مشاهدة النسخة كاملة : الحجة الدامغة في إثبات النبوة الخاتمة دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
عارف الشمري
2011-04-02, 09:47 PM
الأدب القرأنى و أثره النفسى الباهر:-
إن أسلوب القرأن الأدبى له أثر عظيم فى النفوس، كما أن القرأن إمتاز بالمعالجة النفسية لكل ما يطرحه من قضايا ،إذ بلغ القمة فى التصوير الفنى، و الإفحام فى قوة و أدب الحجاج، و الإبهار فى تناول الطباع النفسية الأصيلة و المتباينة فى النماذج البشرية، و الذروة فى نظم قصصه و عرض تشريعاته و إحكام ألفاظه و فواصله...الخ
و لنعرض ذلك مستعينين بالله متوكلين عليه سبحانه
الإبداع التصويرى و التمثيلى :
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله فى كتابه القيم (التصوير الفنى فى القرأن) ما إختصاره:
[التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن إذ يبدع التعبير بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة , أو الحركة المتجددة . فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة ؛ وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد ؛ وإذا النموذج الإنساني شاخص حي , وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية
فأما الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر يردها شاخصة حاضرة ؛ فيها الحياة ..... فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين إلى مسرح الحوادث , الذي وقعت فيه أو ستقع ؛ حيث تتوالى المناظر , وتتجدد الحركات ؛ وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى , ومثل يضرب ؛ ويتخيل أنه منظر يعرض , وحادث يقع ..... إنها الحياة هنا , وليست حكاية الحياة ]
من روائع إخراج المعانى الذهنية في صورة حسية :
* تأمل قوله تعالى ((مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ))
يصور القرأن العظيم عمل الإنسان الكافر بالرماد و هو ما يبقى من المواد بعد احتراقها، و لو وقف عند هذا الحد لكان كافياً فى بيان الخسران فكل ما يفعله الإنسان الكافر من الصالحات بغير إبتغاء وجه الله لن يراه إلا مشوهاً محروقاً أسوداً دميماً كريهاً لا قيمة له، و مع ذلك إنتقل لمرحلة أخرى إذ جاءت هذا الرماد ريح، و أقل ريح قادرة على أن تنثره و تضيعه أكثر، و مع ذلك وصف هذه الريح بأنها شديدة توكيداً للضياع ، و لم يقف عند هذا بل وصف اليوم الذى جاء فيه هذا الريح الشديد باليوم عاصف، فتأمل روعة التصوير و أثره البيانى لحال الخسران و الندم و الضياع
* و تدبر قوله سبحانه ((لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ))
يريد تعالى أن يبرز حقيقة أنه وحده يستجيب لمن يدعوه , وينيله ما يرجوه ؛ وأن الآلهة التي يدعونها مع الله لا تملك لهم شيئا , ولا تنيلهم خيرا , ولو كان الخير قريبا ؛ فيصور لهذا المعنى هذه الصورة العجيبة وهي صورة تلح على الحس والوجدان , وتجتذب إليها الالتفات , فلا يستطيع أن يتحول عنها إلا بجهد ومشقة ؛ وهي من أعجب الصور التي تستطيع أن ترسمها الألفاظ : شخص حي شاخص , باسط كفيه إلى الماء , والماء منه قريب , يريد أن يُبلغه فاه , ولكنه لا يستطيع , ولو مدّ مدّة فربما استطاع ! .
* و تأمل قوله تعالى (( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ))
يشير سبحانه بهذا التصوير إلى حقيقة المشرك، إذ لا مَنبت له ولا جذور , ولا بقاء له ولا استقرار ,، فيمثل لهذا المعنى بصورة سريعة الخطوات , عنيفة الحركات :
هكذا في ومضة . يخر من السماء من حيث لا يدري أحد , فلا يستقر على الأرض لحظة . إن الطير لتخطفه . أو إن الريح لتهوي به .. وتهوي به في مكان سحيق ! حيث لا يدري أحد كذلك ! وذلك هو المقصود .
*و تأمل قوله تعالى ((قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ))
يحكى سبحانه دعوة المؤمنين أن يرزقهم الصبر و الثبات، و صور الصبر و كأنه ماء بارد يفرغ عليهم أى يصب برفق و تأنى ـ كما أن في الدعاء إستجلاب أقصى ما تحتاجه النفس البشرية من الصبر
*و تأمل فى المقابل قوله تعالى ((فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ)) يتكلم سبحانه ههنا عن الكافرين و عقابهم، و إعتبر العقاب مادة تصب أيضاً لكنه ما قال فأفرغ عليهم، و إنما قال فصب عليهم، لأن العذاب كان يتنزل بشدة و سرعة بلا رأفة أو تأنى فكان يصب صباً،و لهذا وصف العذاب بأنه (سوط عذاب) لأن ضربة السوط تمتاز بالإندفاع فى الحركة و الشدة فى الوقع .
من روائع تصوير الحوادث الماضية :
تأمل قوله تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً . إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً ))
يصور سبحانه حال يوم الأحزب، فهؤلاء هم الأعداء تكالبوا على المؤمنين من كل مكان عدواناً و خيانةً .
و هؤلاء هم المؤمنون إذ الأبصار زائغة و القلوب خافقة حتى يُرى نبضها فى الأعناق . و الوساوس تسرى فى النفوس، هنالك كان البلاء العظيم و الزلزال الشديد .
وهؤلاء هم المنافقون ينبعثون بالفتنة والتخذيل يقولون ( ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) ويقولون لأهل المدينة ( لا بقاء لكم هنا ، ارجعوا إلى بيوتكم فهي في خطر ).
وهؤلاء هم جماعة من ضعاف القلوب يقولون إن بيوتنا مكشوفة , وليست في حقيقتها مكشوفة (إن يريدون إلا فرارا )
وهكذا لا تفلت في الموقف حركة ولا سمة , إلا وهي مسجلة ظاهرة , كأنها شاخصة حاضرة .. فصور بديع السموات و الأرض مشهداً كاملاً لا يُفلت حركة ولا سمة , إلا وهي مسجلة ظاهرة، فتبرز فيه أحوال الظواهر و البواطن, وتلتقي فيه الصورة الحسية بالصورة النفسية ...دون أن يغفل منه قليل أو كثير .
*و تأمل قوله تعالى (( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا .... ))
فصور المجاهدين و هم يحسون الكفار أى يقتلونهم تقتيلاً،إلى أن فشلوا فى الطاعة و تنازعوا فى تنفيذ أمر الرسول ، فعصوه بعدما رأوا ما يحبون من فرار المشركين و تناثر الغنائم ، و ذلك تصوير حى للمشهد الحسى.
ثم إنتقل الى كشف النوايا و إظهار البواطن (منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الاخرة) حتى قال إبن مسعود و الله ما علمت أن فينا من يريد الدنيا قبل هذه الأية!
ثم إنتقل لبيان حكمة تقدير التنازع و المعصية و هى الإبتلاء بالخيرات و الشرور ( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم).
ثم عاد يفصل المشهد الحسى ببراعة، (إذ تصعدون) تهربون فى كل مكان ( ولا تلوون على أحد) لا تلتفتون من سرعة الإندفاع ( و الرسول يدعوكم فى أخراكم) و هذا رسول الله يدعو المؤمنين للثبات و قد صار خلفهم بسبب سرعة إدبارهم و ثباته هو فى أرض المعركة .
ثم إنتقل لوصف حالتهم النفسية( فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ) ثم انزل من بعد الغم ( أمنه نعاساً) فصور النوم كأنه هبة مادية نزلت عليهم من السماء
ثم عاد ليكشف نفسية بعض المتذبذبين(وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)
ثم يحكى الحديث الخفى بينهم (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) فيبادرهم بالإجابة (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)
ثم يحكى قولاً أخر مما أخفوه (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) فيأتى الرد سريعاً من الله تعالى أمراً رسوله (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)
فرسخ فى الجواب عقيد سليمة فى قدر الله القدير خيره و شره، لذا ختمها مبيناً حكمة ما وقع ( وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)
فما هذا التصوير المبهر الذى يصف المعركة بأوجز ألفاظ كأننا فى ساحتها ،و يصف النيات و يصف النفوس و تقلباتها، و يصف الحديث الخفى بين البعض و حديث أنفسهم، بل و يجيب عليه و يجلى حكمته ؟
من روائع تصوير مشاهد القيامة :
*تأمل قوله تعالى (( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ. مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ))
فهذا مشهد من مشاهد الحشر , مختصر سريع ؛ ولكنه شاخص متحرك . مكتمل السمات والحركات .
هذه جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة , كأنها جراد منتشر ( ومشهد الجراد المعهود حيث يطير كثيفاً سريعاً مزغللاً للعين يجسد صورة هذا المنظر العجيب )
وهذه الجموع تسرع في سيرها نحو الداعي , دون أن تعرف لمَ يدعوها فهى فى صدمة و موقف غريب منكر بل بالغ النكارة لهم فهو (نُكر) لا تدريه .
( خشعا أبصارهم ) وهذا يكمل الصورة ؛ ويمنحها السمة الأخيرة .
وفي أثناء هذا التجمع والإسراع والخشوع ( يقول الكافرون هذا يوم عسر ) فماذا بقي من المشهد لم يشخص بعد هذه الفقرات القصار ؟ وإن السامعين ليتخيلون اليوم النكر . فإذا هو حشد من الصور .
* و تأمل قوله (( فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازََ .....)) والآية (( وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ .... ))
فلفظة الزحزحة ذاتها تخيل حركتها المعهودة وهذه الحركة تخيل الموقف على شفا النار , ماثلا للخيال والأبصار !
و تدبر قوله تعالى (( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ))
مشهد آخر من مشاهد الإسراع والخشوع , أشد في النفس هولاً وأكمد في التصوير لونا ، يصور أربعة مشاهد لرواية واحدة , يتلو بعضها بعضا في الاستعراض , فتتم بها صورة شاخصة في الخيال , وهي صورة فريدة للفزع والخجل والرهبة والاستسلام , يجللها ظل كئيب ساهم , يكمد الأنفاس !
و تأمل قوله تعالى (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ))
إنها صورة الهول العظمى , التي لا تغني الألفاظ عنها , فلننقلها لتعبر عن نفسها : مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت , تنظر ولا ترى , وتتحرك ولا تعي , وبكل حامل تسقط حملها , للهول المروع ينتابها ؛ وبالناس سكارى وما هم بسكارى يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة , وفي خطواتهم المترنحة . مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج , تكاد العين تبصره بينما الخيال يتملاه , والهول الشاخص يذهله , فلا يكاد يبلغ أقصاه ..أهـ
حتى فى إختيار أصناف الناس لوصف المشهد ، تمعن يا رعاك الله فى حكمة البارى أن تصدر الموقف بحال الأم المرضعة، إذ لا علاقة إنسانية أقوى من علاقة الأم برضيعها و لو واجهت الموت و رأته رأى العين لبذلت نفسها فى سبيل إنقاذ رضيعها، و مع ذلك تتركه يوم النشور و تذهل عنه و تنشغل بنفسها فمصائب الدنيا كافة لا تقارن ساعة من أهوال البعث و القيامة
* و تأمل قوله تعالى (( هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ))
فها نحن أولاء أمام مشهد لجماعة كانت في الدنيا متوادة متحابة , وهي يوم الحشر متناكرة متدابرة , كان بعضهم يملي لبعض في الضلال ؛ وكان بعضهم يتعالى على المؤمنين , ويهزأ من دعواهم في نعيم الآخرة .
هاهم أولاء يقتحمون النار فوجا بعد فوج , هذا هو الفوج الأول يُنقل إليه نبأ اقتحام الفوج الثاني ( هذا فوج مقتحم معكم " فماذا يكون الجواب ؟ يكون ( لامرحبا بهم , إنهم صالوا النار )! فهل يسكت المشتومون ؟ كلا ! فها هم أولاء يردون ( قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم . أنتم قدمتموه لنا , فبئس القرار )! وإذا دعوة جامعة حزينة ( قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار ) ! ثم ماذا ؟ ثم ها هم أولاء يفتقدون المؤمنين , الذين كانوا يتعالون عليهم في الدنيا وظنون بهم شرا , فلا يرونهم معهم مقتحمين، فيتسائلون فى صدمة، أكنا نسخر من اهل الحق، أم زاغت أعيننا فى الجحيم عنهم فننظر يميناً و يساراً بفزع فلا نجدهم (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ . أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ . إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)
إننا لنشهد اليوم هذا التخاصم كما لو كان حاضرا في العيان ! وإن كل نفس آدمية لتحس في حناياها وقع هذا المشهد وتتقيه , وتحاذر – لو ينفع الحذر – أن تقع فيه !
فما أعظم تصوير هول الساعة ، يوم فرار المرء من أخيه وأمه وأبيه , وفصيلته التي تؤويه . حيث يكون ((لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )) فهذا تصوير يقاس بأثره في النفس الإنسانية لا بالمقاييس الأخرى الوصفية .
*وآلام العذاب الشديد في الآخرة , تبدو من خلال صرخات إنسانية , تلقي ظلها من خلال التعبير (( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ )) (( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا))
* ووخزات الخزي في هذا اليوم , لا توصف بالألفاظ , ولكن تبرز من وسط آدمي حي (( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ))
* يوم الحساب لقد تناكر الأصفياء . وتنابز الأولياء , وتخلى المتبوعون عن التابعين حينما شاهدوا الهول يوم الدين . و عبرت أيات الفرقان عن هذا كله، بإستعراض مذهل مفعم بالحياة : ((وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ . وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))
ففي هذا الاستعراض يتجسم للخيال مشهد من ثلاث فرق :
الضعفاء . الذين كانوا ذيولا للأقوياء وهم ما يزالون في ضعفهم , وقصر عقولهم , وخور نفوسهم . يلجأون إلى الذين استكبروا في الدنيا , يسألونهم الخلاص من هذا الموقف , ويعتبون عليهم إغواءهم في الحياة ؛ متمشين في هذا مع طبيعتهم الهزيلة وضعفهم المعروف .
والذين استكبروا . وقد ذلت كبرياؤهم , وواجهوا مصيرهم . وهم ضيقو الصدور بهؤلاء الضعفاء , الذين لا يكفيهم ما يرونهم فيه من ذلة وعذاب , فيسألونهم الخلاص , وهم لا يملكون لذات أنفسهم خلاصا , أو يذكرونهم بجريمة إغوائهم لهم حيث لا تنفع الذكرى . فما يزيدون على أن يقولوا لهم في سأم وضيق : " لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ " .
والشيطان . بكل ما في شخصيته من مراوغة ومغالطة , واستهتار وتبجح . ومكر " وشيطنة " . يقف وسط الجحيم يخطب فى أتباعه ،فإذا به بعترف – الآن فقط – بأن الله وعدهم وعد الحق , وأنه هو وعدهم فأخلفهم . ثم يمضهم ويؤلمهم , وهو ينفض يديه من تبعاتهم : " وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم " .
لا بل يزيد في تبجحه , فيقول : " إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ " . حقا . إنه لشيطان !
وإن هذا لإبداع في تصوير الموقف الفريد , الذي يتخلى فيه التابع عن المتبوع , ويتنكر المتبوع للتابع . حيث لا يجدي أحدا منهم أن يتخلى أو يستمسك ؛ ولكنها طبيعة كل فريق , تبرز عارية أمام الهول العظيم .
من روائع تصوير الجمادات كأنها حية :
إنه لون من ألوان " التخييل " يتمثل في خلع الحياة على المواد الجامدة , والظواهر الطبيعية , والانفعالات الوجدانية . وتجعل الإنسان يحس الحياة في كل شيء تقع عليه العين , أو يتلبس به الحس , فيأنس بهذا الوجود أو يرهبه , في توفز وحساسية وإرهاف .
*فهاهو الصبح يتنفس (( والصبح إذا تنفس ))
فيخيل إليك بهذا التعبير الحياة الوديعة التي تنفرج عنها ثناياه , وهو يتنفس , فتتنفس معه الحياة , ويدب النشاط في الأحياء , على وجه الأرض والسماء .
*و هاهو الليل يسرى ((والليل إذا يسر )) فتشعر بسريانه في هذا الكون العريض , وتأنس بهذا الساري على هينة واتئاد !
*و هاهى الرياح لواقح ((وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ)) إذ تحمل ماء المطر أو طلع النخيل متنقلة من ذكورها إلى إناثها، فأكسبها هذا التعبير حياة حيوانبة تلقح و تنتج
- و لما ذكرها سبحانه فى سياق العذاب وصفها بالعقم ((وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)) إذ لا تحمل خيراً فى ذاتها ولا لغيرها، بل تدمر الحياة و تقطع دابر من أصابتهم و تبترهم
*و هاهو الجدار له إرادة ((َوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ)) فصور الجدار و هو متصدع يكاد يهوى كأنه كائن حى له إرادة و إرداته أن يسقط على الأرض....
بل و من العلما من استدل بذلك على اثبات ارادة خاصة بالجمادات، كما أن السماوات و الأرض خاطبتا ربهما و اختارتا الإتيان طوعاً
*وهذا هو الغضب , أو هذا هو الروع , أو هذه هي البشرى , تهيج وتسكن , وتوحي وتسكت ؛ وتجيء وتذهب (( وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ .... )) . (( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ))
*و هذه الجبال يوم القيامة حية ترجف كالأدميين(( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً ))
*و ها هى السماء المنفطرة بجوارها الأطفال الشيب ... ((فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً . السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ... ))
* وهذه جهنم . جهنم النهمة المتغيظة التي لا يفلت منها أحد , ولا تشبع بأحد ! (( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ))
جهنم التي ترى المجرمين من بعيد فتتغيظ وتفور ((إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ . تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ .... )) .
جهنم التي تدعو من كانوا يُدعون إلى الهدى ويدبرون وهم لدعوتها على الرغم منهم يجيبون (( كَلَّا إِنَّهَا لَظَى . نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى . تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى . وَجَمَعَ فَأَوْعَى))
*وهذا هو الظل الذي يلجأ إليه المجرمون (( وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ . لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ))
ففي نفسه كزازة وضيق , لا يحسن استقبالهم , ولا يهش لهم هشاشة الكريم , فهو ليس " لا بارد " فقط , ولكن كذلك " ولا كريم " !
من روائع تجسيم معانى عقلية ومعنوية :
الذي نعنيه هنا بالتجسيم , ليس هو التشبيه بمحسوس . فهذا كثير معتاد , إنما نعني لونا جديدا هو تجسيم المعنويات , لا على وجه التشبيه والتمثيل , بل على وجه التصيير والتحويل .
* تأمل قوله (( وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ))
يتناول حالة التضايق والضجر والحرج التى هى نفسية معنوية فيجسمها كحركة جثمانية ، فالأرض تضيق عليهم , ونفوسهم تضيق بهم كما تضيق الأرض ؛ فيستحيل الضيق المعنوي ضيقا حسيا أوضح وأوقع ؛ فمن ضاقت به نفسه أين يذهب منها؟ لا سبيل إلا باللجوء إلى خالقها ذاته، فأيقنوا ألا ملجأ ومنجى من الله إلا إليه، فلا راحة و إنشراح إلا برحمة الفتاح
*و تدبر قوله (( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً)) و (( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )) و ((إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ))
فانظر كيف يصف سبحانه حالة عقلية أو معنوية ؛ وهي حالة من لم يستفد بما سمعه من الهدى .. فيجعل كأنما هناك حواجز مادية تفصل بينه وبينه فتغطى العين و السمع و تغلق القلب!
*و تدبر قوله (( كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً))
. فهذا السواد الذي أصاب وجوههم ليس لونا ولا صبغة , وإنما هو قطعة من الليل المظلم ، و كأن رب العزة أحال سواد الليل قطعاً قطعاً تغشى وجوه الكافرين مادياً كل له قطعته !
*و تدبر قوله (( ومن ورائهم عذاب غليظ ))
- و قوله (( ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ))
فينتقل العذاب من معنى مجرد إلى شيء ذي غلظ وسمك ؛ وينتقل اليوم من زمن لا يمسك إلى شيء ذو كثافة ووزن !
*وقوله (( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثا)). لبيان العبث في نقض العهد بعد المعاهدة .
* ومثل (( وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً )). لتفظيع الغيبة , حتى لكأنما يأكل الأخ لحم أخيه الميت !
* و تدبر قوله تعالى (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ))
أنظر كيف جعل الحق و الباطل كأنهما جسدان حيان يعقلان و يتصارعان، فانقض الحق على الباطل بإذن الله حتى أصابه فى دماغه بالضربة بالقاضية، فاندحر الباطل يقعقع و زهقت روحه!!
- و شبيه هذا قوله(( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)) و (( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )) و قوله ((ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ )) و قوله ((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ))
فكأنما الرعب قذيفة سريعة تنفذ في القلوب لفورها . وكأنما العداوة والبغضاء مادة ثقيلة , تلقى بينهم , فتبقى إلى يوم القيامة . وكأنما السكينة مادة مثبتة تنزل على رسول الله وعلى المؤمنين . وكأنما للذل جناح يخفض من الرحمة بالوالدين .
وفي كل مثال من هذه يجتمع التجسيم مع التخييل بحركة هذا الجسم المفروضة .
* و تدبر قوله (( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته )) و ( ألا في الفتنة سقطوا ))
فبعد أن تصبح الخطيئة شيئا ماديا , تتحرك حركة الإحاطة , وبعد أن تصبح الفتنة لجة , يتحركون هم بالسقوط فيها .
* و تدبر قوله تعالى (( ولا تلبسوا الحق بالباطل)) . و(( فاصدع بما تؤمر ))
. ففي المثال الأول يصبح الحق والباطل مادتين تستر إحداهما بالأخرى . وفي المثال الثاني يصبح ما أمر به مادة يشق بها ويصدع , دلالة على القوة والنفاذ .
* و تدبر قوله تعالى (( وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ )) فإن كلمتي [تتبعوا , وخطوات] تخيلان حركة خاصة , هي حركة الشيطان يخطو والناس وراءه يتبعون خطواته . وهي صورة حين تجسم هكذا تبدو عجيبة من الآدميين , وبينهم وبين الشيطان الذي يسيرون وراءه , ما أخرج أباهم من الجنة !
و فيها حكمة تحذيرية أن الشيطان يستدرك الناس خطوة خطوة حتى يصل بهم إلى فعل ما لم يظنوأ أنهم يفعلوه يوماً!
* و تأمل قوله تعالى ((وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ))
فحركة الاشتعال هنا تخيل للشيب في الرأس حركة كحركة اشتعال النار في الهشيم , فيها حياة وجمال لما من شأنه السكون!
و فضل " اشتعل " لما استعير للشيب لأنه يفيد الشمول بجانب لمعان الشيب في الرأس, وأنه قد شاع فيه وأخذه من نواحيه حتى لم يبق من السواد شيء , أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به.
إن الجمال في [ اشتعل الرأس شيبا ]. [ وفجرنا الأرض عيونا ] يقع فى النظم ، و كذلك فى الحركة التخييلية السريعة , التي يصورها التعبير ، حركة الاشتعال التي تتناول الرأس في لحظة , وحركة التفجير التي تفور بها الأرض في ومضة
و من روائع تصويرالقصص :
تدبر ما يقصه تعالى من خبر أصحاب الجنة:
(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ . وَلا يَسْتَثْنُونَ )
ها نحن أمام أصحاب جنة أرضية و كان للفقراء حظ من ثمر هذه الجنة , ولكن الورثة لا يشاءون ، فأقسموا ليصرمنها أى يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر , دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين ،
ولكن فلننظر ماذا وقع في بهمة الليل حيث يختفون هم؟ هناك مفاجأة تتم خلسة , وحركة خفية كحركة الأشباح في الظلام ! ( فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون , فأصبحت كالصريم وهم لا يشعرون )
والآن ها هم أولاء يتصايحون مبكرين ! وهم لا يدرون ماذا أصاب جنتهم في الظلام ( فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ، فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ. أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ )
ولا يزال أصحاب الجنة على جهلهم بما وقع ، و هاهم يتنادون متخافتين لينفذوا المؤامرة , خشية أن يدخلها عليهم مسكين !
(وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ )
يحسبون إنهم قادرون على (حرد) أى المنع والحرمان، و لكن لنرى من المحروم الحقيقى!
ثم وصلو الجنة فتافجئو و صعقوا و لم يصدقو حتى قالوا( إنا لضالون ) لقد تهنا عن مكان الجنة، ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار ! .. فلتتأكدوا !
(بل نحن محرومون ) حتى استوعبوا الصدمة فاعترفوا أنهم هم المحرومون جزاءً من الله لظلمهم.
والآن قد سقط في أيديهم ( قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون )! ألم أقل لكم اتقوا الله و اقدرو قدره لأنه يراقب ظلمكم؟ ( قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين ) الآن وبعد فوات الأوان ! .
وكما يتنصل كل شريك من التبعة عندما تسوء العاقبة , ويتوجه باللوم إلى الآخرين , ها هم أولاء يصنعون ( فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون )
ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعا بالخطيئة , عسى أن يفيدهم الاعتراف الغفران , ويعوضهم من الجنة الضائعة جنة أخرى ( قالوا ياويلنا إنا كنا طاغين . عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها , إنا إلى ربنا راغبون )
* و تأمل قوله تعالى ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ))
يعرض سبحانه مشهدا من قصة إبراهيم , وهو يبني الكعبة مع ابنه إسماعيل ...و إنها لحركة عجيبة في الانتقال من الخبر إلى الدعاء , هي التي أحيت المشهد وردته حاضرا كأننا نشاهده .
فالخبر ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) كان هو اللمحة التى أظهرت المشهد كاملاً [ البيت , وإبراهيم وإسماعيل , يدعوان هذا الدعاء الطويل ]
وكم في الانتقال هنا من الحكاية إلى الدعاء من إعجاز فني بارز , يزيد وضوحا لو فرضت استمرار الحكاية , ورأيت كم كانت الصورة تنقص لو قيل (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان : ربنا ... إلخ ) إنها في هذه الصورة حكاية , وفي الصورة القرآنية حياة . وهذا هو الفارق الكبير . إن الحياة في النص لتثب متحركة حاضرة . وسر الحركة كله في حذف لفظة واحدة .. وذلك هو الإعجاز .
* ولنتدبر مشهداً من قصة الطوفان (( وهي تجري بهم في موج كالجبال )) وفي هذه اللحظة الرهيبة , تتنبه في نوح عاطفة الأبوة , فإن هناك إبنا له لم يؤمن , وإنه ليعلم أنه مُغرق مع المغرقين . ولكن ها هو ذا الموج يطغى , ويروح في لهفة وضراعة ينادي إبنه جاهرا (( ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا , ولا تكن مع الكافرين )) ولكن البنوة العاقة لا تحفل هذه الضراعة ؛ والفتوة العاتية لا ترى الخلاص إلا في فتوتها (( قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء )) ثم ها هي ذي الأبوة الملهوفة ترسل النداء الأخير (( قال لاعاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم )) وفي لحظة تتغير صفحة الموقف , فها هي ذي الموجة العاتية تبتلع كل شيئ ((وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ))
إن السامع ليمسك أنفاسه في هذه اللحظات القصار و هى يشاهد هول الطوفان ؛ " وهي تجري بهم في موج كالجبال " وصورة والد و ودله ، الوالد الملهوف على فلذة كبده يبعث بالنداء تلو النداء ؛ و الإبن الضال , يأبى إجابة الدعاء ، ينظر مدبراً إلى جبل يستميت ليدركه، فإذا بالموجة القوية العاتية تخلق حاجزاً بين الأب و إبنه فتبتلع الإبن العاق و تحسم الموقف في لحظة سريعة خاطفة .
صورة كما يقاس بمداه في الطبيعة – حيث يطغى الموج على الذرى والوديان . وإنهما لمتكافئان , في الطبيعة الصامتة , وفي نفس الإنسان .
و سوف يأتى الكلام عن روائع قصص القرأن فى فصل مستقل بإذن الله تعالى...
يتبع إن شاء الله...
عارف الشمري
2011-04-02, 09:49 PM
* و من الإبداع النفسى فى القرأن تناوله النفس الإنسانية بأعماقها السحيقة و أقسامها العديدة
فها هو يقسمها تقسيم بديع إلى (نفس أمارة بالسوء) و هذا أصلها دون ترويض الوحى
و (نفس لوامة) و هى نفس فى صراع بين الهوى الذى يغريها و الوحى الذى يهديها
و (نفس مطمئنة) و هى النفس التى تزكت و تعطرت، و من الهوى تحررت
و بموجب هذا نجد النص القرأنى عندما يعبر عن البشرى بلفظ (الإنسان) يقصد به الأدمى على أصل طباعه غير المزكاة بالوحى
(َولَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ) ( إنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).. (َخلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) ...(وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) (َكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً)...(وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ)...(فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ)... (إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ)...(بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)... (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)و الأيات فى ذلك كثيرة، فهذا هو أصل إبن أدم أما إن تزكى بالوحى فلا يلقب فى القرأن بالإنسان و إنما بالمؤمن ، و هذا من لطائف التلميح لتركيب البشر ، و حاجتهم إلى الوحى ، و لهذا يقول تعالى
((لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ))
* و صور القرآن أيضاً ألواناً من النماذج الإنسانية و الخوالج النفسانية والعواطف البشرية كالحب والكره الخوف و الرجاء و الرحمة و القسوة و الحقد والغيرة والحسد والوسوسة و الشك و اليقين و التواضع و المكابرة و البصيرة و الغفلة...إلخ
و لم يكتفى القرأن ببيان هذه الأمور بل أبرزها فى صورة حية متحركة دقيقة الملامح والقسمات صادقة الدلالة قوية الإيحاء، و قد أبدع فى الكلام عنها الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى فى (التصوير الفنى)
من أمثله تصوير الحالات النفسية :
تأمل قوله تعالى (( قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا .... ))
يصور تعالى حال المشرك بعد التوحيد الممزق نفسياً بين الهدى والضلال ، فيصوره إنساناً تعيساً إستهوته الشياطين فى الأرض، و تأمل تعبير (استهوته الشياطين فى الأرض) و ما فيه من معانى الضلال و الفجور و الركون إلى الدنيا
و رغم ذلك فإن هذا الاستهواء لا يرتاح به و يسكن، و و إنما يتعذب ضميره بنداء الهادين " ائتنا ".
وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء " حيران " موزع القلب ، فهو قائم هناك شاخص متلفت معذب فعيشته ضنك رغم أنه أراد السعادة باتياع شياطين الهوى !
و تأمل كذلك قوله ( نرد على أعقابنا) فصور حال الإنسان المرتد بإنسان يسير إلى الخلف يتعثر و هو يرد على عقبه !
تدبر قوله تعالى ((أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ* َيكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))
يضرب القرآن مثلا للمنافقين بأسلوب أخَّاذ يعرض مشهدا حيّاً يرمز به إلى الحالة النفسية،،، و هذا المشهد بما يشيع فيه من حركات و تقلبات يصور واقعهم النفسي وتقلُّبهم بين الكفر والإيمان، ويبرز التناقض بين ما تقول ألسنتهم وما تضمر قلوبهم والاضطراب في حركاتهم متمثلا في التجائهم إلى النور ثم رجوعهم إلى الكفر ويا ليتهم يثبتون في منطقة ضوء الإيمان إذن لسعدوا بحلاوة اليقين، ولكن هذا التقلب المؤسف بين ظلمات الكفر وأنوار الإيمان هو الذي قادهم إلى مصيرهم الفاجع الأليم.
دقق البصر في قوله سبحانه: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أليس هذا الوصف تعبيرا عن الأطماع التي تحركهم؟ فهم يمشون كلما برقت لهم آمال مصالحهم، ويسيرون كلما لاحت أمامهم فرصة، فإذا انقطع المطمع وأظلمت الآفاق في وجوههم جلسوا متربصين
* و تدبر قوله تعالى (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ))
يصور سبحانه حال من هيأ له العلم و المعرفة بالله , ففر من هذا نور العلم كأن لم يتهيأ له أبداً
و تأمل قوله (فانسلخ) إذ صور العلم الذى يحمى الإنسان و يحيط به، بالجلد و الوبر الذى يحمى الشاة من الأذى و الألم و السقيع و هو من لوازمها الجسدية و الحياتية، إذا انسلخت منه قبحت و اضطربت حياتها
فلما انسلخ من أيات الله و صار بهذا الضعف و الإضطراب أتبعه الشيطان فغواه،و لو شاء الله لرفعه بالعلم و الإيمان، و لكنه اختار الدنو عن العلو فأخلد إلى الحياة الدنيا حيث تسوقه نفسه و وأهواؤه ,و تعبير (أخلد) يعكس قسوة القلب و طول الأمد الذى اغتر به ذلك الإنسان،
فمثله كمثل الكلب يلهث على كل أحواله ، كذلك حال هذا الإنسان فلا هو إستراح و قنع بالغفلة , ولا هو استراح و رقى بالمعرفة فما أبأسه من مثل و ما أروعه من تصوير!
و تدبر قوله تعالى (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ .... ))
يوضح ههنا حالة الإنسان متزعزع العقيدة , فلا يحتمل ما يصادفه من الشدائد بقلب راسخ !
و لننظر فى لفظ " حرف " و الحرف حافة الهاوية، فيصور لين العقيدة كإنسان واقف يصلى على طرف جبل لو تحرك طرف واحد سقط و هلك، فيتخيل الذهن الاضطراب الحسي في وقفته , وهو يتأرجح بين الثبات والانقلاب فى الهاوية،
القرأن العظيم يصور هذا التزعزع و الترنح بأبلغ صورة, لأنها تنطبع في الحس , وتتصل منه بالنفس .
* و تأمل قوله تعالى(( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ... ))
فالله تعالى يجرى هنا مقابلة بين عمل المؤمنين و عمل الكفار و المنافقين، فكلاهما يبنى،
و لكن المؤمن يبنى فى الدنيا و قلبه محب خائف راجى لربه فيكون عمله فيها إبتغاء مرضات الله و وقاية من غضبه و يعمرها بما ينفعه فى أخرته،
أما الكافر و المنافق فلا يبتغى بعمله وجه الله بل يصد عن سبيله، فمثله فى غفلته كشخص يبنى بناية على (شفا جرف هار) أى حافة رفيعة لبئر لم يبن بالحجارة فهو متصدع !
فانظر أرشدك الله كيف صور ضلال الكفر و عمى البصيرة
فالكافر فى غفلة إذ باع أخرته بعرض من الدنيا و طال به الأمل فى حياة زائلة قصيرة - و إن ظنها طويلة- بحيث لا يتخطى أمدها (شفا) يزل عنه الإنسان فى لحظة و مع ذلك لا يدرك هذه الحقيقة!
والكافر فى غفلة إذ يبنى و يجد و هو لا يدرك حقارة و تصدعات الأرض التى إعتمد عليها و اطمئن إليها (جرف هار)
ثم أكمل الحركة الأخيرة بقوله " فانهار به في نار جهنم " وبذلك طوى الحياة الدنيا كلها , و عبر ب (ف) بدلاً من (ثم)
و كذلك إستعمل كلمة (إنهار) تعبيراً عن سرعة إنطواء الحياة و إنقضائها، و تصويراً لحال الكافر الذى لم يقدم لأخرته فيكون موته إنهيار لأمله وظنونه و كيانه فى العذاب السحيق!
كما أن الإنهيار لو وقع فى حفرة عادية لكان عذاباً و ألماً فكيف و هى نار متأججة
و تدبر قوله تعالى ((فما لهم عن التذكرة معرضون* كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة ))
يصور سبحانه حالة الكافر الذى يضيق صدراً بالدعوة ولا يطيق أن يستمع للعظة أو التذكرة،و من روائع هذه الأيات:
أ- بلوغ الغاية فى جمال التصوير ،فما يتخيل العقل نفوراً أشد من نفور الحمر الوحشية تشرد فى الطبيعة بحياتهما من أمام هجوم الأسد الكاسر
ب- كشف نفسية الكافر الذى يحسب الدعوة خطراً على إستقرار حياته، و يحسبها شراً شئوماً مهلكاً فهى مشوهة فى عقله
جـ- بيان جهل الكافر بالدعوة التى يخشاها، و هذا نلمسه فى لفظ (قسورة) إذ هو من أسماء الأسود لكنه إسم غريب قليل الإستعمال و ان استعمل يستعمل معرفاً لا منكراً،فمجيئه منكراً غريب ليوحى بغربة الدعوة بين القلوب المظلمة
د- و كل ما سبق ساقه سبحانه فى سياق تتجلى منه السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدعون إلى الإيمان فالتعبير هنا يحرك مشاعر القارئ وتنفعل نفسه مع الصورة التي نُقلت إليه وفي ثناياها الاستهزاء بالمعرضين
و من أمثلة تصويرالنماذج الإنسانية:
تدبر قوله تعالى (( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ))
يبين ههنا حال الإنسان الذى لا يعرف ربه إلا في ساعة الضيق , حتى إذا جاءه الفرج نسي ربه المجيب ،و قد إجتمعت لهذا النموذج السريع كل عناصر الصدق النفسي , والتناسق الفني .
فالإنسان حين يمسه الضر , وتتعطل فيه دفعة الحياة , يقف مستبصراً , ويتذكر الخالق , ويلجأ عندئذ إليه ؛ فإذا انكشف الضر وزالت عوائق الحياة تزينت الدنيا فى عينيه فلبّى دعاءها المستجاب , و" مر " كأن لم يكن بالأمس شئ ! إن فتنة الحياة قوة دافعة إلى الأمام , لا تقف أبداً للتفكر , إلا حين يعوقها حاجز عن الجريان .
وأما التناسق الفني فيها فهو في تلك الإطالة في صور الدعوة عند الضر ( دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً) ثم في ذلكك الإسراع عند كشف الضر ( مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ "). إن هاتين الصورتين تمثلان بالضبط وقوف التيار عن الجريان أمام الحاجز القوي , فقد يطول هذا الوقوف ويطول ؛ فإذا فتح الحاجز تدفق التيار في سرعة , و" مر " كأن لم يقف قبل أصلا .
يُطرح هذا النموذج مرات كثيرة في القرآن , ولكنه يحاك من جوانب مختلفة، و تنوع فى التصوير البديع ،
و لنقرأ مثلاً قوله تعالى(( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ . فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... ))
أخذ لذلك الطبع البشرى صورة قوم ركبوا البحر، و تأمل كيف إنتقل من المخاطب (يسيركم) إلى الغائب فى قوله ( و جرين بهم) لأنهم عندما ركبوا في البحر وجرت بهم الفلك أصبحوا غائبين وليسوا مخاطبين، و هكذا يتسلل التعبير إلى نفس المستمع فيحيا المشهد و كأنه يراه و يتفاعل معه
ثم يكمل الصورة فتجرى سفينتهم بهم و جاءت ريح طيبة هادئة ففرحوا و قروا، لكن فجأة إذا بريح عاصف تهجم عليها، و الموج ينقض عليهم فيعلوهم يميناً و يساراً أمامهم و خلفهم، فتهتز السفينة به هزاً، و لاحظ سرعة تغير الموقف و عنصر المفاجأة فى قوله (وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ) و لم يقل ( ثم جائتها) فلما ظنوا انهم أحيط بهم أخلصت دعوتهم و تذللت قلوبهم لبارئها خوفاً و رجاءً ، فلما أنجاهم منها بنعمته إذا هم يبغون فى الأرض، و لفظة(إذا) تعكس أيضاً سرعة نسيان المحنة و الفضل، و إكتساء القلوب رداء القسوة و النكران
وهكذا تحيا الصورة وتتحرك , وتموج وتضطرب . وترتفع الأنفاس مع تماوج السفينة وتنخفض ؛ ثم تؤدي في النهاية ذلك المعنى المراد , أبلغ أداء وأوفاه
و سيأتى المزيد فى الكلام عن الإعجاز النفسى فى القرأن إن شاء الله تعالى
تدبر قوله تعالى (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ))
أبرز هنا نموذجاً لأناس ظاهرهم يُغري , وباطنهم يُؤذي . فلما صورهم إستعاض من الوصف الحركة والتصرف , وأبرز المفارقة بين الظاهر والباطن , في نسق من الصور المتحركة في النفس والخيال
و لقد صور القرآن عشرات من " النماذج الإنسانية " في سهولة ويسر واختصار , فما هي إلا جملة أو جملتان حتى يرتسم " النموذج الإنساني " شاخصاً من خلال اللمسات . وينتفض مخلوقا حيا خالد السمات !
و هى نماذج خالدة ,لا يخطئها الإنسان في كل مجتمع , وفي كل جيل .
فتدبر قوله تعالى ((وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ))
صور هنا صنف المنافقين الذين قد يغتر بهم العوام إذ يحاولون التأثير عليهم بتحرى فخامة المظهر الخارجى و انتحال الألقاب فهذا عميد الأدب وذاك المثقف الكبير....الخ
و يستعملون الكلام المزخرف ليستخفوا العقول، فيفضحهم القرأن و يحذر من الإغترار بهم، و يسخر منهم سخرية لاذعة
ونموذج أخر للنفاق و هو المنافق الضعيف , الذي لا يقوى على احتمال تبعة الرأي , ولا يسلم بالحق , وكل همه ألا يواجه البرهان (( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون )) وإنك لتكاد تراهم الآن , وهم ينصرفون متخافتين !
و تنبه للجناس المطرب بين قوله تعالى (انصرفوا) و (صرف الله)
و هذا من أرقى المحسنات اللفظية و سيأتى الكلام عنها فى بحث لاحق بإذن الله
ونموذج المكابرة العجيبة فى قوله ((وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ{14} لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ))
و نموذج النفسية اليهودية و ما شابهها، المميزة بالعنصرية التى لا تقبل الحق إلا عندها، فإن جاء من غيرها تنكرت له و هى تعلم
(( وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ...))
و هى نفسية دأبت على خيانة العهد و خلف الوعد
((أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ))
و نموذج النصارى الضالين و من شابههم فى الضلال ،فهم فى خيال ينافحون عنه و ينتصرون له ظانين أنهم مهتدون
((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً))
فهم أخسر الناس لأنهم عملوا و كدوا فى طريق لا يؤدى إلا لجهنم.
و شبيه هذا قوله تعالى
((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً ))
فهذه أخوف أية فى كتاب الله و كان عمر إبن الخطاب يتأولها على رهبان النصارى و يبكى حين قرائتها، فما أبأس أن يعمل الإنسان حتى ينصب و يترك ملذات الدنيا حلالها قبل حرامها إبتغاء مرضات السراب!
لذا يقول تعالى فى أية أخرى واصفاً حالهم
((وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.))
أنظر أرشدك الله روعة تصوير ربنا لكافر ضال و هو بعمله و زهده الذى أنصبه و أرهقه، كمن يعانى التعب و شدة الظمأ فى صحراء حارة ، و يحسب نفسه يرى الماء الجارى(الذى هو جزاء عمله) ، و لكنه مجرد سراب خداع عكسه شعاع الشمس الحارقة ، و إذا به بعد الكد و السعى للوصول إليه يصدم بالحقيقة المرة ، صدمة بدنية ببقاء الألم،و صدمة نفسية لضياع الأمل و إكتشاف الحقيقة المذهلة بعد ما إنقطعت سبل النجاة فى قلب الصحراء، ولا تقف الصدمات عند هذا الحد، بل يجد مكان السراب الذى كان يرجوه يجد الله خالقه الذى ما كان يرجوه فيزداد ذلاً و حسرة و ذهولاً و هو موقوف يحاسب على كفره و شقاوته فى ذات المكان الذى ظن فيه سعادته
ولا يفوت القرأن فضح نفاق كثير من هؤلاء الضالين حتى فى كفره،فتجد الفجر و المجون فى زى الزهد و الرهبنة ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ))
و تدبر قوله تعالى (( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ))
يصور سبحانه ههنا حال ضعيف الهمة ،قصير العزيمة فينعكس ذلك فى سلوكه فيتخلف عن نصرة الحق وقت الشدة، و فى أخلاقه فيكذب ولا يتورع عن القسم على كذبه، فما أهلكه؟!
و تدبر كيف يصف سبحانه حال المؤمنين
((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ))
صورة تكشف ظاهر المؤمن و باطنه فقلبه متعلق بالله حباً و خوفاً و رجاءً ، ثم أن العلاقة بين جنبه الذى يلتقى عليه و بين سريره تبدو علاقة عاقلة حية ، فلا يرتاح جنبه إلا بحدوث الجفاء و القطيعة بينه و بين المضجع فلا يطمئن له ولا يهنأ بطول التصاقه به فيهب للقيام بين يدى الله و الدعاء
و تأمل قوله عن المهاجرين (( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً))
و قوله عن الأنصار ((وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))
إنها صورة بديعة تصف أحوال جيل المهاجرين و الأنصار، فهؤلاء الذى أخرجوا من ديارهم و أموالهم فى سبيل الله و رغم فقرهم و غربتهم أعزة متعففين حتى ليحسبهم من لا يعرفهم أغنياء القوم!
و هؤلاء هم الأنصار أهل النصرة و الكرم و الإيثار الذين فاقوا تصور العقل فى هذا الباب!
المؤمنون الذين توجل قلوبهم بذكر الله العظيم، و كلما تنزل القرأن كلما ازداد يقينهم و إيمانهم (( إنما الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))
يثقون فى وعد الله ولا ينقضون الميثاق
(( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))
زادهم إيماناً! ما أطيب نفس المؤن الحق، يرى البلاء رأى العين فيتوكل على ربه و يصبر ، و هذا ما وقع يوم الأحزاب رأى المؤمنون الأحزاب جيوش جرارة فما كانت رؤيتهم إلا سبباً فى إزدياد الإيمان فى وعد الله و صدق
((وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً))
اما المنافقون فكلما ردو فى الفتنة أركسوا فيها و يظنون بالله ظن السوء
((وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً))
و هذا ليس حال المؤمنين وقت النزال فقط بل هو حالهم بعد النزال أيضاً و لو كانت الدائرة عليهم!
((الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ))
متواضعون لربهم، أعزاء بدينهم، معرضون عن السفهاء الغارقين فى جهلهم
(( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ))
و تأمل وصفه تعالى لهم فى قوله(( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ و الله يحب المحسنين ))
إنه ليس وصف لثمرة إيمانية تجلت فى حسن الخلق فحسب، بل هو تربية و ترويض للنفس بترتيب عجيب و سياق وجيز....
فلو أذاك أحد تذكرت قوله تعالى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) لملكت نفسك و حققت الصبر
و لكنك قد تكظم غيظك ولا تعفو عن حقك المشروع فأتبعها تعالى بقوله (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)و هى مرتبة أعلى و أكرم
و مع ذلك إنتقل لمرتبة أعلى من العفو و هى الإحسان لمن أساء إليك، و رفع الهمة للقيام بهذا الأمر العظيم ببيان جزاء الإحسان و هو أعظم جزاء ....حب الله لك!
(و الله يحب المحسنين)
عارف الشمري
2011-04-02, 09:58 PM
إعجاز الحجاج القرأنى :
قال الزركشي: [اعلم أن القرآن العظيم قد اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به، لكن أورده تعالى على عادة العرب دون دقائق طرق المتكلمين لسببين:-
أحدهما: مصداقاً لقوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}
والثاني: أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم يتخط إلى الأغمض الذي لا يعرفه
إلا الأقلون ولم يكن ملغزاً، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه من أجل صورة تشتمل على أدق دقيق، لتفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الخطباء .
و هذا الذى قاله الزركشى هو ما قصده العلما بقولهم (خطاب العامة و خطاب الخاصة) فالقرأن المعجز ميسر للذكر للعالمين
** و تنبه وفقك الله أن من الأمور المميزة للأسلوب القرآني طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها وهي ذات حقيقة ضخمة تتناسب والموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه . تامل في قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ *أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ {* أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ *لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ *أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)
و قوله ((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (* أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (* أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ *بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ))
و قوله ((إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))
و لما كانت أيات الله متجددة فى كل ما تقع عليه عين الإنسان فى السماء و الأرض... و إختلاف الليل و النهار... و خلق الإنسان و الحيوان و النبات ، ناسب أن يكون شكر النعمة فى كل وقت و على كل حال قياماً و قعوداً و نياماً ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ *الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))
إن طريقة القرآن الكريم في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره ...نفس المصدر الذي خلق الكون، فطريقة بنائه هي طريق بناء الكون من أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال وأضخم الخلائق....كذلك القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني، المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل، الزرع، الماء، النار، الموت.
فما الأسلوب إلا صورة فكرية عن صاحبه.....والحذّاق من الكتّاب عندما يقرأون قطعة نثرية أو قصيدة شعرية لكاتب ما يدركون بملكتهم الأدبيّة وحسّهم المرهف الحالة النفسية التي كان عليها الكاتب عند الكتابة بل يذهبون إلى أكثر من هذا، إلى ما وراء السطور فيستنبطون كثيراً من أوصافه النفسية والخلقية فيحكمون عليه أنه عاطفي المزاج أو قوي النفس أو صاحب عقل ودراية أو حقود أو منافق أو غير ذلك من الأمور الخاصة..... و إن انفراد الأسلوب القرآني بالمميزات السالف بيانها لهو دليل مصدره الإلهي
و قد إمتاز منهج القران فى الحجاج بعدة خصائص منها:-
1- الانضباط بالقواعد المنطقية في النقاش... فإذا أُلتزمت فإنَّ الحوار يبنى على أسس العلم والبرهان العقل والمنطق
((قل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كنتم صادقين))
((وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ))
((إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إلاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ))
2- دعوة الخصم إلى التجرد و التحرر الفكرى الكامل ، كى لا يتصدى للدعوة حمية للتقاليد أو الأهواء أو الأعراض الدنيوية الرخيصة
((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَ نَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ولا يَهْتَدُونَ ))
((وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَ نَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ، قُلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءكم قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ))
3- إنصاف الخصم و التسليم الجدلي بإمكانية صوابه لدفعه للنقاش بمنهجية، و التعهد باتباع الحق أياً كان
((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ))
((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))
2- ، إلتزام الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن..
((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..))
((وَلاتَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))
حتى أن الله أمر باللين فى الدعوة مع أفجر أهل الأرض فرعون الطاغية الذى إدعى الألوهية و الربوبية معاً و قتل الأبرياء و ذبح الأطفال و شاق الله و رسله ....مع ذلك لما أرسل الله إليه موسى قال له ((اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فقولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى))
و لكن لما كان القرأن كتاباً واقعياً يراعى إختلاف النفوس و درجات صلاحها و خبثها قيد هذا الإحسان فى الدعوة فجعله الأصل الأصيل و إستثنى منه الظالمين
((وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ))
و ما أكثر الظالمين من أهل الكتاب الذين يسبون الله و رسوله و يلبسون الحق بالباطل و يكفرون و هم يعلمون
كحال اليهود لما سبو الله تعالى فقالوا (َقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ)
فجاء الجواب الإلهى الشديد ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً..)
فهى شدة تناسب بغيهم الغير معذور.. و هى صدمة جوابية تستفز الحياة فى البقايا الباقية من فطرتهم بعدما غلفت قلوبهم و إنتكسوا... و ستأتى أمثلة أخرى إن شاء الله..
نماذج من روائع الحجاج القرأنى :
فى حجاج الملاحدة :
تدبر قوله تعالى ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ))
عمد سبحانه فى هذه الأيات إلى تقرير الخصم بطريق الإستفهام عن الأمور التي يسلم بها وتسلم بها العقول حتى يعترف بما ينكره.....و بيان ذلك:-
**( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)
إمتازت هذه الأية بالحصر و الإيجاز معاً,,,,,، فلا يخرج الموجود عن إحتمالين... إما أن يكون ليس له سبب، وإما أن يكون له سبب.
- أما الإحتمال الأول (خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فمحال لا يشك فى إستحالته عاقل ، و أنّى للعدم أن يخلق الإنسان العاقل و يصوره، أو يشق سمعه و بصره و ينطقه، أو يفطرخوالج نفسه و مشاعره، أو يرتب لكل عضو محله و يوظفه ، أو يجعله ذكراً و أنثى فيزوجه؟!
-أما الإحتمال الثانى (هم الخالقون) فمحال أيضاً لا يشك فى إستحالته عاقل، و أنى للمخلوق أن يكون خالقاً، و لنفسه قبل أن يوجَد واجداً ، و لجسده الذى يجهل منه أكثر مما يعلم بارئاً، و هو الضعيف الذى لا يذكر حياته بعد ميلاده أول سنين فكيف فطر نفسه فى القرار المكين؟
فانظر إلى حجاج القرآن كيف يجعلك تختار العقل أو الجنون!
لا ينجيك من الشناعة و السخرية إلا أن تختار ما لم تذكره الآية أصلاً,,, فكان الحذف كمالاً و هذا قمة البلاغة
إذ حذف ذكر الإحتمال المتبقى لفظياً ليخرجه من جوف الخصم نفسه منطقياً ،،،،،دون إملاء،،، إنه الخالق
**( أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ)
و قبل أن يفيق الملحد من الصواعق المرسلة إذا بصاعقة أكبر تدمغ إلحاده فتقضى عليه ((لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ))
إنتقل بالسؤال من خلق الإنسان إلى ما هو أعظم من خلقه ليعرف حجمه و يلزم حده و يرتد إليه خاسئاً بصره، فما خلقت أبها الإنسان هذه السماء و أبراجها و ولا شموسها و أقمارها و لاسحبها و نجومها ولا ليلها و نهارها،،،، و ما خلقت أيها الإنسان هذه الأرض و أحيائها و لاأنهارها و بحارها و ، و لا أشجارها و ثمارها المختلف ألوانها!
فلا يملك الملحد بعد كل ما سبق إلا أن يقر حقيقة وجود، و يعترف بالخالق الحكيم
و لكن من هو هذا الخالق.....هذا موضوع أخر
أو لنقل إنه نفسه السائل هنا.....إنه نفسه الذى دعاك و ألجمك الحجة ....
عفواً ،،إنه قبل أن يحدثك بالأيات السابقة أو قل الصواعق المرسلة أرهص لكلامه فقال ...(( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ*فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ))
فلتأت بحديث مثله إن كنت فى شك من مصدرية القرأن و ربانيته، و إلا ،،هذا كلام الخالق و رحمته
ولهذا أسلم جبير بن مطعم لما سمع قراءة النبي – صلى الله عليه وسلم- للطور حتى انتهى إلى قوله ((أم خلقو من غير شىء)) قال: كاد قلبي يطير فأسلم
فى إفحام المشركين بالتوحيد:
جاء القرآن لينشئ عقيدة ضخمة – عقيدة التوحيد – بين قوم يشركون بالله آلهة أخرى , فوصف حالتهم النفسية و تحركهم و تشاورهم و هم يردون بالتعجب و الإتهام و التشنيع بنبيهم فقط لأنه قال: إن الله واحد.....
((وَعَجِبُوا أَنْ جَاء هُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ . أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ . وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ . مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ))
لننظر كيف حاجهم في هذه القضية الخطيرة ....لقد تناولها ببساطة ويسر , وخاطب البداهة والبصيرة , بلا تعقيد كلامي ولا جدل ذهني:
** طلب منهم ببساطة إبداء الدليل العلمى على ما هم عليه من شرك..
((قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))
و من رحمة الله بالبشر أن ما أشرك به أحد و هو يملك الحجة أو البينة و لو سألت أشهر مشركى العالم فى عصرنا و هم النصارى أين قال المسيح أنا الخالق أنا المعبود حتى و لو فى كتبكم المحرفة ... لبهتوا
** فلما عجز المشركون عن إقامة الدليل العلمى ، إذ مستندهم التقليد وإتباع الظن ألجمهم سبحانه أيضاً بالدليل العقلى.... كذلك فى سهولة و يسر
(( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ))
يقول الأستاذ سيد قطب: [هكذا في بساطة البداهة .... هذه الصورة التي يخيلها – لو كان هناك آلهة – ( إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ) وإنها لصورة مضحكة , أن ينحاز كل فريق من المخلوقات إلى إله , وأن يأخذ كل إله مخلوقاته ويذهب . إلى أين ؟ لا ندري ؛ ولكننا نتخيل هذه الصورة فنضحك من فكرة تعدد الآلهة ..!]
إنها ألهة كل له خلقه، بعضهم فوق بعض يتنافسون فى الخلق....سبحان الله الإله الحق عن هذا العبث!
** ولما ناقش الأدلة العلمية و العقلية على أتم وجه،،،، زادهم بأدلة حسية واقعية تحسم بطلان ألوهية ما يشركون
((أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ، وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ...))
((وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعـًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًـًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً ))
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابـًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئـًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ))
و هكذا أقيم عليهم الدليل العلمي والعقلى و الحسى على بطلان دعواهم بأبسط ألفاظ و أظهر حجج بديهية .
فى إفحام المشركين بنبوة رسول الله:-
كان المشركون قد سارعوا بحكم التعصب لدين الأباء و العادات و الأهواء و المصالح الشخصية إلى معاداة دعوة الحق و التصدى لها ...
فإستدرجهم القرأن إستدراجاً بديعاً بقوله تعالى ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ))
**هذه الأيات تبدأ بـ (قل) و تختم بـ (عذاب شديد)
و هذا تبيه لعقولهم إلى حقيقة أن محمداً – صلى الله عليه و سلم- عبد مأمور و رسول لا يملك إلا طاعة الرب،،، الرب القدير عليكم إن كفرتموه أن يعذبكم (عذاباّ شديداً)
تنبهوا ،،،فالقول جد فصل ما فيه هزل
** ثم قال (إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ)
بعد البداية الحازمة،،،، تظهر شخصية رسول الله الدعوية كما أدبه عليها رب العالمين ،،،رحمة مهداة ،،، (يعظكم) و العظة تحمل معنى اللين و النصح،،،و هو تعبير يحملهم على ترك الأجواء الإنفعالية و التعصبية لأن مطلب العظة هو التفكر و التدبر و لن يتحقق ذلك لمن كان تحركه حميته و يقوده غضبه و تعصبه.....
و يشجعهم على الإستجابة ببيان أنه عظة (واحدة) ما أيسر الطلب فلا تردوه،،،طرح واحد تناولوه متجردين عن أهواءكم فإن فيه شفاء النفوس..
** ثم قال (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مثنى و فرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )
المطلوب أن تقوموا لوجه لله.. مخلصين لله..متجردين لله ، ولا يكون قيامكم إنتصاراً لتقليد أو هوى أو غيره حتى لا تفسد النتيجة... فإن حققتم الإخلاص و تحررتم من المؤثرات،،،فتفكروا، أعملوا عقولكم بشتى الطرق وحداناً و مجتمعين... ليقم أحدكم منفرداً بالنظر، مستوفياً حظه من التدبر ليستبين رأيه المجرد، و أيضاً فليستشير فى هذا الرأى من قام مخلصاً متجرداً لله مثله ،،،فإن تقابل الأذهان قد يظهر لبعضها ما خفي عنها ، و هذه الأذهان المخلصة إن أجتمعت على رأى تعضده و تقطع دابر معاندته،،،
و فى ذلك المطلب تتجلى ثقة طالبه،،ثقة تؤتى ثمرها فى قلب المتلقى اللبيب...
** ثم قال (مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) هذه هى النكتة ،،،،
أحكموا بإنصاف على صاحبكم،، إن الله لم يرسل إليكم رجلاً غريباً عنكم، بل هو صاحبكم الذى تعرفون صدقه و أمانته، صاحبكم الذى تعرفون رجاحة عقله و سعة حكمته، صاحبكم الذى تعرفون مخرجه و معيشته،،،، تعلمون يقيناً أنه ليس بكاذب ولا مجنون،،، فأين تذهبون؟!
** ثم قال (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)
الأن بعدما سحقت الشبهة حول شخص رسول الله ،،بإعتراف كل متجرد متدبر منصف فيكم.... جاء التقرير الذى يضعهم فى مواجهة الواقع ،،، ماذا يكون لو أنه ليس بكاذب ولا مجنون... بل صادق أمين عاقل حكيم كما تعلمون؟.... إنها الرسالة الإلهية،،، إنه رسول الله إليكم بين يدى عذاب شديد..
- و لهذا دون القرأن قولهم الذى يعكس تيقن أنفسهم بصدق رسول الله فقال تعالى ((وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) فاشتملت الأية على إعتراف و سبب و جواب:-
- إما الإعتراف: فقد أقروا أن الذى يرفضون إتباعه هو (الهدى)
- وأما السبب: فقد أقروا أن علة رفضهم الهدى الخوف على دنياهم و إستقرار أرضهم...
و لعمر الله إن بشاعة الكفر لتبرز فى سرعة إختيار الدنيا الزائلة على الأخرة الخالدة و هم يعلمون!
- و أما الجواب: بسؤال تذكيرى،،، من الذى جعل أرضكم المفتوحة حرماً أمناً و الناس تتخطف من حوله فى كل مكان؟ من الذى جمع ثمرات كل شىء فى واد ليس فيه من الزرع شىء؟
إنها أرض الله لا أرضكم كما تزعمون.... الذى أمّنها أول مرة و به كان أمنكم... فأنّى لكم أن تتحرو الأمن فى حربه؟!
فى حجاج اليهود :
((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))
و هذا بحث الرائع للأخ الفاضل أبى عبدالمعز،،،،و هو إختصار لبحث الدكتور محمد دراز فى كتابه (النبأ العظيم) حول نفس الأية:-
((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ))
للتعبير بصيغة البناء للمجهول- "قيل"- مقصدية بلاغية حجاجية باهرة،فمن المعروف أن الخصم المجادل بالباطل لا يفتأ يبحث عن منافذ للمناورة، وافتعال قضايا هامشية لتناسي موضوع المناظرة..فيجب على المناظر هنا سد جميع الثغرات وتقليل العبارات ما أمكن لتقليل فرص المراوغة...
والدرس في الآية بليغ من هذه الجهة: ذكر القرآن القول، وطوى صفة القائل...ليقيد اليهود –المحجوجين-بفحوى القول وحده ويفوت عليهم فرصة نقل المناظرة من الفكرة إلى الشخص...
فلو قيل" قال فلان كذا..."(وسمي باسمه) فلربما طعنوا في أخلاق القائل، أو نقلوا عنه من موضع آخر ما يخالف قوله الحالي..فيضطر المناظر إلى تعليق الكلام على مضمون الفكرة، لفتح مواضيع في الجرح والتعديل، أو تحقيق النصوص..وقد يتشجر الكلام فلا يعودون إلى الموضوع الأصلي أبدا...((آمنوا بما أنزل الله))...هذا ما ينبغي قبوله أو رفضه،لا غير.
((آمنوا بما أنزل الله))
الآية جمعت الدعوى والدليل معا،لتحقيق مقصد الإيجاز ولقطع فرصة المناورة على اليهود كأن يلجؤوا إلى التهرب من الجواب عن السؤال بسؤال آخر..
فلو قيل "آمنوا بالقرآن" مثلا-وهو المقصود أساسا-لقالوا:"ولم نؤمن بالقرآن؟
فتقول:"لأن الله أنزله.".وتكون قد ضيعت وقتا ثمينا في الفصل بين الدعوى ودليلها..
وقد يثيرون تشكيكات تتعلق بمصدر القرآن...فتضل المناظرة.
لكن صيغة القرآن: "آمنوا بما أنزل الله" لا يمكن أن يقابلها اليهود بسؤال:
"ولم نؤمن بما أنزل الله "لأن في هذا شهادة على أنفسهم بالكفر.. فتأمل!
ولأسلوب التعميم في عبارة "ما أنزل الله"نكت حجاجية أخرى:
-فمشكلة اليهود ليست في قبول القرآن أو رفضه بل مشكلتهم في التعالي على ربهم ورفض كل كتبه..فقد كفروا بالإنجيل قبل القرآن..وكفروا بالتوراة قبل الإنجيل أو على الأقل كفروا ببعضها ...
وهكذا فرضت الآية على اليهود مناقشة "مذهبهم في الوحي" وليس" موقفهم من القرآن"..
فضلا عن الإشارة إلى تكرر سلوكهم عبر التاريخ كلما نزل كتاب من ربهم...فتكون جريمة اليهود موصوفة بالعمد والإصرار وسبق الترصد.... انظر على هذا العطاء المتجدد لعبارة "ما أنزل الله"!!
(( قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا))
آية مذهلة حقا في كشف نفسية اليهودي!
قيل لهم "ما أنزل الله" وقالوا "ما أنزل"فغيبوا اسم الجلالة وأحضروا أنفسهم "علينا"!!
فهذا اليهودي المستكبر لا يعنيه مصدر الكتاب المنزل بقدر ما يعنيه متلقي الكتاب..
فليس الشأن أن تكون التوراة من عند الله بل الشأن كل الشأن أن تكون "شيئا"قوميا يهوديا...فتقديس التوراة عندهم بالنظر إلى المستقبل لا المرسل..فما يكون إقبالهم على التوراة واحتفاؤهم بها وتقديسهم لها إلا إقبالا واحتفاء وتقديسا لأنفسهم!!
العبادة للذات القومية لا لرب العالمين!!
دليل ذلك أن رب العالمين أنزل كتبا أخرى فما كان منهم إلا الإعراض والاستهزاء..
((وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ))
قيدت الآية الاسم الموصول بحالين: (أ)وهو الحق (ب) مصدقا لما معهم
وفائدة القيد الأول بيان فساد القلب
أما فائدة القيد الثاني فبيان فساد العقل
(هو الحق)...كفر اليهود بالقرآن فرع عن قاعدة متأصلة في نحيزتهم:هي كره الحق نفسه...
هذا خلل في القلب ...له جذور في خبث الطبع والتكبر الأجوف..فليس إنكارهم للقرآن إلا لصلته بالحق وليس لصفات أخرى ..ودليل ذلك أنهم كرهوا الإنجيل أيضا وقد نزل في ظروف غير ظروف نزول القرآن زمانا ومكانا وقوما...فما القاسم المشترك بينهما إلا الحق ونزولهما بالحق من الحق!
(مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ)...هذا القيد يكشف فساد العقل والمنطق عند اليهود...هم يؤمنون بالتوراة-على حد زعمهم-ويكفرون بالقرآن...مع أن القرآن يقول إن التوراة حق..
فإن كذبوا بالقرآن...فمعناه أن قول القرآن عن التوراة بأنها حق باطل في نظر اليهود...فيؤول الأمر إلى أن يبطلوا التوراة نفسها ..لأنهم طعنوا في الشاهد الذي شهد بصحته... هو باختصار زوال للعقل بعد زوال للإيمان!
(( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))
هذا أوان الإجهاز عليهم...فقتلهم الأنبياء دليل إضافي على أن عدواتهم هي لله وحده
فقد كفروا بالكتب...وقتلوا مبلغي الكتب.... فالهدف واضح هو قطع كل الصلات بالله تعالى
والتعبير بأنبياء الله بدل رسل الله فيه نكتة بلاغية حجاجية بديعة:
فبناء على الفرق بين النبوة والرسالة في كون النبوة هي تلقي الوحي والرسالة هي تبليغه.. يكون قتلهم للأنبياء اعتبارا لجهة تلقي الوحي فقط.. فقتل الرسول قد يتوهم فيه سبب التشديد عليهم أوتكليفهم بالشرائع الثقيلة...أما قتل النبي فلأنه جاءه من الله النبأ فقط..فيتمحض عداؤهم لله أصلا ولمن لهم صلة به تبعا..
و للدكتور محمد دراز ملاحظات باهرة حول هذه الفقرة الأخيرة الأخيرة (( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ))قال:-
أ- تأمل كيف أن هذا الإنتقال كانت النفس قد إستعدت له فى أخر المرحلة السابقة، إذ يفهم السامع من تكذيبهم بما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين بكتابهم نفسه،و هل الذى يكذب من يصدقك يبقى مصدقاً لك؟!
غير أن هذا المعنى أُخذ إستنباطاً من أقوالهم، و إلزاماً لهم بمأل مذهبهم، و لم يؤخذ من واقع أحوالهم، فكانت هذه هى مهمة الرد الجدسد.
و هكذا كانت كلمة (مصدقاً لما معهم) مغلاقاً لما قبلها مفتاحاً لما بعدها....فما أوثق هذا الإلتحام بين أجزاء الكلام!
ب- و أنظر كيف عدل الإسناد عن وضعه و أعرض عن ذكر الكاسب الحقيقى لتلك الجرائم، فلم يقل (فلم قتل أباؤكم أنبياء الله، و اتخذوا العجل ، و قالو سمعنا و عصينا) إذ كان القول على هذا الوضع حجة داحضة فى بادىء الرأى ، مثلها مثل محاجة الذئب لحمل فى الأسطوؤة المشهورة، فكان يحق لهم أن يقولوا ( و مالنا و أبائنا؟!) تلك أمة قد خلت، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
و لو زاد ( و أنتم مثلهم، تشابهت قلوبكم) لجاء هذا التدارك بعد فوات الأوان، و لتراخى حبل الكلام و فترت قوته،،فكان إختصار الكلام- بوقفهم بادىء ذى بدء فى موقف الإتهام- إسراعاً بتسديد سهم الحجية إلى هدفها، و تنبيهاً فى الوقت نفسه على أنهم ذرية بعضها من بعض، و أنهم سواسية فى الجرم..لإذ لا بنفكون عن الإستنان بسنة أسلافهم، أو الرضى عن أفاعليهم، أو الإنطواء على مثل مقاصدهم
جـ-و أنظر كيف زاد هذا المعنى ترشيحاً بإخراج الجريمة الأولى و هى جريمة القتل فى صيغة الفعل المضارع تصويراً لها بصورة الأمر الواقع، كأنه بذلك يعرض علينا هؤلاء القوم أنفسهم و أيديهم ملونة بتلك الدماء الزكية و يكشف حقيقة نفوسهم التى لازالت مستعدة لقتل الأنبياء فى أى زمان
د- و لقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح باباً عن الإيحاش لقلب النبى الكريم ،و باباً من الأطماع لأعدائه فى مجح تدابيرهم و محاولاتهم لقتله فانظر كيف أسعفنا بالإحتراس عن ذلك كله بقوله ( من قبل) فقطع بهذه الكلمة أطماعهم و ثبت بها قلب حبيبه صلى الله عليه و سلم...أهـ
فى حجاج النصارى :
وردت فى كتاب الله مناظرات للنصارى تناولت مختلف عقائدهم فى غير ما موضع بغاية الروعة و الإتقان و من ذلك:
* إفحام الخصم وإلزامه ببيان أن مدعاه يلزمه القول بما لا يعترف به أحد- كقوله تعالى ((بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم))
فنفي التولد عنه لأن الأصل إمتناع التولد من شيء واحد، وأن التولد إنما يكون من اثنين، وهو سبحانه (لا صاحبة له)... و لكن الحجة الأبهر ههنا أنه أظهر نقيصة إمتلاك الولد و التى لا يدركها النصارى بحكم إنكتاسهم و نشأتهم عليها يقرنها بنقيصة أخرى تدخل فى ذات الباب أو قريبة منه... و هى إتخاذ الصاحبة الذى لا يختلفون فى إعتباره نقيصة و سخف!
فإن كنتم ترون إتخاذ الصاحبة نقيصة و فظاظة لا تليق بالله...فكيف تقبلون أن الله ولد إبناً؟!
و أيضاً فإنه (خلق كل شيء)، وخلقه لكل شيء يناقض أن يتولد عنه شيء....
(وهو بكل شيء عليم) و هذه الأية فيها نكات عدة :
- فإن الولادة لا تخرج عن كونها أمر من إثنين إمام ولادة شعورية إختيارية و إما ولادة لا إختيارية .....و كماله و علمه سبحانه بكل شيء يستلزم أن يكون فاعلاً بإرادته، فإن الشعور فارق بين الفاعل بالإرادة والفاعل بالطبع، فيمتنع مع كونه عالماً أن يكون كالأمور الطبيعية التي يتولد عنها الأشياء بلا شعور- كالحار والبارد، فلا يجوز إضافة الولد إليه
- و أما إن كانت بعلمه و إختياريه فهذا يعنى سبق وجود الله الأب على إبنه الذى ولده و إتخاذه له إختياراً...و هنا تبهت الحجة فأنَى للإله أن يوجد بعد عدم؟ فإن من أوجده إختياراً يكون خالقاً له بالبداهة...لاسيما مع إيمان النصارى بتمايز الأقانيم و أن كل منها إله كامل!
و هذا أورده سبحانه ببراعة فى قوله (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)
لأن الله لما اختار ان يتخذ الابن و هو إله لا أول له ولا أخر ولا تجد له صفات ما كانت قائمة ولا تنقضى عنه صفة قائمة..لم يتبق إلا أن (يتخذ) ولداً من (مخلوقاته) و هذا يفند معتقد النصارى...(سبحانه) منزه عن إككم ..(هو الله الواحد) ليس بثالوث...(القهار) قهار لكل ما دونه ولا يكون شىء بغي علمه و خلقه و تقديره... و فيها إشارة إلى غناه سبحانه بذاته العظيمة عن غيره ـ فالأب يحتاج لإبنه ليعينه و يكمل مسيرته أما الإله فكماله سبحانه فى وحدانيته و إفتقار الخلائق إليه
- و تدبر الرد المزلزل الذى يحدث ثورة نفسية فى قلوب من ينسب الولد لله إن كان فيها بقية من حياة فتستبصر.... ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً))
انظر كيف تتجلى عظمة الإله و هو يحذر عباده الضالين أن قولهم الكاذب لا عقيدة حق بل مسبة و إنتقاص.... حتى أن كون كله يتفاعل مع بشاعة ما نُسب إلى الله، فها هى السماوات تكاد تتفطر، و ها هى الأرض تكاد تنشق، و هاهى الجبال الشواهق تكاد تخر هداً من شناعة قولهم....اتخذ الرحمن ولدا
- كذلك فى قوله تعالى ((مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ))
** جاءت هذه الأية فى سياق رد القرأن على نسبةالنصارى الألوهية للمسيح، فقال تعالى (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ) هكذا حصر لحقيقة المسيح... و نلاحظ ان الله لم يقل ما المسيح إلا بشر و إنما قال ما المسيح ابن مريم إلا رسول و لذلك فوائد منها:
1- أن ذلك قمة العدل مع المسيح بوضعه فى مكانته فلا يؤله كما فعل النصارى ولا تكذب مكانته و رسالته كما فعل اليهود فقال أنه ( رسول)،،،وفوصفه بالرسول أثبت مكانته الكريمة و أيضاً تضمن بيان بشريته لأن الرسل كلهم بشر و لهذا قال تعالى (قد خلت من قبله الرسل)
2- أن كون المسيح رسول قد خلت من قبله الرسل فهذا عين الرد على ما فتن النصارى فيه.. فهم قالوا بألوهيته بسبب ميلاده المعجز و معجزاته الكبرى... فلما أخبر أنه رسول فسر بيسر سبب معجزاته ... إنها أيات من الله، و ذكرهم أنه ليس بدعاً من الرسل بل سبقه رسل قد خلت منهم موسى و إبراهيم و نوح و غيرهم ممن جاءو بأيات أكبر من أيات المسيح... و من هؤلاء الأنبياء أدم الذى كان خلقه أعظم من خلق المسيح
** ثم قال ( و أمه صديقة) و ذكر أمه هنا له فوائد منها:
1-لتبرئتها و بيان مكانتها فى الإسلام فيؤلف قلوب النصارى و يرد كيد اليهود
2- للتذكير بواقع المسيح، إذ من تعبدون هذه أمه الأمة الفقيرة إلى الله... و الأم أصل الشىء فأنى لخالق السماوات و الأرض أن يكون طفلا ضعيفاً جنيناً يقتات من رحم فتاة ضعيفة ثم يولد منها و يرضع و يُحمل ...الخ؟!
** ثم قال (كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ) و فيها نكات و فوائد جلية:
1- تذكير بحقيقة أخرى، فإن من يأكل الطعام يفتقر إلى ذلك الفضل و الله لا يفتقر لشىء ولا يُطعم ولا يُرزق بل هو الرزاق صو القوة المتين..
2- ثم أن من يأكل الطعام يأتى بلازم ذلك من التغوط و التبول و الإسهال ...الخ
فهل هذا الذى يتخفى فى الخلاء يقضى حاجته على ذلك الحال هو رب السماوات و الأرض؟!
أنظر كم من الأيات يراها القوم لا و يبصرنها يسمعونها ولا يعقلونها (انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)
فى حجاج المنافقين فى بخلهم :
** تدبر قوله تعالى ((وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض ))
يقول الأخ أبو عبد المعز حفظه الله:
تأمل كيف جاءت كلمة "ميراث"في الآية حاملة طاقة حجاجية خارقة مؤشره على إعجاز القرآن!!
(وَلِلَّهِ ملك السماوات والارض..)عبارة لها وظيفة حجاجية لا تنكر ولكنها تقصر كثيرا عن الحجاج الباهر في(..وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض)
التعبيران معا وردا في بداية سورة الحديد لكن وضع كل واحد في مقامه المعلوم!
تأتي قوة كلمة "ميراث"من كونها دالة على معنى حيازة الملكية مع معنيين آخرين :
أ-مالك سابق للمال.
ب-هلاك هذا المالك.
ج-انتقال المال إلى مالك جديد.
وحجاج الآية يستثمر بقوة معنى الهلاك ومعنى الانتقال..بحيث يصبح سلوك المنافقين في الامتناع عن الإنفاق سلوكا باهتا إن لم يكن متناقضا..
البخيل حين يمتنع عن الإنفاق ..يعلن أنه لا يريد الإنفصال عن ماله..وحجته في الغالب الأعم خشية الفقر، لذا تراه دوما يمسك ويستزيد.إنه يتوقع الإنفصال دائما لكن من جهة ماله..فهو يخشى "ذهاب المال وبقاءه هو"...
وجاء الحجاج في الآية ليصفع البخيل بتذكيره باحتمال آخروهو "أن يذهب هو ويبقى ماله لغيره"
وهذه أشد من الأولى من جهتين:
-أنها حتمية والأولى ظنية..فالفقر محتمل فقط لكن الموت يقيني..
-أنها تطعن البخيل في الصميم ..فالمال الذي يغار عليه من الناس سوف يبتذلونه ويتداولونه رغم أنفه...فظهرت المفارقة في أبشع صورة بين:
-من تكلف مشقة الجمع بدون استمتاع...
-ومن استمتع بدون تكلف مشقة الجمع...
فانظروا إلى القوة الحجاجية لكلمة ميراث-رحمكم الله-
لكن لكلمة "ميراث" عطاء ثانيا باعتبار معنى انتقال الملكية بعد هلاك صاحبها، واعتبار معنى "فِى سَبِيلِ الله"المقيد للإنفاق...فالتنديد ليس بالممتنعين عن الإنفاق بإطلاق، بل بالممتنعين عن الإنفاق في سبيل الله.. فهذا المنافق يأبى أن يتنازل عن بعض ماله لربه...
فجاء التسفيه :مالك سيرثه الله رغم أنفك..فيضيع مقصودك الأول باستبقاء المال وعدم وصوله لله..وتبوء مع ذلك بسخطه وعقوبته...
كل ملكية هي لله خلقا أولا ،و تخويلا وسطا ، وميراثا آخراً....فما أحمق من لا ينفق في سبيل الله؟!
إذ لا يكون الإنسان إلا رادا الملكية لصاحبها..فأي حرج في ذلك.. وحتى لو أبيت ردها طوعا فستردها كرها...رد وخزي معا...
فأي عاقل يختار لنفسه هذا المسلك وأي راشد يختار لنفسه ذاك المصير!!
و هناك نماذج أخرى كثيرة لبدائع الحجاج القرأنى كما قال الزركشى منها:-
أ- الاستدلال البديع بالمبدأ على المعاد. كقوله تعالى {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} وقوله {أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى} وقوله {فلينظر الإنسان مم خلق؟ خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر}
وكذلك النسج البديع لمشهد إهتزاز الأرض و ربوها و بث الحياة و الخضرة و الزرع المختلف ألوانه فيها بعد جفافهاو سكونها للإستدلال به على الحياة بعد الموت للحساب {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى}
ب- السبر والتقسيم بحصر الأوصاف، وإبطال أن يكون واحد منها علة للحكم، كقوله تعالى {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أمَّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثين أمَّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}
جـ- و أنواع أخرى من الجدل كثيرة، كمناظرة الأنبياء مع أممهم، أو فريق المؤمنين مع المنافقين، وما شابه ذلك... و كلها تعج بالفوائد اباهرات لكن لو تقصيناها لطال المقام جداً!
يتبع إن شاء الله
عارف الشمري
2011-04-02, 10:09 PM
الفاصلة القرأنية :
أغلب مفردات هذا البحث منقولة بتصرف من كتابات دكتور فاضل السامرائى حفظه الله
من روائع التعبير القرأنى التناسق التام و الدقيق لفواصل الأيات بجانب جمال إيقاعها، فالفاصلة القرأنية تحوى الجمال الأدبى والغذاء المعنوى و المناسبة للأية التى وردت فيها، و هى لو توضع لتحقيق مجرد السجع كما يزعم بعض الجهال.... بدليل أن الفاصلة تخالف أحياناً سيرها داخل السورة لأن العبرة بتحقيق المعنى و من أمثلة ذلك:
قوله تعالى ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ )) هذه الفاصلة مغايرة للفاصلة القرآنية في باقي آيات السورة (تزكى، يخشى، هدى) لأن المقصود الأول هو المعنى. وكذلك في سورة الأنبياء الآية ((قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ)) مغايرة لباقي آيات السورة (يشهدون، ينطقون، تعقلون) وليس لها ارتباط بما قبلها وبعدها.
و لكن العجب أن الفاصلة حتى إن خالفت أخواتها فى سياق فلا تستنكر هذا الإختلاف الأسماع بل تظل الأيات تتدفق بإيقاعها الباهر فى الأذان و تنساب منها إلى القلوب!
و لننظر الأن فى نماذج للفاصلة القرأنية ليتبين لنا روعة كلام البارى سبحانه:-
** تدبر قوله تعالى ((وأضل فرعون قومه وما هدى)).
ظن البعض أنها جاءت مراعاة للفاصلة، و كان من الممكن قول (وما هداهم)... و لكن لو نظرنا لوجدنا أن قوله تعالى ( و ما هدى) أبلغ و أوسع من (و ما هداهم) إذ الأخيرة تنفى تحقيقه الهدى لقومه و لا تنفيه عن غيرهم ....أما (ما هدى) ففيه إطلاق نفي الهداية بمعنى أنه لم يهدي قومه ولا غيرهم ولم يكن أبداً سبباً في هداية أحد...فتأمل
** تدبر قوله تعالى (((ما ودّعك ربك وما قلى))
نفى تعالى في هذه الآية شيئين: نفي التوديع وهو لا يكون إلا بين الأحباب والأصحاب
ونفى القلى الذي لا يكون إلا للمتباغضين.
فلما تكلم في الأمر المحبوب نفى الله تعالى بقوله (ما ودعك) باستخدام ضمير المخاطب إذ فيه تكريم لرسول الله صلى الله عليه و سلم بذكر حرف المخاطب
أما في قوله (وما قلى) فلا يصح استخدام (قلى) بين المحبين فلم يقل (وما قلاك) حتى لا يكون الخطاب مباشرة للرسول عليه السلام من ربه الذي يحبه ولا يقليه ....
** تدبر قوله تعالى ((قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ *قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ))
أيات تحكى مناظرة إبراهيم عليه السلام لقومه فى عبادتهم للأصنام التى لا تملك الضر ولا النفع
ظن البعض أن إطلاقه للفظ فى قوله (يضرون) فقط ليناسب الفاصلة و أن المراد (يضرونكم)
ولا شك أن الإنسان يعبد معبوده لإعتقاده أن يملك الضر و النفع له و لغيره... و لكنه إن فكر فى النفع فيرجوه لنفسه قبل أن يرجوه لغيره، و إن فكر فى الضر فيرجوه لعدوه قبل أن يخشاه على نفسه
و هذا كما قال قوم هود لنبيهم (إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ)
و قد أشار القرأن لهذا المعنى فى مواضع كما قال تعالى (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً) و قال فى العجل (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً)
و اللام في "لكم" دالة على الغنم ومقابلها "على" الدالة على الغرم..
كما قال تعالى (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) و قال (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا)
فكان إطلاق اللفظ ههنا بيلغ حكيم ، لأنه إشتمل على نفى الضر الذى يخشاه المشركون على أنفسهم من هذه الأصنام و أيضاً نفى إمتلاك هذه الألهة القدرة على نصرتهم و الإضرار بعدوهم..
** و تدبر قوله تعالى ((يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا))
جاءت كلمة السبيلا بالألف، و قد يظن البعض أن وضع الألف ههنا لتناسب الفاصلة فحسب، و لكن إن تأملنا الكلام في هذه الآيات سنجده نقلاً لمشهد صريخ أهل النار فى عذابهم ....و المصطرخون يمدون أصواتهم...فجاء المد في الرسولا و السبيلا إذ هو صوت الباكي... و هذا من نفائس التصوير الفنى فى القرأن
و أظهر دليل على أن المد يقصد إلى المعنى لا إلى غيره أننا نقرأ فى نفس السورة فى مطلعها قوله تعالى ((وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً * مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً))
فوردت كلمة (السبيل) ههنا على حالها بلا مد رغم مخالفتها للفاصلة قبلها و بعدها ، إذ ليس هناك صراخ ولا تصوير لألم متألم
** كذلك فى قوله تعالى ((إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا وتظنون بالله الظنونا))
يسمى علم النحو الألف فى كلمة (ظنونا) ألف الإطلاق ، و إذا انتهت بساكن يسمى مقيّد.
و الحكمة من إيرادها على هذا النحو، أنه سبحانه يصف موقف فيه من الرهبة و الترقب ما زاغت به الأبصار و تشعبت به الظنون، سواء بين المؤمنين بإختلاف درجاتهم الإيمانية، أو بين المنافقين و ما تكنه صدروهم، أو بين صفوف المشركين المعتدين، أو بين اليهود الخائنين
اختلفوا وتشابكوا فاختلفت الظنون و كثرت و تشعبت، ولذا جاءت بالإطلاق (الظنونا) وجب استخدام الألف لإطلاق الظنون.
** و تدبر قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ) ....( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ)..( هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ)
من الناحية اللغوية يجوز فى ياء المتكلم الفتح والسكون (كتابي وكتابيه)
و الحكمة من إنتقاء الفاصلة على هذا النحو (ماليه، حسابيه، كتابيه، سلطانيه)
أن هذا الكلام يقال في يوم الحشر وهو يوم ثقيل ،يوم عسير ،يوم عبوس قمطرير ، يبقى فيه الناس خمسين ألف سنة في هذه الشدة حتى يفزعون إلى الأنبياء...و ييبدأ حسابهم و يلقون مصيرهم،،فلكأنها مأخوذة من الأه
فعكست الهاء نهاة المتعبين ، و خفقان قلوب المترقبين....
** و تدبر قوله تعالى ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ))
فلما ذكر الله مواجهة الأنبياء و أتباعهم للمجرمين ، ناسب أن يذكر أسباب التمكين و هو الهدى فإن من إهتدى و إتبع الحق ينصره الله فجاء النصر تبعاً للهدى مشروطاً به
كذلك رسخت الأية عقيدة فى القدر، فالله هو الله قدر وجود المجرمين بفسقهم ليبتلى المؤمنين بهم، و هو سبحانه الذى يملك هداية المؤمنين و تثبيتهم و من ثم نصرهم ليتم نوره..
** و تدبر قوله تعالى ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ))
الأية تتكلم عن أيات الله الكونية فى البحر و مخلوقاته و جريان الفلك فيه بنعمة الله و رحمته بعباده، و هى أيات للمؤمنين ، و الإيمان شطره صبر و شطره شكر كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم {عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} رواه مسلم
فإستعاض عن ذكر المؤمن بذكر صفاته، لاسيما أن جريان الفلك فى البحر أية تستوجب الصبر و الشكر معاً
الصبر على مشقة السفر و مخاطره و ما قد يقع فى البحر من أحداث مؤلمة
و الشكر على نعمة الله و أياته الجلية في البحر و تسخير الفلك لتحمل بنى أدم فيه لمنافعهم الملائمة
** و تدبر قوله تعالى ((َإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ))
و قوله عز و جل ((وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ))
ختم الأية الأولى بقوله (المبطلون) و ختم الثانية بقوله (الكافرون) ، و ذلك لمناسبة كل كلمة منهما لسياقها
قال الكرمانى فى البرهان: [ الأولى متصل بقوله {قضى بالحق} نقيض الحق الباطل ..
و الثانى متصل بإيمان غير مجد و نقيض الإيمان الكفر {َلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}]
** و تدبر قوله تعالى ((أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ))
فختم الأية الاولى بقوله (يسمعون) و ختم الثانية بقوله (يبصرون)
و ذلك لأن الأية الأولى الموعظة فيها سمعية خبرية إذ يقص ما حدث للأمم الماضية و هو مما يسمع لذلك قال { أولم يهدلهم}.....
اما الأية الأخرى فموعظتها مرئية لأن سوق الماء إلى الأرض الجرز مرئى فى كل وقت لذا قال فى صدرها ( أولم يروا)
- و مثله قوله تعالى ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ))
لأن الأية الأولى تتكلم عن الليل و هو يصلح للسمع دون البصر، أما الثانية تتكلم عن النهار الذى يصلح للإبصار
قال الكرامى: [إقتضت البلاغة أن {أفلا تسمعون} لمناسبة ما بين السماع و الظرف الليلى الذى يصلح للإستماع ولا يصلح للإبصار]
** و تدبر قوله تعالى ((وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))
و قوله تعالى ((ِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))
فقال فى ختام الأولى ( سميع عليم) و فى ختام الثانية (سميع بصير)
لأن الإستعاذة فى الأية الأولى من شيطان الجن الذى نعلمه ولا نراه
أما فى الأية الثانية فالإستعاذة من شيطان الإنس الذى نسمعه و نراه
** و تدبر قوله تعالى ((لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ)) الأنعام
و قوله تبارك إسمه ((لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ)) هود
فختمت الأية فى سورة النحل بـ (الخاسرون) بينما ختمت فى سورة هود بـ (الأخسرون)
و ذلك لأن أية سورة هود فيمن صُدوا عن سبيل الله و صدوا غيرهم فضوعف له العذاب { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ....لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ }
أما أية سورة النحل فيمن صُدوا هم و لم يصدوا غيرهم { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ..... لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ }
فكان الأولون أخسر من الأخرين فجىء لهم باسم التفضيل
** وتدبر قوله تعالى ((وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ))
و قوله جل و علا ((وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ))
فختم الأيات فى سورة الرعد بقوله (عقاب) بينما ختمها فى سورة الحج بقوله (نكير)
و ذلك أن أية الرعد تذكر المستهزئين و أية الحج تذكر المكذبين..و المستهزئون أعظم جرماً من المكذبين إذ جمعو التكذب مع الإستهزاء
فناسب أن أن يستعمل فى حق المستهزئين كلمة (عقاب) إذ هى أشد موقعاً من كلمة (نكير) التى إستعملها مع المكذبين...لأن الإنكار لغة يحتمل ما فيه العقاب بالفعل و ما لا عقاب فيه، أما العقاب فغالباً يراد به الأخذ يعذاب مناسب لحال المجرم
** و مثله قوله تعالى ((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً))
و قوله جل ثناؤه ((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً))
فوصف خرق السفينة بأنه شىء إمر،و وصف قتل الغلام بأنه شىء نكر... والنكر أشد من الإمر
ذلك أن خرق السفينة شروع فى قتل أصحابها – على الظاهر- أما قتل الغلام فتلبس بالقتل عينه
** و تدبر قوله تعالى ((وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ))
و قوله سبحانه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين))
فختم الأولى بقوله (الخاشعين) و ختم الثانية بقوله (الصابرين)
و ذلك لأن الكلام فى الأية الأولى من أوله كان عن الصلاة و هى مرتبطة بالخشوع { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}
أما الكلام فى الأية الثانية فكان فى سياق الحث على الصبر على البلاء فناسب ذلك أن يختمها بمدح الصبر {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}
** و تدبر قوله تعالى ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً))
و قوله عز و جل ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً))
فختم الأية الأولى بقوله (فقد إفترى إثما عظيماً) و ختم الثانية بقوله ( فقد ضل ضلالاَ بعيداً)
و ذلك كما قال صاحب [من بلاغة القرأن]
أن الأية الأولى وردت فى سياق الحديث عن يهود الذين افتروا على الله الكذب و حرفوا و هم يعلمون، فقال قبل هذه الأية {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}، و قال بعدها {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً}
اما الأية الثانية فقد وردت فى حديث عن المشركين ، و هم مع شركهم لا يفترون إذ لا كتاب لهم أصلاً ليبدلوه، و لكنهم ضالون ضلالاَ بعيداً
** و تدبر قوله تعالى ((ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ)) الأنعام
و قوله عز و جل ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) هود
فختم الأية فى سورة الأنعام بقوله ( و أهلها غافلون) و ختم الأية فى سورة هود بقوله ( و أهلها مصلحون)
ذلك أن سياق الكلام فى سورة الأنعام كان عن الرسل و التبليغ و الإنذار.. فقال فى الأية التى قبلها {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ}
فلما كان الكلام عن تبليغ الرسالة بين سبحانه أنه لا يهلك قوماً غافلين دون إنذار و هذا كقوله تعالى (لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)
أما الأية فى سورة هود فجاءت فى كلام عن الإصلاح و النهى عن الفساد فى الأرض، فقال فى الأية التى قبلها {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } فناسب ذلك أن يختمها بمدح المصلحين...
** و تدبر قوله تعالى فى قصة صالح مع قومه ((وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) الأعراف
و قوله سبحانه ((وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ)) هود
و قوله عز و جل ((َلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) الشعراء
فختمت الأية الأولى بقوله (عذاب أليم) و ختمت الثانية بقوله (عذاب قريب) و ختمت الثالثة بقوله (عذاب يوم عظيم) و كل فاصلة منهم ناسبت ما جرت عليه فاصلة السورة التى بها ...و مع ذلك جاءت مقصودة مناسبة للمعنى المبرز فى السياق
- أما أية سورة الأعراف ، فكما قال الكرمانى [بالغ صالح فى الوعظ فبالغ فى الوعيد فقال: عذاب أليم] و زد على ذلك أن الله سبحانه ذكر فى الأعراف تحدى قوم صالح و سخريتهم و عتوهم و لم يذكر ذلك فى أيات سورتى هود و الشعراء ،فناسب ذلك تعظيم العذاب المحذور ((قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)) الأعراف 76
- أما فى سورة هود قال الكرمانى [ لما اتصل بقوله (تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام) ناسب ذلك أن يصف العذاب بالقرب فقال: (عذاب قريب)]
- و أما فى سورة الشعراء فقد ذكر تقسيم الماء بذكر الأيام فقال (قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) فوعظهم أن يتموا قسمة الأيام قبل أن يأتى اليوم العظيم حيث الحساب فختم الأية بقوله (عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
** و تدبر قوله تعالى ((وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)) إبراهيم
و قوله عز و جل ((وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)) النحل
فختم أية سورة إبراهيم بقوله (إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) و ختم أية سورة النحل بقوله (إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)
و ذلك أن السياق فى سورة إبراهيم كان يتكلم عن الإنسان أما فى سورة النحل فكان يتكلم عن الخالق سبحانه....
فأية سورة إبراهيم تذكر طلب الإنسان لنعم الله و تصرفه تجاهها فقال تعالى {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
أما أية سورة النحل فتتكلم عن ذات الله تعالى و بيان أنه الخالق لا يخلق غيره {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}
** و تدبر قوله تعالى عن لسان إبراهيم ((َمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))
و قوله تبارك إسمه عن لسان المسيح ((إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))
فختم الأية الأولى بقوله (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) و ختم الثانية بقوله (فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
و ذلك لأن كلام إبراهيم إنما كان عن قوم عصوه لكنهم لم تنقطع بهم بعد سبل النجاة إذ لازالو فى الدار الدنيا..فناسب ذلك أن يدعوا إبراهيم بحلمه الله أن يغفر لهم ذلك و يرحمهم بأن يهديهم إليه
أما قول المسيح فى سورة المائدة فهو نقل لمشهد عظيم سيقع يوم القيامة، حين يقف المسيح بين يدى الله فيسأله عن الذين عبدوه فيتبرأ منهم ثم يفوض أمرهم إلى الله..فقال ختاماً (فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لأنه يوم الحساب فلا سلطان إلا للعزيز سبحانه و هو بعزته يحكم فى خلقه، والحكيم هو الذى يضع الشىء فى موضعه، و المسيح رسول عظيم يعلم أن من مات على الكفر فلا يستحق الرحمة فلو قال ههنا ( أنت الغفور الرحيم) فلكأنه يطلب ضمناً الرحمة لهم و لكأن الله بعدم إجابته يكون قد ظلمهم، و حاشا لله
- و مثل هذا قول نوح لربه بعد أن غرق إبنه مع قومه ((وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)) فلم يقل و أنت أرحم الراحمين.. لما سبق و بيناه
- و مثله قوله تعالى فى تقرير حد السرقة ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) و قد تلاها أحد السلف فأخطأ و قال فى أخرها ( و الله غفور رحيم) فرده أعرابى قح دون أن يقرأها، فلما راجعها وجد أن الأعرابى محق ..وأخبره أنها تنتهى بقوله (عزيز حكيم) ثم سأله كيف عرفت أن الفاصلة الأولى خطأ؟ فأجاب: إن هذا حد حازم و موضع عزة و حكم لا موضع مغفرة و رحمة...
**** و من روائع الفاصلة القرأنية وقوع التغير فيها و فى وتيرة الأيات بتغير الموضوع مما يحدث أثراً تفاعلياً فى نفس المستمع مع كلام لله تعالى و ما يعظه به..
- فمثلاً فى سورة مريم قص علينا فيها سبحانه من خبر زكريا و يحيى و عيسى إبن مريم و كانت الأيات دوماً تنتهى بالألأف ...خَفِيّاً ، شَقِيّاً ،وَلِيّاً ،،،، إلى أن تصل إلى قوله تعالى {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}
هنا تتغير القافية بالإنتقال من بسط الأحداث إلى التعليق عليها من الله بدءاً من قوله تعالى {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } و تسير القافية على هذا فَيَكُونُ ، مُّسْتَقِيمٌ ،عَظِيمٍ ، مُّبِينٍ ،يُؤْمِنُونَ ،،، إلى أن تصل لقوله تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }
يقول الأستاذ سيد قطب: [وهكذا يتغير نظام الفاصلة فتطول , ويتغير نظام القافية فتصبح بحرف النون أو بحرف الميم وقبلهما مد طويل . وكأنما هو في هذه الآيات الأخيرة يصدر حكما بعد نهاية القصة , مستمدا منها , ولهجة الحكم تقتضي أسلوبا موسيقيا غير أسلوب الاستعراض . وتقتضي إيقاعا قويا رصينا , بدل إيقاع القصة الرضي المسترسل ...أهـ ]
و بعدها يعود القرأن إلى القصص فيقص خبر إبراهيم و موسى و يذكر الأنبياء منتهياً بالقافية الأولى { نَّبِيّاً ، شَيْئاً ،سَوِيّاً ، عَصِيّاً ، وَلِيّاً ، مَلِيّاً ، حَفِيّاً ، شَقِيّاً}....إلخ
- مثال أخر فى سورة النبأ تبدأ الأيات بالسؤال و التقرير ((عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ))
ثم يبدأ فى الجدل و المحاجة فتتغير القافية ((أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً))
- و فى سورة النازعات تبدأ السورة بقسم الملك سبحانه بمخلوقاته، فتشعر بقوة و سرعة فى تمرير الأيات على العقل و كلها ينتهى بقافية الألف ((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً))
ثم تهدأ وتيرة الأيات بالإنتقال إلى التقرير و النذير و تتغير معها القافية ((يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ))
ثم تتغير القافية مرة ثالثة بالإنتقال إلى سرد قصة موسى عليه السلام ((هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى))
- كذلك فى سورة أل عمران سارت السورة على القافية الغالبة حتى قرب النهاية , فلما بدأ دعاء من طائفة من المؤمنين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم , تغيرت الفاصلة هكذا { ... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ... إلخ}
إنه تغير فى القافية ينقل النفس إلى مقام التضرع مشاركة مع المؤمنين الذى يدعون ربهم كما قص علينا ربنا
الإبداع فى التقديم و التأخير :
أغلب مفردات هذا البحث منقولة بتصرف من كتابات دكتور فاضل السامرائى حفظه الله
تقديم هارون على موسى و موسى على هارون
قال تعالى فى سورة طه ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى))
يثور السؤال لما قدم سبحانه هارون على موسى فى شورة طه، بينما الأصل تقديم موسى على هارون كما فى قوله تعالى فى سورة الشعراء ((َأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ))
الجواب : أن ذلك لم يأت فقط لموافقة الفاصلة فى سورة طه، و إنما تكرر ذكر هارون كثيراً في سورة طه (أربع مرات)
{ وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}
{ َأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}
{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}
{ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}
- كما أن الخطاب وجه إلى موسى وهارون دائماً فبنيت القصة في سورة طه على الثنائية
{ اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } { فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} { قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} { قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} { فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} { إنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى } {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}
-كذلك في سورة طه ذكر ضعف موسى البشرى (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى) بينما لم يذكر الخيفة لهارون....
أما في سورة الشعراء فقد ورد ذكر هارون مرتين فقط والخطاب في السورة كان موجهاً إلى موسى وحده في كل السورة فهي مبنية على الوحدة في الغالب وقد أورد تعالى في سورة الشعراء عناصر القوة في موسى .... ولهذا السبب اختلف السياق واقتضى التقديم والتأخير كما جاء في آيات كل من السورتين...
تقديم و تأخير العلم و الحكمة :
قال تعالى فى سورة يوسف ((َكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ))
وقال عز و جل غى سورة الأنعام((وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ))
فقدم العلم على الحكمة فى الأولى و قدم الحكمة على العلم فى الثانية
قال الكرمانى فى البرهان: [ و أما تقديم الحكيم على العليم فى سورة الأنعام فلأنه مقام تشريع الأحكام فقدم الحكم، اما فى سورة يوسف فقدم العلم على الحكمة لقوله فى أخرها و علمتنى من تأويل الأحاديث]
– و لاحظ أنه كلما إجتمع الإسمان العليم و الحكيم فى سورة الأنعام قدم الحكيم على العليم....و حيث إجتمعا فى سورة يوسف قدم العليم على الحكيم
ذلك أن مواطن يوسف كلها مواظن العلم أولاً، و مواطن الأنعام كلما مواطن الحكمة او الحكم أولاً
تقديم و تأخير تقسيم الرزق فى سورتى الأنعام و الإسراء :
قال تعالى فى سورة الأنعام ((وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ))
و قال جل و علا فى سورة الإسراء ((َوَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم))
جاءت الأيتان فى سياق النهى عن عن قتل الولد و تبيان أن الرزق من الله ، و لكن قدم الأباء فى الرزق فى سورة الأنعام،و قدم الذرية فى الرزق فى سورة الإسراء
و سر ذلك أن الأية الاولى تخاطب الفقراء الذين يرفضون الإنجاب بسبب فقرهم فبدأ الله تعالى بطمأنتهم أولاً و تقديمهم،
أما الأية الثانية فتخاطب أغنياء يخشون أن يفتقروا إن عالوا ذرية، و لهذا قدم ذكر الذرية فى الرزق لطمأنتهم
تقديم و تأخير المغفرة و الرحمة :
دائماً تأتى المغفرة مقدمة على الرحمة فى القرأن فنقرأ كثيراً أنه تعالى (غفور الرحيم) و ذلك لان درأ المفدسة مقدم على جلب المصلحة، فالعبد يرجو أن يتجاوز الله عن ما أفسد و أذنب ، ثم يرجو أن يتنعم بخير الدنيا و الأخرة برحمة الله إذ لا يدخل أحد جنة الله إلا برحمته
و لكن قال تعالى إستثناءً من هذا الأصل ، إلا أية فى سورة سبأ قال تعالى فيها ((يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)) فقدم الرحمة على المغفرة..
و سر ذلك أن الأية كانت تتكلم عن علم الله تعالى و العلم قرين الرحمة فى القرأن فناسب ذلك تقديم الرحمة
كما قال تعالى { كتاب فصلناه على علم هدى و رحمة} وقال عز و جل { فوجدا عبداً من عبادنا أتيناه رحمة و اتيناه من لدنا علما} و قال تبارك إسمه { ربنا وسعت كل شىء رحمة و علما}
إذ أن العلم إن كان شرعياً فهو رحمة من الله لعباده و منة ، و كذلك إن كان دنيوياً فإن لم يقرن بالرحمة كان أداة فساد و تشويه، كما نرى فى يومنا لما علم الغرب الكافر ظاهراً من الحياة الدنيا إستعمل علمه فى صناعة أصلحة الدمار و سرطنة الطعام و ما لوث الهواء و السمع و البصر و الحياة...
- أيضاً لو قرأنا الآية في سورة سبأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) لم يتقدّم الآية ما يخصّ المكلَّفين أبداً والمغفرة لا تأتي إلا للمكلَّفين والمذنبين الذين يغفر الله تعالى لهم، وإنما جاء ذكرهم بعد الآيتين الأولى والثانية لذا اقتضى تأخير الغفور لتأخر المغفور لهم في سياق الآية. أما في باقي سور القرآن الكريم فقد وردت الغفور الرحيم لأنه تقدّم ذكر المكلَّفين فيذنبون فيغفر الله تعالى لهم فتطلّب تقديم المغفرة على الرحمة.
تقديم و تأخير المال و النفس :
قال تعالى فى يسورة أل عمران ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ)) و قال عز و جل فى سورة النساء ((َفضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً))
أما فى سورة التوبة فقال تعالى ((إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ)) فقدم ههنا النفس على المال
و سبب ذلك أن الأيات السابقة كانت تتحدث عن البذل و البلاء و الجهاد ، فناسب تقديم ذكر المال لأنه وسيلة التقوى بالعدة و تجهيز الجيوش لتحقيق القوة و من ثم الجهاد بالنفس ، ثم أن الإنسان يفدى نفسه بماله فلو خير بن حياته و بين ماله لقدم بذل ماله...
و لكن لما كان الحديث عن الاخرة و الجنة كما فى سورة التوبة فناسب ذلك تقديم النفس لأنها الموعودة بالجنة و لأنها الأغلى من المال فناسبت غلاء الجنة ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة....
تقديم وتأخير اللهو على اللعب في آية سورة العنكبوت :
كل الآيات في القرآن جاء اللعب مقدّماً على اللهو إلا فى أية من سورة العنكبوت (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
و سر ذلك أن الأية التى سبقت هذه الأية مباشرة قال تعالى فيها (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) والرزق ليس من مدعاة اللعب وإنما اللهو كما في قوله تعالى في سورة المنافقون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
تقديم وتأخير كلمة (شهيداً) في آية سورة العنكبوت وآية سورة الإسراء :
قال تعالى في سورة العنكبوت (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )
وقال في سورة الإسراء (قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)
في آية سورة الإسراء ختم تعالى الآية بذكر صفاته (خبيراً بصيرا) لذا اقتضى أن يُقدّم صفته (شهيداً) على (بيني وبينكم)، أما في آية سورة العنكبوت فقد ختمت الآية بصفات البشر (أولئك هم الخاسرون) لذا اقتضى تقديم ما يتعلّق بالبشر (بيني وبينكم) على (شهيدا).
تقديم وتأخير الأرض والسماء في سورتى يونس و سبأ :
قال تعالى فى سورة يونس (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)
وقال عز و جل فى سورة سبأ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)
الكلام في سورة يونس عن أهل الأرض و عملهم فيها، فناسب أن يقدم الأرض على السماء في قوله تعالى (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) أما في سورة سبأ فالكلام عن الساعة والساعة يأتي أمرها من السماء وتبدأ بأهل السماء (فصعق من في السموات والأرض) و(ففزع من في السموات ومن في الأرض) ولذلك قدّم السماء على الأرض في قوله تعالى (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض).
واستخدمت السماء في سورة يونس لأن السياق في الإستغراق فجاء بأوسع حالة وهي السماء لأنها أوسع بكثير من السموات في بعض الأحيان. فالسماء واحدة وهي تعني السموات أو كل ما علا وفي سورة سبأ استخدم السموات حسب ما يقتضيه السياق.
تقديم وتأخير الصابئين في آيتي سورة البقرة والمائدة :
قال تعالى في سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
وقال في سورة المائدة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
الآيتان فيهما تشابه واختلاف وزيادة في إحداها عن الأخرى.
في سورة البقرة قدّم النصارى على الصابئين (النصب جاء مع العطف لتوكيد العطف)، وفي آية سورة المائدة قدّم الصابئون على النصارى ورفعها بدل النصب.
فمن حيث التقديم والتأخير ننظر في سياق السورتين الذي يعين على فهم التشابه والإختلاف، ففي آية سورة المائدة جاءت الآيات بعدها تتناول عقيدة النصارى والتثليث وعقيدتهم بالمسيح وكأن النصارى لم يؤمنوا بالتوحيد فيما تذكر الآيات في السورة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ...) ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ...) ثم جاء التهديد (وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ...) هذا السياق لم يذكر هذا الأمر في سورة البقرة وهكذا اقتضى تقديم الصابئين على النصارى في آية سورة المائدة. فلما كان الكلام في ذم معتقدات النصارى اقتضى تأخيرهم عن الصابئين لبيان حقيقة مكانة دينهم.
تقديم وتأخير اللهو على التجارة في آية سورة الجمعة :
قال تعالى (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )
نزلت هذه الأية بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب بعد صلاة الجمعة فجاءت العير بتجارة وكانت سنة شديدة فانفضّ الناس بسبب التجارة وليس بسبب اللهو ، فعندما نودي أن القافلة وصلت انفضّ الناس عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولهذا قدّم التجارة في أول الآية (وإذا رأوا تجارة).
ثم في نهاية الآية قدّم تعالى اللهو على التجارة لأن الذين ينشغلون باللهو عن الصلاة أكثر من الذين ينشغلون بالتجارة تحديداً عنها، إذ أبواب اللهو كثيرة و اهل اللهو أشد بعداً عن الله و طلب الأخرة ، فناسب تقديهم فى الذكر و التذكير بأن ما عند الله تعالى خيرٌ من اللهو ومن التجارة ...
وهناك أمر آخر وهو تكرار (من) في قوله تعالى (من اللهو ومن التجارة) لأنه لو قال (من اللهو والتجارة) لأفاد أن الخيرية لا تكون إلا باجتماعهما أي اللهو والتجارة أما قوله تعالى (من اللهو ومن التجارة) فهي تفيد أن الخيرية من اللهو على جهة الإستقلال ومن التجارة على جهة الإستقلال أيضاً فإن اجتمعا زاد الأمر سوءاً.
تقديم (ما تسبق من أمة أجلها) على (ما يستأخرون) في آية سورة الحجر والمؤمنون :
قال تعالى في سورة الحجر (مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) وقال في سورة المؤمنون (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) بتقديم (ما تسبق) على (ما يستأخرون)
أما في سورة الأعراف فقد جاءت الآية بقوله (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) بتقديم (لا يستأخرون) على (لا يستقدمون).
وإذا لاحظنا الآيات في القرآن نجد أن تقديم (ما تسبق من أمة أجلها) على (وما يستأخرون) لم تأت إلا في مقام الإهلاك والعقوبة.
تقديم وتأخير كلمة ( تخفوا ) في آية سورة البقرة وسورة آل عمران :
قال تعالى في سورة البقرة (لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
وقال في آل عمران (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
المحاسبة في سورة البقرة هي على ما يُبدي الإنسان وليس ما يُخفي ففي سياق المحاسبة قدّم الإبداء أما في سورة آل عمران فالآية في سياق العلم لذا قدّم الإخفاء لأنه سبحانه يعلم السر وأخفى.
تقديم الشتاء على الصيف والجوع على الخوف في سورة قريش :
قال تعالى في سورة قريش (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ {1} إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ {2} فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ {4} ) والمعروف أن حاجة الإنسان للطعام في الشتاء أكثر من الصيف، والخوف في الصيف أكثر لأنه فيه يكثر قطّاع الطرق والزواحف، لذا لما قدّم تعالى الشتاء قدم ذكرالجوع فى الأية التالية، و لما أخر ذكر الصيف أخر ذكر الخوف، وقال أيضاً أطعمهم ولم يقل أشبعهم لأن الإطعام أفضل من الإشباع. ولقد جاءت سورة قريش بعد سورة الفيل للتركيز على الأمن في البيت الحرام بعد عام الفيل...و هذا كله يدخل أيضاً فى التناسق الموضوعى الذى سنعقد له فصلاً مستقلاً بمشيئة الله
تقدّيم البصر على السمع في آية سورة الكهف وآية سورة السجدة :
قال تعالى في سورة الكهف (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)
وقال في سورة السجدة (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ)
والمعلوم أن الأكثر في القرآن تقديم السمع على البصر لأن السمع أهم من البصر في التكليف والتبليغ ،ففاقد البصر الذي يسمع يمكن تبليغه أما فاقد السمع فيصعب تبليغه ، بالإضافة إلى أن السمع ينشأ في الإنسان قبل البصر في التكوين.
أما لماذا قدّم البصر على السمع في الآيتين المذكورتين فالسبب يعود إلى أنه في آية سورة الكهف الكلام عن أصحاب الكهف الذين فروا من قومهم لئلا يراهم أحد ولجأوا إلى ظلمة الكهف لكيلا يراهم أحد لكن الله تعالى يراهم في تقلبهم في ظلمة الكهف وكذلك طلبوا من صاحبهم أن يتلطف حتى لا يراه القوم إذن مسألة البصر هنا أهم من السمع فاقتضى تقديم البصر على السمع في الآية.
وكذلك في آية سورة السجدة، الكلام عن المجرمون الذين كانوا في الدنيا يسمعون عن القيامة وأحوالها ولا يبصرون لكن ما يسمعوه كان يدخل في مجال الشك والظنّ ولو تيقنوا لآمنوا أما في الآخرة فقد أبصروا ما كانوا يسمعون عنه لأنهم أصبحوا في مجال اليقين وهو ميدان البصر (عين اليقين) والآخرة ميدان الرؤية وليس ميدان السمع وكما يقال ليس الخبر كالمعاينة. فعندما رأوا في الآخرة ما كانوا يسمعونه ويشكون فيه تغير الحال ولذا اقتضى تقديم البصر على السمع.
تقديم وتأخير الجن والإنس في آيتي الإسراء والرحمن :
قال تعالى: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء
وقال عز وجل : ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ) الرحمن
قدم في الأولى الإنس وقدم في الثانية الجن لأن مضمون الآية هو التحدي بالإتيان بمثل القرآن ، ولا شك أن مدار التحدي على لغة القرآن ونظمه وبلاغته وحسن بيانه وفصاحته.
والإنس في هذا المجال هم المقدمون ، وهم أصحاب البلاغة وأعمدة الفصاحة وأساطين البيان ، فإتيان ذلك من قبلهم أولى ، ولذلك كان تقديمهم أولى ليناسب ما يتلاءم مع طبيعتهم.
أما الآية الثانية فإن الحديث فيها عن النفاذ من أقطار السموات والأرض ، ولا شك أن هذا هو ميدان الجن لتنقلهم وسرعة حركتهم الطيفية وبلوغهم أن يتخذوا مقاعد في في السماء للاستماع ، كما قال تعالى على لسانهم : " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع " الجن 9
فقدم الجن على الإنس لأن النفاذ مما يناسب خواصهم وماهية أجسامهم أكثر من الإنس
تقديم وتأخير (يؤمنون بالله) في آيات سورة آل عمران:
قال الله تعالى في سورة آل عمران ((لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ))
وقال تعالى في في نفس السورة ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ))
فقدم الإيمان على الأمر بالمعروف فى الأية الأولى، و قدم الأمر بالمعروف على الإيمان فى الثانية، وذلك أن الخطاب في الأخيرة للمسلمين، ونحن آخر الأمم من حيث الترتيب الزمني. فجاء الإيمان بالله آخراً لأن هناك من سبقونا بالايمان من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، كما أن هذه الأمة إشتهرت بالأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، و فتحت البلاد لدعوتهم لذلك
أما في الآية الأولى فالخطاب لأهل الكتاب الذين أسلموا قبل بعثة الرسول وفي زمن أنبيائهم موسى وعيسى عليهما السلام لذا جاء قوله تعالى يؤمنون بالله أولاً في الترتيب ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و لأن الناهين عن المنكر فيهم قليل ، فاليهود لا يدعون غيرهم إلى دينهم، و النصارى من تعاليمهم (لا تقاوموا الشر) كما أن دين المسيح الحقيقى لم تتسن الدعو له كما وقع بعد تحريفه!
و لهذا ذكر الله السمة العامة لأهل الكتاب إلا من رحم الله منهم فقال
((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ* كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ))
عارف الشمري
2011-04-02, 10:29 PM
التناسق الموضوعى :
من أوجه إعجاز القران الحكيم أنه و رغم نزوله مفرقاً منجماً على مدار ثلاثة و عشرين سنة،و رغم تداخل موضوعاته و تعدد أطروحاته ، فإننا بالنظر فيه نجده وحدة واحدة متناسقة، و مواضيعه متناغمة متناسبة فيما بينها، و مقاصدة متممة على أكمل وجه، فقصصه متناهية البلاغة و التصوير، و محققة للعبرة بأفضل تعبير، و كذا الوعيد و الوعيد، و التذكرة و العظات، و الأحكام و التشريعات، و العقائد و الأخلاق، ما فُرط فى الكتاب من شىء فتبارك الله رب العالمسن
و بالنظرر فى بعض أوجه التناسب الموضوعى نجد فيه:-
* التناسب بين صدر السور و ختامها
* التناسب بين كل سورة و السورة التى تليها
* التناسب بين الأية و الأية التى تليها فى السورة
* التناسب بين أجزاء السورة الواحدة جملة
* التناسب بين بداية القرأن كله و ختامه
و لنضرب أمثلة على كل مما سبق لنعاين عظمة القرأن كلمة الله الخالدة:
التناسب بين بداية القرأن كله و ختامه :
تدور رسالة القرأن كله على التوحيد، و أن الله سبحانه متفرد (بالألوهية) فهو المعبود المطاع (الربوبية) فهو الخالق الرازق المحيى المييت (الملك) فهو المتصرف فى أمر ملكه و العبيد عبيده يحكم فيهم فى الدنيا بشرعه و فى الأخره بقهره سبحانه
و هذه المعانى الثلاث هى التى يرددها المسلم فى تلبية فى الحج الأكبر:
فيقر الألوهية بقوله: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد..
و يقر الربوبية بقوله: و النعمة لك، أى هو الخالق الرازق المنعم
و تقرير الملك بقوله: و الملك لا شريك لك
و هذا هو المعنى الذى نجده فى قوله تعالى فى أول الفاتحة:
( الحمد لله) فهذا هو توحيد الألوهية أننا نتوجه لله بالحمد و حمده بعبادته و دعاءه و الثناء عليه، كما أن لفظ الجلالة (الله) مشتق من الإله بمعنى الإشتراك فى اللفظ و المعنى
(رب العالمين) و هذا تقرير الربوبية
(مالك يوم الدين) و فى قراءة (ملك يوم الدين) و هذا تقرير الملك
و و هذه المعانى الثلاث فى أول سورة فى القرأن هى ذاتها المتقررة فى أخر سورة فى القرأن سورة الناس
(قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* إله الناس)
فتأمل....
من امثلة التناسب بين صدر السورة و ختامها :
سورة أل عمران
أفتتحت بذكر إنزال القرأن و كذلك التوراة و الإنجيل من قبل ليهدى الناس للإيمان ((نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ..))
و ختمها بقوله تعالى (( و َإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ..))
و أفتتحت بدعاء المؤمنين اللعالمين و منه قولهم((إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ))
و أختتمت بدعاء المؤمنين اللبيبين و منه قولهم ((إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ))
سورة النساء
أفتتحت بذكر بدء الخلق و الولادة ((أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء))
و ختمت بأحكام الوفاة و البتر ((إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ))
و فتحت بذكر الرجل و النساء ((وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء))
و ختمت كذلك ((وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء))
و فتحت بأيات المواريث و الكلالة ((ِّللرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ..))
((وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ..))
و ختمت كذلك ((يسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ..))
سورة المائدة
بدأت ببيان مسائل أحكام حتى قال تعالى ((إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ))1
و ختمت ببيان أن الله مالك الملك و الملك يحكم فى ملكه ما يريد
((لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))120
و بدأت بتحريم الصيد ( فى الإحرام) و الشهر الحرام و الهدى و القلائد
((أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ..))1
و ختمت بذلك أيضاً
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ..))95
((جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ))97
و فى أولها إحلال بهيمة الأنعام ((أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ))1
و فى أخرها الوعيد لمن حرم منها ما لم يحرمه الله ((مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ))103
و فى أولها ((َلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً..))12
و فى أخرها ((لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً..))70
و فى أولها ((لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ..))17
و فى أخرها كذلك ((َّلقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)) 72
سورة الأنعام
فى أولها ((ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ))1
و فى أخرها ((وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ))150
و فى أولها ((أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ)) إلى قوله (( وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)) 6
و فى أخرها ((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ))165
سورة الأعراف
فى أولها ((وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ))2
و فى أخرها ((تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ))201
و فى أولها ((اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ))3
و فى أخرها ((قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي)) 203
و فى أولها ذكر الشيطان و تكبره عن السجود ((قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ))11
و فى أخرها ذكر الملائكة الركع السجود ((إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ))206
و فى أولها ((ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)) 55
و فى أخرها ((وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً))205
سورة الأنفال
أفتتحت بقوله عن المؤمنين ((أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ))4
و أختتمت بقوله ((أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) 74
سورة التوبة
أفتتحت بقوله ((وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ))3
و أختتمت بقوله ((فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)) 129
سورة يونس
أفتتحت بقوله ((أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ))2
و أختمت بقوله ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ))109
سورة يوسف
أفتتحت بقوله ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ))3
و أختتمت بقوله ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى))111
سورة الروم
بدأت بقوله تعالى ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ))
و كان أخرها تأكيد تحقيق وعد الله
((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ))
سورة الإسراء
أفتتحت بالتسبيح ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ))
و أختتمت بالتحميد ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ))
و فى أولها يسبح سبحانه نفسه ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ))
و فى أخرها يسبحه المؤمنون ((وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا))108
و فى أولها ذكر موسى ((وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً)) 2
و فى أخرها ذكر موسى ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ))101
سورة المؤمنون
فى أولها ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ))1
و فى أخرها ((إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ))117
سورة القصص
بدأت بقوله ((تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ))2
و ختمت بقوله ((وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ))86
و فى أولها ((فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ))17
و فى أخرها ((َلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ))86
و فى أولها هجرة موسى من وطنه و العودة إليه، و فى أخرها النبوءة للنبى بالعودة إلى مكة
و فى أولها ((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ))5
و فى أخرها ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) 83
و كذا البشارة للنبى و المؤمنين الذين استضعفوا فى الأرض بالإمامة و أن يرثوا الأرض و يفتحوا مكة ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ))85
سورة العنكبوت
بدأت بقوله تعالى ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ))
فبينت أن المؤمنين لابد أن يبتلوا و يصبروا و يجاهدو حتى يدللو على صدق إيمانهم
و ختمت ببيان الجزاء الحسن لمن صبر و جاهد فى سبيل الله و صمد امام فتن الدنيا ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ))
سورة الأحزاب
جاء فى أولها أمر الله تحذير الله لنبيه من المنافقين و الكافرين و
((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً))1
و ختمت بالوعيد للكافرين و المنافقين ((لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ..))73
سورة ص
بدأت بقوله ((وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ))1
و أختتمت بقوله ((إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ))87
سورة الممتحنة
بدأت بقوله ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء))1
و ختمت بقوله ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ))13
سورة الحشر
بدأت بقوله ((سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))1
و ختمت بقوله ((يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))24
سورة التحريم
بدأت بذكر أزواج النبى صلى الله عليه و سلم، و ختمت بذكر إمرأتين من نساء الجنة
و بدأت بالتحذير من التظاهر علي رسول الله ، و ختمت بذكر زوجتى نوح و لوط لما خانتاهما فلم يعنيا عنهما شيئا أ تحذيراً لأمهات المؤمنين رضوان الله عليهم و تخويفا
سورة القلم
بدأت بقوله تعالى ((مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ))2
و ختمت بقوله ((َإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ))51
سورة عبس
بدأت بذكر العبوس و هو من صفة الوجه ((عَبَسَ وَتَوَلَّى))
و ختمت بوصف الوجوه أيضاً
((جُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ))
و هكذا يسير الحال مع كل السور القرأنية فلا بد أن تجد تناسباً بين ما يطرحه أولها و ما يرد فى أخرها و لولا خشية الإطالة لأوردنا ذلك مفصلاً لكن من أردا التوسع فعليه بكتاب (مراصد المطالع ) للإمام السيوطى رحمه الله بتحقيق د. محمد يوسف الشربجى
من أمثلة التناسب بين السورة و السورة التى تليها :
المثال الأول
ختمت سورة البقرة بقوله ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ))
و جاءت بداية أل عمران مصدقة لهذا بقوله تعالى ((نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ))
و جاء فى أخر سورة البقرة قوله ((وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ))
و جاء فى بداية سورة أل عمران قوله ((قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ))
و جاء فى أخر سورة البقرة تقرير الربوبية ((لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ))
فجاء فى أول سورة أل عمران تقرير الألوهية ((اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))
و أختتمت البقرة بدعاء المؤمنين ((رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ))
و أفتتحت سورة أل عمران بدعاء المؤمنين ((رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ))
المثال الثانى
أختتمت سورة أل عمران بالأمر بالتقوى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))
و أفتتحت سورة النساء بالأمر بالتقوى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ))
المثال الثالث
سورة النساء أختتمت بذكر حكم من الأحكام ((يسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ))
و أفتتحت سورة المائدة بالأمر بالوفاء بالعقود و منها اتباع احكام الشرع الحنيف ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ))
كما أنها تناولت أيضاً جملة من الأحكام ((أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ))
المثال الرابع
سورة المائدة ختمت بتعظيم الله و تقرير الربوبية ((لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
و بدأت سورة الأنعام بتعظيم الله و تقرير الربوبية ((الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ))
سورة المائدة ختمت بسؤال الله للمسيح عن الذين عبدوه من دونه ((وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ))
و بدأت سورة الأنعام بتكفير الذين يعدلون بالله أحداً كمن قالوا إن الله له ابن او انه المسيح ابن مريم ((ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ))
و فى ختام سورة المائدة قوله سبحانه على لسان المسيح ((ِإن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ))
و فى بداية سورة الأنعام قوله تعالى فى تقرير تفرده بالألوهية و علم الغيب ((وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ))
المثال الخامس
فى ختام سورة الأنعام إمتن سبحانه على المؤمنين أن جعلهم خلائف لمن أهلكهم قبلهم ((َهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ))
و فى بداية سورة الأعراف ذكر خبر من أهلكهم سبحانه من قبل ((وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ))
و جاء فى ختام سورة الأنعام قوله تعالى ((وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) (155)
و فى بداية سورة الأعراف قوله ((اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ))3
و جاء فى ختام الأنعام أمره تعالى لنبيه ((قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) (162)
و فى بداية سورة الأعراف أمره لنبيه أن يؤدى رسالته خالصاُ لله غير مبال بغيره (( كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ))
المثال السادس
فى ختام سورة الأعراف الأمر بذكر الله خوفاً و إنابة ((وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)) (205)
و فى بداية سورة الأنفال وصف المؤمنين بخشية الله و وجل القلوب لذكره ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))(2)
و فى ختام سورة الأعراف بيان حال المؤمنين فى التعامل مع نزغ الشيطان و فتنته ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ))201
و فى أول سورة الأنفال ضرب مثلا على ذلك بالذين سألوا عن الأنفال- غنائم يوم بدر- فأمرهم سبحانه أن يردوا حكمها لله و الرسول، و امرهم بالتقوى و الإصلاح و ترك النزاع بينهم
((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))1
المثال السابع
فى ختام سورة النحل يواسى سبحانه نبيه الكريم، فأمره الله بالصبر و عدم الحزن او الضيق مما يلقاه من الأذى، خاتماً بأن الله تعالى ولى المتقين المحسنين
((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)) (128)
و فى بداية سورة الإسراء ذكر حادثة الإسراء التى كانت أعظم تخفيف و تسلية لرسول الله و أعظم ما رأى من الأيات الكبرى، و كانت بعد أن مر بكربات متلاحقة من موت خديجة و عمه و رفض الناس دعوته و تعديهم على شخصه الكريم حتى رشقوه بالحجارة!
((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))1
المثال الثامن
سورة الإسراء أختتمت بحمد لله و نفى الولد عنه ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً))
و سورة الكهف بدأت بحمد لله و الوعيد لمن نسب له الولد ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا )) إلى قوله ((وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ))
المثال التاسع
فى ختام سورة هود قوله تعالى ((وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ))120
و فى بداية سورة يوسف قوله عز و جل ((َنحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ))3
المثال العاشر
فى ختام سورة المؤمنين قوله تعالى ((وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ))
فكانت الإستجابة بقوله تعالى ((سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ))
لأن القرأن بكل ما فيه من العقائد و الأحكام و القصص هو رحمة الرحمن الرحيم ((وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))
فتتجلى الرحمة بالتصريح بالسورة فى بداية سورة النور و أنه سبحانه أنزلها تعظيماً لقدرها، و أنزل فيها أيات جعلها مبينة لتهدى الناس للحق بلا ريب رحمة من لدنه
فكل القرأن رحمة حتى ما يشتمله من حدود و جزاءات ، لأنها رحمة بالمجتمع ككل و تأديب و كفارة من رب العالمين
كما أن بداية سورة المؤمنين فيها بيان أن الزنا معصية ((وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ))
ففصل فى صدر سورة النور العقوبة المقررة على هذا التعدى ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ))
المثال الحادى عشر
ختمت سورة السجدة بقوله تعالى ((فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ))
و أفتتحت سورة الأحزاب بقوله ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ..))
المثال الثانى عشر
جاء فى ختام سورة الأحزاب قوله تعالى ((لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))
و أفتتحت سورة سبأ بقوله ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ))
فكان هذا الوصف فى أول سبأ لائقاً بذلك الحكم فى أخر الأحزاب ،فإن الملك العام والقدرة التامة يقتضيان ذلك
كما أنه ختم الأية بقوله ( و هو الحكيم الخبير) فالحكيم الذى يضع الأمور فى موضعها فيعذب من يستحق و يرحم من يستحق، كما أن الخبير هو الذى يعلم سبحانه أمور عباده و قلوبهم فيعلم المنافقات و المنافقات و إن أظهروا الإيمان!
و جاءت خاتمة سورة الأحزاب: {وكانَ اللَهُ غَفوراً رَحيماً } وفاصلة الآية الثانية من مطلع سبأ: { وهوَ الرحيم الغفور}
المثال الثالث عشر
سورة الواقعة متآخية مع سورة الرحمن في أن كلا منهما في وصف القيامة والجنة والنار
وانظر إلى اتصال قوله فى الواقعة ((إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ )) بقوله فى سورة الرحمن ((فإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء)) ولهذا اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة ولهذا عكس في الترتيب فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك وفي آخر هذه ما في أول الأخرى
فافتتح الرحمن بذكر القرآن ثم ذكر الشمس والقمر ثم ذكر النبات ثم خلق الإنسان والجان من مارج من نار ثم صفة القيامة ثم صفة النار ثم صفة الجنة
وابتدأ الواقعة هذه بذكر القيامة ثم صفة الجنة ثم صفة النار ثم خلق الإنسان ثم النبات ثم الماء ثم النار ثم النجوم ولم يذكرها في الرحمن كما لم يذكر فى الواقعة الشمس والقمر ثم ذكر القرآن فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك وكردّ العجز على الصدر
المثال الرابع عشر
سورة نوح جاءت متأخية مع سورة الجن
* ذلك أن سورة نوح أفتتحت بذكر أول رسول أرسل للبشر و أن دعوته خاصة بقومه و هو نوح عليه السلام
((إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ))
و سورة الجن أفتتحت بذكر أخر رسول أوحى إليه و بيان أن دعوته عامة للإنس و الجن صلى الله عليه و سلم
((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً))
* و كان قوم نوح قد عبدوا الأصنام بعدما كان التوحيد فى الأرض
كذلك قوم رسول الله عبدوا الأصنام بعدما كان التوحيد فى الأرض
* و كانت عبادة قوم نوح للأصنام بسبب تزيين الشيطان ،كما جاء فى الحديث القدسى((خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن فطرتهم))
حتى عاتبهم نوح لكذبهم على الله ((مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً))
و هذا ما تبرأ منه الجن الذين أسلموا
((وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً))
*و فى سورة نوح الوعد برزق السماء لمن أمن
((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً*يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً))
و كذلك فى سورة الجن
((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً))
* و فى سورة نوح الوعد بالبعث بعد الموت
((وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً))
و فى سورة الجن إعلامهم بالبعث بعد الموت
((وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً))
* و فى سورة نوح قوله عن خسران العصاة
((قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً)) حتى قوله ((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً))
و فى سورة الجن قوله عن خسران العصاة
((وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً))
المثال الخامس عشر
*سورة الهمزة متأخية مع سورة الفيل، إذ لما ذكر سبحانه فى الهمزة ، الذى جمع مالا و تقوى به و تجبر ، عقب بذكر قصة أصحاب الفيل الذين كانو شديدى القوة و اكثر مالاً و عتواً، و قد جعل الله كيدهم فى تضليل و اهلكهم بأصغر الطير و أضعفه
فمن كان قصارى تعزيه بالمال و همز اللسان كان أقرب للهلاك و أدنى للذلة
*كما أن سورة الفيل تناسب سورة قريش بعدها
إذ واقعة الفيل حدثت لقريش ، و نجاهم الله من عدوهم و أمنهم من الخوف تكريماً للبيت الحرام، فناسب ذلك أن يأمرهم فى سورة قريش بأن يعبدو رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع و أمنهم من خوف
أمثلة على تناسب كل أية مع الأية التى تليها :
المثال الأول
تدبر قوله تعالى فى سور أل عمران حاكيا عن الجهاد و نصر الله ((وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) ....إلى قوله تعالى ((وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ))
ثم قال فى الأية التالية (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))
و مناسبة ذكر الربا فى سياق أيات الجهاد، و بالتحديد بعد ذكر نصر بعد الذى جاء فى وقت الذل و الإستضعاف، هو التنبيه إلى أن الربا من أسباب الهزيمة و الذل بعد العزة ، لأنه من أخبث الخبائث إذ أن المرابى لا يحارب عدوه البشرى فقط بل يحارب ربه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ))
و من يخذله الله فلا ناصر له و من يذله فلا معز له
و لهذا بين رسول الله أن الربا (العينة) من أهم أسباب نزول الذل و الهزيمة فقال صلى الله عليه و سلم:
[إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] صحيح بمجموع طرقه، رواه أبوداود وأحمد.
المثال الثانى
تدبر قوله تعالى فى سورة النساء ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ))
ثم قوله فى الأية التالية (( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ))
و التناسب بين الأيتين أنه سبحانه لما أشار في الأولى إلى نزول القرأن من لدنه و وصفه بأنه (نور مبين) ، قسم الناس إلى نوعين ، الأول هم {الذين آمنوا بالله }و{ واعتصموا به } أي تمسكوا بحكمه و شرعه و جعلوه عصاماً لهم { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }
و تلك الرحمة و ذلك الهدى فى الدنيا و الأخرة، و رحمة الدنيا بالتوفيق لإتباع شرعه و الوقوف على حدوده و تعظيم محارمه..
أما النوع الثانى فهم الكافرون و المنافقون الذين { إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ } صدوا عن رسول الله صدوداً و ابتغو حكم الجاهلية عن حكم الله، و قد تم ذكرهم من قبل قريباً فى ذات السورة ، فأعرض عن ذكرهم لمعرفة العقل بهم بداهة و أنهم نقيض النوع الأول فى الصفات و فى المأل ، فكان هذا من بلاغة الإيجاز فى القرأن
ووضع موضعهم حكماً من أحكام الفرائض المفتتح بها السورة التي هي من أعظم مقاصدها من غير حرف عطف، بل بكمال الاتصال، فقال { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } إشارة إلى عظيم مكانة الشرع، و أن الله هو المشرع الأوحد و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مبلغ عن ربه، حتى وصل إلى قوله فى أخر الأية { يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ }
فكان هذا تفسير قوله عن القرأن (نوراً مبياً) يهتدى به الناس فى ظلمات الدنيا ، و تفسير لقوله (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) فهذه الفرائض هى من جملة هداية الله كى لا يضل الناس...فتأمل.
المثال الثالث
قال تعالى فى سورة إبراهيم (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ * قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ * اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ))
ثم قال فى الأيات التالية ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ))
و التناسب بين الأيات الأولى و الأيات التى تقص خبر إبراهيم بعدها عظيم
- فالأيات الأولى تبكت مشركى قريش الذى بدلوا نعمة الله بالتوحيد و البيت الحرام كفراً و جعلو لله أندادا ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ))
فذكرهم سبحانه بأبيهم إبراهيم إمام الموحدين الذى لم يك من المشركين ، و الذى بنى لهم البيت لتتم نعمة الله عليهم و دعا الله أن يجنبه و بنيه أن يعبدو الأصنام التى صاروا يعبدونها من بعده و بدلوا بذلك نعمة الله
((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ))
- كذلك فى الأيات الأولى وجه الله أمره للمؤمنين أن يقيموا الصلاة (( قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ))
و من ثم عدد نعمه على عبيده حتى بلغ قوله تعالى ((وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ))
لأن إقامة الصلوات و فعل الخيرات سبب فى تنزل الرحمات و تعدد المعطيات
فناسب ذلك تذكيرهم بأن أرضهم هذه كانت واد مقفر لا زرع فيه ولا حياة و إنما أعطاهم الله الماء و الحياة و جمع له خيرات الأرض بدعاء إبراهيم الموحد لما سكنها ، و إبراهيم ما سكنها إلا لتقام الصلاة فتأمل
((رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ))
المثال الرابع
تدبر قوله تعالى فى سورة الإسراء ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))
و قواه فى الأية التالية ((وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً))
و مناسبة ذكر موسى بعد ذكر حادثة الإسراء عظيمة
أن يوم الإسراء التقى رسول الله صلى الله عليه و سلم بموسى فصلى به و بسائر النبيين إماما فى المسجد الأقصى ،فكأنه يشير إلى تبعية موسى لرسول الله صلى الله عليه و سلم الذى جعله الله إمام النبيين و إمام المسجدين ..
لذلك أمر سبحانه بنى إسرائيل فى أخر الأيات قائلا (ألا تتخذو من دونى وكيلا) فحذرهم من معصيته ، و ذكرهم بعهده باتباع النبى الذى يجدونه فى الكتاب الذى أتاه الله موسى هدى لهم
،- كذلك إلتقى رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك اليوم بموسى فى السماء الخامسة
و كان موسى هو الذى يراجع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يراجع ربه فى أعظم فريضة فرضت فى الإسلام بعد شهادة الحق و هى الصلاة، و كان له فضل علينا فى تخفيف هذه الصلاة ، و تفرد موسى بذلك للتشابه الكبير بينه و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم
المثال الخامس
فى سورة النمل قال سبحانه ((حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ ))
ثم قال فى الأية التالية (( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ))
و التناسب بين الأيتين ، أن الله تعالى لما أخبر بأمر غيبى و هو أمر القيامة و أحداثها ، ذكر أياته المشاهدة لتكون دلالة على الخالق و على صدق الوعد بالبعث و الحساب، و هذا كثير فى القرأن أن يوثق اليقين فى الغيبيات بسرد الأيات المشاهدات
المثال السادس
تدبر سبب ورود قصة قارون فى سورة القصص فى موضعها، و بيان ذلك على النحو التالى:
1- سورة القصص بنيت على قصة نبى الله موسى ، فناسب ذكر قارون فيها لأنه من قوم موسى ((إنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى))
2- أن سورة القصص دارت حول معنى مدح المؤمنين المستضعفين و الوعد لهم، و ذم الكافرين المستكبرين و الوعيد لهم
ففى أولها قوله تعالى ((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ))
و فى أخرها قوله تعالى ((تلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))
فناسب ذلك ذكر فرعون (عدو موسى) الذى تكبر فى الأرض و ادعى الألوهية
((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ))
((وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي))
((وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ))
ولما جعل الله المؤمنين أئمة الفلاح كما قال فى صدر السورة، جعل جزاء فرعون و قومه أنهم أئمة الخسران ((وجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ)) فأنظر إلى التناسب العجيب بين الأيات و الكلمات و المضمون!
وناسب ذلك أيضاً أن يذكر قارون الذى كان شيمته التكبر و الغرور حتى نسى فضل ربه فقال عن ماله ((قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي))
فكان جزاءه قريبا من جزاء فرعون ، فهذا أجرى الله الأنهار من فوقه بعد أن قال ( و هذه الأنهار تجرى من تحتى) و ذاك خسف به الأرض و جعلها فوقه
3- لما ذكرت الأيات فى صدرالقصص خبر نبى الله موسى ،أتبعها سبحانه بذكر موقف قوم رسول لله صلى الله عليه و سلم منه ، حين إستكبروا عن القرأن و قالوا عنه و عنه التوراة ((قالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ))
فعقب بتذكيرهم أنه سبحانه يهلك القرى التى بطرت معيشتها و فسدت عقائدها ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ))
فناسب ذلك أن يضرب مثلاً بقارون لأنه من قوم موسى فبغى عليه كما كانت قريش قوم رسول الله فبغوا عليه!
لذلك قال فى سياق قصة قارون ((أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ))
4- أن ذكر قارون فيه تسلية لرسول الله لأن الله أخبره فى سورة القصص أنه لا يهدى من يحب و لو كان أقرب الأقربين و إنما الهدى هدى الله ((إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ))
فذكر قارون الذى كان من قوم موسى بل و من المقربين حتى اغتر بنفسه و نسى ربه،فيطمئن قلب رسول الله أن هذه سنة جارية و أن الفضل بالتقوى
5- أخيراً فإن الأيات عن قارون سبقها مباشرة بيان عجز البشر و ضعفهم فى الدنيا و أن الله المتصرف فيهم كيفما يشاء
((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ))
كما تضمنت بيان عجز البشر و ضعفهم فى الأخرة و أن الله هو المتصرف فيهم كيفما يشاء
(( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ))
فلما قدم ببيان حقيقة الإنسان و ضعف قوته و قلة حيلته و إفتقاره إلى مولاه فى الدنيا و الأخرة سبحانه، ذكر قصة قارون لتكون عبرة و تذكرة ملائمة لهذا المعنى،فلا يغتر إنسان بقوة أو مال و يعلم أن الله جبار عليه و فوقه قهار
المثال السابع
فى سورة سبأ قال تعالى ((أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ))
ثم قال تعالى ((وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ))
و التناسب بين الأيتين بديع:
ففى الأية الأولى يوقف سبحانه الكافرين على مكانتهم الحقيقة، فهم لا حول لهم ولا قوة ، ولا قيمة لهم عند ربهم إن كفروا، فلا أرض تقلهم ولا سماء تظلهم من الله ، بل تكون الأض و السماء نقمة عليهم و عذاب
و ختم الأية سبحانه ببيان أن فى ذلك عبرة لكل (عَبْدٍ مُّنِيبٍ)
(فالعبد) الذى أتم أركان العبودية و قام فى مقامها لله (المنيب) الذى يتوب و يعود إلى ربه متضرعاً ،ذاك من يستفيد قلبه بالذكر و يتعظ به فيرفع الله قدره
فناسب ذلك أن يذكر سبحانه نبى عظيم من أنبياءه و هو داود عليه السلام الذى شهد له القرأن بتحقيق مقام العبودية و الإنابة كما قال تعالى فى سورة ص
((اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ))
و أيضاً لأن من الأيات التى إختص الله بها داود أن سخر الله له الجبال و الطير تنيب معه و ألان له الحديد و لإبنه سليمان سخر له الريح و الطير و الجن
فكانت الأيات أشبه بمقارنة حية بين الكافرين الصاغرين الممقوتين عند ربهم و عند مخلوقاته فى الأرض و السماء
و بين المؤمنين المكرمين عند ربهم و عند مخلوقاته فى الأرض و السماء
المثال الثامن
تدبر قوله تعالى فى سورة لقمان ((وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ))
ثم قوله فى الأية التالية (( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ *وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون))
و العلاقة بين الأية الأولى و الثانية، أن الله تعالى بعدما وصى الوالد بولده بالنصح له كما فعل لقمان، ، ناسب أن يوصي الولد بوالده. فالإسلام يراعي التوازن والوسطية والعدل في الحقوق والواجبات لجميع أصناف الناس.
كما أن النهي عن الشرك، لا يعني عدم جواز طاعة الوالدين، بحجة خشية الوقوع في الشرك، فناسب ذلك التنبيه على بر الوالدين و الأحسان لهما بعد التحذير من الشرك
ولا يستبعد أن تكون التوصية بالوالدين جزءاً من موعظة لقمان لابنه، ونسَبَها إلى الله تعالى (ووصينا) بإسناد فعل التوصية إلى الله تعالى؛ إشارة إلى أنه لولا شريعة الله تعالى لما فطنتم لمثل هذا، فمصدر الهداية هو الله تعالى،أو يكون المراد: وصينا بمثل ما وصَّى به، وأسند الفعل إليه ـ سبحانه وتعالى ـ؛ لبيان أهمية طاعة الوالدين
المثال التاسع
تدبر قوله تعالى فى سورة الحديد ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ))
ثم قوله فى الأية التالية ((اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))
و العلاقة بين الثانية و الأولى، أنه سبحانه يشبه القلوب بالأرض فكام أنها تكون ميتة فينزل الله سبحانه الماء فيحييها و يثمرها، كذلك القلوب ميتة بدون ذكر الله و معرفته، فأحياها الله بنزول أيات القران و لهذا أمر المؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق
المثال العاشر
بدأ الله تعالى سورة المنافقين بفضح أحوالهم و سرد الكلام عنهم و بكيتهم حتى بلغ قوله جل و علا
((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ))
و قال بعد ذلك مباشرة مخاطباً المؤمنين
(( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ))
و التناسب بين الأيات محكم، إذ لما حكى سبحانه حال المنافقين و عجائب نفوسهم المريضة نبه على أن علة ذلك طمس البصيرة، و علة طمس البصيرة الإقبال بجميع القلب على الدنيا و زينتها و الإعراض عن الله و الإنفاق فى سبيله، كما قال تعالى فى سورة التوبة
((وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِين َ* فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ*فأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ))
و هذا يظهر جلياً فى قولهم هنا ((هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ))
فناسب ذلك أن تتبع هذه الأيات تحذير الله للمؤمنين من الإقبال على الدنيا وأن تلههم أموالهم و اولادهم عن ذكر ، و من ثم حثهم على الإقبال على الأخرة و النفقة فى سبيل الله
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ..))
و أيضاً فإن هذا التعلق بالمال و الدنيا و عدم اليقين فى أن الله مالك الملك و رازق الرزق هو عين ما حذر الله منه المؤمنين فى ختام سورة الجمعة التى تسبق سورة المنافقين فقال
((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ))
فتنبه إلى التلاحم بين الأيات و السور أرشدك الله
المثال الحاشر عشر
تناولت سورة الطلاق جملة من أحكام للنساء فى أمور الطلاق و السكن و النفقة و الرضاع ، ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة من المعاسرة والمياسرة في غاية المشقة، فلا يحمل على العدل فيها والعفة إلا خوف الله، كررسبحانه الحث على التقوى إشارة إلى ذلك وترغيباً في لزوم ما حده سبحانه، فقال عز و جل
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ))
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً))
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ))
حتى قال عز و جل ((لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ))
ثم قال بعد هذه الأيات مباشرة
((وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ))
و هذه الأيات متكاملة تماماً مع سابقتها إذ لما كان الأمر قد بلغ النهاية في الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع، فلم يبق إلا التهديد لمن عصى بما شوهد من المثلات وبالغ العقوبات، و هكذت تكامل الوعد مع الوعيد
ولما تمت الأحكام ودلائلها، وأحكمت الآيات وفواصلها، والتهديدات وغوائلها، كانت ثمرة سياقها وموعظتها الأمر بالتقوى فقال تعالى : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً }
فمن كانوا لهم سمع و بصيرة و عقول منيرة فليتعظو بالموعظة و يتقوا الله بإمتثال أمره و إجتناب نهيه الذى تضمنه ذكره المنزل على قلب نبيه
المثال الثانى عشر
كذلك فى سورة قريش لما قال تعالى ((لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ))
قال بعدها سبحانه ((الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ))
فقدم ذكر نعمة الرزق و الإطعام لأنه قدم ذكر التجارة و رحلة الشتاء و الصيف
و ذكر بعد ذلك نعمة الأمن من الخوف لأنها كانت بسبب وجود البيت الحرام فى أرضهم و هو المتأخر ذكره فى الأيات الأولى
أمثلة على التناسب بين أجزاء السورة الواحدة جميعاً :
المثال الأول
سورة الضحى (( وَالضُّحَى . وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى . مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى . وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى . وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى . أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى . وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى . وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى . فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ . وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ . وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ))
يظهر التناسق الفنى و الموضوعى فى هذه السورة من خلال تدبر الإيقاع رتيب الحركات، وئيد الخطوات , رقيق الأصداء ، و التمعن فى اللفظ المختار الذى أطلق جواً من الحنان اللطيف , والرحمة الوديعة , والرضاء الشامل , والشجى الشفيف ..... فلما أراد إطاراً لهذه الأجواء جعل الإطار من الضحى الرائق , ومن الليل الساجي . أصفى آنين من آونة الليل والنهار , وأشف آنين تسري فيهما التأملات . وساقهما في اللفظ المناسب ..
فالليل هو ( الليل إذا سجى ) لا الليل على إطلاقه بوحشته وظلامه , الليل الساجي الذي يرق ويصفو , وتغشاه سحابة رقيقة من الشجى الشفيف , كجو اليتم والعيلة ، ثم ينكشف ويجلي , ويعقبه الضحى الرائق , مع ( ما ودعك ربك وما قلى , وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ) فتلتئم ألوان الصورة مع ألوان الإطار , ويتم التناسق والإتساق .
و لاحظ التناسب بين قوله تعالى ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى))
ثم قوله فى الأيات التالية ((فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ))
نجد تلاحماً بين الموهوبات و التكليفات
- فلما قال (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) ناسب أن يطالب رسوله بالرفق باليتامى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)
- و لما قال ( وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى) ناسب أن يأمر نبيه بالإحسان إلى السائلين (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) لأن المسئول ليس فقط المال و إنما يشمل كل الخيرات و على رأسها العلم الذى هو الأمر الوحيد الذى سأل رسول الله ربه الإستزادة منه ((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً))
- و لما قال (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) ناسب ذلك أن يأمر نبيه بإظهار نعمة ربه عليه (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)
المثال الثانى
و الأن تدبر سورة الليل
(( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى* وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى* وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى* إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى*فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى*وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى*وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى* إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى* وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى* فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى* لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى* وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى* إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى ))
أنظر إلى روعة بناء السورة الواحدة على الثنائية ، فى إطار المقابلة بين الأبيض و الأسود !
- فتقرأ فيها: (الليل إذا يغشى) ،وتقرأ بعدها (النهار إذا تجلى) , المقابل تماما لليل إذا يغشى .
وتقرأ فيها : (الذكر والأنثى) المتقابلان في النوع والخلقة .
- و تقرأ فيها: (من أعطى و اتقى و صدق بالحسنى)، و تقرأ مقابله (من بخل و استغنى و كذب بالحسنى)
- و تقرأ فيها: للمتقى (فسنيسره لليسرى) و تقرأ للمسىء (فسنيسره للعسرى) المقابل تماما!
- و تقرأ فيها: ( الأخرة و الأولى) ، و هما متقابلتان
- و تقرأ فيها عن النار ( لا يصلها إلى الأشقى) و تقرأ فى المقابل ( و سيجنبها الأتقى)
و تقرأ فيها ( الذى كذب و تولى) و مقابله تماما ( الذى يؤتى ماله يتزكى....إبتغاء وجه ربه)
فذلك إطار مناسب للصورة التي يضمها .
أما الإيقاع المصاحب , فهي أخشن وأعلى من نظيره فى " الضحى " لذلك كان التعبير بـ (الليل إذا يغشى) لا بـ (الليل إذا سجى) الذى هو تعبير أرق فى سياقه، ولكن يظل أيضاً التعبير هنا ليس عنيفاً ولا قاسياً , لأن الجو للسرد والبيان , أكثر مما هو للهول والتحذير، فتأمل!
المثال الثالث
والآن استمع إلى إيقاع مختلف , وانظر إلى إطار آخر , لصورة تقابل هذه الصورة
((وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً* فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً* فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً* إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ* وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ* وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ* إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ))
تجد الإيقاع هنا شبيه بنظيره فى " النازعات " بل هو أشد وأعنف , فيه خشونة ودمدمة وفرقعة ، تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة , والصدور المحصل ما فيها بقوة . وجو الجحود وشدة الأثرة .. فلما أراد لهذا كله إطارا مناسبا , اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك , تثيره الخيل الضابحة بأصواتها , القادحة بحوافرها , المغيرة مع الصباح , المثيرة للغبار ؛ فكان الإطار من الصورة , والصورة من الإطار , لدقة التنسيق وجمال الاختيار .
المثال الرابع- و تدبر سورة من قصار السور و هى خذ سورة " الفلق " .
ثم انظر ما الجو المراد إطلاقه فيها ؟ إنه جو التعويذة , بما فيه من خفاء وهيمنة وغموض . وإبهام . فاسمع
(( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ . مِن شَرِّ مَا خَلَقَ . وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ . وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ . وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ))
فما الفلق الذي يستعيذ بربه ؟ نختار من معانيه الكثيرة معنى الفجر , لأنه أنسب في الاستعاذة به من ظلام ما سيأتي : مما خلق , ومن الغاسق , والنفاثات , والحسد . ولأن فيه إبهاما خاصا سنعلم حكمته بعد قليل .
يعوذ برب الفجر " من شر ما خلق " هكذا بالتنكير وبما الموصولة الشاملة . وفي هذا التنكير والشمول يتحقق الغموض والظلام المعنوي في العموم . " ومن شر غاسق إذا وقب " الليل حين يدخل ظلامه إلى كل شئ , ويمسي مرهوبا مخوفا . " ومن شر النفاثات في العقد " وجو النفث في العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام , بل هن لا ينفثن غالبا إلا في الظلام . " ومن شر حاسد إذا حسد " والحسد انفعال باطني مطمور في ظلام النفس , غامض كذلك مرهوب .
الجو كله ظلام ورهبة , وخفاء وغموض . وهو يستعيذ من هذا الظلام بالله , والله رب كل شئ . فخصصه هنا " برب الفلق " لينسجم مع جو الصورة كلها , ويشترك فيه . ولقد كان المتبادر إلى الذهن أن يعوذ من الظلام برب النور , ولكن الذهن هنا ليس المحكم , إنما المحكم هو حاسة التصوير الدقيقة . فالنور يكشف الغموض المرهوب , ولا يتسق مع جو الغسق والنفث في العقد , ولا مع جو الحسد . و" الفلق " يؤدي معنى النور من الوجهة الذهنية ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية , وهو مرحلة قبل سطوع النور , تجمع بين النور والظلمة , ولها جوها الغامض المسحور .
ثم ما هي أجزاء الصورة هنا أو محتويات المشهد ؟
هي من ناحية : " الفلق " و" الغاسق " مشهدان من مشاهد الطبيعة .
ومن ناحية : " النفاثات في العقد " و" حاسد إذا حسد " مخلوقان آدميان .
وهي من ناحية : " الفلق " و " الغاسق " مشهدان متقابلان في الزمان .
ومن ناحية : " النفاثات " و" الحاسد : جنسان متقابلان في الإنسان .
** و نوع آخر من تصوير الألفاظ بجرسها يبدو في سورة الناس
(( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ . مَلِكِ النَّاسِ . إِلَهِ النَّاسِ . مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ . مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ ))
اقرأها متوالية تجد صوتك يحدث " وسوسة " كاملة تناسب جو السورة . جو وسوسة " الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس " .
[منقول بتصرف من التصوير الفنى فى القرأن]
المثال الخامس
سورة المجادلة، هى سورة تتبدى فيها روائع التنسيق، و عجائب التصريف، و هى التى تكرر ذكر لفظ الجلالة (الله) فى كل أياتها!
* لما ختمت الحديد ببيان عجز الخلق و التفرد بعظيم الفضل لله
سبحانه
((وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))
كان سماع أصوات جميع الخلائق من غير أن يشغل صوت عن صوت وكلام عن كلام من الفضل العظيم،
وكان علمه سبحانه بشكوى المؤمنة المسكينة من ظهار زوجها وإزالة ضررها بحكم عام لها ولغيرها معلماً بأنه ذو الفضل العظيم
(( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيا إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ))
* و لما انتهى سبحانه من بيان كفارة الظهار و أتم نعمته على المؤمنين ختم الحكم بقوله
((وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))
و هذا تحذير منه سبحانه لمن يتجاوز حدوده و يعرض عن حكمه ،
فناسب ذلك أن يبدأ الأية التالية بتفصيل عذاب الكافرين الذى يتجاوزون حدود الله (يحادونه)
(( إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ))
* و لما كانت السورة منذ بدايتها تتناول قدرة الله العظيمة و أنه مع عباده بسمعه و بصره و علمه، لا يخفى عنه منهم خافية أتبع هذه الأيات بالحديث عن علمه الواسع سبحانه بسرهم و جهرهم و بيان هذه المعية، ثم تكلم عن النجوى و هى الحديث سراً ، فذم من بتناجى بالإثم و معصية الرسول، و مدح من يتناجى بالبر و التقوى....
((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىا ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىا مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ))
((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ))
((ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى..))
و ختم ذلك ببيان أن النجوى بالإثم هى من فعل الشيطان ليحزن المؤمنين
((إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ..))
*ولما ذكر ما يحزن من السر لكونه إختصاصاً عن الجليس بالمقال ، أتبعه بالنهى عن الإختصاص بالمقام ،وهو مباعدة الأجسام مما يرتب ذات الظن المذموم، معلماً لهم بكمال رحمته مراعاة حسن الأدب بينهم.
((ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ..))
*ولما كانت التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول من مكان إلى آخر أمرهم الله قائلا
((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ..))
و حتى يؤلف قلوبهم على طاعة الأمر أتبع ذلك ببيان جزاء الإستجابة
((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ))
*ولما نهى عما يحزن من المقال والمقام، بينما كانت مناجاة رسول الله
صلى الله عليه و سلم لا حرج فيها، أكثر البعض من ذلك بقصد الترفع حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم،فأُمر من أراد أن يناجيه بالتصدق ليكون ذلك أمارة على صدق الحاجة و الإيمان ، و لما تحقق المراد و هو التنبيه إلى الرفق برسول الله و عدم إكثار المناجاة خفف عنهم ليتم نعمته سبحانه
َ(( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))
((أأشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ...))
ثم أمرهم ان يشكروا نعمته بالتخفيف عنهم بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة
((فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ))
*ولما أخبر فى اخر الأية السابقة بإحاطة عمله (( و الله خبير بما تعملون)) أتبع ذلك بفضح المنافقين الذين يبطنون الكفر و يظهرون الإيمان و توعدهم
((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) حتى قوله تعالى ((أُوْلَـائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ))
* و لما كانت السورة بدأت الوعيد لمن يحادون الله ( يتجاوزون حدوده) ناسب أن تختم بذلك
((إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـائِكَ فِي الأَذَلِّينَ))
* و لما أتم سبحانه نعمته على المؤمنين الملتزمين حدوده و الوعيد للكافرين المتعدين حدوده و بيان أنهم حزب الشيطان و أنهم الخاسرون
ختم السورة بأمره للمؤمنين أن يتبرئو مما حاد الله و رسوله و لو كانو أقرب الأقربين و ختم بييان أن هؤلاء هم حزب الله و أنهم الفائزون
((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوااْ آبَآءَهُمْ ......... أُوْلَـائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))
المثال السادس
سورة الأحزاب ، و هى سورة عظيمة يتجلى فيها ما يعرف بـ "التجانس" و "التميز"
هذه الثنائية تقوم على ادعائين:
- دعوى أن القرآن كله متجانس في أسلوبه متشابه فى نسجه.
-دعوى أن كل سورة في القرآن تتميز عن أخواتها أسلوبا ونسجا.
فيكون الوجه الإعجازي جليا:اقتراب متزامن من نهايتين متضادتين:تميز الأفراد بحيث يتجانس المجموع.....!!ويتشابه المجموع في حين ينزع كل فرد إلى التفرد...!!
و قد تميزت سورة الأحزاب المباركة- مثلاً- عن أخواتها بظاهرة أسلوبية يسهل التقاطها بمجرد قراءة السورة وقد لا تتكرر في أية سورة أخرى بالوتيرة ذاتها....و هى ظاهرة "التعدد والتعداد" أو الاسترسال في العطف.
ومن الطريف أن نلاحظ بدءا أن اسم السورة –الأحزاب-مؤشر قوي على معنىالتعدد والتعداد..
كما أن مطلع السورة الندائي الذي يقرع الأذن يدخل القاريء إلى فضاء سيستأنس فيه بتكرار النداءات وتعددها على نحو لا يجده في سورة أخرى.لقد أحصيت 13 نداء :
-يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّه.
-يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
-يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ.
. يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ
-يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء.
-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيرا.
-يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيرا.
-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ.
-يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك.
-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ.
-يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ-
-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى.
-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً.
تعدد المنادى : النبي خمس مرات، المؤمنون ست مرات, ونساء النبي مرتين.
ومابين نداء ونداء يمر التالي بسلسلة من "التعدادات" حتى يتيقن أن التعداد هي ميزة السورة بلا ريب........
أليس في سورة الأحزاب:
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
تعداد مبارك لأهل البر ذكورا وإناثا بلغ عشرين – أوعشرة أزواج-
أليس في سورة الأحزاب:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}
تعداد لما أحل الله لرسوله .-سبع أصناف-
وهذا تعداد في سياق آخر:
{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً}
-سبع أصناف –
وهذه آيتان هما أجمع لصفات النبي صلى الله عليه وسلم وهما من "الأحزاب"طبعا:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}
-سبع صفات أيضا:النبوة والرسالة والشهادة والبشارة والنذارة والدعوة إلى الله والهدى-
وهذه سلسلة من أدب المؤمنين مع نبيهم ونسائه معدودة في كل الأحوال:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً}
وهذا تعداد لأولي العزم من الرسل وهم خمسة من صفوة خلق الله:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً}
ثم تمضي السورة المباركة في تعداد أنواع المشركين والمنافقين وتعداد ما أفاء الله على المؤمنين في غزوتهم......إلى ان تصل إلى التعداد الختامي:
{ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً.}
كتبه الشيخ أبى عبدالمعز
المثال السابع
سورة البقرة
أولاً:
إشتملت هذه السورة العظيمة على الدين كله:-
* إشتملت على أركان الإسلام الخمس ، ففيها ذكر التوحيد و الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج
* و إشتملت كذلك على أركان الإيمان
((كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))
* تألف نظمها العجيب من مقدمة و أربعة مقاصد و خاتمة كما رتبها الدكتور دراز رحمه الله:
1)المقدمة : تعريف بالقران الكريم و بيان أنه يؤمن به المتقين و يعرض عنه من لا قلب له أو كان فى قلبه مرض
2)المقصد الأول: دعوة الناس عامة إلى إعتناق الإسلام
3)المقصد الثانى: دعوة أهل الكتاب خاصة إلى إعتناق الإسلام
4)المقصد الثالث: عرض شرائع هذا الدين تفصيلا
5)المقصد الرابع:ذكر الوازع الدينى الذى يدفع لإلتزام تلك الشرائع
6)الخاتمة:فى التعريف بالذين إستجابوا لدعوة الله المشتملة على تلك المقاصد و بيان ما ينتظرهم فى عاجلهم و أجلهم
ثانياً:
* يتناسب أول السورة مع أخرسورة الفاتحة، إذ ختمت سورة الفاتحة بتصنيف الناس إلى (المنعم عليهم، و المغضوب عليهم، و الضالين)
كذلك بدأت سورة البقرة بتصنيف الناس إلى (متقين، و كافرين، و منافقين) و هى أصناف تشملها الأصناف المذكورة فى أخر الفاتحة
* و يتناسب أول السورة مع اخرها إذ بدأت بذكر المؤمنين و اختتمت بذكر المؤمنين
((ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..))
((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ..))
* كذلك يتناسب اخر سورة البقرة مع أول سورة أل عمران ، إذ أختتمت بذكر المؤمنين و إيمانهم بالله و كتبه
((أمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ))
و بدأ أل عمران بتفصيل الكتب التى أنزلها سبحانه
((َنزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ))
ثالثاً:
* لما كانت أول سورة فى القرأن بعد الفاتحة راعت الأولية فى كل شىء:-
- فبدأت بثلاثة أحرف مقطعة عجيبة ، تدعو الناس لليقين أن علمهم قاصر أمام علم ربهم، و أنهم عجزهم ظاهر أمام قرأن يتحداهم بيد أنه يتألف من أحرف لغتهم التى يتقنون!
- ثم كان أول ما تكلمت عنه هو حقيقة القرأن نفسه
فذُكر موصوفاً بثلاثة صفات، أنه الكتاب (فلا كتاب مثله)، و أنه لا ريب فيه ، و أنه هدى ...
و هكذا كان موقع هذه الجمل الثلاث بعد تلك الأحرف الثلاثة موقع التنويه بالمقصود بعد التنبيه إليه!
- ثم انتقلت لتصنيف من أنزل إليهم هذا الكتاب ، و هم البشر جميعاً فصنفتهم أيضاًً ثلاثة أصناف:
1- المؤمنين ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ))
2- الكافرين ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ))
3- المنافقين ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ))
و لاحظ بلاغة الإنتتقال لهذا التصنيف، إذ مزج الحديثين مزجاً يدع أقدر الناس تصريفاً للقول لا يفطن لما حدث بينهما من إنتقال، و ذلك بقوله (هدى للمتقين) فكان حرف اللام فقط هو المعبر السرى الذى إنزلق منه الكلام لتصنيف البشر تفصيلاً!
* ثم إنتقال سبحانه لأول نداء و أول أمر فى القرأن كله ، و لما كان أول النداءات، كان أعمها فوجهه إلى كل الناس، و كان أعظمها إذ دعاهم إلى شهادة لا إله إلا الله!
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ))
- و تأمل الإنتقال من تصنيف الناس و الكلام عنهم بصيغة الغائب إلى نداءهم بصيغة المتكلم، ذلك أنهم بعد أن كانوا غيباً فى أول الحديث أصبحوا بعد وصف القرأن الشافى و ضرب الأمثال الوافى حاضرين فى الخيال كأنهم رأى عين!
- كما أن نداءهم مباشرة فيه شعور برحمة المربى سبحانه و هو ينادى عباده للنجاة نداءً تكاد تسمعه بمجرد قراءته، لاسيما بعدما تبين خطورة ما هم عليه من العمى بالأمثال المضروبة
* و بعد دعوة البشر إلى لا إله إلا الله ثنى بإثبات الركن الأخر فى الشهادة ... محمد رسول الله
فمن شك فى نبوته صلى الله عليه و سلم فليأتى و لو بسورة من مثل القرأن فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا فاتقوا النار التى أعدت للكافرين، و مقابلها البشارة بالجنة التى أعدت للمؤمنين
فاشتملت هذه الأيات على على الإيمان بالله و الإيمان برسوله و الإيمان بكتابه و الإيمان باليوم الأخر
* ثم أتبع ذلك بضرب أول مثل فى القرأن و لما كان أول مثل ضربه بأحقر مخلوق فى عين الناس و هى البعوضة فما فوقها إمعاناً فى إعجاز الناس أمام ألاءه صغيرها و كبيرها !
*ثم انتقل سبحانه إلى أول قصة فى القرأن و لما كانت أول قصة ناسب أن تكون لأول إنسان، أبينا أدم عليه السلام...
فانظر كيف راعت السورة الأسبقية و الأولية فى كل شىء!
رابعاً:بين العلما أن كل سورة من سور القرأن لها مفتاح خاص بها و معنى تدور حوله، و مفتاح سورة البقرة هو
(الإستخلاف و الإبدال)
((سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ))
و لهذا سميت بهذا الإسم "البقرة"، إشارة إلى إستخلاف المؤمنين فى هذه الأمة بمن سبقهم من اهل الكتاب الذين تكبروا عن أمر الله و تنطعوا، و لننظر فى بيان ذلك:-
1- كانت أول قصة فى القرأن قصة نبى الله أدم و بين سبحانه أنه إختاره (خليفة) فى الأرض
و ظهر فى هذه القصة الفرق بين المسلم لأمر الله (نبى الله ادم) و المتكبر عن أمر الله( عدو الله إبليس)،
و هذا أساس الإستخلاف و الإبدال، و هو نفسه المغزى من مثل البعوضة من قبل!
2- ثم توجه سبحانه بالخطاب إلى بنى إسرائيل لأنها أشبه الأمم بأمة الاسلام من حيث امتلاكها كتاب و شريعة حكمها نبيها بها.... و هى الأمة التى سيتبدلها الله تعالى بأمة الإسلام و يستخلف المسلمين بهم!
- لذا اخذت تذكر نعم الله و مننه عليهم، و مقابلتهم المن بالجحود و القسوة و التكبر...
- حتى وصلت إلى قصة البقرة، و العظة الأعظم فيها التعريف بضرورة التسليم لأمر الله ، و هو ما لم يتوفر فى اليهود قساة القلوب
- ولاحظ كيف إختتمت قصة البقرة بقوله (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك..) فلم يحدد مدى زمنى لهذه القسوة ، إشارة إلى إستمرار تلك القسوة و ذلك الجحود إلى زمن الرسول صلى الله عليه و سلم فما بعده إلى يوم القيامة!
- لذلك أتبع هذه الأية ببيان حالهم فى زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقسمهم إلى فريقين، علماء مضلون يحرفون كلام الله و يكتمون الحق، و عوام جهال مضللون هم أسارى الامانى و الأوهام ، فمن يطمع فى إيمان من كان هذا حالهم؟!
و استطرد فى الكلام عنهم و تفنيد حججهم و فضح احوالهم و تتميم دعوتهم حتى ختمت الأيات فى الكلام عنهم بنفس ما بدأت به ...
فبدأت بقوله تعالى ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)) 47
و ختمت بقوله تعالى ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ))122
3- لما كانت تدور السورة حول معنى الإستخلاف و الإبدال ، و بالخصوص إبدال بنى إسرائيل بأمة الإسلام، جاءت الإرهاصات تحديداً لواحدة من أعظم التشريعات فى السورة و هو "تحويل القبلة" الذى يعتبر تجسيداً مادياً للإبدال و الإستخلاف و بيان ذلك:-
- قوله تعالى بعدما قص خبر اليهود أمراً المؤمنين أن يعتبروا بهم ولا يفعلوا فعلهم و ليحذروا حقدهم
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))
و لما ذكر الله الفضل العظيم قال بعده مباشرة ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
لأن من الخير الذى اصطفى الله به المؤمنين و من الفضل العظيم الذى قدره الله لهم جعل قبلة الدين هى المسجد الحرام بعدما كان المسجد الأقصى ، فكان الكلام هنا إرهاصاً و تعريضاً بما هو أت، لذا قال بعدها سبحانه
((وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ..)) 109 إلى قوله ((وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) 115
فتأمل سياق الأيات!
- بعدما ذكر خبر أدم و تفضيله على إبليس لما استكبر، و خبر بنى إسرائيل و غضب الله عليهم بعدما استكبروا ، عقب بذكر إبراهيم لمناسبة ذلك فى الرد على بنى إسرائيل الذين ينتسبون اليه ، و بيان أنه كان مسلماً لا يهوديأ ولا نصرانياً
((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))
- و تناول فى قصة إبراهيم ههنا بالخصوص بناء المسجد الحرام
((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))
و ما ذاك إلا إشارة إلى قدسية المسجد الحرام، و إرهاصاً لتحويل القبلة إليه، و تبياناً لكونه قبلة قديمة تعود لأبى الأنبياء إبراهيم بل من لدن نوح، لأن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم و عمله كان رفع القواعد منه!
((و َإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ))
و هكذا يتبين لك أن كل ما سبق كان إرهاصاً للنبأ العظيم ، تحويل القبلة و تبديل الأمة!
((قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ))
- و بذلك استقر معنى إستبدال أمة الإسلام و نبيها العربى ببنى إسرائيل و أساس هذا الإستبدال ليس العرق ولا الجنس و إنما التقوى و التسليم
فانظر إلى روعة التنسيق يا رعاك الله!
خامساً:لنتأمل بعض أمثلة التناسب البديع بين الأيات ، إذ يصعب جداً أن نسهب فى تناول هذه السورة العظيمة تفصيلاً، و هو أمر كم نتمناه لما فيها من العجب العجاب، لكن أنّى لنا أن نخرج فى هذا المقام كل درر سورة قال عنها رسول الله أنها "فسطاط القرأن"!
المثال الأول
تدبر قوله تعالى فى سورة البقرة ((َشهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...الأية))
ثم قوله عز و جل ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ))
ثم عودته للكلام عن الصيان بقوله ((أحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ...الأية))
- فإن مناسبة وضع أية ( و إذت سألك عبادى عنى..) بين الأيات التى تتناول الصيام، هو أن الصيام عبادة جليلة يتقرب بها العبد إلى ربه أيما قربة، و من أسباب إستجابة الدعاء التضرع حال الصيام، كذلك للصائم عند فطره دعوة لا ترد، فناسب ذلك أن يبين الله قربه لعباده و استجابته دعاءهم فى سياق أيات تشريع الصيام
المثال الثانى
قال سبحانه ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ))
ثم قال تعالى (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ))
ثم قال عز و جل (( وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))
و الأيات هنا فى غاية التناسب:
- فالأية الأولى إستكملت ما يخص بيت الله الحرام من شعائر ، و منها شعيرة السعى بين الصفا و المروة التى نسبها إلى نفسه سبحانه، و أثبتها فى الحج و العمرة،فكان ذلك توكيداً إضافيا لاستحقاق البيت لأن يكون قبلة ، و كان أيضاً مكملاً لقصة إبراهيم و إسماعيل السابق ذكرها إذ تعود هذه الشعيرة إلى فعل هاجر أم إسماعيل عليه السلام
- و أما الأية الثانية فجاءت بعد أية الصفا ، لأن علام الغيوب علم أن اهل الكتاب الحاقدين سيطعنون فى هذه الشعائر من إستقبال الكعبة ، و السعى بين الصفا و المروة ، فبادرهم بالتهديد و الوعيد أمراً إياهم ان يذعنوا للحق و لا يكتموه!
((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)) إلى قوله ((خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ))
- و أما الأية الثالثة ((وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))
فسر ورودها هنا تفنيد الشبهات حول شعائر البيت الحرام ، و بيان أن المؤمنين لا يعبدون الصفا ولا المروة ولا الكعبة و إنما يفعلون ذلك تعبداً لله الإله الأوحد ، و ما هذه الشعائر إلا رحمة يرحمنا به الرحمن الرحيم
و لما ختم الأية بذكر بقوله (الرحمن الرحيم) أتبع ذلك بذكر أيات رحمته التى تحيط بنا فى البر و البحر و السماء و الأرض ، و الليل و النهار!
((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) فتأمل
المثال الثالث
قال تعالى ((وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))
ثم قال عز و جل ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ))
و الأيات هنا فى غاية التناسب، إذ السياق فى أيات الحج، فبين سبحانه أن هذه العبادة التى قد يتمها بعد الناس رياءً و سمعة، لا تقبل إلا إن تحقق الأخلاص (لمن اتقى) و عقب بتكرار الأمر بالتقوى و التذكير بالموت و الحشر (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)
فناسب ذلك الوعيد أن يتبعه بذكر المنافق الذى هو أحق الناس بالاتعاظ هنا، المنافق المرائى الذى يظهر الخير و يبطن الشر و الفساد!
و مثل ذلك لما ذكر الله ضد ذلك المنافق و هو المؤمن الذى ينفق فى سبيل الله (مِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) اتبع ذلك بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً)
فكان النداء للمؤمن الذى هو أخر مذكور قبل النداء ليكون هذا النداء واقعاً في أذن هذا الواعي كما كان المنافق مصدوعاً بما سبقه من التقوى والحشر
المثال الرابع
قال تعالى ((وإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ))
ثم قال سبحانه (( حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ))
ثم عاد للكلام عن الطلاق و العدة(( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ))
و سر ذلك ثلاثة أمور:
1- لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين ، ضمن تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية ، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر ، قال البيضاوي { أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج ، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها}
و هذا مصداق قوله تعالى (( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ))
يإختصار: لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله
2- لأن الصلاة هى خير ما يستعين به الإنسان لإصلاح أحواله و رفع الكربات و المشاكل التى يواجهها، و السياق هنا كان فى أمور الشقاق و الطلاق و الترمل و غيرها من مشكلات الدنيا،
فليستعن العبد بالصلاة لتحقيق الصبر على البلاء ، و لبسط الرزق و تنزل النعماء
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ))
3- ما قال الأستاذ سيد قطب ، و هو تبيان أن الزواج و الطلاق و العدة و خيرها من الأحكام هى فى الحقيقة عبادة لله نتعبد له بالإلتزام بها ، ولما كانت عبودية الصلاة واضحة جدا عند كل الناس والعبوديات الأخرى قد يخفى التعبد فيها بحكم تلبسها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، ضمن سبحانه ذكرالصلاة في قلب سياق المعاملات إشارة إلى أن هذه من جنس تلك ،وتلك من جنس هذه...فتتفق وحدة العبادة
المثال الخامس
قال تعالى ((َألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ))
ثم قال سبحانه((وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))
ثم قال جل ثناؤه ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ))
و الأيات فى قمة التناغم ، إذ الأية الأولى تقص علينا نبأ الذى خرجوا بالألاف حذر الموت ، فإذا بأمر الله يلاقيهم و يموتوا ثم يعجزهم أكثر بقدرته فأحياهم!
- فلما تقرر هذا الخبر الذى هو بيان عظيم لقدرة الله على عبيده ، أتبعه بأمر المؤمنين أن يقاتلوا فى سبيل الله ولا يفروا حذر الموت الذى يدركهم بأمر الله أينما كانوا!
- و لما كان من أعظم العبادات التى تعين على الجهاد النفقة فى سبيل الله و إعداد العدة ثنى الله تعالى بها و حث المؤمنين عليها موعداً إياهم بالجزاء الجزيل، و ختم الأيات بتقرير أنه سبحانه الذى يملك أن يوسع على عباده و أن يقدر عليهم رزقهم ، و أنهم جميعاً سيموتون و يرجعون إليه سبحانه
- و لما جاء بالأمر بالجهاد، و الصحابة الكرام كانوا كثيراً ما يتمنون أن يؤذن لهم فيه، حذرهم الذى يعلم السر و أخفى من أن تكون عزائم البعض منهم ضعيفة، فإذا ما فرض الجهاد تخاذلوا، أو أن يعصوا أمر قائدهم رسول الله أبداً فى ساحة القتال، فجعل ذلك الإنذار متمثلاً فى خبر ما سبق من تخاذل بنى إسرائيل!
ملحوظة: هذا كله من دلالات الإبدال و الإستخلاف الذى تدور عليه السورة
*فبنى إسرائيل لما فُرض عليهم القتال تخلفوا و عصوا
فأمر الله المؤمنين أن يطيعو و يجاهدوا و ينفقوا متعظين بمصير من قبلهم
* و فى أول القرأن تقرأ ((ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ))
فالمتقين يؤمنون بالقرأن ولا ريب فيه عندهم
- مقابلهم أهل الكتاب و من تبعهم على الكفر فى ريب من كتاب الله
((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ..))
* المؤمنبن يطيعو أمر الله و يؤمنون بالكتاب كله
((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ))
أما أهل الكتاب فيؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض
((وإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ))
* أهل الكتاب قالوا سمعنا و عصينا
((وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا))
أما المؤمنين فيقولون سمعنا و أطعنا
((وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))
* و لما أمر بنى إسرائيل أن يتقوا يوماً لا خلة فيه ولا شفاعة
((وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ))
فكرر سبحانه نفس الأمر للمؤمنين لأنها سنته الجارية
((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ))
* ولما أمر سبحانه بنى إسرائيل أن يشكروا نعمة و يصبروا مستعينين بالصلاة فأبوا
((وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ))
وجه سبحانه نفس الأمر للمسلمين بعدما أظهر نعمته عليهم ببعثة النبى و إنزال القرأن و إصطفاء القبلة فيهم، ليعتبروا ببنى إسرائيل و يطيعوا، فيظهر التناسب بين العبرة و المعتبر ، و بين البديل و المبدل
((كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ))
المثال السادس
قال تعالى ((تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ))
ثن قال عز و جل (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))
و التناسب بين الأيتين أن الأية الأولى أشارت إلى وقوع الشقاق بين أتباع الأنبياء و الإقتتال بعدما عرفوا الحق، فوجب للمؤمنين أن يستعدو لجهاد اليهود و النصارى و غيرهم من أهل الملل الذين تفروقا و رفضو التوحد على الحق بحجة إتباع أنبياءهم الذين هم منهم براء، و لما كان عماد الجهاد النفقة فى سبيل الله أتبع سبحانه بالحث عليها و التكذير بالأخرة
المثال السابع
قال تعالى (( اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ))
ثم قال سبحانه ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ))
ثم قال عز و جل (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))
و هذه الأيات كلها فى غاية التناسب، أما أية الكرسى العظيمة فقد جاءت بعد الأمر بالجهاد و و النفقة فى سبيل الله ، فناسب ذلك أن يحدث الله المؤمنين عن تفرده بالألوهية سبحانه و عن أسماءه و صفاته العظيمة، فيعلموا أنه الإله الأوحد الحى القيوم الذى يدبر الأمر ،ولا يغفل عن عباده ولا ينام ، و أنه مالك الملك ، فتتشوف النفوس للجهاد مطمئنة بمعية و تأييد رب العالمين طامعة فى ثوابه راضية بقدره، و ناسب أن يذكر أمر الشفاعة الدالة على أن الملك لله فى الأخرة كما أنه له فى الدنيا، و ليكمل معنى الأية السابقة فى حث المؤمنين على النفقة قبل مجىء يوم لا شفاعة فيه
- و لما أتم سبحانه فرائضة و أظهر حجته ، و عرف البشر بنفسه و عظمته، وفند كل الشبهات و أقام البراهين الباهرات، حتى اتضحت الدلائل لكل عالم وجاهل صار الدين إلى حد لا يحتاج فيه منصف لنفسه إلى إكراه فيه فقال (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) فتأمل
- أما الأية الأخيرة و التى فيها حجاج إبراهيم الملك، قال البقاعى: لما ذكر ما له سبحانه وتعالى من الإحاطة والعظمة وأتبعه أمر الإيمان وتوليه حزبه وأمر الكفران وخذلانه أهله، أخذ يدل على ذلك بقصة المحاج للخليل والمار على القرية مذكراً بقصة الذين قال لهم موتوا ثم أحياهم في سياق التعجيب من تلك الجرأة!
نلاحظ:
أولاً: وردت ههنا ثلاثة قصص كلها تتكلم عن إحياء الله للمخلوقات:
- قصة إبراهيم مع النمرود ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ))
و قصة صاحب القرية (( أو كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ))
و طلب إبراهيم من الله ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى))
و ورود القصص الثلاثة بعد أية الكرسى العظيمى التى بدأت بقوله تعالى ((اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) دلالة على قدرة الله و على هاذين الإسمين العظيمين، فالله تعالى هو الحى الحياة الكاملة الذى تستمد المخلوقات حياتها منه فهو محييها، و هو القيوم القائم بذاته المقيم لغيره من المخلوقات!
ثانياً: ناسب ذكر هذه الأخبار فى الإحياء فى أخر سورة البقرة ما ورد فى أولها من ذكر أخبار فيها إحياء أيضاً
((كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))
((وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون))
((وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))
فتأمل
عارف الشمري
2011-04-02, 10:53 PM
البلاغة فى كلمة ، و فى أية ، و فى سورة :
البلاغة فى كلمة :
إعلم أن كتاب الله العزيز هو أبلغ الكتب و أنزهها ، فلا تجد حرفاً ولا كلمةً إلا تناسب بيانياً سياقها الذى وردت فيه و هذا منتهى الفصاحة، و لنضرب أمثلة على ذلك:-
المثال الأول
أ- تدبر قوله تعالى ((وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ..))
و قوله جل و علا ((وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ))
فزاد حرف الواو فى الأية الثانية فقط فى قوله ( جاؤوها و فتحت) ، و ذلك أن جهنم هي كالسجن أبوابها مقفلة لا تفتح إلا لداخل أو خارج ، و في هذا الوصف تهويل ومفاجأة للكفار الذي يساقون ثم فجأة وهم لا يدرون أين يذهبون تفتح أبوب النار فيفاجأوا ويصابوا بالهلع. أما في حال المؤمنين فالجنة أبوابها مفتوحة على الدوام كما في قوله (جنّات عدن مفتّحة لهم الأبواب) وأهلها يتنقلون فيها من مكان إلى آخر في يسر وسرور وهم في طريقهم إليها يرونها من بعيد فيسعدون ويسرّون بالجزاء والنعيم الذي ينتظرهم...
- ومن جهة أخرى فإن الكافر يقاد للجحيم و هو مرعوب خائف من مصيره يتمنى ألا يبلغه لذلك يشعر أنه سيق إليها فى ثوانى فناسب هذا الإختصار فى الوقت حذف حرف الواو ( حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها)
اما المؤمن فإنه يستعجل النعيم و دخول الجنة فيستكثر الوقت الذى يقطعه لبلوغها رغم أنه قليل فناسب هذا الإستكثار أن يضع سبحانه حرف الواو للتعبير عنه ( حتى إذا جاؤوها و فتحت أبوابها)..
- و من وجه ثالث فإن جواب الشرط في حال جهنم (إذا جاؤوها) مذكور وهو(فتحت أبوابها)، أما في حال الجنة فلا يوجد جواب للشرط لأنه يضيق ذكر النعمة التي سيجدها المؤمنون في الجنة فكل ما يقال في اللغة يضيق بما في الجنة والجواب يكون في الجنة نفسها. فسبحانه جلّ جلاله.
ب- و في سورة الكهف قال تعالى ((سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ))
فزاد الواو فى قوله (( سبعة و ثامنهم كلبهم)) فى حين لا وجود لها فى قول من قالو ((ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ)) (( خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ))
و ذلك لأن العدد الصحيح هو سبعة و ثامنهم كلبهم، و هو مذهب العلما و على رأسهم حبر القرأن إبن عباس، لذا فرق سبحانه بين من قالوا بهذا و بين من قالوا بغيره، فعقب على من قالوا أعداداً أخرى بوصفهم أنهم يرجمون بالغيب ثم ذكر من قالوا الرقم الصحيح فتنبه..
و بما أنه الرقم الصحيح فقد أشار لذلك بتأخيره ، و دعمه بالواو لتفيد التوكيد والتحقيق بأن هذا القول صائب
جـ- كذلك فى سور الغاشية بدأت بالكلام عن (الغاشية) التى تغشى الناس بأهوالها فناسب أن يقرن ذلك الإسم المخيف بذكر فئة المجرمين ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً))
ثم لما انتقل لذكر فئة المؤمنين قال ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ))
و لم يعطف هذا الجزء على الجزء الأول فلم يقل (( و وجوه يومئذ ناعمة)) بين أن العطف ظاهرياً مطلوب لأنه عطف قسم على قسمه الأخر!
و حكمة ذلك إبراز تغاير الفريقين تغايراً تاماً، و لو عطف الثانى على الأول لتوهم متوهم إشتراكها فى أى شىء ،و ليبتعد معنوياً بالمؤمنين عن وصلهم بذلك الإسم المخيف (الغاشية)
فانظر رحمك الله كيف كان وضع الحرف الواحد أو حذفه مقصود بدقة و روعة ليناسب المعنى و يضبط المراد البيانى [ للإستزادة راجع كتاب خصائص التعبير القرأنى]
المثال الثانى
قد ترى حرف الجر الزائد و هو فى الواقع يحقق غاية، و هى توكيد المعنى المراد و تقويته من ذلك :-
أ- قوله تعالى ((وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً)) أى يكفي الله شهيداً ، فجاءت الباء الزائدة فأفادت تقوية المعنى، فكأنما تكررت الجملة كلها لتوكيد إثباته وإيجابه
- و كذا قوله سبحانه ((وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ)) ((وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)) فكانت الباء الزائدة مبالغة فى نفى الجنون عن رسول الله، و فى نفى أى إحتمال لمفارقة الفجار للجحيم
ب- و قوله عز و جل ((وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)) فزيدت (من) لتؤكد أنه ليس من دابة صغير ولا كبيرة، حقيرة أو عظيمة إلا على الله رزقها وإلا يعلم مستقرها ومستودعها.
جـ- و قوله جل و علا ((وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا)) استخدم (من) ليؤكد عظم علم الله تعالى، فلا تسقط أدنى ورقة ولا أى ورقة إلا و ربنا بها عليم
المثال الثالث
تتجلى دقة القرأن فى إستعمال الحروف ، كالمجىء بـ (فى) بدلاً من (مع) (إلى) (على) لتحقيق المعنى بعمق ، أو لإبراز نكات لطيفة ، و من ذلك:
أ- قوله تعالى ((وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)) قال (في تسع آيات) ولم يقل (مع تسع آيات) لأن معجزة خروج يد موسى عليه السلام بيضاء من غير سوء واحدة من التسع ، فإن جعلت (مع) بدلاً من (في) كانت الآيات عشر.
ب- و قوله سبحانه ((قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا )) فالتعبير بـ (فيها) أبلغ من التعبير بـ(إليها) لأن (فيها) توحي بأن المهاجر في سبيل الله تكون الأرض غطاء له تحيط به فلا يراه احد من الظالمين, فاللفظ (فيها) أعطى هذا الإيحاء الجميل.
جـ- و قوله عز و جل ((وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ)) التعبير بـ (فى) أبلغ من (على) إذ أبرز صورة السفينة فى قلب الماء ، يغمرها من فوقها و يرجها من تحتها حتى كان الموج كالجبال الشواهق ، و هى تجرى وسط هذه الأمواج المتلاطمة المرتفعة ولكن الله تعالى بقدرته نجّا أهلها المؤمنين..
المثال الرابع
تدبر قوله تعالى ((يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) لقمان
و قوله عز و جل ((وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ... إلى قوله ...وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) الشورى
فالأيات فى مدح الصبر و لكن الأولى قال تعالى فيها ((وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) و الثانية قال تعالى فيها ((وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ))
فتجد التوكيد باللام و زيادة المغفرة فى الثانية دون الأولى، و ذلك لأن الصبر نوعان:
صبر على أذى مقدر لا خصم فيه ، كالصبر على الفقر و المرض و الكوارث القدرية، أو على أذى فيه خصم غير مقدور عليه
فمثل هذا الصبر أهون لأن الإنسان لا يملك سوى أن يصبر و يحتسب، و هذا هو المقصود بقول لقمان لابنه ((وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) فلم يؤكد باللام و لم يذكر المغفرة.
و صبر يحتاج إلى جلد و قوة إرادة، و ذلك الذى فيه غريم اعتدى بالقول و الفعل معاً و هو مع ذلك مقدور على الإنتقام منه، أو الصفح عنه و هذا هو الذى قصده سبحانه بقوله ((وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) فذكر المغفرة و أكد باللام تناسباً مع ما يحتاجه هذا الصبر من عزيمة.
المثال الخامس
تدبر قوله تعالى حكاية عن قول الخضر لموسى ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً )) الكهف 72،
و قال بعدها ((قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً )) الكهف 75
فزاد كلمة (لك) فى الأية الثانية دون الأولى، و ذلك أن موسى كان قد وعد الخضر ألا يسأله عن شىء حتى يخبره هو، فلم يحتمل لما رأه يخرق السفينه فسأله فأجابه الخضر بتذكيره قائلا ((أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)) فاعتذر موسى بشدة، فلما رأه يقتل الغلام لم يتمالك نفسه و هرع يسأله ثانية ، فأراد الخضر أن يبالغ فى تذكير الموسى بمخالفته لوعده فوكد ذلك بكلمة (لك) ((قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً)) فتأمل ..
المثال السادس
قد ترد بعض الكلمات فى كتاب الله فتشكل على من لا يعرفون لغة العرب، و هى من الجهة النحوية لها توجيهات كثيرة وضحها أهل العلم، و لكن ما نزيده هنا هو بيان أن إستعمال هذه الكلمات بالتحديد هو من صميم إعجاز القرأن البلاغى من ذلك:-
أ- تأمل قوله تعالى ((يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ))
فلمَ يقل أحق أن يرضوهما، و سر ذلك أن إرضاء الله تعالى وإرضاء رسوله عليه الصلاة والسلام أمر واحد وليسا أمرين مختلفين، فمن أرضى الله تعالى فقد أرضى رسوله، ومن أرضى الرسول فقد أرضى الله عز وجل ، لذا قال تعالى((مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)) النساء
لذلك وحد الضمير العائد عليهما للتأكيد على أن إرضاءهما واحد وسيلةً وغاية، و هذا أبلغ و أبين للقصد.
ب- تدبر قوله تعالى (( إنَّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ))
فجاء الفعل مضارعاً { فيكون } مع أن الحَدَثَ قد حصل وانتهى، و ذلك لأن الله تعالى أراد التمثيل لا الحصر، فجاء التعبير بالمضارع ليفيد الإستمرارية و التجدد
فدل بهذا التصريف على أن الله تعالى فعل ذلك فى أدم من قبل ، و فعله بعد ذلك فى المسيح ، و يفعله سبحانه فى أى خلق يشاء وقتما شاء!
جـ- و تدبر قوله تعالى (( إنَّ رحمت الله قريب من المحسنين ))
فجاءت الصفة { قريب } مخالفة للموصوف{ رحمت } ، و ذلك لأن كلمة قريب تعود على أقرب مذكور فى الحقيقة و هو لفظ الجلالة {الله}
وذلك أبلغ و أظهر لنعمة الله، فيكون المعنى ، إن الله قريب من المحسنين و ينزل عليهم رحمته أيضاً، فدل على قرب الرب منهم و معيته لهم بعلمه و سمعه و بصره و رحمته معاً
د- تدبر قوله تعالى ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا))
فجاء الفعل بصيغة الجمع {اقتتلوا} مع أنه ثنى الفاعل {طائفتان}، و ذلك لأن القرأن يصور للذهت المشهد بدقة، فكا طائفة تمثل فريق و كل فريق مؤلف من جماعة من الناس، فلما تكلم عنهما فطائفين أو قبيلتين ثنى لأنهما متمايزتان، أما لما جمع فقال {اقتتلوا} لأن الاقتتال تلتحم فيه الحشود و يضيع التمايز فتأمل
- و مثله قوله تعالى (( هذان خصمان اختصموا في ربهم ))
فجاء الفعل { اختصموا } بصيغة الجمع، مع أن الفاعل { خصمان } ، و ذلك لأن خصم فريق، وكل فريق مؤلَّف من عدد من الخصماء، فناسب أن يقول{ اختصموا } لأن كل فريق من الذين كفروا والذين آمنوا كبير.
المثال السابع
قال تعالى على لسان الخضر ثلاثة مقالات
((فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا.. )) (( فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ..)) (( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ..))
فتجد التنوع بإستخدام (فأردت) (فأردنا) (فأراد ربك)
و ذلك أنك لا تجد ربنا تبارك و تعالى ينسب السوء إلى نفسه فى القرأن، أما الخير والنِعم فكلها منسوبة إليه تعالى كما في قوله ((وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسّه الشر كان يؤوسا)) وقوله على لسان إبراهيم ((وإذا مرضت فهو يشفين)) ولم يقل يمرضني تأدباً مع الله تعالى، و قوله عن الجن ((وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)) فتنبه...و بتقرير ذلك نفهم سر التنوع فى الأيات:-
- أما الأية الأولى (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)
في هذه الآية الله تعالى لا ينسب العيب إلى نفسه أبداً فكان الخضر هو الذي عاب السفينة فجاء الفعل مفرداً.
- أما الأية الثانية(فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً )
في هذه الآية فيها اشتراك في العمل قتل الغلام والإبدال بخير منه حسن فجاء بالضمير الدالّ على الإشتراك، في الآية إذن جانب قتل وجانب إبدال فجاء جانب القتل من الخضر وجاء الإبدال من الله تعالى لذا جاء الفعل مثنّى.
-أما الأية الثالثة (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً)
ففى قصة الجدار فالأمر كله خير فتحت الجدار كنز وأبو الغلامين كان صالحاً والأمر كله خير ليس فيه جانب سوء فأسند الفعل إلى الله تعالى فقال (أراد ربك).
وجاء بكلمة رب في الآيات بدلاً من لفظ الجلالة (الله) للدلالة على أن الرب هو المربي والمعلِّم والراعي والرازق والآيات كلها في معنى الرعاية والتعهد والتربية لذا ناسب بين الأمر المطلوب واسمه الكريم سبحانه.
المثال الثامن
أنظر روعة إستخدام القرأن للإستعارة و الكناية لأحياء التعبير و تزيينه و تبيينه على أتم وجه و من ذلك:-
أ- تدبر قوله تعالى (( نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ))
فلما إستعمل كلمة حرث ههنا؟
يقول الأستاذ سيد قطب: [في هذا التعبير ألوان من التناسق الظاهر والمضمر , ومن لطف الكناية عن ملابسات دقيقة . وأدق ما فيه هو ذلك التشابه بين صلة الزارع بحرثه وصلة الزوج بزوجه في هذا المجال الخاص . وبين ذلك النبت الذي يخرجه الحرث , وذلك النبت الذي تخرجه الزوج ؛ وما في كليهما من تكثير وعمران وفلاح ...]
ب- تدبر قول تعالى (( و آية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ))
انظر كيف استعير في الآية الكريمة " السلخ " و هو كشط الجلد عن الشاة و نحوها لإزالة ضوء النهار عن الكون قليلاً قليلاً ، بجامع ما يترتب على كل منهما من ظهور شيء كان خافياً ، فبكشط الجلد يظهر لحم الشاة ، و بغروب الشمس تظهر الظلمة التي هي الأصل و النور طاريء عليها ....
جـ_ تدبر قوله تعالى (( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ))
استعير في الآية الكريمة " الطغيان " ، و هى استعارة فريدة لا توجد في غير القرآن تصور الماء إذا كثر و فار و اضطرب بالطاغية الذي جاوز حده ، و أفرط في استعلائه فما أعجب من هذا التصوير الذي يخلع على الماء صفات الإنسان الآدمي !
د- تدبر قوله تعالى (( و تركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض و نفخ في الصور فجمعناهم جمعاً ))
استعير في الآية الكريمة الموج " حركة الماء" للدفع الشديد بجامع سرعة الاضطراب و تتابعه في الكثرة ثم اشتق من الموج بمعنى الدفع الشديد" يموج " بمعنى يدفع بشدة .
إن هذه الاستعارة القرآنية الرائعة تصور للخيال هذا الجمع الحاشد من الناس احتشاداً لا تدرك العين مداه حتى صار هذا الحشد الزاخر كبحر ترى العين منه ما تراه من البحر الزاخر من حركة و تموج و اضطراب ...
هـ- تدبر قوله تعالى (( و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا ))
كنى هذه الآية بغل اليد إلى العنق عن البخل ، و ببسطها كل البسط عن الإسراف . تأمل الكنايتين تجد فيهما من روائع البيان ما لا يحيط به فكر إنسان فيهما جمال في التعبير ، و روعة في التصوير ، و إيجاز و تأثير ، و تنفير .
فهذه اليد التي غلت إلى العنق لا تستطيع أن تمتد ، و هو بذلك يرسم صورة البخيل الذي لا تستطيع يده أن بإنفاق و لا عطية . و التعبير ببسطها يصور هذا المبذر لا يبقى من ماله على شيء كهذا الذي يبسط يده فلا يبقى بها شيء....
المثال التاسع
قد ترد الكلمة فى كتاب الله فتحمل فى طياتها تصويراً دقيقاً للمعنى الذى تقصده، و تستشعره النفس بمجرد مرور هذه الكلمة على السمع و من ذلك:-
أ- قال تعالى ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ))
تدبر كلمة"كاااااافة" و ما فيها من إبراز لعالمية الرسالة المحمدية،و هى كلمة تمد لزوماً ست حركات،فلكأنك أثناء المد تمسك بقلم تخط به خطاً يطوق الكرة الأرضية،منذراً الناس فى المشارق و المغارب أن هذا رسول الله إليكم جميعا فاستجيبوا له،صلى الله عليه و سلم
ب- قال تعالى ((مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ....)) أل عمران
فتأمل جرس كلمة " صرّ " و ما يحويه من تصوير لمدلولها , وكأنما هو قذائف صغيرة تنطلق على الحرث فتهلكه ....
جـ- قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ )) التوبة
تسمع الأذن كلمة " اثاقلتم " فيتصور الخيال ذلك الجسم المثاقل , يرفعه الرافعون في جهد , فيسقط من أيديهم في ثِقل . إن في هذه الكلمة " طناً " على الأقل من الأثقال ! ولو أنك قلت : تثاقلتم , لخف الجرس , ولضاع الأثر المنشود , ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ , واستقل برسمها .
- كذلك تقرأ (( وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ )) فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلها – وفي جرس " ليبطئن " خاصة . وإن اللسان ليكاد يتعثر , وهو يتخبط فيها , حتى يصل ببطء إلى نهايتها ! .
د- قال تعالى على لسان هود ((أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ))
فتحس أن كلمة " أنلزمكموها " تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق , وشد بعضها إلى بعض , كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون , ويشدون إليه وهم منه نافرون ! وهكذا يبدو لون من التناسق أعلى من البلاغة الظاهرية , وأرفع من الفصاحة اللفظية , اللتين يحسبهما بعض الباحثين في القرآن – قديما وحديثا – أعظم مزايا القرآن ! .
هـ- وتسمع كلمة : " يصطرخون " في الآية ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ . وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ )) فاطر
فيخيل إليك جرسها الغليظ , غلظ الصراخ المختلط المتجاوب من كل مكان , المنبعث من حناجر مكتظة بالأصوات الخشنة ؛ كما تلقي إليك ظل الإهمال لهذا الاصطراخ الذي لا يجد من يهتم به أو يلبيه . وتلمح من وراء ذلك كله صورة ذلك العذاب الغليظ الذي هم فيه يصطرخون .
و- فإذا سمعت قوله (( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ))الشعراء
" فكلمة " كبكبوا " يحدث جرسها صوت الحركة التي تتم بها .
ز- و تدبر قوله تعالى ((ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)) الحج
فلم يقل "و ليطوفوا" و إنما قال "و ليطّوّفوا" فالكلمة مشددة مثقلة بما يتناسب مع عمق الطواف الذى لا يكون مرة ولا مرتان ولا ثلاثة بل يتكرر سبع مرات متتالية!
حـ- و اسمع وقع كلمة ( اجْتُثَّتْ )في قوله:
((وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ))
تجد أن المقاطع الثلاثة للكلمة تصور المراحل الصوتية الثلاث لسقوط الشجرة المقتلعة:
أزيزانفصال الخشب عن الخشب مصور بمقطع"أججج"
احتكاك الاغصان والأوراق بالهواء وهي ساقطة مصور بمقطع :تثثث.
وارتطام الشجرة بالأرض الصلبة مصور بـ"ثت"
المثال العاشر
و من بلاغة القرأن أنه قد يستعمل المفردة أحياناً مبدلة نحو (مكة) (بكة) ، (اللاتى) (اللائى) ، (سارعوا) (سابقوا) و كل هذا مقصود فى كتاب الله، و من نماذج ذلك:-
بكّة و مكّة
فقد قال تعالى ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) آل عمران
وقال عز و جل ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا )) الفتح
فقال في آية آل عمران (بكّة) وقال في الفتح (مكّة) وسبب إيرادها بالباء في آل عمران أن الآية في سياق الحج (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) فجاء بالاسم (بكّة) من لفظ (البكّ) الدّال على الزحام لأنه في الحج يبكُّ الناس بعضهم بعضاً أي يزحم بعضهم بعضاً، وسُميت (بكّة) لأنهم يزدحمون فيها ..انظر "مفردات الراغب 57".
وليس السياق كذلك في آية الفتح بالاسم المشهور لها –(مكة)– فوضع كل لفظ في السياق الذي يقتضيه والله أعلم ...
اللائى و اللاتى
قال تعالى
((َمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ))
((الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ))
((وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ))
فى حين قال قال عز و جل
((وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ))
((َورَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ))
((وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ))
((قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ))
فلما استعمل فى الأيات الأولى كلمة (اللائى) و إستعمل فى سائر القرأن كلمة (اللاتى)
الجواب: أن ذلك مقصود، فكلمة اللائى لم تستعمل إلا فى حالة الفراق بطلاق أو ظهار، و كأن ذلك لثقل الهمزة فاستعملت للحالات الثقيلة النادرة كالطلاق و الظهار
و من الطريف أن بناء (اللائى) و جرسها يوجى بذلك فكأنها مشتقة من اللأى و هو الإبطاء و الإحتباس و الجهد و المشقة
و المظاهر أو المطلق محتبس عن زوجته و فى ذلك ما فيه من المشقة للطرفين،فانظر حسن مناسبة اللفظ و المعنى و دقة الإستعمال
سارعوا و سابقوا
قال تعالى ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)) آل عمران
و قال عز و جل ((سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)) الحديد
1- في الآية الأولى يقول الله تعالى : (وَسَارِعُوا) و في الآية الثانية يقول : (سَابِقُوا).
2- و في الآية الأولى قال : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) و في الأية الثانية قال: ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ).
3-و في الأية الأولى قال : ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) و في الأية الثانية قال : (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ).
فما الفرق بين المسارعة و المسابقة ؟ و لماذا أدخل الله تعالى كاف التشبيه و إفراد السماء في الآية الثانية؟ و ما الفرق بين المتقين و المؤمنين ؟
الجواب:
- الكلام فى الأية الأولى عن المتقين، و فى الثانية عن المؤمنين، و المتقون فئة أضيق و أخص من المؤمنين
- فناسب أن يذكر فى الكلام عن المتقين (السماوات) ، و فى الكلام عن المؤمنين (السماء) لأن السماء أوسع من السماوات فلا تطلق كلمة كلمة سماوات إلا على السماوات السبع الطباق ، أما كلمة السماء فجاءت فى كتاب الله بمعانى أوسع كالعلو أو السحاب أو المطر أو الفضاء أو السقف أو السماوات المعروفة
فلما ضيق بذكر فئة المتقين ضيق بذكر (السماوات) و لما وسع بذكر المؤمنين عموماً وسع بذكر (السماء)
- لذلك أيضاً لما إستعمل (السموات) قال ( جنة عرضها السموات)، ولكن لما إستعمل (السماء) اتسعت اتساعا هائلا فجاء بأداة التشبيه (جنة عرضها كعرض السماء) لأن المشبه به عادة أبلغ من المشبه...
- كذلك قال (سارعوا) لما قال (عرضها السموات والأرض)، و قال (سابقوا) لما قال (كعرض السماء والأرض)
إذ أن كثرة الخلق المتجهين لمكان واحد تقتضي المسابقة فإن قلوا اقتضى ذلك المسارعة فقط وليس المسابقة
- ولما إتسع المكان اتسع الخلق ، فذكر السماء التي تشمل السموات وزيادة ، وذكر الذين آمنوا بالله ورسله ووهي تشمل المتقين وزيادة ، ثم زاد وقال (ذلك فضل الله ) لأن الفضل أوسع مما جاء في آل عمران بل الفضل واضح إذ جاءت عامة..
ريح و رياح
قد يتوهم متوهم أن كلمتى ريح و رياح لا فرق بينهما ظاهرياً ، إلأ أن القرأن العظيم لما إستعمل كل منهما جعل إستعماله مختلفاً
- فكلمة ريح في القرآن الكريم تستعمل للشّر
(( كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ )) أل عمران
((فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) فصلت
((إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِر)) القمر
(( و من يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ))الحج
((أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم)) الإسراء
- أما كلمة رياح فهي تستعمل في القرآن الكريم للخير
((... وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )) البقرة
((وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ )) الأعراف
((وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ)) الحجر
((أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) النمل
واستعملت كلمة ريح مع سليمان عليه السلام ، لكنها لم تُخصص لشيء فجاءت عامة قد تكون للخير أو لقهر عدوه لأن الله سخّرها له جنداً من جنده يتصرف بها كيف يشاء
فتأمل دقة توظيف المفردات فى كتاب الله ..
إذا و إن
تختص (إذا) بدخولها على المتيقن والكثير المتكرر بخلاف (إن) فإنها تدخل على المشكوك فيه والنادر، فكان إستعمال القرأن لكل منهما دقيق من ذلك:-
1- قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ))
فأتى بـ (إذا) في الوضوء لتكراره وكثرة أسبابه كالوضوء لصلاة الفرض, لصلاة السنة, ولقراءة القرآن, وللبث في المسجد, وللتبرك به, ولذكر الله, ولمس المصحف, وغيرها من الأسباب... فى حين أتى بـ (إن) في الجنابة لقلة وقوعها بالنسبة للحدث الأصغر
- و كذا فى أية التيمم ((وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً)) إستعمل (إن) لأن لجوء الإنسان للتيمم لا يكون إلا فى النادر القليل
2- قال تعالى ((وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)) أتى في جانب الحسنة (إذا) لأن نعم الله على عباده كثيرة و مقطوع بها: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا), وأتى بـ (إن) في جانب السيئة – أي المصيبة والبلوى – لأنها قليلة الوقوع ومشكوك فيها إذا ما قورنت بنعم الله.
3- قال تعالى ((فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ))
فقد جاءت الآية في جانب الحسنة بـ (إذا) الدالة على الكثرة والتحقيق تفيد كثرة تتابع الخيرات وتواردها على هؤلاء القوم (بني إسرائيل) وفي هذا تجسيد لما هم عليه من غفلة وجحود.. أما في جانب السيئة فلقد جاءت أداة الشرط (إن) الدالة على الشك والقلة.
4- قال تعالى ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ* وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ* وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ* وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ* وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ* وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ* وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ* وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ* وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ* وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ))
فكرر إستخدام كلمة (إذا) التي تفيد التحقق والتوقع واليقين لأن كل ما ذكر كائن لا محالة وحق لا ريب في وقوعه وحدوثه.
- بينما قال تعالى ((فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى)) فعبر بـ (إن) لأنها تفيد الشك والتقليل لأن الذكرى قل من ينتفع بها
كذا قوله ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) استخدم (إن) التي تفيد الشك والقلة أي ما ينبغي على المؤمنين أن يقتتلوا وإن حدث ذلك فهو قليل إستثنائى, و ليس الأصل
و كذا قوله ((اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) استعمل (إن) هنا لتفيد الشك في صدقهم أي أنهم كاذبون وغير صادقين
مطر و غيث
الكلمتان ظاهريا مترادفتان، و لكن إن دقننا النظر وجدنا كلمة غيث تعنى المطر المفيد لأنها من الغوث و هو الإنقاذ و النصرة ، فتفرد كتاب ربنا البليغ بهذه الكلمة للتعبير عن المطر الخير المفيد فقال تعالى
((وهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ))
((إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ))
((ُثمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ))
- أما لو إستعمل سبحانه كلمة مطر فقط فجعل ذلك مقترناً بالأذى أو السوء
((وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ))
((وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ))
((َلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ))
((وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى))
سجرت و فجرت
قال عز و جل ((وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ )) [التكوير : 6]
و قال سبحانه ((وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ)) [الإنفطار : 3]
فما سر التنوع فى اللفظ بيد أننا لا نكاد نعثر على إختلاف جوهرى بين دلالة الفعلين؟
يقول الدكتور عمر عتيق :جعل الله كل من اللفظين ملائماً للجو العام للسياق الذى ورد فيه على نحو بديع
*أما كلمة سجرت فبالعودة لدلالة مادة "سجر" نجد الأتى:
أ- تدل مادة "سجر على النار و الحرارة، و هذا يتلائم مع قوله تعالى ((و إذا الجحيم سعرت))، كذلك لا تخفى حرارة الشمس فى قوله (( و إذا الشمس كورت)) ، و الحرارة المنبعثة من انكدار النجوم بسقوطها ((و إذا النجوم إنكدرت))
ب- كذلك يقال سجرت الناقة: مدت حنينها، وانسجرت الإبل: أى تتابعت فى السير، و السجر:ضرب من سير الإبل، فلا يخفى ما فى ذلك اللفظ من تلائم مع قوله تعالى ((و إذا العشار عطلت)) فالعشار هى الإبل
جـ-كذلك يقال ساجور السبع أى الخشبة التى تجعل فى عنقه ، و يقال سجره: أى شده به، و هذا يناسب قوله تعالى (( و إذا الوحوش حشرت))
د- كذلك تدل مادة سجر على إئتلاف الطباع، فيقال سجير الرجل: أى خليله و صفيه،و هو ما يتفاعل مع قوله تعالى (( و إذا النفوس زوجت)) حيث يقترن الرجل الصالح بالصالحين فى الجنة، و الرجل الخبيث بالخبثاء فى الجحيم
*أما كلمة فجرت فجاءت فى سورة الإنفطار فى سياق التفرق ، إذ ناسب إنفجار البحار مع إنفطار السماء و إنشقاقها و بعثرة القبور و إنتثار النجوم
((إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ))
و بذلك ناسب ( سجرت) سياق التجميع، و ناسب (فجرت) سياق التفريق
* و لاحظ أيضاً إستعمل كلمة(إنكدرت) مع النجوم، و كلمة ( إنتثرت) مع الكواكب مع أن كلاهما يعنى السقوط، و ذلك لأن الإنكدار :التساقط مع ذهاب الضوء و النجوم مضيئة ، أما الكواكب فغير مضيئة فاستعمل معها الإنتثار فقط
و هكذا يصبح النص القرأنى خلية من الألفاظ تتجاذب و تتفاعل لتبنى جسدأ دلالياً منظماً و متكاملاً...
المثال الحادى عشر
وقد يحذف فى التعبير القرأنى من الكلمة فترد كاملة أو مقتطعة عل نحو (تتنزل) (تنزل) ، (تتوفاهم) (توفاهم)
و هذا لا يقع أبداً إعتباطاً و إنما لأغراض بلاغية، ومن هذه الأغراض أن يحذف من الفعل للدلالة على أن الحدث أقل مما لم يحذف منه، أو أن زمنه أقصر و نحو ذلك، فيقتطع من الفعل للدلالة على الإقتطاع فى الحدث أو يحذف منه فى مقام الإيجاز و الإختصار بخلاف مقام الإطالة و التفصيل، و لنرى عدة نماذج من ذلك لنوقن أن ذلك ليس مصادفة بل قصداً تكرر مراراً فى كتاب الله البليغ:
اسطاعوا و استطاعوا
قال تعالى (( فَمَااسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا))
و الكلام هنا عن جدار يأجوج و مأجوج، فلما تكلم عن محاولتهم أن يظهروه أى يتسلقوه إستعمل "ما اسطاعو" و لما تكلم عن محاولتهم أن ينقبوه أو ينقضوه بالحفر إستعمل كلمة "ما استطاعوا"
و ذلك لأن التسلق أيسر من إحداث النقب، كما أنه يحتاج إلى خفة و رشاقة فجاء اللفظ مخففاً ملائماً لحال المتسلق بالحذف
أما " مَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا " أثبت التاء لأن ثقب الجدار فعل شاق و طويل و يحتاج معدات ثقيلة ..إلخ،فلم يحذف من الفعل بل أعطاه أطول صيغة
تنزّل و تتنزّل
قال تعالى ((تنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)) القدر
و قال عز و جل ((ِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)) فصلت
الكلام هنا عن نزول الملائكة على المؤمنين فقال فى الأولى "تنزّل" و فى الثانية "تتنزل"
و ذلك لأن نزول الملائكة المذكور فى سورة القدر إنما هو فى ليلة واحدة فى العام و هى ليلة القدر، فاقتطع من الفعل بقدر الإقتطاع فى الحدث
أما النزول فى أية فصلت، فهو يحدث على مدار العام فى كل وقت، ففى كل لحظة يموت مؤمن مستقيم فتتنزل الملائكة تبشره بالجنة،فأعطى الفعل كل صيغته و لم يحذف منه شيئاً
توفاهم و تتوفاهم
قال تعالى ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ)) النساء
و قال عز و جل ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) النحل
فما فى الأولى"توفاهم" و فى الثانية"تتوفاهم"
و ذلك أن المتوفين فى سورة النساء هم جزء من الذين هم فى سورة النحل، فالذين فى سورة النحل هم الذين ظلموا أنفسهم من الكافرين على وجه العموم، أما الذين فى النساء فهم الضعفاء الذين اتبعوهم لضعف الإيمان فى قلوبهم إن وجد، فلما كان هؤلاء أقل إقتطع من الفعل إشارة إلى الإقتطاع من الحدث
تبدّل و تتبدلوا
قال تعالى ((َوآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ))النساء
و قال عز و جل ((لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)) الأحزاب
فقال فى الأية الأولى"تتبدلوا" و فى الثانية "تبدل"
و ذلك لأن أية الأحزاب حكمها مقصور على رسول الله صلى الله عليه و سلم ،أما أية النساء فهو حكم عام للمسلمين فى كل زمان و مكان،فجاء بالصيغة القصيرة للحدث القصير المقصور، و جاء بالصيغة الطويلة للحدث الطويل المعمم
تولوا و تتولوا
قال تعالى ((َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ)) الأنفال
و قال عز و جل ((وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ))هود
فقال فى الأولى"تولوا" و فى الثانية "تتولوا"
- و ذلك أن أية الأنفال خطاب للمؤمنين، و أية هود خطاب للكافرين،و معلوم أن تولى المؤمنين أقل من تولى الكافرين، فالأصل فى المؤمن الطاعة لا التولى، فلما كان وقوع التولى من المؤمنين أقل حذف من الفعل للدلالة على ذلك
- كذلك جاء الفعل تام فى قوله تعالى ((قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً))
و ذلك أن الكلام هنا عن الأعراب الذين تخلفوا نفاقاً، و الأعراب فيهم الجفاء و التمرد و عدم تمكن الإيمان من قلوبهم لذا قال تعالى فيهم:
((َجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))
((الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ))
((َومِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ))
((قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ))
فناسب ذلك أن يتم الفعل فى حقهم لكثرة وقوعه منهم
- كذلك أتم الفعل فى قوله تعالى ((َإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) إلى قوله ((وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ))
و ذلك أن التولى المقصود هنا هو التولى عن الإيمان و التقوى، فجاء بالتولى التام و لم يحذف من الفعل فتنبه...
تسطع و تستطع
قال تعالى ((هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا))
و قال عز و جل ((ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا))
العبارتان حكاية عن كلام الخضر لموسى فقال فى الأية الأولى "تستطع" وفى الثانية"تسطع"
و ذلك أن المقام فى الأية الأولى مقام شرح و إيضاح و تبيين، و كذلك مراعاة الحالة النفسية لموسى عليه السلام من ثقل ما رأه فسبب له الهم و الحيرة، فناسب الشرح و التبين و ثقل الهم أن ياتى بالفعل تاماً ثقيلا "تستطع"
أما المقام فى الأية الثانية فكان موسى قد قد خُفف عنه بمعرفة حكمة أفعال خضر، كما أنه كان مقام مفارقة فلم يتكلم الخضر بعدها و لو بكلمة، فناسب ذلك المقام الحذف و التخفيف
أخرتنى و أخرتن
قال تعالى على لسان المتوفى ((رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ))
و قال سبحانه على لسان إبليس ((لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً))
فقال فى الأولى "أخرتنى" و فى الثانية"أخرتن"
و ذلك لأن طلب إبليس لا يريده لنفسه ولا يعود عليه بنفع ولا يدفع عنه ضر و إنما يريده ليضل ذرية أدم، بعكس حال المتوفى فإن طلبه يريده لنفسه و لتحقيق مصلحته و دفع الضر عن ذاته
فلما كان طلب المتوفى طلباً حقيقياً و يرجوا منه أكبر نفع لنفسه أظهر الضمير، ولما كان طلب إبليس أشبه بشرط دخل عليه القسم ولا يحقق به مصلحة لنفسه حذف منه الضمير
إتبعنى و إتبعن
قال تعالى((فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ))
و قال عز و جل ((قلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي))
فقال فى الأولى"إتبعن" و قال فى الثانية"إتبعنى"
و ذلك أن الأية الأولى فقط فى الدخول فى الإسلام و هو عمل يعود بالنفع على فاعله فقط، أما الأية الثانية ففى الدعوة إلى الله و هى خصوصية زائدة بعد الإسلام و عمل يعود بالنفع على فاعله و على غيره، و يتطلب علماً و بصيرة...
تسئلنى و تسئلن
قال تعالى ((قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ))
و قال عز و جل ((قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً))
فقال فى الأية الأولى"تسألن" و قال فى الثانية"تسألنى"
و ذلك أن الأية الاولى فى سؤال نوح لربه قائلا ((َقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ))
فكان سؤالاً واحداً لم يسأل نوح غيره، و سأله على خوف و إستحياء، و متأولاً وعد ربه، و مع ذلك حظر عليه سبحانه أن يسأل ،فناسب ذلك أن يحذف الياء إشارة إلى ندرة الحدث، و الحزم فى النهى عن أصل السؤال
أما فى أية الكهف،فإن الخضر كان يتوقع السؤال من موسى، و تعددت الأسئلة من موسى عليه السلام،و لم يحظر عليه الخضر معرفة حكمة الفعل و إنما نهاه عن المبادرة بالسؤال إلى أن يفسر له، فناسب ذلك أن يتم الضمير ولا يحذفه دلالة على توقع السؤال و توقع تكراره ليتنبه موسى عليه السلام
أغلب مفردات هذا البحث نقلاً عن كتابات دكتور فاضل السامرائى حفظه الله، و الأستاذ سيد قطب رحمه الله
البلاغة فى أية :
بعد أن تناولنا أمثلة على بلاغة القران فى إستعمال الكلمة بل و الحرف، فلننظر فى أمثلة على بلاغة الجملة أو الأية من أيات الكتاب الكريم
المثال الأول
تدبر قوله تعالى ((َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ))
هذه أية واحدة فى كتاب الله إحتوت على:- نداء و خطاب و وصف و أمر و تحليل و إستثنائين و و تقييد و تفويض
نداء و خطاب: َيا أَيُّهَا
وصف: الَّذِينَ آمَنُواْ
أمر: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ
تحليل: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ
إستثناء أول: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
إستثناء ثان: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ
تقييد: وَأَنتُمْ حُرُمٌ
تفويض: إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
و تأمل قوله تعالى ( أوفوا بالعقود) تجده من جوامع الكلم، إذ تضمن كل العقود ما كان منها مع الله من العهود و أمانة الدين، و ما كان مع الناس من عقود معاملات أو عهود أخلاقية و أمانات... سبحان الله
المثال الثانى
تدبر قوله تعالى ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ))
فهذه أية واحدة فى كتاب الله إختصر سبحانه فيها قصة موسى عليه السلام ، و على قصرها قسمت على نحو بديع إلى أمرين و نهيين و بشارتين!
الأمران: أرضعيه، ألقيه فى اليم
النهيان: لا تخافى، لا تحزنى
البشارتان: إنا رادوه إليك، جاعلوه من المرسلين
المثال الثالث
تدبر قوله تعالى ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ))
أية دارت حول معنين تبرزهما شعيرة الحج:
ترك المنكرات(فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ)
و فعل الخيرات(وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ)
و بقيتها دار حول كلمتين " الزاد و التقوى" و كل منهما ورد كمصدر و ورد كفعل ( الزاد،تزودوا/التقوى، اتقون)
و ركب بعضهم على بعض تركيباً عجيباً فخرج المعنى تاماً جميلاً جمع به بين زاد الأبدان، و زاد القلوب بما تضمنه من إستعارة بليغة
المثال الرابع
تدبر قوله تعالى ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ..))
هذه الأية أعجزت أبلغ ما كانت العرب تقوله لتحقيق معناها، فكانت مقولة العرب الشهيرة(القتل أنفى للقتل)
فجاء هذه الأية المعجزة لتظهر الفرق بين كلام الخالق و كلام المخلوق و هذا من وجوه عدة منها:-
1- مقولة العرب ورد فيها القتل تصريحاً بينما الأية لم تقل ( و لكم فى القتل حياة)
لأن كلمة القصاص أشمل و أعم فاحترز بها من القتل والجرح معا لشمول القصاص لهما ، فالحياة أيضا في قصاص الأعضاء بخلاف قول العرب
2- الطباع أميل إلى لفظ القصاص، من لفظ القتل، لإشعار الأول بالمساواة و العدالة، دون الثاني.
3- اطّراد الآية، و عدم اطّراد مقولتهم، إذ القصاص مطلقا سبب للحياة، بخلاف القتل، فإنه قد يكون أنفى للقتل، كالذي على وجه القصاص، و قد يكون أدعى له، كالذي على وجه الظلم.
4- الأية صرحت بالهدف من تشريع القصاص و هو حفظ ( الحياة) أما العبارة لم تصرح و لكن تضمنت، و التصريح أقوى من التلميح، كما أن نفي القتل لا يستلزم الحياة ، والآية تنص على ثبوتها فهي الغرض المطلوب منه
5- إن تنكير " حياة " يفيد تعظيما ، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة ، وأيضاً لأنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، و بالمقتول غير قاتله، فتقع فتنة عظيمة، فكان في حكم القصاص حياة أيُّ حياة
6- (القتل أنفى للقتل) فيها تكرار و لكن (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) لا تكرار فيها و هذا أبلغ
7- في الآية طباق ، لأن القصاص مشعر بضد الحياة بخلاف المثل .
8- إشتملت الآية على فن بديع حيث جعل أحد الضدين وهو الموت والفناء محلاً ومكانا للضد الآخر وهو للحياة ، وذلك بإدخال كلمة " في " .
9- إستغناء الآية عن تقدير محذوف بخلاف قولهم ففيه حذف التقدير : القتل أنفى للقتل من تركه
10- سلامة الآية من لفظ القتل المشعر بالوحشة ، بخلاف لفظ الحياة ؛ فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل .
11- الآية مبنية على الإثبات ، والمثل على النفي والإثبات أشرف .
12- إن المثل يفهم بعد فهم أن القصاص هو الحياة ، بينما الآية مفهومة من أول وهلة .
13- سلامة الآية من تكرار قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة ، وبعدها عن غنة النون، كما أن في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت ، بخلاف مثل العرب، كما أن فى المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد ، والآية سالمة منه .
المثال الخامس
تدبر قوله تعالى ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ))
فهذه الأية العظيمة فيها أوجه من بدائع البيان:-
- إشتلمت على وصفين و نهيين و بشارتين
الوصفان: قالوا ربنا الله، إستقاموا
فجمع بهاتين الصفتين بين الإخلاص و الإتباع، و هذا هو الدين كله، صلاح القلب بالتوحيد، و صلاح العمل بالإستقامة على شرع الله الحنيف يإمتثال أوامره و إجتناب نواهيه
النهيان: لا تخافوا، لا تحزنوا
ففند بهما كل ما يؤذى المؤمن ، إذا الحزن يكون على ما فات، و الخوف يكون مما هو أت...
البشارتان: تتنزل عليهم الملائكة، أبشرو بالجنة
فبشر المؤمن بتنزل ملائكة الرحمة وقت مغادرة الدار الدنيا، و بدخول جنة الخلد حين الإنتقال للدار الاخرة..فيفرح وقت إدباره، و يفرح وقت إقباله
فانظر إلى كم المعانى المستوفاة بأوجز لفظ!
المثال السادس
تدبر قوله تعالى ((َو قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))
هذه الأية البليغة تصور لنا فى إبجاز نهاية طوفان نوح عليه السلام، و قد إشتملت على الألوان البديعية الأتية:-
*تتكون هذه الأية من ثلاثة أخبار و ثلاثة أوامر
الثلاثة أخبار: غيض الماء/قضى الأمر/إستودت على الجودى
الثلاثة اوامر: ابلعى ماءك/أقلعى/ بعداً للقوم الظالمين
*و قد عدد فيها العلامة اللغوى إبن أبى الاصبع عدة أصناف من البديع:-
1- المناسبة اللفظية التامة : بين (أقلعى) و (ابلعى)، فقد جمع بين اللفظين و هما هنا موزونان ممقفيان بزنة و قافية واحدة
2- المطابقة: بين (السماء) و (الأرض) فى قوله (( يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي ))
3- المجاز المرسل: فى قوله (يا سماء) و الحقيقة: يا مطر السماء و العلاقة المجاورة
4- الإشارة: و هى أن يدل اللفظ القليل على المعنى الكثير بحيث يكون اللفظ لمحة دالة، و ذلك فى قوله ( و غيض الماء) لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء و تبلع الأرض ما يخرج منها،فدل هذا التركيب القليل(و غيض الماء) تحقق الأوامر السابقة كلها
5- الإرداف: و هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له، ولا بلفظ الإشارة الدال على المعانى الكثيرة، و إنما بلفظ ردف المعنى الخاص و تابعه قريب من لفظ المعنى الخاص قرب الردف من الرديف
و هذا فى قوله (و قضى الأمر) و حقيقة ذلك: و هلك من قضى الله بهلاكه، و نجا من قضى بنجاته
6- التمثيل: و هو بإختصار إيثار لفظ مكان أخر ليس أحدهما مجازاً
و هذا فى قوله (و استودت على الجودى) فإن حقيقة ذلك: و جلست على هذا المكان، فعدل عما فيه زيغ إلى ما لا زيغ فيه ولا حركة ولا إضطراب، فاستعمل (استوت) أى جلست جلوساً مستقراً تسكن به قلوب أهل السفينة و تأمن،ولا يحصل هذا بقولنا (جلست)
7- التعليل: لأن (غيض الماء) علة الإستواء
8- صحة التقسيم: حيث استوعب سبحانه حال الماء حين نقصه
9- الإحتراس: حيث إحترس من توهم متوهم أن الماء قد عم من لا يستحق الهلاك، و تحقق ذلك بقوله ((وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))
10- حسن النسق: فى عطف القضايا بعضها على بعض حسبما وقعت الأول فالأول
11- إئتلاف اللفظ مع المعنى: لكون كل لفظة لا يصلح غيرها مكانها
12- التسهيم: لأن من أول الأية إلى قوله (أقلعى) يقتضى أخرها، و التسهيم أن يكون فى أول الكلام ما يدل على أخره لأنها تقتضيه
13- التهذيب: لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن ، كل لفظة سهلة مخارج الحروف و عليها رونق الفصاحة
14- حسن البيان: لأن السامع لا يتوقف فى فهم معنى هذا الكلام لوضوحه و صفاؤه
15- التمكين: لأن الفاصلة مستقرة فى قرارها،مطمئنة فى مكانها غير قلقة ولا مستكرهة
16- الإنسجام: و هو تحدر الكلام بسهولة و عذوبة سبك
17- الإيجاز: لأن الله اقتص قصة السفينة بلفظها مستوعبة فى أخصر عبارة بألفظ غير مطولة
ففيه إيجاز الحذف... انظر كيف بنى الفعل للمجهول فى عدة مواضع (قيل يا أرض) (غيض) (قضى الأمر) (قيل بعداً)، كما طول ذكر السفينة و أضمر فاعل الفعل فى قوله (استوت) ،و حذف معمول (أقلعى)
و فيه إيجاز القصر... لأن بعض ألفاظها حوى الكثير من المعانى كقوله (غيض الماء) (قضى الأمر)
المثال السابع* تدبر قوله تعالى ((قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ))
جاءت هذه الأية بعد قوله تعالى ((وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)) و قبل قوله عز و جل ((قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ))
فهى أية تتجلى فيها روعة إئتلاف اللفظ مع المعنى ،و المعانى التى تعكسها الألفاظ هنا هى معانى الحزن و الوحشة و الغربة التى كان يعيشها يعقوب حتى و هو وسط بنيه بعد فقدان أعزهم إلى قلبه يوسف عليه السلام، و فقدان الثقة بهم بعدما ضيعوه، و فقدان من كان يسليه و يشعر بلوعة قلبه و هو إبنه الأخر بنيامين، و فقدان البصر و العيش فى وحشة و ظلام العمى بسبب الحزن، و فقدان الإتصال مع أبناءه بعدما أعرض عنهم و مضى يخلو بربه شاكياً بثه و حزنه إليه وحده سبحانه و تعالى
فهى إذا غربة بعدها غربة بعدها غربة، فأتى سبحانه بأغرب الألفاظ تباعاً لتعكس تلك الغربات المتطابقة!
- فأتى سبحانه بأغرب ألفاظ القسم (تالله) إذ المشهور القسم بالباء و الواو و هما أكثر دوراناً على الألسنة
- و لما أتى بها أتى بأغرب صيغ الأفعال التى ترفع الأسماء و تنصب الأخبار (تفتأ)، لأن كان و بقية أخوتها أعرف عند الكافة من (تفتأ) و أكثر إستعمالاً
- و أتى بـ(حرضاً) التى هى أغرب الألفاظ الدالة على المرض الشديد
* و من جهة أخرى أنظر إلى روعة إستعمال كلمة تفتأ دون غيرها، إذ تأتى لغة بثلاثة معانى: بمعنى سكّن وبمعنى نسي وبمعنى أطفأ النار، فدلت على نار الحرقة لا تنطفيء في قلب يعقوب ، و على عدم نسيانه ابنه أبداً رغم مرور الزمن ، و على أنه لا يسكن ولا يكف عن ذكره ،تلك فجمع بهذه الكلمة تلك المعاني الثلاثة التى تظهر حالة يعقوب أيما إظهار، وإضافة إلى ذلك حذف حرف النفي الذي لا يدل على التوكيد فالكلام في الآية غير متيقن.
* و كذا تدبر قوله تعالى: (أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى)
لفظ (ضيزى) من مستوحش الكلم و غريبه ، فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها، الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة وخاصة في اللفظة الغريبة الذي تمكنت في موضعها من الفصل
و للإستزادة راجع إعجاز القرأن للرافعى رحمه الله
المثال الثامن
تدبر قوله تعالى ((وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ))
هذه الجملة جزء من آية، وهى من عجائب القرآن لما جمعته من معانى و عواطف و حركات و خواطر بأوفى صفة، و بيان ذلك:-
أ- ( استبقا ) الإستباق إفتعال من السبق، والإفتعال يوحي بالتكلف والتحمل ... فكأن الفاعلين يتسابقان بكل ما أوتيا من طاقة ...و ما هذا التكلف إلا تعبير جسدي عن الكامن النفسي :
فالمرأة واقعة تحت صارخ الشهوة.يدفعها بأقصى ما تستطيع.
والرجل واقع تحت إمرة التقوى يدفعه كذلك بأقصى ما يطيق.
فانظر إلى هذه التاء - وهي مجرد حرف- كيف أفصحت عن المكنونات.!
ب- ( استبقا الباب) حذف حرف الجر"إلى" يكشف عن محتوى نفسي عميق.يمكن رصده بمقارنة التعبيرين:
1/ استبقا إلى الباب.
2/ استبقا الباب.
فكلمة "إلى" فى الجملة الأولى حملت معلومة عن المسافة والإتجاه، ويكون معها (الباب) نهاية المسافة التي يراد قطعها.
لكن بحذف هذه المعلومة يصبح الباب هو الهدف، فيكون إيقاع الفعل عليه هو نفسه لا إيقاعه في مسافة تفضي إليه!
بعبارة أخرى نقول :بأي شيء كان وعي الفاعلين مشغولا؟ بالباب أم بالمسافة الفاصلة؟
لا ريب أن الباب هو المقصود، والاهتمام أثناء السباق منصرف إلى الفتح أو الاغلاق وليس إلى وقع الخطوات وامتداد المسافة....فلتحذف (إلى ) إذن ، ليبرز التعبير ما يوافق المقام: حركة الجسم وهي نحو السباق وحركة الذهن وهي نحو الباب.
لله در هذا القرآن.
جـ- (استبقا الباب ) ألف الإثنين مثبتة لفظاً لا نطقاً ، بسبب إلتقاء الساكنين،فيقرأ الفعل كأنه مفرد.
هذا الحذف له إيحاء دلالي يكشف عن سرعة الحدث:فلا وقت للمد في التعبير كما لا وقت للإبطاء في المعبر عنه.
د- ( استبقا الباب) فعل مشترك بين الفاعلين، ولكن شتان بين القصدين.، فاللفظ يصف المشهد خارجيا جسمين مندفعين في الفضاء في اتجاه واحد، لكن داخليا نلمس حركتين متعاكستين:.النزوع نحو الخروج والنزوع إلى المنع من الخروج.
هـ- (سيدها لدى الباب ) تكررت كلمة( الباب) مرتين مع أن الآية مبنية على الإيجاز.....وما ذاك إلا لأهمية" الباب "في المشهد وتعدد وظائفه بحسب الشخصيات.....
فالباب في سياق الاستباق ملحوظ باعتباره مخرجا.
أما الباب في سياق ذكر السيد فملحوظ باعتباره مدخلا.
فكان العبارة نبهت على أن الباب كما يستعمل للخروج يستعمل أيضا للدخول .لكن يبدو أن هذا المعنى الثاني كان غائبا عن الوعي حتى وقعت المفاجأة!
و- (سيدها) لم يقل "سيدهما" لأن قوة المشهد ليس في اعتبار العزيز مالكا ، ولكن في اعتباره زوجاً وبعلاً لإظهار خيانة المرأة و تأزيم الوضع برسم معالم الفضيحة....فلم يناسب إلا "سيدها" فتأمل.
ز- (وقدت قميصه من دبر) وصف لحركة خارجية واحدة....لكن كم تختزل من معان وأحداث.
-الرجل أقوى وأسرع من المرأة.
-المرأة تريد أن تستبقي الرجل فتمسك بكل ما تستطيع.
-المشهد يكاد يرى بالبصر:المرأة تمسك بأعلى القميص،يقع تعاكس لقوتين،القوة المندفعة والقوة الجاذبة فينتج عنه شق القميص ويمتد الشق من أعلى إلى أسفل.
-القميص المقدود سيكون مصدر استدلال فيما بعد. فتأمل
[نقلاً عن الشيخ أبى عبدالمعز حفظه الله]
المثال التاسع
تدبر قوله تعالى (( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))
*تبين الآية حالة عجيبة جداً مبنية على تعاقب ثلاث حركات:
{تفرون/ ملاقيكم/ تردون}
أ- وللنفس أن تتمثل قوة التعبير البياني الذي يهز المهجة في قوله "ملاقيكم "
إذ كانت هذه الكلمة أبلغ من لو قال : إن الموت الذي تفرون منه فإنه مدرككم.
لأن الفارين من الموت لا يتصورون الموت إلا خلفهم ويتوقعون في أي لحظة أن يدركهم... ومن ثم
لا يبقى مجال لعنصر المباغتة......
فليس أبلغ من هذه المفارقة: الفرار من الموت يؤول إلى الفرار إليه!!!
ب- الكفار حاولوا تغييب الموت ونبذه بعيداً عن دائرة الوعي....لذا أبرزته الآية مؤكدا بالنوعين من التوكيد المعروفين في لغة العرب:
التوكيد المعنوى /.التوكيد اللفظي.
فمن الأول التوكيد بـ"إن" ( إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ)
ومن الثاني إعادة التوكيد بتكرار "إن" ( فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)
مع ملحظ توكيد الموت صريحا( إِنَّ الْمَوْت)َ ومضمراً (فَإِنَّهُ )
جـ- "تفرون / ملاقيكم"
الفرار من الموت جاء على صيغة فعل المضارع ليوحي بديمومة الحدث وتجدده............وعورض هذا بمجيء لقاء الموت على صيغة الاسم لأن اللقاء يقع مرة واحدة ولا يتجدد شيئا بعد شيء كحال الفرار..وثبوت الوصفية للموت يوحي بكون ملاقاة الكفار هي ماهيته أو جزء منها.
[كتبه الشيخ أبو عبدالمعز]
المثال العاشر
تدبر قوله تعالى ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ))
هي آية واحدة، لكننا لو تدبرنا معناها لوجدنا أنفسنا سائحين في ملكوت الله، طائفين على مختلف العلوم. و بيان ذلك:-
(1) الدلالة على رب العالمين:
أ- دلت الآية الكريمة على رب العالمين بالدليلين المعروفين
"دليل الاختراع/ ودليل العناية" كما سماهما ابن رشد...
(فخلق الأرض وجعلها) من الدليل الأول،(وتسخيرها للإنسان وتوفير ما يلائم طبعه من رزق وأكل )من الدليل الثاني.
ب- نبهت الآية في ابتدائها وفي انتهائها على اسمين جليلين للرحمن:الأول والآخر.
فكل شيء ابتداؤه من الله( جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولا)
وكل شيء منتهاه إلى الله (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
جـ - جمعت الآية بين فعلي الربوبية:الخلق والأمر (( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ))
الخلق: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا)
الأمر: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ)
(2) الدلالة على العلم الطبيعي:
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً)
أ- قال العلماء إن الأرض في مراحلها التكوينية الأولى لم تكن صالحة للحياة ثم تشكل الغلاف الجوي بعد ذلك واستقرت القارات وظهرت النباتات فأصبحت صالحة مسكنا للبشر....
وقد جاء في الآية فعل "جعل"الذي يفيد التحول والتصيير والنقل من حالة إلى أخرى..... فجعل الأرض ذلولاً مفهومه أنها كانت من قبل في وضعية مغايرة.
ب- أما وصف الأرض ب "ذلول" فيشهد على إعجاز القرأن، إذ كلمة ذلول تستعمل فى الدواب التى يمتطيها الإنسان ((وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ))
و المتأمل في حال الأرض سيجد هذا التماثل البليغ بين الأرض والمطية: فالأرض هي مطيتنا الكونية ونحن مستقرون على ظهرها بينما هي تقطع ملايين الأميال في الفضاء بسرعة مهولة.....فلا تشعرنا بالحركة فضلا عن أن تلقينا بعيدا عنها!
(3) الدلالة على علم العمران:
(فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)
أمر عام لبني آدم جاء بعد جعل الأرض ذلولاً، فالمشي في مناكبها هو الحكمة من جعلها على ذلك الوصف...
ويتضح من الآية الوضع البشري في التقدير الرباني: فهو مخلوق للسعي والحركة والسفر والرحلة والبحث والتنقيب.....
((هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا))
(4) الدلالة على علم الأخلاق والسلوك:
(وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
جاور البيان المعجز بين الأكل والتذكير:كل من رزق الله، ولكن لا تنس الموت والبعث والحساب!!
فكأن عبارة (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) جاءت لكبح الإسترسال في الأكل والانغماس في الشهوات ... فيستعين الإنسان بهذه الشهوات نفسها للتقوى للعمل ليوم النشور
(5) الدلالة على علم التاريخ:
لخصت الآية تاريخ الإنسان في الوجود:
-فذكرت النشأة الأولى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا)
والنشأة الثانية (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
وذكرت مرحلة المعاش (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِه)
ومرحلة المعاد (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
وذكرت التكليف والحساب.
ثم ذكرت إجمالا الأحوال الثلاث للإنسان مع الأرض:
-يكون فوقها: مستفاد من قوله (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)
-يدفن فيها: (مستفاد من دلالة الاقتضاء )
-يبعث منها:مستفاد من قوله (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
فما أعظمها من عجائب
[كتبه الشيخ أبو عبدالمعز]
المثال الحادى عشر
آية الكرسي هي سيّدة آي القرآن الكريم، و هى أية عقائدية لا أمر فيها ولا نهى، و فيها نكات بيانية منها:-
أولاً:لما كانت تتكلم عن الله سبحانه تجلت فيها الطريقة الربانية فى ترسيخ الإعتقاد، بالنفى و الإثبات، فلا تنفى شىء إلا و تثبت أخر، فأنظر كم مرت تكررت فيها أدوات النفى و الإستثناء ، تجدها فى الأية من أولها إلى أخرها، و كلما نفت شىء تثبت غيره أو تستثنيه، فهذا هو المنهج الربانى فى التعريف به تبارك و تعالى
((اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ))
ثانياً: قامت الأية على الثنائية، فتجدها تذكر من كل الأشياء اثنين اثنين، بدأها بصفتين من صفات الله تعالى (الحي القيوم) ، وذكر اثنين من النوم(سنة ونوم) ، وكرّر (لا) مرتين (لا تأخذه سنة ولا نوم)، وذكر اثنين في الملكية(السموات والأرض)، وكرر (ما) مرتين ، وذكر اثنين من علمه في (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)، وذكر اثنين مما وسعه الكرسي (وسع كرسيه السموات والأرض) ، وختم الآية باثنين من صفاته (العليّ العظيم).
وقد ورد إسمين من أسماء الله الحسنى مرتين في القرآن: في سورة البقرة (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) ومرة في سورة (آل عمران) في الأية الثانية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) (لاحظ الرقم 2). والعلي العظيم وردت في القرآن مرتين في القرآن أيضاً مرة في سورة البقرة ومرة (له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم) في سورة الشورى في الآية الرابعة (أربع أسماء في الآية الرابعة)
ثالثاً: تمتعت الأية بحسن التقسيم والإستعمال اللغوى الدقيق و البليغ و بيان ذلك:-
- أول ما بدأت به لفظ الجلالة (الله) فيالها من بداية، ونلاحظ أن كل جملة في هذه الآية تصح أن تكون خبراً للمبتدأ (الله) لآن كل جملة فيها ضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى
- ثانى ما فيها الركن الأعظم شهادة الحق ( إلا إله إلا هو) فنفت الأولوهية عن كل ما دون الله و أثبتتها لله سبحانه وحده، فهذا توحيد الألوهية
- (الحى القيوم) كلاهما معرف بالألف و اللام دلالة على الكمال والقصر
الحى: فحياته سبحانه كاملة وكل ما عداه حياته قاصرة بل لا حيّ سواه على الحقيقة لآن من سواه يجوز عليه الموت و يستمد حياته من الحى سبحانه
القيّوم: هي صيغة المبالغة من القيام أى القائم بذاته المقيم لغيره ، فيدبر أمر خلقه في إنشائهم ورزقهم و حياتهم و موتهم، فلا قيّوم سواه حصراً، فكان فى هذه الأية توحيد الربوبية
- (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) كما علمنا فإن الأية تقوم على النفى و الأثبات ، فلما نفت الألوهية عن غير الله أثبتتها لله ، و لما أثبتت لله تمام الحياة و القيومية نفت عنه سبحانه السنة و النوم
والسنة هي النعاس الذي يتقدم النوم ولهذا جاءت في ترتيب الآية قبل النوم وهذا ما يعرف بتقديم السبق، فنفت النوم و نفت حتى مقدماته
ولم يقل سبحانه لا (تأخذه سنة ونوم) أو (سنة أو نوم) ، لأن في قوله "سنة ولا نوم" ينفيهما سواءً اجتمعا أو افترقا لكن لو قال سبحانه "سنة ونوم" فإنه ينفي الجمع ولا ينفي الإفراد فقد تأخذه سنة دون النوم أو يأخذه النوم دون السنة.
- (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (ما) أشمل من (من) لأن الأولى تجمع العاقل وغير العاقل و الثانية تخص العقلاء
و قدّم الجار والمجرور على المبتدأ (له ما في السموات) إفادة القصر أن ذلك له حصراً لا شريك له في الملك فكانت هذه الجملة تقرير لواحدانية المِلك لله
وجاء ترتيب (له ما في السموات وما في الأرض) بعد (الحيّ القيّوم) ليدلّ على أنه قيوم على مِلكه الذي لا يشاركه فيه أحد غيره وهناك فرق بين من يقوم على ملكه ومن يقوم على ملك غيره فهذا الأخير قد يغفل عن ملك غيره أما الذي يقوم على ملكه لا يغفل ولا ينام ولا تأخذه سنة ولا نوم سبحانه
- (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) جاءت بعد إثبات المِلكية فأثبتت المُلك بجانب المِلك لله ، فله كل الملكوت و الكبرياء سبحانه ، ولا يتكلم أحد ولا يتقدم عنده إلا بإذنه
وكذا دلت على ملكه وحكمه في الدنيا والآخرة معاً ، لأنه لمّا قال (له ما في السموات وما في الأرض) يشمل ما في الدنيا وفي قوله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) هذا في الآخرة فدلّ هذا على ملكوته في الدنيا والآخرة
و هكذا تقرر توحيد الملك بعد تقرير توحيد الألوهية و توحيد الربوبية ، فالله تعالى هو رب الناس و ملك الناس و إله الناس
و قوله (من ذا) أخرجه مخرج الإستفهام الإنكاري لأنه أقوى من النفي ، و قد إكتسب معنيين: قوة الإستفهام والإشارة، ولا يوجد تعبير آخر أقوى من (من ذا) لكسب المعنيين قوة الإستفهام والإشارة معاً بمعنى (من الذي يشفع ومن هذا الذي يشفع).
- (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) إنتقل للكلام عن علم الله تعالى و عن كرسيه العظيم الذى هو موضع قدميه جل و علا ، فكان ذلك من توحيد الأسماء و الصفات بعد توحيد الألوهية و توحيد الربوبية و توحيد الملك
و الجملة أثبتت تمام العلم لله تعالى بأمورهم الماضية والمستقبلية، الظاهرة و الخفية، و من ذلك علمه بأحوال الشافع و هل يستحق أن يَشفع و المشفوع له وهل يستحق يُشفع فيه ، فناسب موضعها بعد ذكر الشفاعة
- (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) على نفس منهج النفى و الإثبات، لما أثبت سبحانه لنفسه الإحاطة بالناس علماً نفى عن غيره أن يحيط بشىء من علمه سبحانه إلا ما شاء
و إستعمل (ما) و هي تحتمل معنيين في اللغة هنا تحتمل أن تكون مصدرية بمعنى (لا يحيطون بشيء من علمه إلا بمشيئته) وتحتمل أن تكون اسماًً موصولاً بمعنى (إلا بالذي شاء) وهنا جمع المعنيين أي لا يحيطون بعلمه إلا بمشيئته وبالذي يشاؤه أي بالعلم الذي يريد وبالمقدار الذي يريد. المقدار الذي يشاؤه نوعاً وقدراً. فمن سواه لا يعلم شيئاً إلا إذا ما أراده الله بمشيئته وبما أراده وبالقدر الذي يشاؤه
- (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) قال "وسع" و لم يقل "يسع" لأن صيغة الماضي تدلّ على أنه وسعهما فعلاً فلو قال يسع لكان فقط إخبار عن مقدار السعة ، فالكرسى ملكه سبحانه و وسع السماوات و الأرض الذين سبق و قال أنهما و ما فيهما ملكه، فهم يملك الشىء و يملك ما فيه فله كل الملك تبارك اسمه
- (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي لا يجهده وجاء بـ (لا) للدلالة على الإطلاق (لا يمكن أن يحصل) .
- (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) عرّفهما بأل التعريف لأنه لا عليّ ولا عظيم على الحقيقة سواه فهو العليّ العظيم حصراً.
و بالجملة فالحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم والذي له ما في السموات والأرض والذي لا يشفع عنده إلا باذنه والذي يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم والذي لا يحاط بعلمه إلا بما شاء هو العليّ العظيم، فكل جملة في آية الكرسي المباركة تدلّ على أنه الحيّ القيّوم والعلي العظيم...نقلاً عن دكتور فاضل السامرائى
المثال الثانى عشر
تدبر قوله تعالى ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ))
كلمات شديدة الوقع بليغة المعنى،تضافرت فيها العناصر اللغوية والخطابية لحبك هذه المعانى و من ذلك:-
1) تشعر بقرائتك لهذه الكلمات أنها أمسكت بطرفي الحياة وجمعتهما في ومضة خاطفة ، ولكنه في الوقت ذاته يخيل هيئة الطول فيما بين الطرفين!
فهذه الصورة : من جانب تصور قصر الحياة فما كادت تبدأ بالتكاثر , حتى انتهت بالمقابر – وذلك أقصر ما نصور به فترة الحياة , في اللفظ والخيال – ولكنها من طرف خفي , قد عرضت امتداد اللهو طول الحياة من مبدئها إلى منتهاها , وساعدت كلمة " حتى " على بروز الامتداد ؛ فخيلت للنفس أن هؤلاء القوم لجوا في اللهو أمدا طويلا . وذلك من عجائب التخييل , فغرض قصر الحياة , وغرض طول اللهو فيها , كلاهما مقصود من التعبير , وكلاهما تحقق في هذا النص القصير
[نقلاً عن التصوير الفنى]
2) و من الجمال التعبيرى فى هاتين الأيتين إختيار المواجهة بضمير المخاطب (أَلْهَاكُمُ/ زُرْتُمُ) لتحقيق الدلالات التي يوحي بها أسلوب الخطاب من قبيل الإدانة والاتهام والتقريع والتوبيخ....
ف" ألهاهم التكاثر" ،الواردة في النص المصطنع ، لا تمنح شيئا من هذه المعاني إذ أن عطاءها سينحصر حينذاك في التقرير والإخبار.
3) و من مظاهر دقة و روعة اللفظ القرأنى ، تأملنا فى كل كلمة أستعملت فى هاتين الأيتين القصيرتين:
(ألهاكم)
لو أدرت لسان العرب لم تجد ما يقوم مقام"ألهاكم"..فلا الشغل ولا الاشتغال ولا الانهماك ولا اللعب ولا غيرها تفي بالمقصود..
"ألهاكم"..وحدها دلت على الإفراط والتفريط معا..فالمتلبس باللهو حاصل منه دائما شيئان:
-إضاعة الوقت والجهد في ما هو باطل أو قليل العائدة.
-الغفلة عن واجب أو أمر أكثر فائدة..
فيكون اللاهي مسؤولا عن أمرين:الوقت المهدور والواجب المتروك..
(التكاثر)
"التكاثر" كلمة بليغة كافية لتلخيص تاريخ البشرية كله!
فمن صيغة (تفاعل) إنبثقت كل المعاني المتعلقة بالتنافس والتحاسد والتصارع والتسابق وإشعال فتائل الحروب!
ولو ألقينا نظرة في تاريخ البشر لوجدناه يتلخص في هذه الكلمة،فما الحروب وما الصراعات إلا تعبيرا عن هذه الرغبة الكامنة في النفوس ، فكل أمة تريد أن تكثر سوادها و تنصر جنسها و فكرها!
-وهكذا نرى كيف حددت هذه الكلمة لوحدها طبائع الناس الداخلية وعلاقاتهم الخارجية في آن واحد
(حتى)
لو أدرت لسان العرب لم تجد ما يقوم مقام "حتى"
فهذا الحرف أنشأ توسعا دلاليا مذهلا:
أ- توسعا في زمن التكاثر.
ب- توسعا في المتكاثر به.
فعلى الأول يكون المعنى أن المخاطبين قد ألهاهم التكاثر طيلة حياتهم ولزمهم حتى ماتوا وزاروا القبور.
وعلى الثاني يكون المعنى أن المخاطبين وسعوا دائرة ما تكاثروا به حتى ذهبوا إلى المقابر لإحصاء الأموات منهم ..:
* فتكون "حتى" أنشأت تنديدا بوصفين قبيحين عند هؤلاء:
-الغفلة بمقتضى المعنى الأول
-والسفاهة بمقتضى المعنى الثاني
(زُرْتُمُ)
لو أدرت لسان العرب لم تجد ما يقوم مقام" زُرْتُمُ"
إمتازت بالدقة التعبيرية إذ الزائر منصرف لا مقيم فى المكان الذى يزوره، فجمعت بين التذكرة بالموت و التذكرة بالبعث!
(المقابر)
لو أدرت لسان العرب لم تجد ما يقوم مقام "المقابر"
فالمقابر جمع مقبرة ،والمقبرة مجتمع القبور..فتكون المقبرة جمعا لمجاميع..
وهذا التوسيع يراد له أن يكون مقابلا للتكاثر الذي إمتد في الزمان والمكان!
هذه خمس كلمات فقط..فمن يستطيع أن يأتي بمثلها..
إنه الإعجاز في صورته الباهرة!!
[كتبه الشيخ أبى عبدالمعز]
المثال الثالث عشر
من البلاغة فى أيات الذكر الحكيم تميزها بالإيجاز البديع ،و لو تدبرنا الآيات لعرفنا مدى بلاغة الإيحاء والاخـتصار، وتأثيره على النفس وأسـره للفكر،و دلالته على المعانى تامة الجامعة بأقصر عبارات دونما خلل أو تقصير ، ولنورد قبسات من أيات الله تدلل على ذلك:
1) تدبر قوله تعالى ((خـذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ))
ثلاثة أوامر كل منها يصلح مادة مؤلف كبير، جُمعت فى كلمات يسيرة و جمعت معها مكـارم الأخلاق ، لأن في أخذ العفو الترفع والتسامح واللين والرفق في الدعوة، وفي الأمر بالمعروف نشر الخيرات و الصفات الكريمات و كف الأذى و حفظ الأعراض و مكافحة المحرمات، وفي الإعراض الصبر والحلم والتؤدة و السمو
2) و تدبر قوله تعالى ((فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً))
لن تجد أبلغ و لاو أوجز من هذه الكلمات أبداً، إذ شرحت ببراعة ما وقع بين يوسف و أخوته حين أخذ بينيامين، فبذلو الجهد ليعدلوه عن رأيه و طلبوا منها و ترجوه و إنتظروا ثم اعادو الكرة أملاً فى أن يلين حتى استيأسوا منه و فقدوا الأمل، فأذخو يتناجون فيما بينهم و يتشاورون و يتباحثون ، كل هذه المعانى جمعتها هذه الكلمات القليلة الفصيحة، و هكذا يسمو الإيجاز إلى مرتبة الاعجاز.
3) و تدبر قوله تعالى ((وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء))
كلمات يسيرة شرحت واقعة و قعدت قاعدة، إذ كان بين المسلمبن و المشركين هدنة، ثم شعر المسلمون أن الكفار بدئو الإعداد للخيانة ، حينها شُرع لنا الحق وقف العقد شريطة أن نتلمس منهم الغدر، وأن ننذرهم علناً و بمدة كافية لنا و لهم على سواء بعدها نتحلل من الهدنة، فانظر كيف شرح كل هذه المعانى فى هذه الكلمات!
4) و تدبر قوله تعالى (( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف))
- أية جمعت كل ما يجب للنساء على الرجال من حسن المعاشرة وصيانتهن وإزاحة عللهن وكل ما يؤدي إلى مصالحهن، كما يشـمل ما يجب للرجال على النساء من طاعة الأزواج وحسن المشـاركة في السراء والضراء والسعي إلى مرضاته وحفظ غيبتهم وصيانتهم عن خيانتهم
- و قد رسخت الأية البليغة قاعدتان كليتان:-
القاعدة الأولى: "وجوب تساوي الحقوق والواجبات".......هذا مبدأ العدل وغاية استقرار المجتمعات.
القاعدة الثانية: "أسبقية الواجبات على الحقوق{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ }.
[ نقلاً عن الشيخ أبى عبدالمعز]
5) و انظر فى قوله تعالى (( والله يرزق من يشاء بغير حساب))
فانظر لكلمة (حساب) و التى تعد من جوامع الكلم العظيمة إذ إحتملت المعانى الأتية:
أ- حساب بمعنى العطاء الجزيل، فعطاء الله لا يدخل تحت عد أو حصر،فهو بغير حساب أي لا يتناهى ،كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} فتكون الآية مشيرة إلى سعة ملك الله.
ب- حساب بمعنى لا يحسب ما يعطي لأنه لا يخاف نفادها عنده، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه، لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم مقدار ما يعطي وما يبقي، فلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به، والله لا يحتاج إلى الحساب، لأنه عالم غني لا نهاية لمقدوراته، فتكون الآية مشيرة على الغنى المطلق.
جـ- أن يكون معنى (بغير حساب) أى بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض، فهو بغير حساب، تكون الآية مشيرة إلى كرم الله :يعطي مقابل الشيء عدلا ويزيد ما لا مقابل له تفضلا .
د- بغير حساب أي:يرزق من يشاء ولا يحاسب نفسه على كثرة ما أعطى لأنه كريم.
أو:لا يحاسبه أحد على فعله ولا يوجد من يحاسبه لأنه هو العلي الأعلى {{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ}
فتكون الآية مشيرة إلى الربوبية المطلقة.
هـ- بغير حساب بمعني أنه يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئاً عن كون المعطي محقاً أو مبطلاً أو محسناً أو مسيئاً
فتكون الآية تقريرا لقاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقا لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين
و- بغير حساب يراد بها طائفة من الموحدين الذين يدخلهم الله الجنة بدون حساب وهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب كما في الحديث الصحيح و هم (الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون(
ز- بغير حساب أي: من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل إذا جاءه ما لم يكن في تقديره: لم يكن هذا في حسابـي
و معانٍ اخرى يمكن ان تستخرجها من هذه الجملة الجامعة!...
[نقلاً عن الشيخ أبى عبدالمعز]
6) و تدبر قوله تعالى ((فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ))
أية بليغة تعكس روعة الإيجاز فى القرأن، و بيان ذلك:-
أ- إعلم أن الكلمة قد تحمل نوعين من الدلالة : أ- الدلالة الحرفية ، ب- الدلالة الإيحائية .
مثلا كلمة رزق لا مرادف لها فى أي لغة من لغات الناس لأن الكلمة العربية لها من الظلال الروحية ومن المعاني الحدسية ما لا يمكن أن يوجد في ثقافة أخرى.
كذلك فعل "تولى" في الآية هنا، لا مرادف له يفي بكل الدلالات الإيحائية.....
فهو دال على الحركة في إتجاه معين مع الدلالة على موقف فكري ونفسي، بعكس لو إستعملنا كلمة إنصرف إن حملت المعنى الأول لم تحمل المعنى الثاني.
ب- (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى)
الظاهر أن الآية إخبار عن فرعون، وترتيب للأفعال الصادرة عنه( التولي والجمع والمجيء)
لكن التأمل الدقيق للفعلين (تولى، و أتى) يكشف أن الآية حملت إخباراً عن موسى عليه السلام أيضا فنقرأ في المشهد الواحد مشهدين في الحقيقة....وهذا من إيجاز القرآن المعجز!
"تولى" فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء، ويدل أيضا على وجود شخص (أو شيء) في الخلف....
"أتى" فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء ، لكنها حركة مقابلة للتولي، فالنقطة المرجعية هنا توجد أمام وليس خلف...
فالتولي إنفصال وذهاب بعيدا عن المتولى عنه...والإتيان عكسه .
و عليه فإن الآية تشعرنا أن موسى عليه السلام لم يغادر مكانه، حتى أن المتكلم قبل هذه الآية هو موسى عليه السلام ((قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ))
والمتكلم بعد الآية هو موسى عليه السلام أيضا ((قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى))
فموسى إستقر ساكناً مطمئناً بينما فرعون جاب أقطارها يجمع كيده، و ذلك لأن صاحب الحق واثق من نفسه مؤيد من ربه ينعم بمعيته و رعايته، فلا يفتقر للعباد ولا يحتاج إلى مناورة ولا إلى ذهاب ومجيء !
و هذا كقول نوح لقومه ((إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ))
جـ- ( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى)
الأفعال المتلاحقة تشعر بالسرعة لكنها مع ذلك بينت البرنامج الفرعوني كله......فانظر مثلا إلى قوة الجملة الوسطى "جمع كيده"
- فعل "جمع" يختزل أوقاتا وأحداثا: إعلانات،وسفراء،ومبعوثين ،وحركة في طول البلاد وعرضها، وعروضا وإغراءات ووعودا، باختصار حالة إستنفار قصوى.
- و المفعول به "كيد" يختزل من جهته الأفعال السحرية والرغبة في إزالة الحق بالباطل فضلا عن الإشارة إلى غموض عالم السحر والسحرة، فلا يقال الكيد إلا لما فيه خفاء
- فانظر إلى هذه الكلمة" كيد "كيف دلت على فكر وأهله كما دلت على نوايا وأصحابها ودلت على خطط وتراتيبها.
- ثم انظر إلى الرابطين لترى أسلوب القرآن المعجز:
* " جمع كيده" جملة معطوفة على سابقتها بالفاء...والفاء تدل على الترتيب مع الفورية كما هو معلوم..... ففهمنا من ذلك أن فرعون مستعجل في أمره فقضية موسى لا تحتمل التأخير، وفهمنا من فورية الجمع إستبداد فرعون وقيام الناس على خدمته واستجابة رغباته بأقصى ما يستطيعون.....فالأمر عند الفرعون يفيد الوجوب مع الفورية.
* "ثم أتى" استعمل هنا ثم التي تفيد التراخي....لأن المقام يقتضي ذلك:
فنفهم أنه بين جمع الكيد و الذهاب إلى الموعد إنصرمت مدة نبهت إليها" ثم" إنها مدة وضع المخططات والإتفاق على االوسائل وترتيب الأولويات وإختبار الحيل ....
ونستفيد أيضا قوة الحق الثابت عند موسى عليه السلام، ففرعون وسحرته لم يرتجلوا شيئا بل دبروا أمرهم واخذوا الوقت الكافي لبناء كيدهم.......ثم بعد أتوا صفا....فانهزموا.
فتعجب من أسلوب القرآن كيف جمع بين:
-سرعة تلاحق الأفعال في السرد والحكي.
-وتعدد الفصول والمشاهد والأحداث في المسرود والمحكي...نقلاً عن الشيخ أبى عبدالمعز
7) و من روائع الإيجاز أن يأتى بالكلام مبنياً على أن له جواب، فيحذف الجواب لعلم المخاطب به و من ذلك:أ- قوله تعالى ((وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً))
المراد : لو كان قرأناً تقع به هذه الأمور لكان هذا القرأن
ب- و قوله تعالى ((وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ))
المراد: و لولا فضل الله عليكم و رحمته لعذبكم
جـ- و قوله سبحانه ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً))
و لم يذكر ضد هذا لأن فى قوله ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) دليل على ما أراد
د- و قوله عز و جل ((لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ))
فذكر أمة واحدة و لم يذكر الأخرى التى هى ضدها لدلالة السياق عليها، و "سواء" تأتى للمعادلة بين فريقين
* و بالجملة فإن الإيجاز سمة بلاغية ظاهرة فى كتاب الله و أمثاله كثيرة كقوله تعالى (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أى أشربوا حبه، (لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ) الصلوات لا تهدم و إنما بيوت الصلوات،( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) أى اسأل أهل القرية، (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا) أى أمرناهم بالعدل و الإحسان ففسقوا عن أمرنا فيها، (َأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم) و المعنى فقيل لهم أكفرتم...
و بذلك الإيجاز مع الإستيفاء حوى القرأن العظيم جوامع الكلم، حتى صارت تعبيراته حِكم متداولة كقوله تعالى:
(ولا يحيق المكر السىء إلا بأهله) (لكل نبأ مستقر) ( تحسبهم جميعاً و قلوبهم شتى) (كل حزب بما لديهم فرحون)
المثال الرابع عشر
و من بلاغة الجملة فى القرأن دقة النظم، و روعة تنسيق الحروف و الكلمات فى العبارة و من ذلك :
أ- تامل قوله تعالى ((قيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ))
فهذه أية لو قرأتها مجودة لتكرر حرف الميم معك ثمانى مرات متتالية، فمن يطيق تنسيق ذلك؟!
ب- تدبر قوله تعالى ((كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا))
- فبدأت السورة بخمسة أحرف مقطعة
ثم ركب عليها جملة من من خمسة أسماء ظاهرة بدون عطف وبدون فعل!
بل هي سبعة أسماء بالنظر إلى المضمر منها: الكاف والها
بل هي ثمانية أسماء بالنظر إلى المقدر منها:ذكر خبر مرفوع بمبتدأ محذوف تقديره :هذا ذكر رحمة ربك
فما أبدعه من تركيب!...كتبه الشيخ أبى عبدالمعز
ب- و تدبر قوله تعالى ((َفأرسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ))
فى هذه الأية نجد خمسة أسماء مسرودة سرداً إجمالياً، و الشأن فى مثلها ألا تكون موضعاً للجمال، و رغم ذلك تجد فيها نوعاً فريداً من الجمال التأليفى بنى على قاعدة فنية!
فهذه الأسماء الجوامد تتفاوت فيما بينهما خفة و ثقلاً، و أخفها على اللسان (الطوفان و الجراد و الدم) و أثقلها (القمّل و الضفادع)، فقدم الطوفان لخفته و لمكان المدّين فيه،ثم الجراد لأنها تلى الطوفان فى الخفة و فيها مد كذلك، فهما بمثابة ترويض للسان متدرجة فى النطق، و بعدها جاء بالإسمين الثقيلين (القمّل و الضفادع) بادئاً بالقمل لأنه الأخف و لمكان الغنة فيه،ثم جاء بالإسم الخامس (الدم) و هو أقلها حروفاً و أكثرها خفة ليسرع اللسان بها بعد هذا الجهد الطويل
و بذلك خرج القرأن بهذا السرد من باب العطف المجرد إلى تقعيد قاعدة جميلة بنيت على هيئة الكلم نفسه و أحواله من حيث الخفة و الثقل...أنظر كتاب خصائص التعبير القرانى
المثال الخامس عشر
فى هذا المثال ننظر فى أيات الأحكام، فقد يظن البعض أن أيات الأحكام يغلب عليها النمط التشريعى الجامد، و لكن الحقيقة أن الأيات التشريعية فى كتاب الله تجمع بين عنصرين أساسيين
(الأول) إقناع العقل و إمتاع العاطفة (الثاني) القدرة الكبيرة على نظم الأحكام بأبلغ أسلوب و من ذلك:
النموذج الأول
- تدبر قوله تعالى ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً))
فهذه الأية الكريمة ، تنظم المحرمات من النساء، و هى فى ذلك راعت أمرين هما
الأول:- الإستيعاب و الحصر الشامل بأوجز لفظ و أروع بيان
الثانى:ترتيب المحرمات فى نظام منطقى
* أما الإستيعاب و الحصر الشامل بأوجز لفظ و أروع بيان
- فانظر كيف بنى الفعل للمجهول فى قوله (حُرمت عليكم) إذ المحرم هو الله فلم يسم الفاعل للعلم به إختصاراً..
- و انظر كيف أضاف التحريم إلى الأعيان لا الأفعال فى قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ) و ليس المراد تحريم الذوات لأن الحرمة تتعلق بالأفعال لكنها بلاغة حذف مضاف بدلالة العقل، والمراد تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد منهن ولأنه المتبادر إلى الفهم ولأن ما قبله وما بعده في النكاح
- و انظر كيف اقتصر فى الخطاب على الرجال ،إذ الطلب و الخطبة تقع من جانب الرجال و المرأة هى المطلوبة، و الحكم اتصل بذكر الرجال لارتباطه الوثيق بالمرأة
- و انظر إلى الشمولية فى قوله (أمهاتكم ) (بناتكم ) إذ شملت الأم و الجدة و لو علت، و شملت الإبنة و الحفيدة و لو نزلت ، و استقر المعنى باللفظ الواحد دون حاجة إلى تبيان
- و انظر إلى نكتة توجيه الخطاب إلى الجمع مع تعليق الحرمة بالجمع كالأمهات والبنات " إلخ " , إذ تفيد الاستغراق في التوزيع, أي حرمت على كل رجل منكم أمه وابنته..إلخ
- و أنظر إلى التخفيف فى قوله و بنات الأخ و بنات الأخت، و لم يقل و بنات أخواتكم، لأن الختم بالجمع له غنة جميلة لكن مع كثرة الطرح قد تمله الأذن و تستثقله، فكان الإفراد ههنا بمثابة إستراحة خفيفة يستأنف بها السياق بنغمته دونما ملل ولا خلل
- و حسبك لتدرك جمال هذه الأية أن تنظر فى نظيرها فى كتاب النصارى مثلا ستجد النص على النحو:
((6 لا يقترب انسان الى قريب جسده ليكشف العورة انا الرب 7 عورة ابيك و عورة امك لا تكشف انها امك لا تكشف عورتها 8 عورة امراة ابيك لا تكشف انها عورة ابيك 9 عورة اختك بنت ابيك او بنت امك المولودة في البيت او المولودة خارجا لا تكشف عورتها 10 عورة ابنة ابنك او ابنة بنتك لا تكشف عورتها انها عورتك 11 عورة بنت امراة ابيك المولودة من ابيك لا تكشف عورتها انها اختك 12 عورة اخت ابيك لا تكشف انها قريبة ابيك 13 عورة اخت امك لا تكشف انها قريبة امك 14 عورة اخي ابيك لا تكشف الى امراته لا تقترب انها عمتك 15 عورة كنتك لا تكشف انها امراة ابنك لا تكشف عورتها 16 عورة امراة اخيك لا تكشف انها عورة اخيك 17 عورة امراة و بنتها لا تكشف و لا تاخذ ابنة ابنها او ابنة بنتها لتكشف عورتها انهما قريبتاها انه رذيلة 18 و لا تاخذ امراة على اختها للضر لتكشف عورتها معها في حياتها )) لاويين 18: 6-18
لاحظ أرشدك الله كيف إحتاج ما جمعه الرحمن فى أية بليغة موزونة موجزة محكمة إلى ثلاثة عشر فقرة فى كتاب القوم ببسط مطول و إسترسال غير مبرر و تكرار ، و مع ذلك لم تحط بكل المحرمات!
نعم فإنك إن تأملت لا تجد فى هذه الفقرات التى استغرقت الكثير من الكلمات للتعبير أى ذكر لتحريم الرجل على إبنة أخته، أو ابنة أخيه، و لا وجود لنص واحد يحرم هذا فى كل كتابهم!!
* و أما ترتيب المحرمات فى نظام منطقى:
فإن الأمر لم يقف على سرد المحرمات دونما تنظيم كما نجد فى كتب النصارى، و إنما راعى الترتيب بحسب شدة الحرمة فنظمها على النحو التالى:
1- حرمة ذاتية : و فيها الأم- البنت- الأخت- العمة- الخالة- بنت الأخ- بنت الأخت
و راعى فيها (أ) أهمية الحرمة(ب) علاقة الذكورة
و لهذا ذكرت الأم أولاً لعظم حرمتها،و لأن المخاطب جزؤها،ثم البنت لأنها تلى الأم فى عظم الحرمة، و لأنها جزء المخاطب، ثم الأخت لاتحادهما فى أصل الولادة، ثم العمة لأنها أقرب النساء للمخاطب بعد المذكورات، ثم الخالة كذلك..
و قدمت العمة على اخالة لتفضيل علاقة الذكورة على الأنوثة إذ العمة من جهة الأب و الخالة من جهة الأم، كذكلك قدمت بنت الأخ على بنت الأخت ، و أخرتا عن العمة و الخالة لأن القرابة فى العمة و الخالة من جهة الأصول و القرابة فى بنت الأخ و بنت الأخت من جهة الفروع
2- حرمة عارضة: و تحتها ست حالات و فيما بينها نوعان (أ) ما اكنت العلة فيها الرضاعة (ب) ما كانت العلة فيه الزواج، و قدم سبب الرضاع على سبب الزواج لأسبقية الأول وجوداً
فذكر الأم من الرضاعة قبل الأخت من الرضاعة تشبيهاً لها من حيث الحرمة بالأم الحقيقة،مع مراعاة الترتيب النزولى فى كل الحالات
ثم ذكر أم الزوجة و بنت الزوجة، و حلائل الأبناء و الجمع بين الأختين، و كذلك قدمت الأم هنا كما قدمت فى القسمين السابقين،ثم بنت الزوجة المدخول بها تشبيهاً لها بالإبنة، ثم حلائل الأبناء و أخيراً الجمع بين أختين
النموذج الثانى
[أحكام الطلاق] إذ لم تأتى أحكام الطلاق جامدة جافة كما نقرأ فى كتاب النصارى
((1. اذا اخذ رجل امرأة وتزوج بها فان لم تجد نعمة في عينيه لانه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه الى يدها واطلقها من بيته 2 ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر 3 فان ابغضها الرجل الاخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه الى يدها واطلقها من بيته او اذا مات الرجل الاخير الذي اتخذها له زوجة 4 لا يقدر زوجها الاول الذي طلقها ان يعود ياخذها لتصير له زوجة بعد ان تنجست)) التثنية 24: 1-4
أما فى القرأن الكريم فلما تعرض سبحانه لأمر الطلاق صاغ من الكلمات و التعبيرات ما حقق الغرض التشريعى و التربوى مراعياً الحالة النفسية للمتفارقين ، إذ يخاطب من يغلب على حالهم التحامل و التنازع و نمو العداوة ، فمزج الأحكام بالوعظ و التذكرة حتى يرقق المشاعر و يحمل على الرحمة و الإنصاف ، لذلك إقترنت كل أيات الطلاق فى كتاب الله بذكر التقوى أو المعروف أو الترهيب بحدود الله
فقال تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ))
و قال تعالى ((الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ))
و قال تعالى ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ))
و قال تعالى ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ))
و قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً))
و قال تعالى ((لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ))
و قال تعالى ((وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))
- و نلاحظ أنه تعالى يعبر عن الإمتناع عن الطلاق بلفظة (إمساك) لأن الإنسان لا يمسك إلا ما فى منفعة
- و يعبر عن الطلاق بلفظة (تسريح) لأن التسريح فى الأصل إرسال للمرعى ففيه إيحاء للأزواج العازمين على الطلاق أن يحسنوا معاملتهن ولا يسيئوا إليهن ، و لم يقف عند هذا الحد بل وصف هذا التسريح أنه (تسريح بإحسان) أو (سراحاً جميلاً)
- و لما تكلم عن نفقة المتعة بعد الطلاق قال (مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) لأن الكلام هنا كان عن طلاق و لم يكن هناك مهر فُرض أصلاً، فالملابسة ضعيفة ، لذا استعمل تعبير الإحسان الذى فيه معنى الكرم و يثير عند الازواج مشاعر المروءة و النخوة و يستل من النفوس السخائم فتبذل ما وجب عليها فى رضاً و حنان
- و لما تكلم عن الحقوق المادية للمطلقة قبل الدخول، المفروض لها مهر، و لما كان التخالص المادى مظنة تضخم الجفاء بعد الطلاق، أخبر تعالى أن نفقة الزوجة حق من الله مفروض محسوم (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) ليغلق الطريق على الجور و العناد فيه، ثم انتقل باعطاءها و وليها الحرية فى التنازل عن هذا الحق(إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)، ثم انتقل إلى التشجيع على ذلك و ربطه بالتقوى (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) لأنها أبقى للمودة و الذكرى الطيبة و لهذا أتبع هذا بقوله (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)
فجمعت هذه الألفاظ و التعبيرات المقسمة بين حظ العقل و حظ النفس معاً
- و لكن القرأن تعامل مع من أراد أن يطلق زوجته بعد الدخول بها معاملة خاصة:
** بدأت هذه المعاملة بالإغراء فقال تعالى ((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ))، فإستعمل سبحانه أسلوب إغراء الزوج أن يمسك زوجته إن كرهها أملاً فى خير غزير يجزيه الله به لذلك...
و دعى لوأد الشقاق بالإستعانة بالأهل الطيبين الذين يعينون على الجمع لا الفراق و يريدون الإصلاح ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ))، ولا شك أن هذا له أثر عظيم فى النفس فالمصلح يعمل على تهدئة الزوج فى غضبه، و تقريب وجهات النظر، و التذكير بالمحاسن، و الإتيان بواحد من طرف الزوج و أخر من طرف زوجته يظهر
- لما تكلم عن حالة من عزم مصراً على تطليق زوجته ليتزوج بأخرى ،فلاشك أن الطلاق فى هذه الحالة أقسى و أشد، لذا لم يعتمد سبحانه نفس درجة اللين....و إنما إشتد فى الخطاب عليه ليعلم أن ما لها فهو حقوق فقد إستقر مستوفياً أسبابه الشرعية و العرفية و الأخلاقية ، و ليبرز إنتصار الشرع لمشاعر هذه المرأة و موقفها فقال تعالى
((((وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ))
فانظر كيف بين سبحانه أن ما فرض لها هو حق خالص و لو كان قنطاراً ، فلا يحق للزوج أن يأخذ منه شىء أى شىء، بل و حكم على من يفعل هذا بأنه ارتكب البهت العظيم و الإثم المبين!
ثم يوجه سبحانه سؤال استنكارى كيف تأخذ من زوجتك حقها، و تجحد ما كان بينكم من السكينة و العشرة فى بيت واحد، و انظر الى تعبير (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) أى اطلع كل منكم على أسر أسرار الأخر و كان كل منكم لباساً وسكناً و ستراً و عوناً للأخر!
ثم ختم الأية ببيان أن العقد الذى كان فإنما هو ميثاق قام على الأمانة و على كلمة الله، و وصفه لعظمة شأنه بأنه غليظ ... و هكذا يتبين لك مقصود العلما بالإقناع العقلى و الإمتاع العاطفى
عارف الشمري
2011-04-02, 10:58 PM
البلاغة فى سورة:
لننظر أمثلة على البلاغة القرأنية فى السورة الواحدة، ولنحمد الله الذى أنزل كتاباً أعجز الجن و الإنس على الإتيان و لو بسورة من مثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيراَ!
ســــورة الفاتحـــــــــــــة
نبدأ بأم الكتاب ، السبع المثانى ، القرأن العظيم ، سورة الفاتحة، التى افترض الله على عباده إقامة الصلاة بها و قسم بها الصلاة بينه جل و علا و بينهم يثنون عليه فيذكرهم، يسألونه فيجيبهم!
** (الحمد لله ب العالمين)
بدأ القرأن بحمد الله لأن أمة الإسلام هم أمة الحمد فالمسلم أول ما يتعلم فى دعاء ربه يقول (الحمد لله رب العالمين) ، و هو يحمد ربه على كل حال كما علمه نبيه الكريم ، و أخردعواه حين دخول الجنة هى حمد لله كذلك (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
- كذلك (الحمد لله) أبلغ من ( الشكر لله) لأن الشكر يكون على الفعل و ليس موجهاً للذات، أما الحمد فيشتمل على شكر النعمة إضافة إلى الثناء على الذات
- كذلك ( الحمد لله) فالحمد أبلغ من المدح لأن الحمد لا يوجه إلا على حى منعم، اما المديح فقد يوجه لعاقل أو غير عاقل حى أو ميت منعم أو غير منعم
- كذلك ( الحمد لله) أبلغ من نحمد الله ، لأن التعبير الأخير يعنى أن الحمد يقع على الله من فعلنا ولا يقع قبل أن نفعل ، أما التعبير الأول فيفيد أن الله له الحمد دائماً و أبداً
- كذلك (الحمد لله) فيها توحيد الألوهية: لأن اسم الله مشتق من الإله، و لأن الإله هو الذى يتوجه له العبد بالدعاء و الثناء والشكرو العبادة و التعظيم
و(رب العالمين) فيها توحيد الربوبية: لأن الرب هو المربى لعباده الخالق الرازق المدبر لأمرهم المحيى المميت لهم
**(الرحمن الرحيم)
- جاءت (الرحمن الرحيم ) بعد (رب العالمين) لأن الرب هو المربى و لما كانت التربية الحسنة تتطلب الرحمة و الرفق أتبعها سبحانه ببيان أنه الرحمن الرحيم
- اذ "الرحمن" لكونه بمعنى الرزاق يلائم جلب المنافع؛ و"الرحيم" لكونه بمعنى الغفار يناسب دفع المضار وهما الاساسان للتربية.
**(مالك يوم الدين)
جاءت هذه الأية ملائمة تماماً للذى قبلها و ذلك من وجوه:
- (الرحمن الرحيم) فيها الدعاء بالأسماء
(مالك يوم الدين) فيها الدعاء بالصفات العلى
- (الرحمن الرحيم) فيها معانى الترغيب
(مالك يوم الدين) فيها معانى الترهيب
- بوصولنا إلى هذه الأية فى أول سور القرأن نجد أن قد إجتمع فيها الإقرار لله بالألوهية ، و الربوبية ، و الملك
و لو ذهبنا إلى أخر سورة فى القرأن لوجدناها أيضاً تقر لله وحده بالألوهية و بالربوبية و الملك
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ)
لأن القرأن واحد و أنزله واحد و يدور حول معنى واحد و هو التوحيد التام لله تعالى
^ و لذلك قال صلى الله عليه و سلم (خير ما قلت أنا و النبيين من قبلى لا إله إلا الله واحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شىء قدير)
فاشتمل هذا الحديث أيضاً على توحيد الألوهية لله و نفيها عن غيره
و اشتمل على الإقرار لله بالملك
و اشتمل على توحيد الربوبية بقوله (و هو على كل شىء قدير) أى أنه الخالق الرازق المحيى المميت المدبر
^ بل و لذلك كان فى نداء التلبية فى الحج ( إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك)
الحمد لك : إقرار الألوهية
النعمة لك: إقرار الربوبية و أنه تعالى الخالق الرازق ولى النعم
و الملك لا شريك لك: إقرار تمام الملك و كماله لله
** (إياك نعبد و إياك نستعين)
- إياك نعبد: فيها توحيد الألوهية و البراءة من الشرك
إياك نستعين: فيها توحيد الربوبية و البراءة من الكبر
و ما وقع الكفر بالله إلا لشرك أو كبر
- كما أن قرن العبادة بالإستعانة لأان العبد لا سبيل له أن يعبد الله إلا بعون الله و حوله و توفيقه
- و الإنتقال فى السياق من الغائب فى بداية الأيات إلى المتكلم فى هذه الأية هو أسلوب بلاغى يسمى " الإلتفات " و له فائدتان:
و فائدة فى العموم: إذ يؤدى إلى تطرية نشاط السامع وتحريك الذهن للإصغاء والانتباه.
و فائدة فى المضمون: تتجلى هذه الفائدة بالنظر إلى السياق الذى ورد فيه، فالأيات السابقة كانت تتكلم عن الله بصيغة الغائب ( الحمد لله رب العالمين*الرحمن الرحيم* مالك يوم) لأن الله تعالى رب محمود رحمن رحيم ملك للملك دائماً و أبداً بصرف النظر عن وجود أحاد العباد
أما التعبير بصيغة المتكلم فى (إياك نعبد و إياك نستعين) لأن الفعل هنا منا نحن فنحن الذين نعبد و نحن الذين نستعين بربنا ، و لما كان قريب مجيب سميع بصير لم يلق أن ندعوه بصيغة الغائب بل بصيغة المتكلم الذى يسمع دعائنا و يبصر حالنا و يعلم سرنا
- كما أن تكرار لفظة ( إياك) من غاية البلاغة إذ فيه من القوة والتوكيد ما يؤصل إخلاص توحيد الألوهية و توحيد الربوبية مع إعطاء كل منهما اهتمامها المستقل، و كذا التكرار يفيد التنصيص على حصر المعبود
- كذلك تقديم المفعول به في " إياك نعبد وإياك نستعين " و عدم تقديمه في " اهدنا الصراط المستقيم "
له حكمة بلاغية، لأن التقديم يفيد الاختصاص، فالعبادة لا تكون إلا لله ومن عبد غير الله واستعان بغيره فقد كفر..ومن هنا تظهر حكمة التقديم لغرض إيماني من خلال هذا الأسلوب البلاغي.
أما عدم تقديمه في " اهدنا الصراط المستقيم " لأن طلب الاختصاص في الهداية لا يصح فالله يهدي من يشاء
فتأمل...
**( إهدنا الصراط المستقيم)
- هنا وقع الدعاء، فالرب يربينا و يعلمنا أدب دعاءه و أن نبدأ بتوحيده و تمجيده، و دعاءه بأسمائه و صفاته رغباً و رهباً قبل أن نتقدم بالطلب و السؤال ،و كل هذا تقرر فيما سبق من الأيات الباهرات كما رأينا
فأتبعنا ذلك الإبتهال بطلب ما نرجو من الرب جل و علا
- كذلك قوله (إهدنا الصراط المستقيم) الدعوة هنا جامعة كاملة معجزة ، لأن طلب الهدى هو غاية المطالب
فهناك الهدى العام: الذى يهدى الله تعالى به عباده الى رزقهم و سكنهم و عملهم و زوجاتهم وسائر أحداث حياتهم و هذا مصداق قوله تعالى ( الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى)
و هناك هدى الإرشاد: أن يوفقنا الله إلى من يرشدنا إلى سبيله و يعلمنا دينه الصحيح و يبلغنا دعوته، و سيد هؤلاء إمام الدعاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ( و إنك لتهدى إلى صراط مستقيم)
و هناك هدى التوفيق: أن يوفقنا الله لفهم ما دعانا إليه رسوله و تقبله ، و تعلم دينه و تفقهه ، و العمل بما تعملنا و الثبات عليه، و أن يهدى قلوبنا فترق ولا تقسو و نفوسنا فتعزم ولا تفتر، و كلما ترقى الإنسان فى مراتب العبادة و الإخلاص و العلم و الصبر على ذلك كلما إزداد هدى على هدى و نور على نور (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ)
و هناك الهدى بعد الموت : و هو أن يقودنا ربنا إلى جنات النعيم (َالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ*سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ*وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)
فبهذه الدعوة الجليلة الموجزة يطلب الإنسان من ربه أن يهديه لكل ما هو مستقيم فى سائر أمور من لحظة ميلاده إلى لحظة دخوله الجنة
** (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و الضالين)
- صنفت هذه الأية الناس بين مؤمن و كافر، و صنفت أمم الكفر صنفين:
المغضوب عليهم : و هم الذين عرفوا الحق و تكبروا عنه و على رأسهم اليهود
الضالين: الذين ضلوا عن الحق و اتبعو الباطل و هم يحسبون انهم يحسنون صنعاً و على رأسهم النصارى
فها هى أصناف البشر أجمعين مرتبة مقسمة أروع تقسيم
- و لما كانت النعمة من الله هنا خير خاص يطال المؤمنين ، فقد نسبت الى المنعم و هو الله لطيبها من جهة و تكريماً للمنعم عليهم باتصالهم المباشر بربهم من جهة ( أنعمت عليهم)
و لما كانت أمتا الغضب و الضلال فى نقمة، فقد بنى الفعل للمجهول تحقيرا لهم و إنكاراً من جهة، و تأدباً مع الله من جهة أخرى بعدم نسبه المكروهات إليه ( غير المغضوب عليهم)
و هذا متكرر فى القرأن التأدب مع الله بنسبة الخير إليه شكراً و تعظيماً، و عدم نسبة الشر إليه أدباً و تواضعاً ، و قد سبق و ضربنا أمثلة على ذلك فتراجع.
فبنى الفعل للمجهول فى الكلام عن إرادة الشر ، و نسبو الفعل للرب فى الكلام عن إرادة الرشد
هذا كله الذى ذكرنا غيض من فيض و إلا فالكلام عن الإبداع اللغوى و التعبيرى و النحوى و التقسيمى فى سورة الفاتحة يطول جداً جدا
ســـــورة العصـــــــــــــر
تدبر سورة العصر، تلك السورة قليلة الكلم كثيرة العلم، حتى قال عنها الإمام الشافعى (لو ما أنزل الله محجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم)، و تتجلى عظمة هذه السورة من وجوه:
أولاً:
- هذه السورة وقعت بين خُسرين الخسر الأول (الذين ألهاهم التكاثر) فى سورة التكاثر قبلها ، والخُسر الآخر (الذي جمع مالاً وعدده) في سورة الهمزة بعدها
- و الخُسر الأول رؤية الجحيم (لترون الجحيم) والخُسر الآخر النبذ في الحطمة (كلا لينبذن في الحطمة) و لاحظ أن هذا هو الترتيب الطبيعي بحسب السبق يعني رؤية الجحيم قبل النبذ فيه
- والأطرف أن سورة التكاثر التي رأُى فيها الجحيم سُبقت بسورة القارعة (التي يكون فيها الناس كالفراش المبثوث) فهذا قبل رؤية الجحيم، وقعت سورة العصر بين خسرين الخسر المذكور وخسر قبلها وخسر بعدها وهذا تناسب غريب
ثانياً:- بالنظر لمتن السورة العجيب نجد الأتى
**(و العصر)
- بدأها سبحانه مقسماً بالعصر، أى الزمن و الدهر، و الله يقسم بمخلوقاته لبيان عظمة شأنها ، و العصر شاهد على الناس أو شاهد لهم، فكم من أعمار إنقضت، و أمم مضت، و أجيال تعاقبت، و الإنسان غافل عن الدهر رأس ماله الحقيقى ، إذ يسير إلى ربه من لحظة مولده، فإن ضاع عمره سدىً ضاع الإنسان معه أبداً و كان الزمن شاهداً عليه ، و إن إستثمره فى مرضاة الله كانت له الحياة الأبدية و كان الزمن شاهداً له !!
- و القسم بالعصر دون أى وقت أخر فيه لطيفة بديعة، إذ أنه أنسب مرحلة للإستشهاد، فالفجر ليس مرحلة للإستشهاد إذ الناس ما زالوا في أول اليوم كناية عن أول الزمن حيث لا شاهد هنالك ، كذلك المغرب، وقت غروب الشمس إشارة إلى غروب الحياة وزوال الدنيا فلا ينفع الإستشهاد، أما العصر يعني مرّ فترة طويلة ، وقيل أنها وقت صلاة العصر و كلاهما صحيح مراد، إذ من معانيها الدهر ومن معانيها وقت صلاة العصر ، فتتصور الحياة كلها كأن إنساناً تأمل أحوال البشر من الصباح إلى المساء ، وقت كافى كما أنه كافي لتعرف حقيقته الناس من أول الدهر إلى زماننا
و قد عبر رسول الله عن الحياة الدنيا من لدن أدم إلى قيام الساعة بأنها يوم بُعث فى زمن العصر منه صلى الله عليه و سلم، ففات منه الكثير بما فيه من الأيات و العبر، و بقى منه القليل ليستعد السامع و يعتبر
**(إن الإنسان لفى خسر)
- هنا بيان خطير لأن الأصل فى الإنسان الهلاك لا النجاة، و جاء الخبر جازماً مؤكداً بإن و اللام معاً ، فليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا
- و لاحظ أن النص القرأنى عندما يعبر عن إبن أدم بلفظ (الإنسان) يقصد به الأدمى على أصل طباعه غير المزكاة بالشرع و الإيمان
فقال تعالى (َولَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ) ( إنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(َخلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ)(وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)(َكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً)(وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ)(فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ)(إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ)(بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)(إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)
و الأيات فى ذلك كثيرة، فهذا هو أصل الإنسان فتنبه لدقة القرأن فى إستعمال الألفاظ!
- كما أنه عبر بالمصدر فلم يقل إن الإنسان خاسر، بل قال إن الإنسان لفي خسر، يعني ساقط في الخسر، الخُسر يستعمل لمطلق الخسارة لأن الكلام هنا عن خسارة الحياة تفريطاً فى جنب الله!
** (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
- هنا يأتى الإستثناء، فالإنسان مع تزكية الوحى يفوز، فالمؤمن فقط الذين يكون له النجاة و هذا مصداق قوله تعالى (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ)
- و ذكر هنا أمرين: تكميل النفس (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وتكميل الغير (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)
و فيها عمل الفرد و عمل الجماعة، و قدم عمل الفرد لأن الإنسان مكلف بنفسه قبل غيره، ولا يمكنه البناء و هو ذاته مهدوم، كما أنه يستعين بالدعوة و التواصى مع الأخرين لتحقيق الثبات لنفسه ..فتأمل
- و الجملة الأولى (الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) إشتملت على عمل القلب و عمل الجوارح، فلا نجاة إلا بالإيمان بالقلب و عمل الصالحات بالجوارح، ولا يقبل عمل إلا بشرطين : الإخلاص لله و متابعة رسول الله ، لذا تقرر فى عقيدة أهل السنة ان الإيمان قول و عمل فتنبه
أما الجملة الثانية( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) فإنتقلت بالمؤمن من إصلاح نفسه إلى إصلاح غيره فيكون صالحاً مصلحاً فينشأ المجتمع الإسلامى المتماسك بهذا
- و قال (تواصوا) و لم يقل (وصوا) لأن التواصى فيه معنى المشاركة فالمؤمنين كلهم ناصح و منصوح ، و لأن الأمر متجدد متكرر فيما بينهم مادامت بهم حياة، كما أنه كرر كلمة تواصوا و لم يقل (تواصوا بالحق و الصبر) لأهمية كا واحد منهما وهذه أعلى الاهتمامات
- ولاحظ مجىء (تواصوا بالصبر) بعد (تواصوا بالحق) لأن التواصي بالحق مر فيحاتج للصبر عليه و على نتائجه، فيصبر المؤمن على الطاعة التى قد تفتر عنها نفسه ، و يصبر عن المعاصى التى تميل لها نفسه، و يصبر على البلاء الذى يُختبر به إيمانه، و على أذى الغير له بسبب تمسكه بدينه
لذلك أطلق الصبر و لم يقل صبر على كذا أو كذا، لتشمل كل أنواع الصبر
فشملت سورة العصر البليغة منهج بناء الأمة بداية من الفرد وصولاً إلى المجتمع، بالعلم و العمل و الدعوة و الصبر فتأمل!
ســـورة الإخــــــــلاص
هذه السورة العظيمة التى تعدل ثلث القرأن،و من اوجه إعجازها:
* مهما تكررت على الألسن و المسامع لا تمل ولا تكل من تردادها ، و هذا من أبرز عجائبها
*هى سورة تتناول العقيدة فلا امر فيها ولا نهى ولا تشريع، و كما أسلفنا فإن القرأن يعلمنا منهج العقيدة فى الله ما بين النفى و الإثبات ، فلا ننفى عن الله شيئاً إلا أثبتنا أخر
و لذلك نجد تقسيمها البديع إذ كانتا أول أيتين فى الإثبات، و أخر أيتين فى النفى!
* و من لطائفها و حسن تقسيمها:
أولا:
- تكرر لفظ الجلالة (الله) مرتين (الله أحد، الله الصمد)
- تكررت كلمة ( أحد) مرتين (الله أحد، كفواً أحد)
- أورد من مشتقات الولادة إثنين (يلد، يولد)
- المقابلة بين (يلد و يولد)
- المقابلة بين( أحد) فى أول السورة و (أحد) فى أخرها
فهو لفظ واحد و مع ذلك لا يقصد فى أول السورة إلا الله، و يقصد فى أخرها أى شىء إلا الله!
ثانياً:
- إشتملت على توحيد الألوهية بقوله (قل هو الله أحد) أى الله سبحانه متفرد بالألوهية سبحانه، إذ لفظ الجلالة (الله) يعنى أيضاُ الإله و هو مشتق منه لفظأ و معنى، فيكون المعنى الله إلهنا الأحد لاشريك له
- و إشتملت توحيد الربوبية بقوله (الله الصمد) أى السيد الذى تصمد إليه الخلائق فهو خالقها و رازقها و مدبر أمرها
- و إشتملت توحيد الأسماء و الصفات بقوله ( لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفواً أحد) فالله موصوف بالأولية و بالنزاهة عن الوالد و الولد و أنه سبحانه ليس كمثله شىء
ثالثاً:
* و قوله ( الله أحد) أي الواحد الوِتر، الذي لا شبيه له، ولا نظير ، فكانت هذه الأية قاعدة، و كل ما بعدها تفصيل لها، فقوله (الله الصمد) وصف بأنه ليس إلاّ محتاجاً إليه، وإذا لم يكن إلاّ محتاجاً إليه فهو غني، و بكونه غنياً فهو غنى عن الولد و الوالد ( لم يلد و لم يولد) ، و مادامت هذه صفاته فلا يضاهيه أحد ولا يعدله سبحانه ( و لم يكن له كفواً احد)
- و لاحظ النكتة البلاغية فى تقديم (لم يلد) على (لم يولد) مع أن الأصل ان يولد الشىء ثم يلد، فخالف الترتيب سبحانه، لأنه ليس كأى شىء فحتى فى حالة النفى لا يخضع لقوانين المخلوقات..فتأمل
ســـــورة الكوثـــــــــــــــر
((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) ))
هى أقصر سور القرأن و تتكون من ثلاث أيات فى سطر واحد، و مع ذلك حوت الكثير من البدائع منها:
* إحتوت هذه السورة العظيمة رغم قصرها على أمرين و بشارتين
- الأمران: ( صل لربك، انحر)
- البشارتان: (إنا أعطيناك الكوثر، إن شانئك هو الأبتر)
فكانتا البشارتان جملتين خبريتين إسميتين، و كانا الأمران جملتين إنشائيتين فعليتين
فانظر أرشدك الله كيف أن التقسيم البديع من خصائص كتاب الله
* و للشيخ أبى عبدالمعز بحثاً قيماً فى إعجاز هذه السورة نلخصه فيما يأتى:
أولا: يظهر العجب بالنظر إلى تريب حروفها عددياً:
1) الآية الأولى مبنية من عشر حروف بدون اعتبار المكرر
ا-ن-ع-ط-ي-ك-ل-و-ث-ر.
2) الآية الثانية مبنية من عشر حروف بدون اعتبار المكرر
ف-ص-ل-ر-ب-ك-و-ا-ن-ح.
3) الآية الأخيرة مبنية من عشر حروف بدون اعتبار المكرر
ا-ن-ش-ك-ه-و-ل-ب-ت-ر.
4) و عدد الحروف التي لم تستعمل إلا مرة واحدة عشرة أيضا
ع-ط-ي-ث-ف-ص-ح-ش-ه-ت.
ثانياً: تتعاقب الجمل في الكلام العربي وفق نظام الوصل والفصل الذى إعتبره علماء المعاني أم البلاغة وقلبها....ويعنينا هنا أن سورة الكوثر قادرة على إعطاء مثالين للمفهومين:
فجملة"انحر" معطوفة بالواو على جارتها" فَصَلِّ لِرَبِّكَ."وهذا الوصل.
وهي منقطعة عن الجملة اللاحقة إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.وهذا الفصل.
ثالثاً: إستوعبت سورة الكوثر كل أنواع الضمير في اللغة العربية دون أن تغفل الأحوال الإعرابية المختلفة وهذا من العجب العجاب لأننا نضع نصب أعيننا دائما أن عدد مفرداتها لا تتجاوز عدد أصابع الإنسان،وتفصيله:
أ- الضمائر بارزة ومستترة:
فمن بارز الضمائر في السورة ما ظهر في فعل "أعطيناك".
ومن مستتره ما كمن في فعل "صل "أو" انحر".
ب-الضمائر متصلة ومنفصلة:
ولك في جملة "أعطيناك" مثال على المتصل من الضمائر.
ولك في جملة هو الأبتر مثال آخر على الضمير المنفصل.
جـ- ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب :
- فضمير المتكلم حاضر في" أعطينا"
- وضمير المخاطب في" أعطيناك" و" ربك" و"شانئك" صريحا،و في"صل" و"انحر"مقدرا.
- وضمير الغائب في "هو" صريحا وفي شانيء مقدرا، فتأمل هذه التناسبات اللطيفة.
د- باعتبار مقولة العدد :
جاء في السورة ضمير المفرد وضمير الجماعة.وقد اجتمعا في كلمة "أعطيناك"
هـ- الضمائر باعتبار محلها من الإعراب:
جاءت الضمائر في السورة متنوعة بحسب المحل الإعرابي:
- ضمير فى محل رفع: (أعطيناك) الضمير الأول فيها فاعل مرفوع.
- ضمير في محل نصب: (أعطيناك) الضمير الثاني فيها مفعول به منصوب.
- ضمير في محل جر: (ربك) الكاف فيها مضاف إليه مجرور.
رابعاً: ومن لطائف السورة في هذا السياق أن الكلمات الدالة على الرب عز وجل ثلاث هي:
إسم إنّ / فاعل أعطى / رب.
وجاءت على التوالي: منصوب/مرفوع / مجرور.
- وعلى نفس الترتيب الإعرابي جاءت الكلمات التي تدل على الرسول صلى الله عليه وسلم
(كاف) أعطيناك منصوبة/ (صل)الضمير المستتر مرفوع/ (كاف) ربك مجرور.
خامساً: الأفعال في السورة:
لم يأت في السورة من الأفعال إلا ثلاثة: "أعطى"-"صلى"-"نحر".
لكنها على قلتها مثلت من المقولات الصرفية والتركيبية عدداً كبيراً:
أ- الفعل الصحيح:نحر
ب- الفعل المعتل:أعطى.
جـ- الفعل المضعف:صلّى.
د- الفعل المجرد:نحر.
هـ- الفعل المزيد: أعطى.
و- الفعل اللازم:صلّى.
ز- الفعل المتعدي إلى مفعول واحد: نحر.
حـ- الفعل المتعدي إلى أكثر من مفعول: أعطى.
سادساً: بيان التماثل والتقابل:
(1) {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}
* تماثل المطلعان وتقابل المقطعان:
أ- التماثل في أسلوب التوكيد: إِنَّا/ إِنَّ
التقابل الحاد بين موضوعي التوكيد: الكوثر زيادة وفضل/ الأبتر نقص وخسارة.
ب- تماثلت الآيتان - بالنظر إلى كاف الخطاب- في أنهما تحملان بشرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم....
وتقابلتا في نوع البشارة:فالأولى ثبوتية والثانية عدمية.....بمعنى أن الأولى تكفلت بإيصال النفع والثانية تكفلت بإزالة الضرر.
(2){فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
* هنا أمر بعبادتين متماثلتين من وجه ومتقابلتين من وجه:
- التماثل في الأفضلية:
فالصلاة هي أفضل العبادات / والنحر يكون للإبل وهي أفضل أموالهم.....
فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورا بالتقرب إلى ربه بالأفضل.
- أما التقابل فظاهر في نوع العبادة:
فالصلاة عبادة بدنية / والنحر عبادة مالية.
(3) {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
* جاء التوكيد في الآية الأولى من أكثر من جهة:
-من جهة الحرف (إن)
-من جهة الصيغة فوعل (كوثر)
-من جهة ضمير التعظيم (نحن)
-من جهة زمن الفعل الماضي(أعطى) : الماضي يفيد التحقق والانتهاء ، فالعطاء قد ثبت وتحقق...
هذا التوكيد - ماثله في الآية الثانية معنيا الأفضلية والتنويع-
- وهنا لا بد من ملاحظة:
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} نصت على الجزاء.
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} نصت على العبادة.
لكن الجزاء جاء بأسلوب الخبر يفيد الوقوع والتحقق في ما مضى
أما العبادة فجاءت بأسلوب الإنشاء أي يطلب تحقيقها في ما هو آت.
بعبارة أخرى جاء الجزاء قبل العمل على غير العادة.....
فيكون أكرم الأكرمين قد رفع مقام عبودية النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلى المقامات وهو مقام الشكر .
فأية مواساة هذه
فلله درها من سورة
* و كذا للدكتور السامرائى فى تعليقه على هذه السورة العظيمة روائع منها:-
أولا: يظهر التناسق الموضوعى بين هذه السورة و سورة الماعون التى تسبقها
أ- بدأ سورة الماعون بقوله (أرأيت الذي يكذب بيوم الدين) أى لا يصدق بيوم الدين و الجزاء
و بدأ سورة الكوثر بقوله (إنا أعطيناك الكوثر ) و الكوثر نهر في الجنة وهذا تصديق بيوم الدين والجزاء
ب- قال فى سورة الماعون (فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين) أى لا ينفق ولا يتصدق فى سبيل الله
و قال فى سورة الكوثر (فصل لربك وانحر) و النحر نفقة فى سبيل الله ، و للفقراء و المساكين فيها نصيب
جـ- قال فى سورة الماعون (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) فهذا وعيد لمن يسهو عن الصلاة
و قال فى سورة الكوثر ( فصل لربك) فهذا أمر بالحفاظ على الصلاة
د- قال فى سورة الماعون (الذين هم يرآؤون ) وعيد لمن لا يخلص لله فى الصلاة
و قال فى سورة الكوثر (فصل لربك) اللام في (لربك) تفيد الاختصاص ، فهو أمر بالإخلاص لله فى الصلاة
هـ- كل الصفات في سورة الماعون تدل على الأبتر لأنه انقطع الخير عنه فهو الأبتر حقيقة (يكذب بيوم الدين, لا يدع اليتيم، لا يحض على طعام المسكين،)
و قال فى خاتمة الكوثر (إن شانئك هو الأبتر )
ثانياً: تكثر فى سورة الكوثر اللطائف البيانية و منها:-
(إنا أعطيناك الكوثر)
- بدأ سبحانه بجمع ضمير المتكلم "إنا" للتعظيم، إشارة إلى أن العطية كبيرة من معط عظيم و كبير سبحانه
- و التعبير بالماضى ( أعطيناك) أبلغ ذ فيه دلالة على تحقق وقوع الوعد من الملك القدير
- كذلك أكد بـ "إن" ، و قدم الضمير"إنا" على الفعل "أعطيناك" ، فكان التوكيد مشدداً بالتقديم و بإن ، و ذلك يفيد تعظيم العطية ، و يفيد الإختصاص و الإهتمام ، الإختصاص:لأن الله تعالى أعطى نبيه الكوثر اختصاصاً له وليس لأحد سواه، و الإهتمام: لأن الله العظيم إذا أعطى حصراً فلا يمكن لأحد أن ينزع عطية الله !
- و إستعمل كلمة (الكوثر) من صيغ المبالغة (فوعل وفيعل) فدلت على المبالغة المفرطة في العطية،و هو أبلغ من (الكثير) من وجهين، الأول: أن الكوثر قد تكون صفة وقد تكون ذاتاً، أما الكثير فهي صفة فقط، الثانى: الكوثر صفة تدل على الكثرة فى الخير خصوصاً ، أما "كثير" تعنى كثرة قد تكون في الخير وغيره.
- و حدف الموصوف بوقوفه على كلمة (الكوثر) فلم يقل الكوثر فى الماء أو الكوثر فى المال ...، ليشمل كل الخيرات التى أوتيها رسول الله ، سواء كانت حوض الكوثر فى الأخرة، أو رفعة الذكر، أو كثرة الأتباع، أو كثرة النعم عامة، فأطلق الخير كله بهذا الحذف البديع
- وعندما عرف "الكوثر" بأل التعريف دخل في معناها النهر ولو قال "كوثر" لما دخل النهر فيه.
(فصل لربك و انحر)
- جاء سبحانه بفاء السببية بعد أن بشر رسوله صلى الله عليه و سلم بإعطائه الكوثر ليعلمه شكر النعمة ، إذ ينبغي تلقي النعم بالشكر
- و لم يقل له ( فاشكر) لأن الشكر قد يكون قليلاً أو كثيراً فلو قال الحمد لله فقط لكان شاكراً لكن هذا الأمر الكبير والعطاء الكبير يستوجب الحمد الكثير ولذا طلب تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم شيئين، الأول يتعلق بالله تعالى وهو الصلاة أعظم ركن من أركان الإسلام بعد الشهادة ، والثاني يتعلق بالعباد وهو النحر وفيه إعطاء خلق الله والشفقة بخلق الله.
- وقدم الله تعالى الصلاة على النحر لأن الصلاة أهم من النحر وهي ركن من أركان الإسلام، ولا تسقط لأى سبب، أما النحر فيكون مع التمكن المادي فقط
- و قوله (فصل لربك) بعدما قال ( إنا أعطيناك) أسلوب بلاغى جميل، و هو الإلتفات من الحضور إلى الغيبة..
- كذلك قوله ( فصل لربك) و لم يقل فصل لنا أو صلى لله، إذ الرب هو الذى يرزق و يمنح و يخفض و يرفع ، فإرتبط العطاء في القرآن كله بلفظ الربكما قال تعالى
(ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (ولسوف يعطيك ربك فترضى) (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محذورا) (جزاء من ربك عطاء حسابا)
كما أنه إستخدم ضمير التعظيم بقوله تعالى (إنا أعطيناك) فلو قال فصل لنا لربما وهم متوهم أن فيه شرك ، أو انه يمكن استخدام ضمير التعظيم للجمع ، لذلك من لطائف كتاب الله أنه لا يوجد موضع ذكر فيه ضمير التعظيم إلا سبقه أو تبعه إفراد بما يفيد وحدانية الله تعالى كما قال:
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ...إنا لله وإنا إليه راجعون) (كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله) (ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك....وإلى ربك فارغب)
- و إستعمل كلمة (و انحر) و لم يقل (و اذبح) لأن النحر لغة يتعلق بالإبل التى هى من خيار أموال العرب ، فى حين الذبح قد يستعمل فيما هو أدنى كالبقر والطيور والشاة ،وبما أن الله تعالى أعطى رسوله صلى الله عليه وسلم الخير الكثير والكوثر فلا يناسب هذا العطاء الكبير أن يكون الشكر عليه قليلاً لذا اختار الصلاة والنحر وهما أعظم أنواع الشكر.
- كذلك قال (و انحر) و لم يقل (وتصدق) لأن الصدقة تشمل القليل والكثير فلو تصدق احدهم بدرهم أو بطير لكفى المعنى ولكن الله تعالى أراد التصدق بخير الأموال ليتناسب مع العطاء الكثير.
- كذلك ذكر النحر و قرنه بالصلاة هنا جمع بين العبادات البدنية و المالية معاً، و تعريض بالمشركين الذين كانو يعبدون غير الله و ينحرون لغير الله، فجمع بذلك توحيد الألوهية بجانب توحيد الربوبية فى قوله (لربك)
- و من بلاغة الإيجاز فى الأية أنه لم يقل (و انحر لربك) إذ المتعلق الأول لربك كأنما يغني عن المتعلق الثاني وهو ما يسمى بظهور المراد أي يفهم من الآية فصل لربك وانحر لربك .
- و إشتملت كذلك على ترتيب تشريعى إذ تتضمن الأية أفعال يوم عيد الأضحى فتكون الصلاة ثم تكون الأضحية
(إن شانئك هو الأبتر)
- أكد الخبر بـ"إن" و بتعريف كلمة "أبتر" ، كما أن فى ذلك حصر البتر بالشانئ تخصيصاً
- و قوله (شانئك) و لم يقل (عدوك) لأن مجرد الشنئان أى البغض للرسول صلى الله عليه وسلم يوجب الخشارة ولو لم يعلن عداوته علناً
- و لم يذكر إسم شانىء الرسول فى الأية لتناسب ذلك مع قطعه و بتره حتى من مجرد ذكر إسمه، كذلك لتخلد هذه الجملة فى حقه و حق غيره فتكون قاعدة عامة فى كل شانىء لرسول الله صلى الله عليه و سلم
- و قال (الأبتر) و لم يقل (المبتور) إذ الأبتر صفة مشبهة على وزن أفعل تفيد الثبوت مثل الأحمر والأعرج والأسمر والأصلع، أما المبتور صيغة فعول تدل على الحدوث فترة مثل مهموم ومحزون ومسرور ولا تدل على الثبوت بل تتحول.
- كلمة (الأبتر) من جوامع الكلم ، تشمل كل أمر انقطع من الخير أثره ، و ليس فقط من حُرم الذرية الذكور، فالخاسر على وجه العموم هو الأبتر
- وقد ارتبط آخر السورة بأولها ، ففى أولها أعطى سبحانه الكثير من الخير لرسوله الكريم، وفي أخرها بتر سبحانه الخير عن كل شانىء لرسوله الكريم صلى الله عليه و سلم
ســـــــورة العلــــــــــــــق* من روائع هذه السورة نسقها الثلاثي في الخطاب:
1- توجيه الخطاب ثلاث مرات:
-اقرأ.....اقرأ/أرأيت.....أرأيت.......أرأيت /لا تطعه.
2- الزجر ثلاث مرات:
-كَلاإِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى/ كَلا لئن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ/ كَلالَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.
3- النماذج الثلاثة:
- أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى/ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى/ أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى.
4-التهديد ثلاث مرات:
- إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى/ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ/. سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ.
5- العبادات الثلاث المطلوبة من النبي صلى الله عليه وسلم:
- لَا تُطِعْهُ /وَاسْجُدْ /وَاقْتَرِبْ
6-التركيب المرآتي:الاستئناف بتكرار العنصر السابق:
الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ /عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ/ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ.
*إلى جانب ما سبق يلحظ القاري النسق الثلاثي من جهة تكرار العناصر اللغوية المفردة منها:
1-ربك:
-رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ /وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ./ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى.
2-الإنسان:
-خَلَقَ الْإِنسَانَ /عَلَّمَ الْإِنسَانَ / إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى.
3-الذي:
- الَّذِي خَلَقَ/الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ/الَّذِي يَنْهَى.
4- لم:
-مَا لَمْ يَعْلَمْ/ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى/ لَّمْ يَنتَهِ.
5- اللام+المضارع :
- لَيَطْغَى/ لَنَسْفَعا ً/ فَلْيَدْعُ.
6- إن الشديدة:
- إِنَّ الْإِنسَانَ/ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ/ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى.
7- إن الخفيفة المباشرة للفعل:
- أَن رَّآهُ/إِن كَانَ/ إِن كَذَّبَ.
[كتبه الشيخ أبى عبدالمعز]
*و من اللمسات البيانية فى هذه السورة:
- لما بدأت سورة العلق بأول أمر (إقرأ) ناسب أن يرتبط الأمر بالعلم و التبصر بذكر (الرب) لأن الرب هو المربى ، و الله تعالى بدأ ههنا بتربيه نبيه و تعليمه!
- و ثنى بذكر الخلق (ربك الذى خلق) ، لأن الخلق هو أول أفعال الربوبية فناسب أن يذكّر به الإنسان فى أول أيات الرسالة الإلهية
- وبدأ من الخلق بمرحلة أولية صغيرة (خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)، منشأ صغير حقير ليعرف الإنسان قدره و يدرك فضل ربه و كرمه
- ثم أن الرب الخالق كريم رفع هذا العلق إلى إنسان كامل، يعلم فيتعلم(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) فليقبل الإنسان هذا العلم من الله، و يقبل رسالته التى بدأ لتوه يعلمها نبيه صلى الله عليه و سلم
- (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) ولقد كان المتوقع أن يعرف الإنسان هذا الفضل العظيم، وأن يشعر بتلك النقلة البعيدة فى خلقه، ولكن برزت طبيعته الطاغية نسي منشأه وأبطره الغنى!
- فناسب هذا أن يتبعه سبحانه بتعقيب تهديدي سريع ليرد الأمر إلى نصابه و يذكر من تنفعه الذكرى(إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)
انظر أرشدك الله كيف جمع سبحانه فى كلمات حياة الإنسان من لحظة الخلق إلى لحظة الموت و البعث ليعرف حقيقة هذه الدنيا التى يغتبر بها و يتكبر على ربه!
- فلما حقق المراد مضى مبيناً الطغيان الإنساني الذى يتجاوز به الإنسان نفسه ليؤذى به غيره!
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى) و إنها لتبدو أكبر إذا كان هذا العبد على الهدى آمرًا بالتقوى (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى)
- (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) فالتهديد إذن يأتي في إبانه (كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ( هكذا (لَنَسْفَعَ) بذلك اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه.. وأنه لأوقع من مرادفه: لنأخذنه بشدة.
-و( لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ) صورة حسية للأخذ الشديد السريع، ومن أعلى مكان يرفعه الطاغية المتكبر، من مقدم الرأس المتشامخ، إنها ناصية تستحق السفع
- (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) و قد سبق معرفتنا ما فيها من الإعجاز العلمى..
- وإنها للحظة سفع وصرع فقد يخطر له أن يدعو من يعتز بهم من أهله وصحبه (فَلْيَدْعُ نَادِيَه) ، أما ربه فيدعو زبانية جهنم(سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)
وهنا يخيل السياق للسامع صورة معركة بين المدعوين: بين الزبانية وأهل ناديه، وهي معركة تخييلية تشغل الحس والخيال، ولكنها على هذا النحو معروفة المصير، فلتُترك لمصيرها المعروف!
- وليمض صاحب الرسالة في رسالته، غير متأثر بطغيان الطاغي وتكذيبه، (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)
فانظر إلى التقابل العجيب بين من يطغى و من يسجد
و أنظر إلى التناسب بين ذكر السجود و الإقتراب، لأن العبد أقرب ما يكون إلى ربه و هو ساجد!
[منقول بتصرف عن كتاب التصوير الفنى فى القرأن]
تم النقل ولله الحمد
أبو جهاد الأنصاري
2015-08-10, 12:00 AM
الحمد لله على نعمة الإسلام وجزاك الله خيرا
vBulletin® Jelsoft Enterprises Ltd , Copyright ©2000-2024