد ، ظل صائماً (57) . بل قال عليه الصلاة والسلام ( الصائم المتطوِّع أمير نفسه . إن شاء صام ، وإن شاء أفطر) . (58) فدل على جواز قطع النفل. فهذا مثال على غاية التيسير من أجل اصطحاب نية الخير دائما .
وكذلك في المعاملات . ففي البيع - على سبيل المثال - صح قوله صلى الله عليه وسلم ( الْبَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما ، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِما) . (59)
فمع أن صدق المتبايعين وبيانهما من مصلحة سمعتهما التجارية ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم أوضح بأنه يترتب عليهما البركة من الله تعالى في بيعهما . والبركة معنى زائد عن مجرد تحقيق الربح . ومعلوم أن مصدر الصدق والبيان هو سلامة النوايا وصدق توجهها لله تعالى .
وأما في أعمال البر والصلات : ففي بيان الطبري لمعنى قوله تعالى ( رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) (60) قال :( يقول: إن أنتم أصلحتم نياتكم - - - ضمائر صدوركم ، لا يخفى عليه شيء من ذلك . وهو مجازيكم على حَسَن ذلك ، وسيِّئه - - " إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ " يقول : إن أنتم أصلحتم نياتكم فيهم (61)، وأطعتم الله فيما أمركم به ) أ.هـ (62)
وقريب منه بيان القرطبي لمعنى قوله تعالى " إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ " قال :( أَيْ : صَادِقِينَ فِي نِيَّةِ البر بالوالدين ، فإن الله يغفر البادرة) . (63)
وأما في المباحات فقد قال السيوطي : ( ومن أحسن ما استدوا به على أن العبد ينال أجراً بالنية الصالحة في المباحات والعادات قوله صلى الله عليه وسلم : " ولكل امرئ ما نوى" فهذه يثاب فاعلها إذا قصد بها التقرب إلى الله . فإن لم يقصد ذلك فلا ثواب له ) أ.هـ (64) فمن صور إصلاح المسلم نيته في المباحات : نيته التقوي بأكلة السحور على الصيام . والنوم مبكراً لإدراك صلاة الفجر . والسعي في زيادة أسباب الكسب ليتمكن من الإنفاق في وجوه البر ومساعدة المحتاجين و - و - - .
وبإمعان النظر في معنى الحديثين لمعرفة العلاقة بينهما يتبين ما يلي :
ـ أن في حديث (إنما الأعمال بالنيات - -) بيانه صلى الله عليه وسلم أن : النيات هي معيار الشرع لتصنيف أعمال العباد ، من حيث الصحة والفساد. التي ينبني عليها الاعتداد بها . أي قبول الله تعالى لها، من عدمه . ومعلوم أنه تترتب الإثابة على الصحيح المقبول منها . والمؤاخذة وتحمل الأوزار على الفاسد المردود منها . بحسب موافقة أعمال العباد لما أمرهم به الشرع الحكيم ، وما نهاهم عنه .
فسياق الحديث يبين أهمية إخلاص النية لله تعالى في جميع الأعمال : من فعل المأمورات والكف عن المنهيات . حثاً منه صلى الله عليه وسلم لأمته على استحضار النية في كل الأعمال . فبين أن الأعمال المقبولة منهم سواء كانت من العبادات أو المعاملات أو غيرها، هي فقط التي يعملونها بنية خالصة لله تعالى .
ـ وأما حديث (نية المؤمن خير من عمله) . فقد بين فيه صلى الله عليه وسلم أن نية المؤمن الصالحة تعود عليه بالحسنات والثواب في الآخرة بما يزيد عن ما يعود عليه من أعماله التي يعملها .
ففيه تنبيه للمسلمين إلى بالغ أهمية عنايتهم بإصلاح نياتهم دائما . حتى يصبح إحسان النوايا ملكة من ملكات نفس المسلم . تحضره النية الحسنة دون أن يتكلف معالجة لاستحضارها .
فتعود عليه نواياه الحسنة بالأجور والحسنات دائماً . بما لا يبلغه منها بأعماله مهما اجتهد . فالنوايا الحسنة تجارة رابحة للمؤمن ، مع أكرم الأكرمين ،لا خسارة فيها البتة .
فالحمد لله تعالى الذي طاب خيره لعباده المؤمنين وكثر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
(1) الآية الخامسة ، من سورة البينة .
(2) متفق عليه . أخرجه البخاري في صحيحه ، 1 ، كتاب بدء الوحى ، باب : كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم في صحيحه ، في كتاب الإمارة ، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم : « إنما الأعمال بالنيات » ، برقم 1907 ، من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه .
(3) أنظر: شعب الإيمان للبيهقي ، باب الاستثناء في الأيمان ، (1/ 87) . والمواهب اللدنية ، الفصل الأول " في كمال خلقته صلى الله عليه وسلم " ، 2/ 25 .
(4) متفق عليه . أنظر الجمع بين الصحيحين ، للحميدي ، كتاب : المتفق عليه من مسند أم المؤمنين عائشة " رضي الله عنها "، حديث رقم (3281) .
(5) مقدمة جامع العلوم والحكم .
(6) أنظر: المحلى بالآثار، لابن حزم ، مسألة " قراءة القرآن والسجود فيه " ، 1/ 94 .
(7) أنظر: والأربعين - الطائية - في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين ، الحديث الثاني ، ص 44 .
(8) أنظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين ، لابن الجوزي ، (86/1) .
(9) أنظر: المحلى بالآثار، لابن حزم الظاهري ،94/1 .
(10) أنظر: المهذب للشيرازي ، 1/ 134، وبدائع الصنائع ، للكاساني الحنفي ، 5/ 100 .
(11) أنظر: مفاتح الغيب ، 4/ 8 .
(12) أنظر: مختصر منهاج القاصدين ، 363 .
(13) أنظر: مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين ، تعريف النية بالعزم والقصد ، ص 33 .
(14) الآية رقم 25 ، سورة الحج .
(15) أنظر قوت القلوب . لأبي طالب المكي . باب ذكر فضائل الحج ، وآدابه . 2/ 198 .
(16) أنظر: إحياء علوم الدين ، 1/ 243 .
(17) الآية 20 ، سورة القلم .
(18) أنظر: تفسير غريب ما في الصحيحين ، للحميدي ، وفي مسند أبي هريرة ، ص 361 .
(19) انظر: باهر البرهان في بيان مشكل القرآن . سورة الحج . 2/ 949 .
(20) الآية رقم 13 ، سورة لقمان .
(21) بقصد الإرادة ، وهي النية .
(22) أنظر: المصدر السابق .
(23) أخرجه البخاري ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا بلفظ : " من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة ، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة ". (فتح الباري ، 11/ 323 ، ط السلفية) . وزَاد فِي رِوَايَة ذكرها المنذري بعد لفظه المتقدم قوله صلى الله عليه وسلم :( أَو محاها ، وَلا يهْلك على الله إِلا هَالك) . وانظره في الترغيب والترهيب ، 1/ 26 .
(24) أنظر: تفسير القرآن العظيم ، 3/ 379 .
(25) صحيح مسلم - تحقيق عبدالباقي ، باب إذا هم العبد بحسنة ، حديث رقم (205) ، 1/ 117 .
(26) أنظر: تفسير القرآن العظيم ، 7/ 209 . والحديث متفق عليه ، أنظر الجمع بين الصحيحين للحميدي ، حديث رقم (584) ، عن أبي بكرة ، نفيع بن الحارث رضي الله عنه ، (1/ 365) .
(27) أي : فتبين أن المصر على الإثم هو.
(28) أنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح ، باب الطلاق في إغلاق ، 25 ، 297 .
(29) الآية رقم 20 ، سورة القلم .
(30) أنظر: الجامع لأحكام القرآن ، 4/ 215 .
(31) متفق عليه . أخرجه البخاري (الفتح ، 1/ 85 ، ط السلفية) . وأخرجه مسلم (4/ 2213 - 2214 ، ط الحلبي) بلفظ مقارب .
(32) أي أن التالي هو نص في الدلالة عليه . فهو أقوى دلالة من سابقه .
(33) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، برقم (17570) ، والترمذيّ في جامعه ، برقم (2247) ، عن سعيد أبي الْبَخْتريّ الطائيّ ، عن أبي كبشة الأنصاريّ رضي الله عنه. وقال حسن صحيح . وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (41) ، وفي صحيح الجامع الصغير برقم (٣٠٢٤) .
(34) هو: القاضي محمد بن الطيب ، أبو بكر الباقلاني البصري ، شيخ السنة ولسان الأمة . المتوفى 403 هجرية.
(35) أنظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ،٤/ ٢١٥، تفسير سورة آل عمران ، من الآية ( ٣ - ١٣٦) .
(36) أنظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين 1/ 86 ، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
(37) أنظر: مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين ، تعريف النية بالعزم والقصد ، ص 34 .
(38) أنظر: مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين ، للدكتور عمر سليمان الأشقر ، ص 141 .
(39) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير، 6/ 185 .
(40) أنظر: فتح الباري ، 4/ 219 .
(41) أنظر المقاصد الحسنة ، 1/ 702 .
(42) أنظر: فيض القدير، 4/ 239 .
(43) أنظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، لابن عبد البر، 12/ 265 .
(44) أنظر: على في محرك البحث الحاسوبي ( GOOgle) ، بموقع مداد ، تخريج حديث " نية المرء خير من عمله ".
(45) أنظر: التمهيد ، 12/ 265 .
(46) أنظر: فيض القدير ، 4/ 239 و 240، بتصرف.
(47) انظر: المجتبى . باب ما سمع من النبي صلى آله عليه وسلم ولم يسمع من غيره قبله ، ص 11 .
(48) أنظر: الجمع بين الصحيحين ، للحميدي ، برقم (2903) ، 410/3.
(49) المصدر السابق ، برقم (2062) .
(50) أنظر: الإفصاح عن معاني الصحاح ، مسند أنس ابن مالك رضي الله عنه ، (5/ 308) ، حديث رقم (1733) .
(51) الآية ، 261 ، البقرة .
(52) أنظر فيض القدير، 4/ 239 و240 ، بتصرف .
(53) المصدر السابق .
(54) أنظر: جامع العلوم والحكم ، لابن رجب الحنبلي ، ص (10) .
(55) أنظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد بن حنبل ، الأدب والزهد .
(56) أي : لو رجع عن نيته الصوم ، وأراد أن يفطر ذلك اليوم .
(57) أنظر: فتح المنعم شرح صحيح مسلم ، 311 ، باب فضل الصيام والتطوع به ، 5/ 18 .
(58) أنظر: شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي ، 1/ 33 . والحديث رواه الترمذي في سننه، وأحمد في مسنده ، والحاكم في المستدرك وصححه . وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير، برقم (3854) ، 1/ 355 .
(59) متفق عليه . أنظر: الجمع بين الصحيحين للأشبيلي ، باب بيع الخيار، 2/ 490 .
(60) الآية 25 ، الإسراء .
(61) أي في الوالدين .
(62) أنظر: جامع البيان ، 17/ 421 .
(63) الجامع لأحكام القرآن ، 10/ 246 .
(64) أنظر: شرح السيوطي على النسائي ، 1/ 19 . ومقاصد المكلفين ، للدكتور عمر الأشقر ، ص 100 .
أما بعد
فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات . وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله . فهجرته إلى الله ورسوله . ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها. فهجرته إلى ما هاجر إليه) . (2) أصل عظيم من أصول دين الإسلام القويم . لأنه يبين المعيار الأساس لاحتساب ما يقبله الله تعالى من أعمال عباده ، فيأجرهم عليها ، وبين أعمالهم التي لا يتقبلها منهم ولا يحتسبها لهم . فلا يأجرهم عليها في الآخرة . بل ويتعرضون بها لعقوبته .
وقد نقل القسطلاني عن بعض الأئمة قولهم بأن هذا الحديث ثلث الدين . ووجهه : أن الدين : قول ، وعمل ، ونية . (3)
ولإدراك علماء الأمة - لاسيما الراسخين منهم - مدى جلال هذا الحديث الشريف المنيف ، وعظيم قدره - وأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم - فقد استهلوا به مصنفاتهم.
ومن أشهرهم الإمام البخاري - في جامعه الصحيح . الذي أفنى في جمعه و تأليفه - رحمه الله - شطراً كبيراً من حياته . الذي اعتبرته الأمة أصح الكتب وأوثقها بعد كتاب الله تعالى . فقد جعل هذا الحديث غرة لصحيحه . وفي ذلك إشارة منه - رحمه الله - بتفويضه العلم بنيته من تأليفه إلى الله تعالى .
فأسأل الله تعالى أن يجزيه على تأليفه خير الجزاء وأوفره . وأن يجزي كذلك شارحيه من علماء الأمة الأجلاء خير الجزاء . وعلى رأسهم الحافظ الثبت الجليل ابن حجر العسقلاني صاحب الشرح الموسوم بـ (فتح الباري) وما أدراك ما فتح الباري . ذلك السفر العظيم المتضمن فوائد عزيزة غزيرة . فهو شرح مبارك مهم ، رفيع القدر .
حتى أن علماء الحديث وغيرهم رأوا وصفه - لتمييزه عن غيره من الشروح - بمثل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في بيانه ليوم انتهاء هجرة أصحابه رضوان الله عليهم الى الله ورسوله بحلول يوم فتحه صلى الله عليه وسلم لمكة المكرمة .
حيث قال:(لا هجرة بعد الفتح - -) (4). فاستعملوا لفظ هذا الحديث وصفاًً لشرح ابن حجر، أي لا شرح غيره يبلغ حسنه . لمجانسة اسم الكتاب للفظ (الفتح) الوارد في هذا الحديث الشريف . قاصدين بانه أفضل شروح صحيح الإمام البخاري على الإطلاق .
ومن كبار شارحي صحيح البخاري بعده الإمام بدر الدين العيني ، في شرحه الموسوم بـ (عمدة القاري) . وهو شرح مفيد ومهم . وقد استهل كذلك الإمام ابن رجب الحنبلي كتابه القيم الجليل (جامع العلوم و الحكم ) بهذا الحديث . حيث قال : (أسأل الله تعالى الإمداد بالعون لبيان نفائس المعاني السامية المودعة في الفاظ هذا الحديث الشريف ، وجني درر لطائفه، وجم فوائده . متوخياً فيه القصد والإيجاز غير المخل) أ.هـ (5)
والنيات جمع نية . ومعناها في اللغة القصد والإرادة والعزم (6) . يقال : نويت الشيء . إذا قصدته وعزمت عَلَيْهِ بقلبك . وَقَالَ بعضهم النية الطلب . يقال لفلان عندي نية ونواة . أي طلبة وحاجة . ويجوز ِفيهِ التخفيف والتشديد . (7)
وفي بيان قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال) قال ابن الجوزي (إِنَّمَا " كلمة ترَادُ للحصر، تثبت الْمشَار إِلَيْهِ وتنفي مَا عداهُ . فَهِيَ تعْمل بركنيها إِثْبَاتًا ونفيا. ومَعْلُوم أَن الرَّسُول لم يرد نفي الأعْمَال الحسية. لأنَّهَا قد تُوجد بِغَيْر نِيَّة . وَإِنَّمَا أَرَادَ صِحَة الأفْعَال الشَّرْعِيَّة . فَبين أَن النِّيَّة هِيَ الفاصلة بَين مَا يَصح ، وَمَا لا يَصح . وَمعنى النِّيَّة : قصدك الشَّيْء وتحريك طلبه) أ.هـ (8)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الاصطلاح الشرعي للنية يزيد عن اللغوي باقتران القصد والإرادة والعزم بالشروع في أداء العمل . كما يظهر هذا من قول ابن حزم :(لأنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْقَصْدُ بِالْعَمَلِ وَالإرَادَةُ بِهِ - مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ - وَهَذَا لا يَكُونُ إلا مُعْتَقَداً قَبْلَ الْعَمَلِ وَمَعَهُ) .(9) ويظهر كذلك من قول الشيرازي من الشافعية ، والكاساني من الحنفية .(10)
وقد وصف الرازي النية بأنها (انْبِعَاثُ النَّفْسِ . وَمَيْلُهَا إِلَى مَا ظَهَرَ لَهَا أَنَّ فِيهِ غَرَضَهَا . إِمَّا عَاجِلا، وَإِمَّا آجِلا) . (11) وقال ابن قدامة المقدسي (إنما النية انبعاث القلب . وتجرى مجرى الفتوح من الله تعالى . وليست النية داخلة تحت الاختيار. فقد تتيسر في بعض الأوقات ، وقد تتعذر. وإنما تتيسر في الغالب لمن قلبه يميل إلى الدين ، دون الدنيا) أ.هـ (12)
ولعل من خير من عرف النية القاضي البيضاوي بقوله :(النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضرّ . حالا، أو مالا) . (13)
فالإنسان مكوَّن من قلب ، وجوارح . ولكل منهما عمله . ولما كانت النية من أهم أعمال القلوب . فقد أوضح هذا الحديث الشريف كيفية وأهمية العلاقة بين أعمال الجوارح ، وبين أهم أعمال القلوب ، وهي النية .
فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن النية التي هي مقصود القلب من العمل . وإنما تُسَخّرُ الجوارح للقيام بالأعمال وفقاً لبلوغ تلك المقصودات . فـأوضح الحديث أن الجزاء المترتب على أي عمل يكون موافقاً لنية فاعله - ثواباً ، وعقاباً - بحسب كون العمل (خيراً فيثاب عليه - أو شراً فيعاقب عليه) . فيجازي الله تعالى كل عامل على وفق نيته التي أرادها قلبه من كل عمل عمله .
فالمعول عليه في ترتب الثواب ، أو العقاب على أي عمل هو مدى إخلاص قلب عامله فيه لله تعالى أولاً، ثم موافقة ذلك العمل لأحكام شرع الله تعالى .
فتقوم النية في الإنسان بعمل (بدور) جهاز التوجيه الذي يحدد مقصوده الفعلي من أي عمل يقوم به . ويحدد كذلك الجهة التي يعمل العمل من أجلها (الجهة ، أو الشخص الذي عمله لأجله) . وهذا بالتحديد هو مجال إخلاص التوجه بالأعمال لله تعالى فيقبلها . أو لغيره فيردها .
فعلى سبيل المثال: لو كان العمل هو إنشاء مبنى فإن النية هي التي تحدد نوعه : منزل - مسجد - مدرسة - سوق - - - ، فإن حددتها أنها مدرسة مثلاً . تقوم النية بعد ذلك بالقسم الثاني من عملها ، وهو تحديد الفئة التي يراد للمدرسة خدمتها ( أبناء الحي الفلاني مثلاً ، أو النوع الفلاني من الطلاب) .
وبهذا يتضح أن ما عناه الحديث هي (نية الإنسان) التي دفعته للقيام بكل عمل (سواء كان قولاً، أو فعلاً) ، وما قصده به ، وما عمله لأجله . ولهذا فأن النية جزء لا يتجزأ من عمل الإنسان القلبي . بل هي أهم جزء فيه . لتوقف جزاء الأعمال عليها .
وعلى خلاف القائلين بوجوب اقتران النية بالعمل لصحته شرعاً . فقد فرق بعض العلماء بين النية (وهي إرادة العمل) وبين أداء العمل . كأبي طالب المكي - وغيره - واستدلوا على ما ذهبوا إليه بقول الله تعالى ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم )(14) حيث قال: يعني أنه علَّق العذاب بالإرادة، دون الفعل . (15) وعن الغزالي مثله . حيث قال (أي أنه على مجرد الإرادة) أ.هـ (16)
وهذا ما اختاره ابن كثير ونقله عن ابن أبي حاتم بقوله :( وهذا من خصوصية الحرم .أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازما عليه . وإن لم يوقعه . كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره) أ.هـ (17)
وقال الحميدي ( توعد الله عز و َجل على النِّيَّة الْفَاسِدَة الَّتِي عزم عَلَيْهَا من الْإِلْحَاد فِي الْحرم ، وَأوجب لَهُ على هَذِه الْإِرَادَة الْعَذَاب الْأَلِيم ، دون ظُهُور الْفِعْل) أ.هـ (18) وقال مثله الغزنوي النيسابوري في تفسيره للآية الكريمة : ( أي: ومن يرد صداً ،" بإلحاد " ميل عن الحق . ثم فسر- سبحانه - الإلحاد - بقوله تعالى " بظلمٍ ". إذ يكون إلحاد وميل بغير ظلم ، فلذلك تكررت الباء) أ.هـ (19)
قلت : لعل النيسابوري أراد أن هناك أنواعاً من الظلم التي يرتكبها المسلمون في الحرم . ولكنها ليست من الشرك . كأنواع ظلم العباد . فبهذا المعنى يكون الوعيد على الإلحاد في الحرم الوارد في آية سورة الحج هذه منصب على أعظم الظلم ، وهو الشرك بالله تعالى . كما بينه الله تعالى في قوله(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) .(20) والله تعالى أعلم بمراده .
وقد أوضح الحميدي الفرق بين النية والفعل . بقوله : (لأن هَذَا (21) من عمل الْقلب ، لا يفْتَقر إِلَى إِظْهَاره . وَإِنَّمَا إِظْهَاره زِيَادَة فِي الإثْم ) أ.هـ (22) قلت : ويصح أن يقال مثله في نية الخير والبر. فهي لا تفتقر إلى إظهار لتحصيل الأجر والثواب . ولكن في إظهارها بالعمل زيادة في الأجر والثواب .
ويخطئ من يتوهم وجود تعارض بين عدم كتابة السيئة على المكلف بمجرد إرادتها دون فعلها كما دلت عليه الآية الكريمة ، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ . وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ . فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ . وَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ حَسَنَةً ) . (23)
وهناك زيادة لفظ - ذكرها ابن كثير - في أخر هذا الحديث جاءت في رواية أخرى له هي قوله صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله تعالى : إنما تركها من مخافتي ") (24) وضحت سبب كتابتها له حسنة .
وقد فصَّل ابن كثير هذه المسألة بقوله :(اعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام :
تارة يتركها لله : فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى . وهذا عمل ونية . ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة . كما في لفظ مسلم " إنما تركها من جراي ". (25) أي : من أجلي .
وتارة يتركها نسياناً وذهولاً عنها : فهذا لا له ، ولا عليه . لأنه لم ينو خيراً ، ولا فعل شراً .
وتارة يتركها عجزاً وكسلا عنها : بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها . فهذا بمنزلة فاعلها . كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» . قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال :« إنه كان حريصاً على قتل صاحبه » . (26)
وقال ابن الملقن ( فصح أن المصر على الإثم (27) بإصراره هو: الذي عمل السيئة ، ثم أصر عليها . وهذا جمع النية السوء ، والعمل السوء معًا) أ.هـ (28)
فدلالة الحديث باقية على العموم .أي على اعتداد الشرع بأعمال العباد . لا بما يهموا به (أي يريدونه) دون أن يعملوه . وأن السيئة لا تكتب على المكلف لمجرد همه بالسيئة . وإنما تكتب بفعله لها .
أما القرطبي فقد خالف ذلك . وذهب إلى ان الله تعالى يعاقب على مجرد نية عمل السيئة وإن لم يعملها الإنسان . واحتج له بالأدلة التالية:
١- بقوله تعالى (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) .(29) قال القرطبي: (فَعُوقِبُوا قَبْلَ فِعْلِهِمْ بِعَزْمِهِمْ) .(30)
٢ - بقوله صلى الله عليه وسلم (لأنه كان حريصا على قتل صاحبه) . من حديث (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) . قالوا يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال :(إنه كان حريصا على قتل صاحبه) . (31) قال القرطبي : فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم . ثم قال:
3 ـ وأَنَصُّ من هذا (32) قوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَعِلْماً ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ "، قَالَ : فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ " قَالَ : " وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا؟ " قَالَ :" فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ " قَالَ :" فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ "، قَالَ : " وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ " قَالَ: " وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا، وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ ، قَالَ : هِيَ نِيَّتُهُ ، فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ) . (33)
وعقب القرطبي بقوله:( وهذا الذي صار إليه القاضي(34) هو الذي عليه عامة السلف ، وأهل العلم من الفقهاء ، والمحدثين ، والمتكلمين . ولا يلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يهم الإنسان به وإن وطن عليه نفسه لا يؤاخذ به . ولا حجة له ) . (35)
وقد بين ابن الجوزي معنى قوله صلى الله عليه وسلم ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) . بقوله:( أَن الشَّرْع إِنَّمَا يعْتد بِالْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ النِّيَّة ) . (36)
ولقد ذكر الدكتور عمر الأشقر تفصيلاً ما عرف به علماء الأمة النية لغة ، وشرعاً . ثم خلص إلى صواب ما قرره القاضي البيضاوي بأن : الشارع استعمل " النيَّة " بمعناها اللغوي - أنها القصد - ولم يضع لها معنى اصطلاحيا خاصاً . (37)
ولقد طرح الدكتور الأشقر سؤالا مهماً تحت عنوان ( لم أثيب الهام بالحسنة ، ولم يعاقب على الهم بالسيئة ؟) . ثم أجاب عليه كما يلي:
(قد يقال: لم أثيب الذي هم بالخير أو حدث به نفسه ، ولم يعاقب الذي هم بالشر، أو حدث نفسه به ؟. فالجواب : إن إرادة الخير خير في ذاتها . ولقد أحسن القائل:
لأشْكُرَنَّكَ مَعْرُوُفَا هَمَمْتَ بِهِ - - إنَّّ اهْتِمَامَكَ بِالمَعْرُوُفِ مَعْرُوُفُ .
وَلا ألُوُمُكَ إِنْ لَمْ يُمْضِهِ قَدَرٌ - - فَالشَّيْءُ بِالْقَدَر الَمحْتُوُمِ مَصْرُوُفُ .
وإرادة الخير عمل القلب . وعمل القلب فيه الثواب . وإرادة السيئة يكفرها تركها . فإن كان الترك خوفاًً من الله ، فالخوف عبادة تستحق الإثابة .
ثم الإثابة على إرادة الخير مقتضى رحمة الله . وعدم العقوبة على إرادة الشر مقتضى عفو الله . وحسبنا هذا دليلاً) أ.هـ (38)
أما حديث ( نية المرء خير من عمله ) فقد رواه الطبراني في معجمه الكبير من حديث سهل بن سعد - رضى الله عنه. (39) ورواه بعض أصحاب السنن بعدة أسانيد . إلا أن الحافظ ابن حجر قال بأنه حديث ضعيف . (40) قلت : وقد وافقه السخاوي على ضعفه ، إلا أنه قال عن مجموع طرق إسناده : " وإن كانت ضعيفة . فبمجموعها يتقوى الحديث . وقد أفردت فيه وفي معناه جزءا " أ.هـ (41) كما روي بلفظ ( نية المؤمن أبلغ من عمله) .
وقال المناوي بعد أن ذكر بعض تلك الأسانيد ( والحاصل أن له عدة طرق تجبر ضعفه . وأن من حكم بحسنه فقد فرط ) أ.هـ (42) قلت : أرى أن كلامه هذا يمكن اعتباره تردداً منه ، أو توقفاً في حكم هذا الحديث .
وقال الباحث أ/ ابن التيمي: " أضف إلى ذلك حديث علي رضي الله عنه - التالي - فلعلهم لم يقفوا عليه . فلم أر أحدا ذكره بعد طول تتبعي في كتب التخريج ولا أشار إليهِ .
ثم أورد الرواية التي ذكر ابن عبد البر سندها، وكل رجالها من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بأن ابن عبد البر قد استدل بالحديث بهذه الرواية في مواضع كثيرة . وهي: أن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ ، وَ نِيَّةُ الْفَاجِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ ، وَكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى نِيَّتِهٍ) .(43) . - - - إلى أن قال ابن التيمي :( ولكن قد قوى معناه شيخ الإسلام في فتاواه من خمسة أوجه : فكان منها أن المسلم لو نوى الخير ولم يعمل تكتب له حسنة . ولو عمل ولم ينوي لم يكتب له شيء " - - الخ كلامه (44)
قال ابن عبد البر: (وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ النِّيَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ بِلا نِيَّةٍ . وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِلا نِيَّةٍ لا يُرْفَعُ وَلا يَصْعَدُ . فَالنِّيَّةُ بِغَيْرِ عَمَلٍ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ . لأنَّ النِّيَّةَ تَنْفَعُ بِلا عَمَلٍ ، وَالْعَمَلُ بِلا نِيَّةٍ لا مَنْفَعَةَ فِيهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فيه: نِيَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَقْوَى عَلَيْهِ مِنْها . وَنِيَّةَ الْفَاجِرِ فِي الأعْمَالِ السَّيِّئَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَعْمَلُهُ مِنْهَا . وَلَوْ أَنَّهُ يَعْمَلُ مَا نَوَى فِي الشَّرِّ أَهْلَكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ) أ.هـ (45)
اما المناوي - في شرحه لحديث ( نية المؤمن خير من عمله - -) فقال : " لأن تخليد الله العبد في الجنة ليس بعمله وإنما هو لنيته . لأنه لو كان بعمله كان خلوده فيها بقدر مدة عمله ، أو أضعافه . لكنه جازاه بنيته لأنه كان ناويا أن يطيع الله أبدا ، فلما اخترمته منيته جوزي بنيته . وكذا الكافر لأنه لو جوزي بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقدر مدة كفره ، لأنه نوى الإقامة على كفره أبدا ، لو بقي . فجوزي بنيته .
ثم نقل عن الكرماني قوله :" المراد أن النية خير من العمل بلا نية . إذ لو كان المراد خير من عمل مع نية ، لزم كون الشيء خيرا من نفسه مع غيره .
أو المراد أن الجزء الذي هو النية خير من الجزء الذي هو العمل لاستحالة دخول الرياء فيها .
أو أن النية خير من جملة الخيرات الواقعة بعمله .
أو أن النية فعل القلب . وفعل الأشرف أشرف .
أو لأن القصد من الطاعة تنوير القلب . وتنويره بها أكثر لأنها صفته . ثم نقل عن ابن الكمال قوله ( هذا ترجيح لعمل القلب على عمل الجوارح " أ.هـ (46)
وقال ابن دريد الأزدي بأن معنى الحديث ( أن المؤمن ينوى الأشياء وأبواب البر نحو الصدقة والصوم وغير ذلك . فلعله يعجز عن بعض ذلك، وهو معقود النية عليه . فنيته خير من عمله) . (47)
قلت : ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتني بالنية ويهتم بها غاية الاهتمام . لدرجة أنه كان يستحلف أصحابه ليستوثق منها .
فقد روى الشيخان في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خرج على حلقة من أصحابه فقال " ما أجلسكم". قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ، ومنَّ به علينا . قال : آلله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ . قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك . قال : " أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكنه إنما أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة ") أ.هـ (48)
و أرى أن مما يقوي دلالة حديث ( نية المؤمن خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ - - -) ما رواه البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال " إِنَّ أَقْوَامَاً خلْفَنَا بالمدِينةِ ، مَا سَلَكْنَا شِعْباً وَلاَ وَادِياً إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا . حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ) . (49)
قال ابن هبيرة الشيباني في بيانه لمعنى هذا الحديث :" في هذا الحديث أنه من أراد الغزو وعزم عليه وحبسه في عذر. فإن له من الثواب مثل ثواب المجاهدين . حتى في نزوله ورحيله وقطعه الأودية ، وغير ذلك" أ.هـ (50)
وعن هذا الحديث كذلك نقل المناوي عن البيضاوي ضمن تفسيره لقوله تعالى ( والله يضاعف لمن يشاء - -) الآية (51) قوله : " بفضله . على حسب حال المنفق ، من إخلاصه وثقته بربه . ومن أجله تفاوتت الأعمال في مقادير الثواب . فالمعنى أن جنس النية راجح على جنس العمل . بدلالة أن كلا من الجنسين إذا انفرد عن الآخر يثاب العامل على الأول، دون الثاني . وهذا لا يتمشى في حق الكافر. ولذا قال (نية المؤمن) .
ثم نقل المناوي كذلك عن بعض أهل العلم قولهم :" إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن النية عبودية القلب ، والعمل عبودية الجوارح . وعمل القلب أبلغ وأنفع . وهو أمير، والجوارح رعية . وعمل الملك أعظم ، وأبلغ .(52)
أما بشأن تفسير التخليد في الجنة ، والتخليد في النار : فلأن العمل يدخل تحت الحصر . والنية لا . إذ المتحقق في إيمانه عقد نيته على أن يطيع الله ما أحياه . فلو أماته ثم أحياه ، وثم ، وثم . أي : لأطاعه كلما أوجده حياً . لأن اعتقاده منبرم مستدام . فيترتب له من الجزاء على نيته ما لا يترتب له على عمله .
ثم نقل عن غيره من العلماء قولهم : " معناه أن المؤمن كلما عمل خيرا نوى أن يعمل ما هو خير منه . فليس لنيته في الخير منتهى . والفاجر كلما عمل شرا نوى أن يعمل ما هو شر منه . فليس لنيته في الشر منتهى ) . (53)
وقال ابن رجب الحنبلي ( جاء عن عبد الله بن المبارك قوله ( رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمهُ النيَّةُ ، و ربَّ عمل كبيرٍ تُصَغِّره النيَّةُ ) أ.هـ (54)
وقد سأل عبدالله بن أحمد بن حنبل أباه أن يوصيه فقال له :( إنْوِ الخير. فَإِنَّكَ لا تَزالُ بِخَيْرٍ ما نَوَيْتَ الخَيْرَ) . (55)
قلت : ما أوجزها وأعظمها من وصية . جامعة مانعة . فإن من حرص على أن يحسن النية دائماً لم يكد يفوته شيء من الخير. فإن لم يدرك الخير بعمله ، أدركه بنيته . ومن علم فضل النية على العمل فإنه لن يدخر جهداً في أن يطلب العلم ليعرف به مواقع العمل الصالح - في كل مظانه - فلا يفوِّت على نفسه أن ينويه ، مع الشروع من فوره في عمله . فإن لم يدرك بعمله تمامه، فقد نواه . فشروعه في العمل يصدِّق نيته .
ومن واسع رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن جعل احكام شريعته السمحة تعين المسلم على استحضار النية دائماً سواء في العبادات أو المعاملات ، أو أعمال البر والصلات ، وحتى في أعمالهم العامة من المباحات، وهي أمورالعادات .
فمن أمثلة ذلك في العبادات : مشروعية أن يصبح المسلم صائما صيام نافلة في سائر أيام العام . دون تحرز من الحرج فقد أجاز له الشرع أن يفطر إن رأى أن يفطر(56) - لأي سبب كان - فقد صحت الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح صائماً . فإذا وجد عند أهله طعاماً أفطر . وإن لم يجد ، ظل صائماً (57) . بل قال عليه الصلاة والسلام ( الصائم المتطوِّع أمير نفسه . إن شاء صام ، وإن شاء أفطر) . (58) فدل على جواز قطع النفل. فهذا مثال على غاية التيسير من أجل اصطحاب نية الخير دائما .
وكذلك في المعاملات . ففي البيع - على سبيل المثال - صح قوله صلى الله عليه وسلم ( الْبَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما ، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِما) . (59)
فمع أن صدق المتبايعين وبيانهما من مصلحة سمعتهما التجارية ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم أوضح بأنه يترتب عليهما البركة من الله تعالى في بيعهما . والبركة معنى زائد عن مجرد تحقيق الربح . ومعلوم أن مصدر الصدق والبيان هو سلامة النوايا وصدق توجهها لله تعالى .
وأما في أعمال البر والصلات : ففي بيان الطبري لمعنى قوله تعالى ( رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) (60) قال :( يقول: إن أنتم أصلحتم نياتكم - - - ضمائر صدوركم ، لا يخفى عليه شيء من ذلك . وهو مجازيكم على حَسَن ذلك ، وسيِّئه - - " إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ " يقول : إن أنتم أصلحتم نياتكم فيهم (61)، وأطعتم الله فيما أمركم به ) أ.هـ (62)
وقريب منه بيان القرطبي لمعنى قوله تعالى " إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ " قال :( أَيْ : صَادِقِينَ فِي نِيَّةِ البر بالوالدين ، فإن الله يغفر البادرة) . (63)
وأما في المباحات فقد قال السيوطي : ( ومن أحسن ما استدوا به على أن العبد ينال أجراً بالنية الصالحة في المباحات والعادات قوله صلى الله عليه وسلم : " ولكل امرئ ما نوى" فهذه يثاب فاعلها إذا قصد بها التقرب إلى الله . فإن لم يقصد ذلك فلا ثواب له ) أ.هـ (64) فمن صور إصلاح المسلم نيته في المباحات : نيته التقوي بأكلة السحور على الصيام . والنوم مبكراً لإدراك صلاة الفجر . والسعي في زيادة أسباب الكسب ليتمكن من الإنفاق في وجوه البر ومساعدة المحتاجين و - و - - .
وبإمعان النظر في معنى الحديثين لمعرفة العلاقة بينهما يتبين ما يلي :
ـ أن في حديث (إنما الأعمال بالنيات - -) بيانه صلى الله عليه وسلم أن : النيات هي معيار الشرع لتصنيف أعمال العباد ، من حيث الصحة والفساد. التي ينبني عليها الاعتداد بها . أي قبول الله تعالى لها، من عدمه . ومعلوم أنه تترتب الإثابة على الصحيح المقبول منها . والمؤاخذة وتحمل الأوزار على الفاسد المردود منها . بحسب موافقة أعمال العباد لما أمرهم به الشرع الحكيم ، وما نهاهم عنه .
فسياق الحديث يبين أهمية إخلاص النية لله تعالى في جميع الأعمال : من فعل المأمورات والكف عن المنهيات . حثاً منه صلى الله عليه وسلم لأمته على استحضار النية في كل الأعمال . فبين أن الأعمال المقبولة منهم سواء كانت من العبادات أو المعاملات أو غيرها، هي فقط التي يعملونها بنية خالصة لله تعالى .
ـ وأما حديث (نية المؤمن خير من عمله) . فقد بين فيه صلى الله عليه وسلم أن نية المؤمن الصالحة تعود عليه بالحسنات والثواب في الآخرة بما يزيد عن ما يعود عليه من أعماله التي يعملها .
ففيه تنبيه للمسلمين إلى بالغ أهمية عنايتهم بإصلاح نياتهم دائما . حتى يصبح إحسان النوايا ملكة من ملكات نفس المسلم . تحضره النية الحسنة دون أن يتكلف معالجة لاستحضارها .
فتعود عليه نواياه الحسنة بالأجور والحسنات دائماً . بما لا يبلغه منها بأعماله مهما اجتهد . فالنوايا الحسنة تجارة رابحة للمؤمن ، مع أكرم الأكرمين ،لا خسارة فيها البتة .
فالحمد لله تعالى الذي طاب خيره لعباده المؤمنين وكثر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
(1) الآية الخامسة ، من سورة البينة .
(2) متفق عليه . أخرجه البخاري في صحيحه ، 1 ، كتاب بدء الوحى ، باب : كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم في صحيحه ، في كتاب الإمارة ، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم : « إنما الأعمال بالنيات » ، برقم 1907 ، من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه .
(3) أنظر: شعب الإيمان للبيهقي ، باب الاستثناء في الأيمان ، (1/ 87) . والمواهب اللدنية ، الفصل الأول " في كمال خلقته صلى الله عليه وسلم " ، 2/ 25 .
(4) متفق عليه . أنظر الجمع بين الصحيحين ، للحميدي ، كتاب : المتفق عليه من مسند أم المؤمنين عائشة " رضي الله عنها "، حديث رقم (3281) .
(5) مقدمة جامع العلوم والحكم .
(6) أنظر: المحلى بالآثار، لابن حزم ، مسألة " قراءة القرآن والسجود فيه " ، 1/ 94 .
(7) أنظر: والأربعين - الطائية - في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين ، الحديث الثاني ، ص 44 .
(8) أنظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين ، لابن الجوزي ، (86/1) .
(9) أنظر: المحلى بالآثار، لابن حزم الظاهري ،94/1 .
(10) أنظر: المهذب للشيرازي ، 1/ 134، وبدائع الصنائع ، للكاساني الحنفي ، 5/ 100 .
(11) أنظر: مفاتح الغيب ، 4/ 8 .
(12) أنظر: مختصر منهاج القاصدين ، 363 .
(13) أنظر: مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين ، تعريف النية بالعزم والقصد ، ص 33 .
(14) الآية رقم 25 ، سورة الحج .
(15) أنظر قوت القلوب . لأبي طالب المكي . باب ذكر فضائل الحج ، وآدابه . 2/ 198 .
(16) أنظر: إحياء علوم الدين ، 1/ 243 .
(17) الآية 20 ، سورة القلم .
(18) أنظر: تفسير غريب ما في الصحيحين ، للحميدي ، وفي مسند أبي هريرة ، ص 361 .
(19) انظر: باهر البرهان في بيان مشكل القرآن . سورة الحج . 2/ 949 .
(20) الآية رقم 13 ، سورة لقمان .
(21) بقصد الإرادة ، وهي النية .
(22) أنظر: المصدر السابق .
(23) أخرجه البخاري ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا بلفظ : " من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة ، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة ". (فتح الباري ، 11/ 323 ، ط السلفية) . وزَاد فِي رِوَايَة ذكرها المنذري بعد لفظه المتقدم قوله صلى الله عليه وسلم :( أَو محاها ، وَلا يهْلك على الله إِلا هَالك) . وانظره في الترغيب والترهيب ، 1/ 26 .
(24) أنظر: تفسير القرآن العظيم ، 3/ 379 .
(25) صحيح مسلم - تحقيق عبدالباقي ، باب إذا هم العبد بحسنة ، حديث رقم (205) ، 1/ 117 .
(26) أنظر: تفسير القرآن العظيم ، 7/ 209 . والحديث متفق عليه ، أنظر الجمع بين الصحيحين للحميدي ، حديث رقم (584) ، عن أبي بكرة ، نفيع بن الحارث رضي الله عنه ، (1/ 365) .
(27) أي : فتبين أن المصر على الإثم هو.
(28) أنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح ، باب الطلاق في إغلاق ، 25 ، 297 .
(29) الآية رقم 20 ، سورة القلم .
(30) أنظر: الجامع لأحكام القرآن ، 4/ 215 .
(31) متفق عليه . أخرجه البخاري (الفتح ، 1/ 85 ، ط السلفية) . وأخرجه مسلم (4/ 2213 - 2214 ، ط الحلبي) بلفظ مقارب .
(32) أي أن التالي هو نص في الدلالة عليه . فهو أقوى دلالة من سابقه .
(33) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، برقم (17570) ، والترمذيّ في جامعه ، برقم (2247) ، عن سعيد أبي الْبَخْتريّ الطائيّ ، عن أبي كبشة الأنصاريّ رضي الله عنه. وقال حسن صحيح . وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (41) ، وفي صحيح الجامع الصغير برقم (٣٠٢٤) .
(34) هو: القاضي محمد بن الطيب ، أبو بكر الباقلاني البصري ، شيخ السنة ولسان الأمة . المتوفى 403 هجرية.
(35) أنظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ،٤/ ٢١٥، تفسير سورة آل عمران ، من الآية ( ٣ - ١٣٦) .
(36) أنظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين 1/ 86 ، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
(37) أنظر: مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين ، تعريف النية بالعزم والقصد ، ص 34 .
(38) أنظر: مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين ، للدكتور عمر سليمان الأشقر ، ص 141 .
(39) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير، 6/ 185 .
(40) أنظر: فتح الباري ، 4/ 219 .
(41) أنظر المقاصد الحسنة ، 1/ 702 .
(42) أنظر: فيض القدير، 4/ 239 .
(43) أنظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، لابن عبد البر، 12/ 265 .
(44) أنظر: على في محرك البحث الحاسوبي ( GOOgle) ، بموقع مداد ، تخريج حديث " نية المرء خير من عمله ".
(45) أنظر: التمهيد ، 12/ 265 .
(46) أنظر: فيض القدير ، 4/ 239 و 240، بتصرف.
(47) انظر: المجتبى . باب ما سمع من النبي صلى آله عليه وسلم ولم يسمع من غيره قبله ، ص 11 .
(48) أنظر: الجمع بين الصحيحين ، للحميدي ، برقم (2903) ، 410/3.
(49) المصدر السابق ، برقم (2062) .
(50) أنظر: الإفصاح عن معاني الصحاح ، مسند أنس ابن مالك رضي الله عنه ، (5/ 308) ، حديث رقم (1733) .
(51) الآية ، 261 ، البقرة .
(52) أنظر فيض القدير، 4/ 239 و240 ، بتصرف .
(53) المصدر السابق .
(54) أنظر: جامع العلوم والحكم ، لابن رجب الحنبلي ، ص (10) .
(55) أنظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد بن حنبل ، الأدب والزهد .
(56) أي : لو رجع عن نيته الصوم ، وأراد أن يفطر ذلك اليوم .
(57) أنظر: فتح المنعم شرح صحيح مسلم ، 311 ، باب فضل الصيام والتطوع به ، 5/ 18 .
(58) أنظر: شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي ، 1/ 33 . والحديث رواه الترمذي في سننه، وأحمد في مسنده ، والحاكم في المستدرك وصححه . وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير، برقم (3854) ، 1/ 355 .
(59) متفق عليه . أنظر: الجمع بين الصحيحين للأشبيلي ، باب بيع الخيار، 2/ 490 .
(60) الآية 25 ، الإسراء .
(61) أي في الوالدين .
(62) أنظر: جامع البيان ، 17/ 421 .
(63) الجامع لأحكام القرآن ، 10/ 246 .
(64) أنظر: شرح السيوطي على النسائي ، 1/ 19 . ومقاصد المكلفين ، للدكتور عمر الأشقر ، ص 100 .