المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سورة الرحمن:(العلم، والعدل) / أ.د. عثمان قدري مكانسي


Nabil
2024-10-07, 04:59 PM
سورة الرحمن:
(العلم، والعدل)*

أ.د. عثمان قدري مكانسي


بَدأ سبحانه وتعالى سورة الرحمن بكلمة { الرَّحْمَٰنُ (1)} ، فشدَّ الانتباه، إلى وقعها المَهيب وأثرها فيما يليها، فإذا بالعلم يتلوها لعظيم أهميته ، ولقد عَلِمنا أن أول كلمة في أول آية في أول سورة تنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي كلمة { { اقْرَأْ ...} قراءة يريدها الرحمن { ... بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [العلق]، فذكّرنا في أول سورة الرحمن بالقرآن ،ووجوب تعلمه ودراسته والعلم به ،ثم العمل بمقتضاه { عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}.
وأول من يجب عليه العلمُ بالقرآن الإنسانُ { خَلَقَ الْإِنسَانَ (3)} لأنه المخلوق الذي { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}،واللهُ سبحانه في هذه السورة ذكر الحسابَ الدقيق المؤدي إلى العلم الحقيقي المفيد للحياة الإنسانية الحقة القائمة على العدل، فـ { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)} لا يطغى أحدُهما على الآخر،فما ينبغي أن يكون التعلم للعلم دون العمل به ،فلا بد من الحساب الدقيق { بِحُسْبَانٍ }، الذي لا يصل إليه أنصاف المتعلمين المهتمين بالقشور دون اللُّباب ،لا بد من الغوص في الحقائق ، ولا يصل إليها إلا الحاذق المتمكن.
وكلمة ( حسبان ) يقصد بها العدلُ، فخلق السماءَ وجعل أساسها العدل { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} إنَّ العدل أساس الملك ورائعة الحياة الطيبة، فلمّا كتب الله تعالى على نفسه العدلَ في خلقه السماءَ أمرنا بالعدل تأسيا به سبحانه ،فقال { أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)} إن الطغيان جورٌ وظلمٌ لا تستقيم الحياة بهما ابداً،فكان أول من يستظل بعرش الرحمن ( إمامٌ عادل) بِعَدلِه ينتشر الأمن والأمان في الأرض، ويحيا به الناس في سعادة وهناء.
{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ... ‎(9)} والإقامة تدل على الثبات على الأمر والاهتمام به،وبذلِ الجهد في تحقيقه، فلم يقل صلّوا ،إنما قال { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وقال { ... وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه] . وقد قال في قصة أهل الكهف { ... إِذْ قَامُوا فَقَالُوا ... (14)} [الكهف] ولم يقل: قالوا وحدَها .والإقامة والقيام دليل العزم والإصرارعلى ما آمنوا به.
والوزن أداء الحقوق بالعدل ، فلا إجحاف بالحقوق ولا هضم لها،إنما العدلُ وتحرّيه،وما رُفِعَتِ السماءُ إلا بتحقيق العدل، ولا سعِدَتِ الأرضُ إلا به. والقسط هو العدل ذاته ، وما أروع العربية في أداء المعاني المختلفة -مثيلها أو عكسها- بزيادة حرف أو نقصانه، فـ(القاسط) بزيادة الألف ظالم { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ‎(15)} [الجن] وترى المُقسط عادلاً { ... وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحُجُرات]،ومن العدل أن تعطي كل ذي حق حقَّه، وغير ذلك يؤدي إلى ضياع الحقوق وتبديدها ، قال تعالى :{ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} فالتطفيفُ والإنقاصُ إفراط وتفريط، { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ‎(1)‏ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ‎(2)‏ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ‎(3)} [المطففين] كالمنشار الذي يأكل في حركتيه ذَهاباً وإياباً.
وما وَضَع الله تعالى الأرض للأنام إلا للاختبار والامتحان، وإقامة العدل والعمل به ، وتحقيقه بين الناس جميعاً والدفاع عنه .والناس بين ملتزمٍ بالقسط يحبهم الله تعالى ويرضى عنهم، ويجزيهم جنته ،فتُكتب لهم السعادة الدائمة ،ومضيّعٍ للحقوق آكلٍ لها ،فهم حطبُ جهنَّمَ هم لها واردون.

* بتصرف بسيط