سالم
2008-02-22, 10:25 PM
(مع كتاب "القرآن وكفى" لأحمد صبحى منصور)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
قاصمة الظهر، وواصمة الدهر!
(مع كتاب "القرآن وكفى" لأحمد صبحى منصور)
الكتاب الذى نتناوله اليوم له قصة، وقصة مخزية لصاحبها، لكنه ككل مداور عريق يحاول أن يزيّن الفضيحة وأن يحوّلها إلى وسام شرف ونبل، بيد أن الله، الذى يأبى إلا أن يظهر الحق مهما طال ليل الباطل الحالك السواد، قد أوقع صاحبنا فى شر أعماله ففضح نفسه بنفسه. كيف؟ لقد روى لنا قصته مع القذافى عاملا بكل جهده أن يجعلها شهادة على تمتعه بالشرف والكرامة والحرية واستقلال الضمير وكراهية الاستبداد السياسى والفكرى، لكن كانت لله القوى القاهر مشيئة أخرى، ومشيئة الله فوق كل مشيئة. ولكن تعالَوْا أوّلاً نقرأ ما خطه قلمه. قال، فَضَّ الله فاه، وعرّاه وأخزاه: "ما أعرفه أن أحد المسلمين المستنيرين في ألمانيا كتب إلى"المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر" في ليبيا يقترح عليهم نشر مؤلفاتي ويعرّفهم بمعاركي مع السُّنّيّين ومقالاتي الأسبوعية في جريدة "الأحرار". وقتها كان القذاف يرفع لواء إنكار السنة، وكان خصومي في مصر يؤلفون مسبقا روايات عن علاقات بيننا. ولم يفكر أحدهم: إذا كان هذا صحيحا فلماذا أعانى الفقر في مصر؟ ولماذا لا أشد الرحال إلى إحدى الجامعات الليبية أنعم فيها بما كان ينعم به بعض زملائي وتلامذتي؟
لا يعرفون أن المفكر الحر يستحيل أن يكون أجيرا لدى أي حاكم مستبد. قد تلجأ سلطة مستبدة لنشر كتاب لي مضطرة أو تشجع نشره إذا كان ذلك يحقق مصلحة وقتية لها ولا يستطيع أذنابها من الفقهاء الاجتهاد في تأليفه. حدث هذا في بعض كتبي التي تثبت التناقض بين الإسلام والتطرف. مثلا احتفلت السلطة المصرية بكتابي "حد الردة"، الذي كتبته في أعقاب اغتيال صديقي الدكتور فرج فودة، والذي يؤكد بأدلة قطعية أن عقوبة قتل المرتد تناقض الإسلام. فتم نشره مرات عديدة لأن الاتهام بالردة وجّهته الجماعات الإرهابية إلى رموز السلطة المصرية ولاحقتهم بمحاولات الاغتيال، لذا كان هجوم شيوخ الأزهر على هذا الكتاب معتدلا. بل أنهم سنة 2002 أفتوا أن المرتد لا يُقْتَل ولكن يُسْتَتاب فقط.
نفس الحال مع الحكم القذاف في ليبيا الذي رأى أن بعض كتبي قد تشد أزر العقيد المهووس بالثقافة والفكر والإعلام. وفى كل الأحوال فان هذا التلاقي الاستثنائي محكوم عليه مقدما بأن يكون جملة اعتراضية استثنائية في العلاقة بين عقليتين متناقضتين: عقلية الاستبداد والاستعباد التي لا ترى في الكاتب المثقف إلا راقصا في مواكبها، وعقلية المفكر الحر الذي يسمو بنفسه عن حطام الدنيا ومواكبها لأنه يقرأ التاريخ ويتعقله ويرى كيف يخلد القلم المناضل وينتصر دائما على سيف الطغيان، لا يمكن للعقليتين أن يتفقا حتى أثناء تلك الجملة الاعتراضية.
اتصل بي مسئول ليبي كبير واتفقنا على أؤلف لهم كتاب "القرآن وكفى مصدرا للتشريع". وفى أسبوعين بالضبط انتهيت من تأليفه وأعطيته لهم. يقول الصحفي الهام المليجى الذي تابع الموضوع معي بحكم صلاته بالقيادة الليبية وقتها أن القذاف قرأ الكتاب وأعجبه ووافق على نشره على أساس تغيير العنوان إلى "لماذا القرآن؟" وتغيير اسم المؤلف ليكون "د. عبد الله الخليفة". ووافقتُ طالما لن يغيروا شيئا في صلب ما كتبت، وكان مقررا طبع الكتاب في القاهرة ليوزع في مصر أولا. وفزعت إحدى المحجبات وكانت تعمل في المطبعة حين قرأت صفحة من الكتاب فأبلغت مباحث أمن الدولة، فتحفظوا على جميع نسخ الكتاب وأرسلوا نسخة منه إلى الأزهر "الشريف جدا" فقرر مصادرته في الحال، إذ أدركوا (كما قيل لي بعدها) أنني المؤلف الحقيقي للكتاب. وفعلا حملت عربة نقل كل نسخ الكتاب لتلقيه إلى أولى الأمر الليبيين على الحدود. تم نشر نسخ الكتاب في ليبيا ولكن قامت عليه حملة السنيين الليبيين أيضا، فوافق القذاف على مصادرته لأن موضة أو هوجة إنكار السنة بهتت لديه وأصبح مشغولا بلعبة أخرى. وانشغل الجميع عن بقية مستحقاتي المالية لديهم و ضاعت".
هذا ما قاله صاحبنا، وهو كلام لا يدخل عقل أى طفل عنده ذرة من العقل والتفكير. والواقع أن الجهات العالمية إياها هى التى تخطط لأمثال هذا الكائن وتضع له الأوامر والنواهى التى لا يمكنه أن يخالف عنها مهما بدا الأمر وكأنه يتصرف من دماغه. ترى من ذلك المستنير الُمَتَأَلْمِن "أبو قلب رهيف" الذى يحب الثقافة كل هذا الحب فاتصل بالمسؤولين الليبيين من تلقاء نفسه على تنائى الديار وبُعْد المزار ولفت نظرهم إلى صاحبنا؟ بركاتك يا سيدى الألمانى! ولماذا تم الاتفاق بينه وبين الليبيين بتلك السرعة؟ وهل يليق بمفكر حر (أقصد كويتبا يريد أن يخدعنا ويوهمنا أنه مفكر حر) أن يضع يده فى يد من يقول هو نفسه عنه إنه مستبد ومتخلف عقليا وثقافيا كما وصف القذافى، ولا يكتفى بذلك بل يؤلف له كتابا بالمقاييس التى يحددها هو، وكأننا فى ورشة نجارة تصنع طلبيّة طَبَاِلى بالمواصفات التى يعيّنها العميل؟ وماذا يعنى ما قاله من أن الغايات بينه وبين مستبد متخلف جاهل مثل القذافى (حسب وصفه هو، وليس وصفى أنا) قد تلتقى فلا يستنكف المفكر الحر الكريم أن ينسى استبداد المستبد وتخلفه وجهله ويتعاون معه لقاء عَرَضٍ من الدنيا وصفه القرآن والرسول بأنه قليل حتى لو كان بالملايين أو بالمليارات؟ وانظر عزيزى القارئ إلى ما قاله صويحبنا عن المسؤولين المصريين الذين يقول هو أيضا بعظمة لسانه إنه كان يتعاون معهم رغم استبدادهم وتخلفهم، إلى أن انقلبوا عليه وبدأوا يضطهدونه، فانقلب هو بدوره عليهم وقال فيهم ما قاله مالك فى الخمر بعد أن كانت علاقته بهم سمنا وعسلا (ومرة أخرى: هذا كلامه هو، وليس كلامى أنا). والعجيب أنه يحاول أن يلبّسنا العِمّة فيزعم أنه كان يتضور جوعا، مع أنه فى ذلك الوقت كانت الصحف ودور النشر الحكومية المصرية تنشر له مقالاته وكتبه على نطاق واسع وتحتفى بها أيما احتفاء. وكل هذا طبعا ليس بلا مقابل، بَلْهَ الشهرة التى أتته تجرر أذيالها منقادة له كل الانقياد مع أنه لا يعدو أن يكون كويتبا من الدرجة الرابعة أو الخامسة أسلوبًا ولغةً وفكرًا كما سوف يتبين من هذه الدراسة رغم كل التنفجات والتهليلات التى يتحدث بها عن نفسه ورغم كل الطبول والزمور التى تصاحبه فى عزفه النشاز الحاقد على الإسلام!
ويمضى الكويتب ("درجة رابعة أو خامسة"، لا أدرى بالضبط) فى كذبه وجرأته على قلب الحقائق وتزيين الباطل فيقول: "وها هو الكتاب الآن بين يديك عزيزي القارئ بعد 14 سنة من المصادرة يقدم لك حجة ناصعة لا يبقى معها عذر بالجهل. بعد قراءة هذا الكتاب ستتضح الحقائق وسيزول الجهل ويبقى اتخاذ القرار عن عمد وعن علم: إما بالتبرؤ من البخاري وغيره نصرة لله تعالى ورسوله الكريم، وإما بنصرة البخاري وأئمة الحديث في ظلمهم لله تعالى ورسوله الكريم. كل منا حر فيما يعتقد، وسيكون مسئولا أمام الله تعالى يوم القيامة عما اختاره لنفسه، وسيلقى الجزاء بالخلود في الجنة أو الخلود في الجحيم. إنها قضية خطيرة ومسئولية أخطر". والذى يقرأ هذا الكلام ولا يعرف شيئا عن صاحبه سيظن أنه أمام إنسان حَيِىِّ نَقِىٍّ تَقِىٍّ، وليس كائنا يلعب لعبة قذرة يحاول فيها أن يضرب الإسلام فى مقتل حسبما خطط له المخططون ونفخوا فى أنفه ونفثوا فى رُوعه أنه قادر على إنجاز هذه المهمة "القذرة"! إنه يريدنا أن نتبرأ من أحاديث الرسول الكريم ومن البخارى وغيره من العلماء الذين حفظوا لنا هذا الشطر الكبير من ديننا، ونسلِّم لأمريكا ونبصم لها بالعشرة على أعراضنا وكرامتنا وديننا وحاضرنا ومستقبلنا وثرواتنا. يقول كل هذا فى براءة الشياطين ونعومة ملمس كلامهم، لعن الله كل شيطان مارد، وسلَّط الله عليهم من يقذفهم بالشهب الراصدة المحرقة من كل جانب، فيتهاوَوْن فى الفضاء دُحُورًا ولهم عذابٌ واصب! على أننى حين أقول هذا لا أدعى للبخارى عصمة، وكل ما أقوله أنه عالم عظيم توفَّر على الجانب الذى تخصص فيه وبذل فيه جهودا كريمة عبقرية، لكنه قبل ذلك كله وبعد ذلك كله بشر يخطئ ويصيب، والأحاديث التى جمعها هو وأمثاله ليست قرآنا على عكس ما يَعْزُو كويتبنا كذبًا إلى من يدافعون عن سنة النبى عليه الصلاة والسلام من القول بذلك. هذا كل ما هناك حتى نقطع الطريق على كل بكاش يلعب بالبيضة والحجر ويتباكى على التوحيد، والتوحيد منه براء!
أما تعلّل صويحبنا بأنه لا يريد أن يكون هناك قرآن للمسلم غير القرآن الذى بين أيدينا، واستشهادُه على ذلك ببعض الآيات الكريمات التى لا صلة بينها وبين ما يقول، فهو تعلل فى غير محله تماما، وكلمة حق براد بها باطل، إذ ما من مسلم يقول إن هناك قرآنا آخر غير القرآن الذى نعرفه، أما كتب الأحاديث فقد عمل أصحابها بكل ما لديهم من اهتمام وتدقيق على أن يجمعوا كلام رسول الله المتعلق بالدين والأخلاق والذوق السليم والتصرف الكريم وتنظيم المجتمع والأحكام الشرعية...وما إلى ذاك. ولا يعنى هذا أن كل ما فيه من روايات معصوم من الخطإ، بَيْدَ أن إمكانية تسرب الخطإ إلى كتابٍ ما لا يعنى أبدا، ولا ينبغى أن يعنى، أن ننبذه ونلقى به وراءنا ظِهْرِيًّا، فما بالنا لو كان هذا الكتاب يضم أحاديث وتصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يساعدنا على فهم القرآن وتمثُّل الطريقة التى ينبغى أن نطبقه بها على أرض الواقع ونستخلص منه الأحكام فيما يستجد من أمور حياتنا؟ هذا هو مربط الفرس، وما عداه إنما هو تضييع وقت، وترديد مزاعمَ ودعاوَى لا تساوى ثمن الحبر الذى سُجِّلَت به! وعلى هذا فحين نقرأ لأحمد صبحى منصور كلاما مثل قوله: "القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد للمسلم: لا إله إلا الله، ولا كتاب للمسلم إلا القرآن كتاب الله. يقول الله تعالى في ذاته العلية: "مالهم من دونه من ولىٍّ ولا يشرك في حكمه أحدا* واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته، ولن تجد من دونه ملتحدا" (الكهف/ 26- 27)، فالله وحده هو الولي الذي لا يشرك في حكمه أحدا، والقرآن هو وحده الكتاب الذي أُوحِىَ للنبي ولا مبدل لكلماته ولن يجد النبي غير القرآن كتاباً يلجأ إليه. والنبي لا يلجأ إلا لله تعالى رباًّ وإلهاً: "قل إني لن يجيرني من الله أحداً ولن أجد من دونه ملتحدا" (الجن/ 22). والنبي أيضاً ليس لديه إلا القرآن ملتحداً وملجأ: "واتل ما أُوحِىَ إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا". هذا بالنسبة للنبي عليه السلام، فكيف بنا نحن؟"، حين نقرأ لأحمد صبحى منصور كلاما مثل هذا فإننا نعرف عندئذ أنه يخلط الأوراق عمدا كيلا يستطيع القراء أن يلحظوا ألاعيب يده على ترابيزة الثلاث ورقات. ذلك أنه يتهم المسلمين بما لا يقوله أو يعتقده أى منهم، إذ مَنْ مِنَ المسلمين يخلط بين القرآن الكريم وكتب الحديث النبوى الكريم ويقول عن السنة النبوية إنها قرآن آخر؟ وإذا كان هو نفسه يقول إنهم يَعُدّون سنة رسول الله "المصدر الثانى" للتشريع، أى أنها لا تسامِت عندهم القرآن ولا يمكن أن تسامته، فهل هناك دليل بعد هذا على صدق ما نقول؟ أما الآيات التى يحاول أن يلويها كى يخدع القارئ بأنها نزلت فى علماء الحديث فليست إلا ردًّا على المشركين، الذين كانوا يضيقون صدرا بالقرآن وما يدعو إليه من توحيد وتنوير وما يعمل على غرسه من قيم نبيلة بدلاً مما كان عندهم من عادات وتقاليد غير إنسانية كما بينتُ فى دراسة سابقة، فلماذا نتلاعب بالنصوص القرآنية لخدمة الأهواء المنحرفة والأغراض الخطيرة الدنسة؟
ومن ثم فكل ما سيقرؤه القراء معى الآن هو كلام ليس له أى محل من الإعراب ولا المنطق ولا العقل، فالآيات الكريمة التى يسوقها كويتبنا ضمن هذا الكلام هى آياتٌ انتُزِعَتْ من إطارها ووُضِعَتْ داخل إطار لا علاقة لها به، رغبةً من كويتبنا فى التشويش على العقول والتلبيس على أصحابها. بيد أن لعبته لا تجوز على من لهم فى رؤوسهم عقول يفكرون بها. يقول: "ويلفت النظر أن الله تعالى وصف ذاته العلية بأنه الحق، ووصف إنزال القرآن بأنه أنزله بالحق، ووصف القرآن نفسه بأنه الحق. عن وصف الله تعالى بالحق يقول الحق تعالى: "فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟" (يونس/ 32)، "ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل" (لقمان/ 30). وعن إنزال القرآن بالحق يقول تعالى: "وبالحق أنزلناه، وبالحق نزل" (الإسراء/ 105). وعن وصف القرآن بأنه الحق يقول تعالى: "والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق" (فاطر/ 31)، "إن هذا لهو القصص الحق" (آل عمران/ 62). بل إن الله تعالى يصف الحق القرآني بأنه الحق اليقيني المطلق. يقول تعالى: "إن هذا لهو حق اليقين" (الواقعة/ 95)، "وإنه لحق اليقين" (الحاقة/ 51)، وجاءت الصيغة بالتأكيد. فإذا كان الله قد أكرمنا بالحق اليقيني فكيف نأخذ معه أقاويل ظنية مع أنه لا مجال في الدين الحق للظن؟"، ويقول: "وصَف الله تعالى القرآن بأنه حديث، وتحدَّى المشركين أن يأتوا بحديث مثله فقال: تعالى: "أم يقولون: تَقَوَّله؟ بل لا يؤمنون* فلْيأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صادقين" (الطور/ 33- 34). ووصَف القرآنَ بأنه أحسن الحديث: "الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابها مثانىَ تقشعر منه جلود الذين يخشَوْن ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. ذلك هدى الله يهدى به من يشاء" (الزمر/ 23). فإذا أكرمنا الله تعالى بأحسن الحديث فكيف نتركه إلى غيره؟ وأوضح رب العزة أن الصدق كله في حديث الله تعالى في القرآن: "ومن أصدق من الله حديثا؟" (النساء 87). وتوعد الله تعالى من يكذِّب بحديثه في القرآن: "فذرْنى ومن يكذّب بهذا الحديث. سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" (القلم/ 44). وأكد رب العزة أن الإيمان لا يكون إلا بحديثه تعالى في القرآن الكريم فقال في آخر سورة المرسلات: "فبأي حديث بعده يؤمنون؟" (المرسلات/ 50). وتكرر نفس المعنى في قوله تعالى: "أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم؟ فبأي حديث بعده يؤمنون؟" (الأعراف/ 185)، وهى دعوة لنا لنتفكر قبل أن يأتي الأجل المحتوم. بل إن الله تعالى يجعل من الإيمان بحديث القرآن وحده مقترناً بالإيمان به تعالى وحده، فكما لا إيمان إلا بحديث القرآن وحده فكذلك لا إيمان إلا بالله وحده إلهاً. وكما أن المؤمن يكتفي بالله وحده إلهاً فهو أيضاً يكتفي بحديث القرآن وحده حديثاً. وجاءت تلك المعاني في قوله تعالى: "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟* ويلٌ لكل أفاك أثيم* يسمع آيات الله تُتْلَى عليه ثم يصرّ مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا، فبشره بعذاب أليم" (الجاثية/ 6- 8). وذلك الذي يُعْرِض عن آيات الله شأنه أنه يتمسك بأحاديث أخرى غير القرآن سماها القرآن: "لهو الحديث". يقول تعالى: "ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا. أولئك لهم عذاب مهين* وإذا تُتْلَى عليه آياتنا وَلَّى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا. فبشره بعذاب أليم" (لقمان/ 6- 7)". ترى كيف يظن كويتبنا أنه يستطيع بهذا المنطق المتهافت إقناعنا أن علماء الحديث هم ككفار قريش: يريدون اطِّراح القرآن والاستعاضة عنه بأقاصيص رستم وإسفنديار وعادات الجاهلية وتقاليدها وعقائدها وخرافاتها وتشريعاتها؟
وهو يحاجّنا بقوله تعالى شأنه: "ما فرَّطنا في الكتاب من شيء" (الأنعام/ 38)، وقوله سبحانه: "ونزَّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء" (النحل/ 89)، متصورا أنه يمكنه الاستدلال به على وجوب استغناء المسلم بالقرآن عن كل شىء آخر. والحق أنه لو كان صادقا فى هذا الذى يقول لكان أولى به أن يمزق كتبه ومقالاته وأن يريحنا من الصداع الذى يرهقنا به على الدوام. أليس القرآن قد ذكر كل شىء، وبيّن كل شىء، ولم يفرط فى أى شىء كما يفهم العامى مثل هذه الآيات؟ ومنه هذا السؤال الذى كنا نسمعه فى صبانا من بعض من حولنا: إذا كان القرآن فيه تبيان كل شىء، فكيف لم يذكر عدد الأرغفة التى تنتجها أفران مصر على سبيل المثال؟ إننا لا نشاحّ أن القرآن قد بيّن كل شىء ولم يفرِّط فى ذكر أى شىء، ولكن بمعنى غير المعنى الذى لا يستطيع ذهن صويحبنا الكليل أن يفهم سواه. إنه إذا كان قد فصّل لنا القول فى ميدان العقائد حسب حاجتنا إلى ذلك، فإنه كثيرا ما يكتفى برسم الخطوط العامة فى ميدان السياسة والاجتماع والاقتصاد مثلا ثم يتركنا نستخلص منها ما نعالج به مشاكلنا التى تتجدد مع الأيام. وقد كان الرسول هو أول من قام بتطبيق مبادئ القرآن واستخراج الأحكام التفصيلية من مبادئه وتشريعاته العامة وتطبيقها على الوقائع التى تستجد كل يوم، فكيف يُطْلَب منا أن نهمل ما تركه لنا الرسول الكريم على اعتبار أنه يتناقض مع إيماننا بالقرآن، وفى ذات الوقت نأخذ بكلام كل من هبّ ودبّ ممن لا يحسن الفهم ولا الكتابة السليمة؟ عجبتُ لك يا زمن! أما قوله إن "النبي يوم القيامة سيعلن براءته من أولئك الذين تركوا كتاب الله وهجروه جرياً وراء مصادر أخرى ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان. يقول تعالى: "وقال: الرسول: يا رب، إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا* وكذلك جعلنا لكل نبي عدواًّ من المجرمين، وكفى بربك هادياً ونصيرا" (الفرقان/ 30- 31)" فهو تكرير للاتهامات الظالمة التى لا يَكِلّ ولا يَمَلّ من توجيهها لعلماء الحديث خاصة، والمسلمين عامة، إذ لا يوجد مسلم يستعيض بكتب الحديث عن كتاب الله، بل كل ما هناك أنها تساعدنا على فهم القرآن وتطبيق مبادئه وتشريعاته على أحسن وجه ممكن، بدلا من الانفلات فى أجواز الفضاء دون ضابط ولا رابط كما يفعل أحمد صبحى منصور ورشاد خليفة ومن يلف لفَّهما. كذلك هل يمكن أن يعلن النبى براءته ممن يشهد له صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة ويقف مع من يكفِّر الذى يقول: "أشهد ألا إله إلا اله، وأن محمدا رسول الله"؟ وإذا كانت الشهادة لمحمد بالنبوة والرسالة كفرا وشركا وإثما، فما هى الشهادة يا ترى التى تُرْضِى اللهَ ورسولَه؟
وعن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصرفاته يقول كويتبنا: "كان عليه السلام "خُلُقه القرآن"، وحقيق به حينئذ أن يكون على خلق عظيم: "وإنك لعلى خلق عظيم" (القلم/ 4)، والخُلُق في المفهوم القرآني هو الدين. وهل هناك أعظم من دين الله؟ وخارج نطاق الرسالة كانت للنبي أقوال وتصرفات في حدود بشريته وتعاملاته الخاصة والعامة ومسئولياته وعلاقاته، فهل هذه الأقوال والأفعال تعتبر جزءاً من الدين؟... محمد عليه السلام في حياته خارج الوحي كان حاكماً وقائداً عسكرياًّ وزوجاً وصديقاً لأصحابه وجاراً في المسكن، وكان مثلاً أعلى في ذلك كله، وكان فصيح اللسان، وقد نجح في إبلاغ الدعوة وتكوين الأمة وإقامة الدولة، وقد واجه في حياته مشاكل سياسية وشخصية، وقد تغلب عليها ونجح في النهاية بمهارته ولباقته وكياسته، وبالطبع انعكس عليه أحياناً ضعف الإنسان في داخله أو من المحيطين به، وأقوالُه وأفعالُه خارج الوحي القرآني كانت تعكس ذلك. والقرآن ذكر أقوالاً للنبي، وامتدحه في بعضها، وعاتبه في بعضها الآخر. ونعطى أمثلة:
في غزوة بدر خرج المسلمون بعدد قليل ليواجهوا قافلة ففوجئوا بقدوم جيش ضخم يفوقهم عدداً وعدة، وكره المسلمين دخول الحرب خوفاً، والقرآن يصور ذلك الموقف فيقول: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون* يجادلونك في الحق بعد ما تبيّن كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون" (الأنفال/ 5- 6). وفى هذا الموقف انبرى القائد نبي الله يشجع أصحابه، وسجل الله له هذا "القول" وذكر مقالته في هذا الشأن في معرض المدح: "إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين؟" (آل عمران/ 124”). قال لهم النبي في ذلك الموقف: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة؟ إذن هذا حديث للنبي القائد في معركة بدر ذكره القرآن في معرض المدح. وفى غزوات ذات العسرة (انظر أيها القارئ إلى هذا الكلام الركيك والفكر المشوش! بالله عليك ما معنى "غزوات ذات العسرة"؟) تثاقل المنافقون عن الخروج، بينما جاء بعض فقراء المسلمين يريدون الخروج، ولكن ليس معهم راحلة ولا مئونة، فاعتذر لهم النبي قائلاً:"لا أجد ما أحملكم عليه". ونزل القرآن يروى الحادثة: "ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله. ما على المحسنين من سبيل، والله غفور رحيم* ولا على الذين إذا ما أتَوْك لتحملهم قلتَ: لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَناً ألاّ يجدوا ما ينفقون" (التوبة/ 91- 92). قال لهم النبي في ذلك الموقف: "لا أجد ما أحملكم عليه"، فهذا حديث مرتبط بظروفه المكانية والزمانية شأن ما سبق في غزوة بدر. وفى قضية زواج زيد وتطليقه زوجته التي أصبحت زوجة للنبي عليه السلام يقول تعالى: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أَمْسِكْ عليك زوجك واتق الله، وتخفى في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس، والله أحق أن تخشاه" (الأحزاب/ 37). أمر الله تعالى النبي أن يجعل زيداً يطلق زوجته ثم يتزوجها النبي فيما بعد لكي يقضى النبي عملياًّ على عادة الجاهلية في اعتبار زوجة الابن بالتبني وطليقته مثل زوجة الابن الحقيقي، وحتى لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا. وكان ينبغي على النبي أن "يقول" لزيد: "طَلِّقْ زوجتك"، ولكنه تحرج وقال العكس تماماً فنزل القرآن يؤنب النبي ويحكى القول الذي قاله واستحق بسببه التأنيب من ربه: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أَمْسِكْ عليك زوجك واتق الله...". إذن هنا حديث للنبي هو "أَمْسِكْ عليك زوجك واتق الله" قاله النبي لزيد بن حارثة، وذلك الحديث أيضاً مرتبط بظروفه الزمانية والمكانية، ولكنه حين قاله النبي لم يحالفه التوفيق فيه. والمراد أنه كان للنبي في تحركاته وعلاقاته المتعددة أقوال وأحاديث، وهذه الأحاديث كانت مرتبطة بظروفها الزمانية والمكانية التي قيلت فيها والتي يستحيل أن تتكرر في أي عصر لاحق بنفس الأحداث والأشخاص والظروف، لأنه تاريخ مضى وانتهى بانتهاء أبطاله وموتهم ولم يبق منه إلا العبرة والعظة. وسيرة النبي فيها الكثير من الأحداث والأقوال المنسوبة للنبي في الفترة المكية وفى الفترة المدنية، وهى تاريخ يجوز عليه الصدق والكذب، وليس داخلاً في دين الله تعالى بأي حال. أما ما أورده القرآن من قَصَصٍ يخصّ النبي محمد فهو القصص الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والإيمان بهذا القصص يدخل في إطار الإيمان بالقرآن: إن أقوال "النبي" خارج الوحي القرآني والتي أوردها القرآن هي قصص للعبرة نؤمن بها ضمن إيماننا بكل حرف نزل في القرآن. وأقوال "النبي" خارج الوحي القرآني والتي كتبها الرواة في السيرة بعد وفاة النبي هي تاريخ فيه الحق والباطل والصحيح والزائف، وليست جزءاً من الدين على الإطلاق".
وأنا معه فيما ورد فى العبارة السابقة من أن النبى عليه السلام "في حياته خارج الوحي كان حاكماً وقائداً عسكرياًّ وزوجاً وصديقاً لأصحابه وجاراً في المسكن، وكان مثلاً أعلى في ذلك كله، وكان فصيح اللسان، وقد نجح في إبلاغ الدعوة وتكوين الأمة وإقامة الدولة، وقد واجه في حياته مشاكل سياسية وشخصية، وقد تغلب عليها ونجح في النهاية بمهارته ولباقته وكياسته، وبالطبع انعكس عليه أحياناً ضعف الإنسان في داخله أو من المحيطين به، وأقواله وأفعاله خارج الوحي القرآني كانت تعكس ذلك. والقرآن ذكر أقوالاً للنبي وامتدحه في بعضها وعاتبه في بعضها الآخر"، ولكنى أتساءل: إذا كان النبى هو المثال الأعلى فى الخلق والسلوك والعقل والفصاحة والدعوة والتخطيط والقيادة العسكرية والزعامة السياسية، فكيف تواتى المسلمَ الحقَّ نفسُه على إهمال ذلك التراث النبوى العظيم والبدء كل مرة من جديد دون محاولة الاستفادة من هذا التراث الذى يقول فيه كويتبنا قصائد وَلْهَى ليستدير فيفاجئنا بأن علينا نبذه تماما، وإلا كنا مشركين كافرين؟ ثم إذا كان الوحى قد عاتبه عليه السلام فيما لم يوافقه عليه، وفى ذات الوقت لم يعترض على شىء مما وصلنا من أحاديثه وتصرفاته الشريفة الأخرى، أفلا يحق لنا أن نفهم أن هذه الأحاديث والتصرفات تحظى من القرآن بالرضى والقبول؟ ألا يرى القارئ أن الكويتب يتخبط تخبطا عنيفا ولا يستطيع أن يهتدى إلى الخروج من المأزق الذى أوقع نفسه فيه سبيلا؟ والكاتب ("الكاتب" هذه المرة بالتكبير لا بالتصغير، من نفسه) يقول إن ما وصلنا من روايات أحاديث رسول الله فيه الصواب والخطأ، وتعليقنا عليه هو أن علماء الحديث، كما هو معروف، لم يقبلوا كل ما وصلهم من كلام أو فعل منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أنهم قد بذلوا جهودا جبارة فى تمحيص سنته الكريمة، وإن كنا لا نستطيع الزعم بأن هذه الجهود العبقرية لا يخرّ منها الماء: فهناك أحاديث منسوبة للنبى أخذها عليهم نقّادٌ آخرون، وهناك أحاديث أخرى لا يطمئن إليها القلب، بل منها ما لا يقتنع به العقل، لكن ذلك قليل بوجه عام، أما صويحبنا فقد غالى فى الرفض مغالاة رهيبة ودعا إلى اطّراح الأحاديث النبوية جملة وتفصيلا. وهذا هو مفترق الطريق بيننا وبينه: فهو إلى سكّة الندامة (سكّة الذى يروح فلا يرجع: غالبا)، أما نحن فنرجو من الله أن تكون سكتنا سكة السلامة! ولا ينبغى أن ننسى ما أمرنا به القرآن الكريم وما يذكّرنا كويتبنا به من اتخاذ رسول الله أسوة حسنة، إذ كيف يكون صلى الله عليه وسلم أسوة لنا ثم ننبذ ما كان يقوله ويفعله؟ ففى أى شىء إذن هو لنا أسوة؟ إن هذه لمعضلة مضحكة! أما الطنطنة التافهة فى كلامه التالى فلا تستحق غير الازدراء والاحتقار. قال: "وبعد هذا التوضيح (يقصد القول بأنه ليس هناك شىء اسمه السنة النبوية، بل القرآن فقط) سيستمر التساؤل: أليست للرسول سنة؟ ويستدرك السائل حين يتذكر عنوان البحث: "سنة الرسول هي القرآن فقط" فيحوّر السؤال: "أليست للرسول سنة خارج القرآن؟". والإجابة في القرآن. يقول تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" (الأحزاب/ 21. ولاحظ أيها القارئ كيف أن هذا العبقرى (الذى يستنكف أن يتطاول إليه جاهل مثلى ويرى أن بطن الأرض حينئذ خير له من ظهرها! يا حرام! ولماذا كل هذه الأذية؟ إن شا الله عَدُوّوك!) يخطئ فى أوليات الإملاء فيكتب "يرجوا" بالألف مع أن الواو هنا ليست واو جماعة. وقد تكرر ذلك منه باطراد تقريبا)، فلم يقل الله تعالى: "قد كان لكم في رسول الله سنة حسنة"، وإنما قال: أسوة حسنة". والله ثم والله إنى لا أستطيع أن أرى فى هذا إلا شغل بهلوانات، وأستغرب أن يكون كاتبه مدرِّسا سابقا فى الجامعة الأزهرية!
لقد كنت متعاطفا مع هذا الرجل حين سمعت به أول مرة فى منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، إذ كان أحد طلابه بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بالدرّاسة (وهو جار لنا فى القرية) فى زيارة لى فى القاهرة فشرّق بنا الكلام وغرّب، وكان من بين ما أخبرنى به أن هناك دكتورا (فى قسم التاريخ فيما أذكر) اسمه كذا واقعًا مع المسؤولين فى الجامعة فى بعض المشاكل، وفهمت منه أن السبب هو حملة الدكتور على من يُسَمَّوْن بــ"الأولياء" وكراماتهم، وأطلعنى فى حينها على مذكِّرتين دراسيتين للدكتور المذكور قلّبتهما سريعا ونحن جالسان، وكان تعليقى أننى لا أستطيع أن أجد فيما سمعتُه ولا فيما فَرَرْتُه من صفحات المذكِّرتين ما يمكن أن يؤاخَذ عليه أستاذه. ثم مرت الأيام لتطلعنى من أمر الرجل على أشياء لا تُطَمْئِنُ ولا تَسُرّ حتى رأيته منذ سنواتٍ تسعٍ تقريبا فى ندوة بجريدة "آفاق عربية" كنا نناقش فيها أنا ود. جابر قميحة ود. يحيى إسماعيل كتابا للأستاذ جمال البنا يدعو فيه إلى تجديد الفقه أو شىء من هذا القبيل حيث فوجئنا بمجموعة من الناس تقتحم علينا الندوة اقتحاما لفت أنظار الجميع وأثار استياءهم، وفهمت من بعض الحاضرين أن هذا د. أحمد صبحى منصور، وهذا فلان، وهذا فلان، وهذا فلان ممن لا أذكر الآن أسماءهم. ثم أبدى د. منصور رغبته فى الكلام على الفور، وبسرعة شرع يتكلم فيما لم يكن له بموضوع الندوة أية صلة (ولعله تكلم عن إنكار السنة الشريفة، وأرجو ألا تكون الذاكرة قد عبثت بى لطول المدة)، واعدًا الحاضرين أن يوجز الكلام وأن يعطيهم فى النهاية فرصة لمناقشة ما يقول. إلا أن الوقت أخذ يمضى وهو منطلق لا يلوى على شىء أو على أحد، ولا يبالى بما نبهه إليه مدير الندوة الأستاذ مجدى عبد اللطيف من وجوب الاختصار حتى يعطى الآخرين الفرصة لقول ما عندهم. وفى النهاية فوجئنا به، وقد انتهى مما أراد الخوض فيه، يترك الندوة هو ومن معه جماعةً كما دخلوها جماعةً، لاحسًا بذلك وعده أن يعطى الحضور الفرصة لمناقشة ما قال. وقد كان من رأيى أن يتركوه ينصرف على راحته ولا يلحّوا عليه بالبقاء ما دام لا يريد. ولم يكن منظره تلك الليلة مما يبعث على الارتياح بنظراته القاسية وملامحه الغليظة. وقد كانت هذه المناسبة وما ظهر فيها من عدم التزامه بآداب الدخول والكلام والانصراف عاملا هاما فى بَلْوَرَة رأيى فيه! وها هو ذا الرجل قد زَجّ بنفسه فى مآزق أحسب أنها ستجر عليه من الوبال والخسران أشد مما جرته عليه حتى الآن، ولسوف يندم يوم لا ينفع الندم حين يمثل أمام الله الديان وليس له من أمريكا عَوْن ولا ناصر، بل لن يكون لأمريكا نفسها عون ولا ناصر. لا أظن الرجل إلا يعرف ما هو مرتكس فيه من باطل وخطيئة، إلا أن النفق الذى دخله لا يسمح له بالرجوع، والتيار الذى يأتى من ورائه يكسحه كسحا إلى الأمام حيث تقبع الهاوية فى آخر النفق فاغرةً فاها لتبتلع من تسوقه الأقدار إليها ابتلاعا! استر علينا يا رب! ومع ذلك، ورغم تصدِّىّ لسخافاته وانحرافاته وضلالاته بكل ما أوتيت من قوة، فإنى والله أتمنى له أن يُفيق ويرجع لما فارقه من الانتماء إلى الإسلام والمسلمين. وما ذلك على الله بعزيز، فهو سبحانه وتعالى لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء. وفى ظن العبد لله أن أمريكا نفسها والغرب كله قد ينقلبون مسلمين فى يوم من الأيام نرجو ألا يكون بعيدا جدا، وقد ننقلب نحن بخيبتنا الثقيلة على الإسلام، وتصبح المعادلة أكثر تعقيدا!
على أننى قبل أن أدخل فى مناقشة ما قال صويحبنا أودّ أن أنبه إلى ثغرة منهجية قاتلة فى كلامه، فهو يهاجم المحدّثين والأحاديث التى يروونها هجوما شديدا لا يُبْقِى ولا يَذَر، لكنه مع ذلك يعتمد عليهم ويصدّق رواياتهم تمام التصديق ويصبح ما يقولونه شهدًا مصفًّى كلما ظن أنه يستطيع توظيفه فى الهجوم عليهم. ومن ذلك قوله: "ويؤكد أن النبى نهى عن كتابة غير القرآن أن الخلفاء الراشدين بعده ساروا على طريقه فنهوا عن كتابة الأحاديث وعن روايتها: فأبو بكر الصدّيق جمع الناس بعد وفاة النبى فقال: "إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه"، وهذا ما يرويه الذهبى فى تذكرة الحفاظ. ويروى ابن عبد البر والبيهقى أن عُمَر الفاروق قال: "إنى كنت أريد أن أكتب السنن، وإنى ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله. وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشىء أبداً. ورواية البيهقى: "لا ألبس كتاب الله بشىء أبداً". وروى ابن عساكر قال: ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق، فقال: ما هذه الأحاديث التى أفشيتم عن رسول الله فى الآفاق؟ أقيموا عندى. لا والله لا تفارقونى ما عشت. فما فارقوه حتى مات". ومنه كذلك قوله: "وعلماء الحديث يتفقون على صحة حديث "من كذب على فليتبوأ مقعده من النار"، وبعضهم يضيف إليه كلمة "متعمداً": "من كذب علىّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار". وهم يجعلون هذا الحديث من المتواتر، وعدد الحديث المتواتر لا يصل إلى بضعة أحاديث عند أكثر المتفائلين، والمهم أنهم بإقرارهم بصحة هذا الحديث إنما يثبتون أن الكذب على النبى بدأ فى حياة النبى نفسه، وإلا ما قال النبى هذا الحديث يحذّر من الكذب عليه". ومنه أيضا قوله: "وأكثر أبو هريرة من الحديث بعد وفاة عمر، إذ أصبح لا يخشى أحداً. وكان أبو هريرة يقول: إنى أحدثكم بأحاديث لو حدّثتُ بها زمن عمر لضربنى بالدِّرّة (وفى رواية: "لَشَجَّ رأسى"). ويروى الزهرى أن أبا هريرة كان يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: "قال رسول الله" حتى قُبِض عمر. ثم يقول أبو هريرة: أفكنتُ محدِّثكم بهذه الأحاديث، وعُمَر حَىّ؟ أما والله إذن لأيقنت أن المخفقة (العصا) ستباشر ظهرى، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن، فإن القرآن كلام الله".
وكويتبنا فى تفسيره للقرآن لا يستطيع أن يقول شيئا ذا بال دون الاستعانة بالحديث. ولنأخذ مثلا ما قاله فى أخلاق النبى عليه السلام إذ وصفه المولى سبحانه بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم"، فقد أضاف كويتبنا أنه صلى الله عليه وسلم "كان خلقه القرآن"، وهذا الكلام لم يرد فى القرآن، بل هو من كلام عائشة رضى الله عنها، وقد أوردته لنا الأحاديث النبوية، وكرره كويتبنا مرتين فى كتابه التافه الذى يريد أن يقلب به الإسلام رأسًا على عقب. ومنه أيضا ما كتبه بشأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة، إذ يقول: "والنبي كان عليه أن ينفذ سُنّة الله، أيْ شرع الله وأوامره، حتى لو كان فيها حرج. وقد نزلت آية: "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له. سُنّةَ الله في الذين خَلَوْا من قبل، وكان أمر الله قدراً مقدورا" في موضوع زيد بن حارثة وزواجه وطلاقه من زوجته...". والسؤال هو: كيف عرف منصور أن الكلام فى الآية عن زينب، وأن زيدا هو زيد بن حارثة، وليس زيدا آخر؟ ذلك أن الآية لم تذكر إلا اسم "زيد" وحده دون اسم أبيه، وكذلك دون اسم زوجته التى أصبحت طليقته. الواقع أن ليس هناك من مصدر لهذا إلا الأحاديث، فكيف أصبحت الأحاديث هنا شيئا موثوقا به بعد أن قال فيها صاحبنا ما قال؟ قد يقول إن القرآن يحدد زيدا بأنه من "أدعيائكم"، لكنْ مرة أخرى: من أين نعرف أن زيدا كان دَعِىّ النبى عليه السلام (أى ابنه بالتَّبَنِّى) إلا من الأحاديث النبوية؟ قد يقول: لكن هذا تاريخ، ونحن نُعْمِل عقولنا فى روايات التاريخ فنقبل ما تطمئن إليه ونرد ما سواه. وهذا هو ما أريد أن أُفْهِمه إياه من البداية: أن نُعْمِل عقولنا فى الأحاديث، لكن بشرط أن نحترم منطق العقل ومنهج العلم وأن نقلّب الأمر على كل وجوهه وأن نتريث قبل إصدار الأحكام وأن ننظر جيدا فيما يقوله الآخرون، وبخاصةٍ من يخالفوننا فى الرأى، وهو ما لم يدخر فيه المحدّثون وسعا، وإن لم يمنع هذا من إضافة المزيد من الجهود فى هذا السبيل. أما نبذ الأحاديث جملة وتفصيلا عن جهل واندفاع فهو عمل لا يُقْدِم عليه إلا أخرق أحمق، وهذا إن كان غير مريب، أما المريب فله عندنا توصيف آخر قد أَفَضْتُ القول فيه مرارا، ولا مانع أن نزيد أمره بيانا حتى يعذرنا العاذرون فى شدتنا عليه وعلى انحرافاته وضلالاته، فهو يرى أن أحاديث رسول الله وتصرفاته إنما هى انعكاس لثقافات عصره وبيئته يمكن ألا تتفق مع القرآن ولا ينبغى أن نُولِيَها أى اعتبار، وهو ما كنت سمعته من مستشرق أمريكى أتى إلى كلية الآداب بجامعة عين شمس منذ سنوات غير قليلة ودار بينى وبينه حوار على الماشى قبل الندوة التى حاضر فيها الطلابَ فى أحد المدرجات. وهذا نص ما قاله منصور: "ونحن، وإن كنا نعتبر القرآن هو المصدر الوحيد لسنة النبى وشريعة الرحمن ودين الله الأعلى، فإننا نضع تلك الروايات الحديثية موضعها الصحيح، وهى أنها تاريخ بشرى للنبى وللمسلمين وصدى لثقافتهم وأفكارهم سواء اتفقت أم لم تتفق مع القرآن". معنى ذلك ببساطة أن كلامه هو التفسير الصحيح للقرآن، ولا يمكن أن يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته والعلاقات المريبة التى يدخل فيها هنا وهناك، أما فهم الرسول للقرآن فمن الممكن ألا يتفق مع كتاب الله لأنه لا يزيد عن أن يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته! الله أكبر! ومن هنا نراه يقول إنه لا ينبغى أن نتأسى بالرسول إلا فى كتاب الله، وكأن الرسول يمكن أن يتصرف أو يقول شيئا يخالف فيه كتاب الله! وهذا نص كلامه: "إن الاقتداء والتأسى يعنى الاتباع، ولا يكون الاقتداء والتأسى على إطلاقه إلا بكتاب الله. والله تعالى كما أمرنا بالتأسى برسول الله محمد في موقف معين فإنه أمر النبي نفسه بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين فقال: "أولئك الذين هدى الله فبهُداهم اقْتَدِهْ" (الأنعام/ 90)، فلم يقل تعالى: "فبهم اقتده"، وإنما قال: "فبهداهم اقتده"".
وهذا مثال آخر على أن منصور نفسه، رغم كل الطنطنات والتطاولات على المحدّثين والأحاديث، لا يستطيع أن يتقدم فِتْرًا فى تفسير القرآن دون الاستعانة بها وبهم، مع أنه يؤكد أننا، فى فهمنا للقرآن، لسنا بحاجة على الإطلاق إلى الاستعانة بالحديث أو بغيره، فقد كتب فى تفسير الآيات 105- 113 من سورة "النساء" ما يلى: "وباعتبار النبي بشراً فقد استطاع بعض المنافقين أن يخدعه. حدث ذلك حين سرق أحدهم درعاً وشاع بين الناس أمره، وأحس أهل اللص بالعار مما ارتكبه ابنهم فتآمروا بالليل على أن يضعوا الدرع المسروق في بيت شخص يهودي برئ، وفى الصباح جاءوا للنبي يبرئون ساحة ابنهم المظلوم. وانخدع النبي وصدّقهم ودافع عن ابنهم، وبذلك أصبح اللص بريئاً، وأصبح البريء لصاًّ. وهى قصة تتكرر في كل زمان ومكان، مُوجَزها أن ينجو المجرم صاحب النفوذ وأن يدخل البريء السجن ظلماً. والقرآن الكريم ذكر القصة وحوّلها من حادثة تاريخية محددة بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية إنسانية عامة تتكرر في كل عصر. وفى البداية عاتب الله تعالى النبي ووجّه نظره إلى أن يحكم بالكتاب وحذّره من أن يكون مدافعاً عن الخائنين: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما"، أي أنزل الكتاب الحق ليحكم بين الناس بما أراه الله في ذلك الكتاب، فالاحتكام للكتاب. ولأنه نسى فقد جاء الأمر بالاستغفار: "واستغفر الله، إن الله كان غفوراً رحيما"، ثم جاءه النهى عن الدفاع عن أولئك الخونة الذين تآمروا لتبرئة المجرم واتهام البريء: "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما* يَسْتَخْفُون من الناس ولا يَسْتَخْفُون من الله وهو معهم، إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول، وكان الله بما يعملون محيطا". والسؤال هو: من أين له بأن الآيات نزلت فى أحد اللصوص، وأن هذا اللص قد سرق درعا، وأن أهله لما أحسوا أن أمره سينفضح ذهبوا فوضعوا الدرع فى بيت يهودى...إلخ؟ ترى هل هناك من مصدر آخر اعتمد عليه كويتبنا هنا عدا الحديث؟ أما قوله إننا فى فهمنا للقرآن الكريم لا نحتاج إلى أى شىء آخر خارج نصوصه فها هو ذا: "كتاب الله هو الكتاب المبين بذاته، وآياته موصوفة بالبينات، أي التي لا تحتاج في تبيينها إلا لمجرد القراءة والتلاوة والتفكر والتدبر فيها. والذي جعل الكتاب مبيناً وجعل آياته بينات هو رب العزة القائل: "بعد ما بيَّنّاه للناس في الكتاب" والقائل عن كتابه: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر" (القمر/ 22)، "فإنما يسَّرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لُدًّا" (مريم/ 97)، "فإنما يسَّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" (الدخان/ 58). ومعروف أن أى نص يحتاج إلى وسائل تعين على فهمه، كالمعرفة باللغة التى ينتمى إليها، والمعرفة بالمعجم الخاص به، والمعرفة بالظروف التى كُتِب أو سُجِّل أو أُوحِىَ فيها، والمعرفة بالمصدر الذى جاء منه...إلخ. والقول بغير هذا هو كلام لا يستحق أن نصغى آذاننا له. ولقد رأينا كيف أن كويتبنا نفسه لم يستطع أن يفهم الآيات القرآنية إلا بالاستعانة بأسباب النزول، وهى جزء من الأحاديث النبوية. وهذا مجرد مثال.
أما الصلاة والزكاة والصيام، وهذه الشعائر مجرد أمثلة أيضا، فإن أحدا لا يستطيع أن يؤديها دون الاستعانة بالسنة النبوية المشرفة. ولعل القراء يذكرون ما فضحتُ به رشاد خليفة (أستاذ صويحبنا فى أشياء كثيرة منها محاولة طمس السنة النبوية بشبهة الغيرة على التوحيد!) حين أشرتُ إلى تحديده نسبة الزكاة فى الإسلام بــ 5. 2%، وبينتُ أن هذا التحديد لم يرد فى القرآن بل فى الأحاديث الشريفة، وإن لم يكن على إطلاقه، بل فى بعض أنواع المال فقط كما هو معلوم. ولعلهم يذكرون أيضا فضحى لسخافة الأستاذ والتلميذ اللذين يزعمان كلاهما أن
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
قاصمة الظهر، وواصمة الدهر!
(مع كتاب "القرآن وكفى" لأحمد صبحى منصور)
الكتاب الذى نتناوله اليوم له قصة، وقصة مخزية لصاحبها، لكنه ككل مداور عريق يحاول أن يزيّن الفضيحة وأن يحوّلها إلى وسام شرف ونبل، بيد أن الله، الذى يأبى إلا أن يظهر الحق مهما طال ليل الباطل الحالك السواد، قد أوقع صاحبنا فى شر أعماله ففضح نفسه بنفسه. كيف؟ لقد روى لنا قصته مع القذافى عاملا بكل جهده أن يجعلها شهادة على تمتعه بالشرف والكرامة والحرية واستقلال الضمير وكراهية الاستبداد السياسى والفكرى، لكن كانت لله القوى القاهر مشيئة أخرى، ومشيئة الله فوق كل مشيئة. ولكن تعالَوْا أوّلاً نقرأ ما خطه قلمه. قال، فَضَّ الله فاه، وعرّاه وأخزاه: "ما أعرفه أن أحد المسلمين المستنيرين في ألمانيا كتب إلى"المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر" في ليبيا يقترح عليهم نشر مؤلفاتي ويعرّفهم بمعاركي مع السُّنّيّين ومقالاتي الأسبوعية في جريدة "الأحرار". وقتها كان القذاف يرفع لواء إنكار السنة، وكان خصومي في مصر يؤلفون مسبقا روايات عن علاقات بيننا. ولم يفكر أحدهم: إذا كان هذا صحيحا فلماذا أعانى الفقر في مصر؟ ولماذا لا أشد الرحال إلى إحدى الجامعات الليبية أنعم فيها بما كان ينعم به بعض زملائي وتلامذتي؟
لا يعرفون أن المفكر الحر يستحيل أن يكون أجيرا لدى أي حاكم مستبد. قد تلجأ سلطة مستبدة لنشر كتاب لي مضطرة أو تشجع نشره إذا كان ذلك يحقق مصلحة وقتية لها ولا يستطيع أذنابها من الفقهاء الاجتهاد في تأليفه. حدث هذا في بعض كتبي التي تثبت التناقض بين الإسلام والتطرف. مثلا احتفلت السلطة المصرية بكتابي "حد الردة"، الذي كتبته في أعقاب اغتيال صديقي الدكتور فرج فودة، والذي يؤكد بأدلة قطعية أن عقوبة قتل المرتد تناقض الإسلام. فتم نشره مرات عديدة لأن الاتهام بالردة وجّهته الجماعات الإرهابية إلى رموز السلطة المصرية ولاحقتهم بمحاولات الاغتيال، لذا كان هجوم شيوخ الأزهر على هذا الكتاب معتدلا. بل أنهم سنة 2002 أفتوا أن المرتد لا يُقْتَل ولكن يُسْتَتاب فقط.
نفس الحال مع الحكم القذاف في ليبيا الذي رأى أن بعض كتبي قد تشد أزر العقيد المهووس بالثقافة والفكر والإعلام. وفى كل الأحوال فان هذا التلاقي الاستثنائي محكوم عليه مقدما بأن يكون جملة اعتراضية استثنائية في العلاقة بين عقليتين متناقضتين: عقلية الاستبداد والاستعباد التي لا ترى في الكاتب المثقف إلا راقصا في مواكبها، وعقلية المفكر الحر الذي يسمو بنفسه عن حطام الدنيا ومواكبها لأنه يقرأ التاريخ ويتعقله ويرى كيف يخلد القلم المناضل وينتصر دائما على سيف الطغيان، لا يمكن للعقليتين أن يتفقا حتى أثناء تلك الجملة الاعتراضية.
اتصل بي مسئول ليبي كبير واتفقنا على أؤلف لهم كتاب "القرآن وكفى مصدرا للتشريع". وفى أسبوعين بالضبط انتهيت من تأليفه وأعطيته لهم. يقول الصحفي الهام المليجى الذي تابع الموضوع معي بحكم صلاته بالقيادة الليبية وقتها أن القذاف قرأ الكتاب وأعجبه ووافق على نشره على أساس تغيير العنوان إلى "لماذا القرآن؟" وتغيير اسم المؤلف ليكون "د. عبد الله الخليفة". ووافقتُ طالما لن يغيروا شيئا في صلب ما كتبت، وكان مقررا طبع الكتاب في القاهرة ليوزع في مصر أولا. وفزعت إحدى المحجبات وكانت تعمل في المطبعة حين قرأت صفحة من الكتاب فأبلغت مباحث أمن الدولة، فتحفظوا على جميع نسخ الكتاب وأرسلوا نسخة منه إلى الأزهر "الشريف جدا" فقرر مصادرته في الحال، إذ أدركوا (كما قيل لي بعدها) أنني المؤلف الحقيقي للكتاب. وفعلا حملت عربة نقل كل نسخ الكتاب لتلقيه إلى أولى الأمر الليبيين على الحدود. تم نشر نسخ الكتاب في ليبيا ولكن قامت عليه حملة السنيين الليبيين أيضا، فوافق القذاف على مصادرته لأن موضة أو هوجة إنكار السنة بهتت لديه وأصبح مشغولا بلعبة أخرى. وانشغل الجميع عن بقية مستحقاتي المالية لديهم و ضاعت".
هذا ما قاله صاحبنا، وهو كلام لا يدخل عقل أى طفل عنده ذرة من العقل والتفكير. والواقع أن الجهات العالمية إياها هى التى تخطط لأمثال هذا الكائن وتضع له الأوامر والنواهى التى لا يمكنه أن يخالف عنها مهما بدا الأمر وكأنه يتصرف من دماغه. ترى من ذلك المستنير الُمَتَأَلْمِن "أبو قلب رهيف" الذى يحب الثقافة كل هذا الحب فاتصل بالمسؤولين الليبيين من تلقاء نفسه على تنائى الديار وبُعْد المزار ولفت نظرهم إلى صاحبنا؟ بركاتك يا سيدى الألمانى! ولماذا تم الاتفاق بينه وبين الليبيين بتلك السرعة؟ وهل يليق بمفكر حر (أقصد كويتبا يريد أن يخدعنا ويوهمنا أنه مفكر حر) أن يضع يده فى يد من يقول هو نفسه عنه إنه مستبد ومتخلف عقليا وثقافيا كما وصف القذافى، ولا يكتفى بذلك بل يؤلف له كتابا بالمقاييس التى يحددها هو، وكأننا فى ورشة نجارة تصنع طلبيّة طَبَاِلى بالمواصفات التى يعيّنها العميل؟ وماذا يعنى ما قاله من أن الغايات بينه وبين مستبد متخلف جاهل مثل القذافى (حسب وصفه هو، وليس وصفى أنا) قد تلتقى فلا يستنكف المفكر الحر الكريم أن ينسى استبداد المستبد وتخلفه وجهله ويتعاون معه لقاء عَرَضٍ من الدنيا وصفه القرآن والرسول بأنه قليل حتى لو كان بالملايين أو بالمليارات؟ وانظر عزيزى القارئ إلى ما قاله صويحبنا عن المسؤولين المصريين الذين يقول هو أيضا بعظمة لسانه إنه كان يتعاون معهم رغم استبدادهم وتخلفهم، إلى أن انقلبوا عليه وبدأوا يضطهدونه، فانقلب هو بدوره عليهم وقال فيهم ما قاله مالك فى الخمر بعد أن كانت علاقته بهم سمنا وعسلا (ومرة أخرى: هذا كلامه هو، وليس كلامى أنا). والعجيب أنه يحاول أن يلبّسنا العِمّة فيزعم أنه كان يتضور جوعا، مع أنه فى ذلك الوقت كانت الصحف ودور النشر الحكومية المصرية تنشر له مقالاته وكتبه على نطاق واسع وتحتفى بها أيما احتفاء. وكل هذا طبعا ليس بلا مقابل، بَلْهَ الشهرة التى أتته تجرر أذيالها منقادة له كل الانقياد مع أنه لا يعدو أن يكون كويتبا من الدرجة الرابعة أو الخامسة أسلوبًا ولغةً وفكرًا كما سوف يتبين من هذه الدراسة رغم كل التنفجات والتهليلات التى يتحدث بها عن نفسه ورغم كل الطبول والزمور التى تصاحبه فى عزفه النشاز الحاقد على الإسلام!
ويمضى الكويتب ("درجة رابعة أو خامسة"، لا أدرى بالضبط) فى كذبه وجرأته على قلب الحقائق وتزيين الباطل فيقول: "وها هو الكتاب الآن بين يديك عزيزي القارئ بعد 14 سنة من المصادرة يقدم لك حجة ناصعة لا يبقى معها عذر بالجهل. بعد قراءة هذا الكتاب ستتضح الحقائق وسيزول الجهل ويبقى اتخاذ القرار عن عمد وعن علم: إما بالتبرؤ من البخاري وغيره نصرة لله تعالى ورسوله الكريم، وإما بنصرة البخاري وأئمة الحديث في ظلمهم لله تعالى ورسوله الكريم. كل منا حر فيما يعتقد، وسيكون مسئولا أمام الله تعالى يوم القيامة عما اختاره لنفسه، وسيلقى الجزاء بالخلود في الجنة أو الخلود في الجحيم. إنها قضية خطيرة ومسئولية أخطر". والذى يقرأ هذا الكلام ولا يعرف شيئا عن صاحبه سيظن أنه أمام إنسان حَيِىِّ نَقِىٍّ تَقِىٍّ، وليس كائنا يلعب لعبة قذرة يحاول فيها أن يضرب الإسلام فى مقتل حسبما خطط له المخططون ونفخوا فى أنفه ونفثوا فى رُوعه أنه قادر على إنجاز هذه المهمة "القذرة"! إنه يريدنا أن نتبرأ من أحاديث الرسول الكريم ومن البخارى وغيره من العلماء الذين حفظوا لنا هذا الشطر الكبير من ديننا، ونسلِّم لأمريكا ونبصم لها بالعشرة على أعراضنا وكرامتنا وديننا وحاضرنا ومستقبلنا وثرواتنا. يقول كل هذا فى براءة الشياطين ونعومة ملمس كلامهم، لعن الله كل شيطان مارد، وسلَّط الله عليهم من يقذفهم بالشهب الراصدة المحرقة من كل جانب، فيتهاوَوْن فى الفضاء دُحُورًا ولهم عذابٌ واصب! على أننى حين أقول هذا لا أدعى للبخارى عصمة، وكل ما أقوله أنه عالم عظيم توفَّر على الجانب الذى تخصص فيه وبذل فيه جهودا كريمة عبقرية، لكنه قبل ذلك كله وبعد ذلك كله بشر يخطئ ويصيب، والأحاديث التى جمعها هو وأمثاله ليست قرآنا على عكس ما يَعْزُو كويتبنا كذبًا إلى من يدافعون عن سنة النبى عليه الصلاة والسلام من القول بذلك. هذا كل ما هناك حتى نقطع الطريق على كل بكاش يلعب بالبيضة والحجر ويتباكى على التوحيد، والتوحيد منه براء!
أما تعلّل صويحبنا بأنه لا يريد أن يكون هناك قرآن للمسلم غير القرآن الذى بين أيدينا، واستشهادُه على ذلك ببعض الآيات الكريمات التى لا صلة بينها وبين ما يقول، فهو تعلل فى غير محله تماما، وكلمة حق براد بها باطل، إذ ما من مسلم يقول إن هناك قرآنا آخر غير القرآن الذى نعرفه، أما كتب الأحاديث فقد عمل أصحابها بكل ما لديهم من اهتمام وتدقيق على أن يجمعوا كلام رسول الله المتعلق بالدين والأخلاق والذوق السليم والتصرف الكريم وتنظيم المجتمع والأحكام الشرعية...وما إلى ذاك. ولا يعنى هذا أن كل ما فيه من روايات معصوم من الخطإ، بَيْدَ أن إمكانية تسرب الخطإ إلى كتابٍ ما لا يعنى أبدا، ولا ينبغى أن يعنى، أن ننبذه ونلقى به وراءنا ظِهْرِيًّا، فما بالنا لو كان هذا الكتاب يضم أحاديث وتصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يساعدنا على فهم القرآن وتمثُّل الطريقة التى ينبغى أن نطبقه بها على أرض الواقع ونستخلص منه الأحكام فيما يستجد من أمور حياتنا؟ هذا هو مربط الفرس، وما عداه إنما هو تضييع وقت، وترديد مزاعمَ ودعاوَى لا تساوى ثمن الحبر الذى سُجِّلَت به! وعلى هذا فحين نقرأ لأحمد صبحى منصور كلاما مثل قوله: "القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد للمسلم: لا إله إلا الله، ولا كتاب للمسلم إلا القرآن كتاب الله. يقول الله تعالى في ذاته العلية: "مالهم من دونه من ولىٍّ ولا يشرك في حكمه أحدا* واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته، ولن تجد من دونه ملتحدا" (الكهف/ 26- 27)، فالله وحده هو الولي الذي لا يشرك في حكمه أحدا، والقرآن هو وحده الكتاب الذي أُوحِىَ للنبي ولا مبدل لكلماته ولن يجد النبي غير القرآن كتاباً يلجأ إليه. والنبي لا يلجأ إلا لله تعالى رباًّ وإلهاً: "قل إني لن يجيرني من الله أحداً ولن أجد من دونه ملتحدا" (الجن/ 22). والنبي أيضاً ليس لديه إلا القرآن ملتحداً وملجأ: "واتل ما أُوحِىَ إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا". هذا بالنسبة للنبي عليه السلام، فكيف بنا نحن؟"، حين نقرأ لأحمد صبحى منصور كلاما مثل هذا فإننا نعرف عندئذ أنه يخلط الأوراق عمدا كيلا يستطيع القراء أن يلحظوا ألاعيب يده على ترابيزة الثلاث ورقات. ذلك أنه يتهم المسلمين بما لا يقوله أو يعتقده أى منهم، إذ مَنْ مِنَ المسلمين يخلط بين القرآن الكريم وكتب الحديث النبوى الكريم ويقول عن السنة النبوية إنها قرآن آخر؟ وإذا كان هو نفسه يقول إنهم يَعُدّون سنة رسول الله "المصدر الثانى" للتشريع، أى أنها لا تسامِت عندهم القرآن ولا يمكن أن تسامته، فهل هناك دليل بعد هذا على صدق ما نقول؟ أما الآيات التى يحاول أن يلويها كى يخدع القارئ بأنها نزلت فى علماء الحديث فليست إلا ردًّا على المشركين، الذين كانوا يضيقون صدرا بالقرآن وما يدعو إليه من توحيد وتنوير وما يعمل على غرسه من قيم نبيلة بدلاً مما كان عندهم من عادات وتقاليد غير إنسانية كما بينتُ فى دراسة سابقة، فلماذا نتلاعب بالنصوص القرآنية لخدمة الأهواء المنحرفة والأغراض الخطيرة الدنسة؟
ومن ثم فكل ما سيقرؤه القراء معى الآن هو كلام ليس له أى محل من الإعراب ولا المنطق ولا العقل، فالآيات الكريمة التى يسوقها كويتبنا ضمن هذا الكلام هى آياتٌ انتُزِعَتْ من إطارها ووُضِعَتْ داخل إطار لا علاقة لها به، رغبةً من كويتبنا فى التشويش على العقول والتلبيس على أصحابها. بيد أن لعبته لا تجوز على من لهم فى رؤوسهم عقول يفكرون بها. يقول: "ويلفت النظر أن الله تعالى وصف ذاته العلية بأنه الحق، ووصف إنزال القرآن بأنه أنزله بالحق، ووصف القرآن نفسه بأنه الحق. عن وصف الله تعالى بالحق يقول الحق تعالى: "فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟" (يونس/ 32)، "ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل" (لقمان/ 30). وعن إنزال القرآن بالحق يقول تعالى: "وبالحق أنزلناه، وبالحق نزل" (الإسراء/ 105). وعن وصف القرآن بأنه الحق يقول تعالى: "والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق" (فاطر/ 31)، "إن هذا لهو القصص الحق" (آل عمران/ 62). بل إن الله تعالى يصف الحق القرآني بأنه الحق اليقيني المطلق. يقول تعالى: "إن هذا لهو حق اليقين" (الواقعة/ 95)، "وإنه لحق اليقين" (الحاقة/ 51)، وجاءت الصيغة بالتأكيد. فإذا كان الله قد أكرمنا بالحق اليقيني فكيف نأخذ معه أقاويل ظنية مع أنه لا مجال في الدين الحق للظن؟"، ويقول: "وصَف الله تعالى القرآن بأنه حديث، وتحدَّى المشركين أن يأتوا بحديث مثله فقال: تعالى: "أم يقولون: تَقَوَّله؟ بل لا يؤمنون* فلْيأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صادقين" (الطور/ 33- 34). ووصَف القرآنَ بأنه أحسن الحديث: "الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابها مثانىَ تقشعر منه جلود الذين يخشَوْن ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. ذلك هدى الله يهدى به من يشاء" (الزمر/ 23). فإذا أكرمنا الله تعالى بأحسن الحديث فكيف نتركه إلى غيره؟ وأوضح رب العزة أن الصدق كله في حديث الله تعالى في القرآن: "ومن أصدق من الله حديثا؟" (النساء 87). وتوعد الله تعالى من يكذِّب بحديثه في القرآن: "فذرْنى ومن يكذّب بهذا الحديث. سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" (القلم/ 44). وأكد رب العزة أن الإيمان لا يكون إلا بحديثه تعالى في القرآن الكريم فقال في آخر سورة المرسلات: "فبأي حديث بعده يؤمنون؟" (المرسلات/ 50). وتكرر نفس المعنى في قوله تعالى: "أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم؟ فبأي حديث بعده يؤمنون؟" (الأعراف/ 185)، وهى دعوة لنا لنتفكر قبل أن يأتي الأجل المحتوم. بل إن الله تعالى يجعل من الإيمان بحديث القرآن وحده مقترناً بالإيمان به تعالى وحده، فكما لا إيمان إلا بحديث القرآن وحده فكذلك لا إيمان إلا بالله وحده إلهاً. وكما أن المؤمن يكتفي بالله وحده إلهاً فهو أيضاً يكتفي بحديث القرآن وحده حديثاً. وجاءت تلك المعاني في قوله تعالى: "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟* ويلٌ لكل أفاك أثيم* يسمع آيات الله تُتْلَى عليه ثم يصرّ مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا، فبشره بعذاب أليم" (الجاثية/ 6- 8). وذلك الذي يُعْرِض عن آيات الله شأنه أنه يتمسك بأحاديث أخرى غير القرآن سماها القرآن: "لهو الحديث". يقول تعالى: "ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا. أولئك لهم عذاب مهين* وإذا تُتْلَى عليه آياتنا وَلَّى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا. فبشره بعذاب أليم" (لقمان/ 6- 7)". ترى كيف يظن كويتبنا أنه يستطيع بهذا المنطق المتهافت إقناعنا أن علماء الحديث هم ككفار قريش: يريدون اطِّراح القرآن والاستعاضة عنه بأقاصيص رستم وإسفنديار وعادات الجاهلية وتقاليدها وعقائدها وخرافاتها وتشريعاتها؟
وهو يحاجّنا بقوله تعالى شأنه: "ما فرَّطنا في الكتاب من شيء" (الأنعام/ 38)، وقوله سبحانه: "ونزَّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء" (النحل/ 89)، متصورا أنه يمكنه الاستدلال به على وجوب استغناء المسلم بالقرآن عن كل شىء آخر. والحق أنه لو كان صادقا فى هذا الذى يقول لكان أولى به أن يمزق كتبه ومقالاته وأن يريحنا من الصداع الذى يرهقنا به على الدوام. أليس القرآن قد ذكر كل شىء، وبيّن كل شىء، ولم يفرط فى أى شىء كما يفهم العامى مثل هذه الآيات؟ ومنه هذا السؤال الذى كنا نسمعه فى صبانا من بعض من حولنا: إذا كان القرآن فيه تبيان كل شىء، فكيف لم يذكر عدد الأرغفة التى تنتجها أفران مصر على سبيل المثال؟ إننا لا نشاحّ أن القرآن قد بيّن كل شىء ولم يفرِّط فى ذكر أى شىء، ولكن بمعنى غير المعنى الذى لا يستطيع ذهن صويحبنا الكليل أن يفهم سواه. إنه إذا كان قد فصّل لنا القول فى ميدان العقائد حسب حاجتنا إلى ذلك، فإنه كثيرا ما يكتفى برسم الخطوط العامة فى ميدان السياسة والاجتماع والاقتصاد مثلا ثم يتركنا نستخلص منها ما نعالج به مشاكلنا التى تتجدد مع الأيام. وقد كان الرسول هو أول من قام بتطبيق مبادئ القرآن واستخراج الأحكام التفصيلية من مبادئه وتشريعاته العامة وتطبيقها على الوقائع التى تستجد كل يوم، فكيف يُطْلَب منا أن نهمل ما تركه لنا الرسول الكريم على اعتبار أنه يتناقض مع إيماننا بالقرآن، وفى ذات الوقت نأخذ بكلام كل من هبّ ودبّ ممن لا يحسن الفهم ولا الكتابة السليمة؟ عجبتُ لك يا زمن! أما قوله إن "النبي يوم القيامة سيعلن براءته من أولئك الذين تركوا كتاب الله وهجروه جرياً وراء مصادر أخرى ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان. يقول تعالى: "وقال: الرسول: يا رب، إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا* وكذلك جعلنا لكل نبي عدواًّ من المجرمين، وكفى بربك هادياً ونصيرا" (الفرقان/ 30- 31)" فهو تكرير للاتهامات الظالمة التى لا يَكِلّ ولا يَمَلّ من توجيهها لعلماء الحديث خاصة، والمسلمين عامة، إذ لا يوجد مسلم يستعيض بكتب الحديث عن كتاب الله، بل كل ما هناك أنها تساعدنا على فهم القرآن وتطبيق مبادئه وتشريعاته على أحسن وجه ممكن، بدلا من الانفلات فى أجواز الفضاء دون ضابط ولا رابط كما يفعل أحمد صبحى منصور ورشاد خليفة ومن يلف لفَّهما. كذلك هل يمكن أن يعلن النبى براءته ممن يشهد له صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة ويقف مع من يكفِّر الذى يقول: "أشهد ألا إله إلا اله، وأن محمدا رسول الله"؟ وإذا كانت الشهادة لمحمد بالنبوة والرسالة كفرا وشركا وإثما، فما هى الشهادة يا ترى التى تُرْضِى اللهَ ورسولَه؟
وعن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصرفاته يقول كويتبنا: "كان عليه السلام "خُلُقه القرآن"، وحقيق به حينئذ أن يكون على خلق عظيم: "وإنك لعلى خلق عظيم" (القلم/ 4)، والخُلُق في المفهوم القرآني هو الدين. وهل هناك أعظم من دين الله؟ وخارج نطاق الرسالة كانت للنبي أقوال وتصرفات في حدود بشريته وتعاملاته الخاصة والعامة ومسئولياته وعلاقاته، فهل هذه الأقوال والأفعال تعتبر جزءاً من الدين؟... محمد عليه السلام في حياته خارج الوحي كان حاكماً وقائداً عسكرياًّ وزوجاً وصديقاً لأصحابه وجاراً في المسكن، وكان مثلاً أعلى في ذلك كله، وكان فصيح اللسان، وقد نجح في إبلاغ الدعوة وتكوين الأمة وإقامة الدولة، وقد واجه في حياته مشاكل سياسية وشخصية، وقد تغلب عليها ونجح في النهاية بمهارته ولباقته وكياسته، وبالطبع انعكس عليه أحياناً ضعف الإنسان في داخله أو من المحيطين به، وأقوالُه وأفعالُه خارج الوحي القرآني كانت تعكس ذلك. والقرآن ذكر أقوالاً للنبي، وامتدحه في بعضها، وعاتبه في بعضها الآخر. ونعطى أمثلة:
في غزوة بدر خرج المسلمون بعدد قليل ليواجهوا قافلة ففوجئوا بقدوم جيش ضخم يفوقهم عدداً وعدة، وكره المسلمين دخول الحرب خوفاً، والقرآن يصور ذلك الموقف فيقول: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون* يجادلونك في الحق بعد ما تبيّن كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون" (الأنفال/ 5- 6). وفى هذا الموقف انبرى القائد نبي الله يشجع أصحابه، وسجل الله له هذا "القول" وذكر مقالته في هذا الشأن في معرض المدح: "إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين؟" (آل عمران/ 124”). قال لهم النبي في ذلك الموقف: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة؟ إذن هذا حديث للنبي القائد في معركة بدر ذكره القرآن في معرض المدح. وفى غزوات ذات العسرة (انظر أيها القارئ إلى هذا الكلام الركيك والفكر المشوش! بالله عليك ما معنى "غزوات ذات العسرة"؟) تثاقل المنافقون عن الخروج، بينما جاء بعض فقراء المسلمين يريدون الخروج، ولكن ليس معهم راحلة ولا مئونة، فاعتذر لهم النبي قائلاً:"لا أجد ما أحملكم عليه". ونزل القرآن يروى الحادثة: "ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله. ما على المحسنين من سبيل، والله غفور رحيم* ولا على الذين إذا ما أتَوْك لتحملهم قلتَ: لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَناً ألاّ يجدوا ما ينفقون" (التوبة/ 91- 92). قال لهم النبي في ذلك الموقف: "لا أجد ما أحملكم عليه"، فهذا حديث مرتبط بظروفه المكانية والزمانية شأن ما سبق في غزوة بدر. وفى قضية زواج زيد وتطليقه زوجته التي أصبحت زوجة للنبي عليه السلام يقول تعالى: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أَمْسِكْ عليك زوجك واتق الله، وتخفى في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس، والله أحق أن تخشاه" (الأحزاب/ 37). أمر الله تعالى النبي أن يجعل زيداً يطلق زوجته ثم يتزوجها النبي فيما بعد لكي يقضى النبي عملياًّ على عادة الجاهلية في اعتبار زوجة الابن بالتبني وطليقته مثل زوجة الابن الحقيقي، وحتى لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا. وكان ينبغي على النبي أن "يقول" لزيد: "طَلِّقْ زوجتك"، ولكنه تحرج وقال العكس تماماً فنزل القرآن يؤنب النبي ويحكى القول الذي قاله واستحق بسببه التأنيب من ربه: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أَمْسِكْ عليك زوجك واتق الله...". إذن هنا حديث للنبي هو "أَمْسِكْ عليك زوجك واتق الله" قاله النبي لزيد بن حارثة، وذلك الحديث أيضاً مرتبط بظروفه الزمانية والمكانية، ولكنه حين قاله النبي لم يحالفه التوفيق فيه. والمراد أنه كان للنبي في تحركاته وعلاقاته المتعددة أقوال وأحاديث، وهذه الأحاديث كانت مرتبطة بظروفها الزمانية والمكانية التي قيلت فيها والتي يستحيل أن تتكرر في أي عصر لاحق بنفس الأحداث والأشخاص والظروف، لأنه تاريخ مضى وانتهى بانتهاء أبطاله وموتهم ولم يبق منه إلا العبرة والعظة. وسيرة النبي فيها الكثير من الأحداث والأقوال المنسوبة للنبي في الفترة المكية وفى الفترة المدنية، وهى تاريخ يجوز عليه الصدق والكذب، وليس داخلاً في دين الله تعالى بأي حال. أما ما أورده القرآن من قَصَصٍ يخصّ النبي محمد فهو القصص الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والإيمان بهذا القصص يدخل في إطار الإيمان بالقرآن: إن أقوال "النبي" خارج الوحي القرآني والتي أوردها القرآن هي قصص للعبرة نؤمن بها ضمن إيماننا بكل حرف نزل في القرآن. وأقوال "النبي" خارج الوحي القرآني والتي كتبها الرواة في السيرة بعد وفاة النبي هي تاريخ فيه الحق والباطل والصحيح والزائف، وليست جزءاً من الدين على الإطلاق".
وأنا معه فيما ورد فى العبارة السابقة من أن النبى عليه السلام "في حياته خارج الوحي كان حاكماً وقائداً عسكرياًّ وزوجاً وصديقاً لأصحابه وجاراً في المسكن، وكان مثلاً أعلى في ذلك كله، وكان فصيح اللسان، وقد نجح في إبلاغ الدعوة وتكوين الأمة وإقامة الدولة، وقد واجه في حياته مشاكل سياسية وشخصية، وقد تغلب عليها ونجح في النهاية بمهارته ولباقته وكياسته، وبالطبع انعكس عليه أحياناً ضعف الإنسان في داخله أو من المحيطين به، وأقواله وأفعاله خارج الوحي القرآني كانت تعكس ذلك. والقرآن ذكر أقوالاً للنبي وامتدحه في بعضها وعاتبه في بعضها الآخر"، ولكنى أتساءل: إذا كان النبى هو المثال الأعلى فى الخلق والسلوك والعقل والفصاحة والدعوة والتخطيط والقيادة العسكرية والزعامة السياسية، فكيف تواتى المسلمَ الحقَّ نفسُه على إهمال ذلك التراث النبوى العظيم والبدء كل مرة من جديد دون محاولة الاستفادة من هذا التراث الذى يقول فيه كويتبنا قصائد وَلْهَى ليستدير فيفاجئنا بأن علينا نبذه تماما، وإلا كنا مشركين كافرين؟ ثم إذا كان الوحى قد عاتبه عليه السلام فيما لم يوافقه عليه، وفى ذات الوقت لم يعترض على شىء مما وصلنا من أحاديثه وتصرفاته الشريفة الأخرى، أفلا يحق لنا أن نفهم أن هذه الأحاديث والتصرفات تحظى من القرآن بالرضى والقبول؟ ألا يرى القارئ أن الكويتب يتخبط تخبطا عنيفا ولا يستطيع أن يهتدى إلى الخروج من المأزق الذى أوقع نفسه فيه سبيلا؟ والكاتب ("الكاتب" هذه المرة بالتكبير لا بالتصغير، من نفسه) يقول إن ما وصلنا من روايات أحاديث رسول الله فيه الصواب والخطأ، وتعليقنا عليه هو أن علماء الحديث، كما هو معروف، لم يقبلوا كل ما وصلهم من كلام أو فعل منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أنهم قد بذلوا جهودا جبارة فى تمحيص سنته الكريمة، وإن كنا لا نستطيع الزعم بأن هذه الجهود العبقرية لا يخرّ منها الماء: فهناك أحاديث منسوبة للنبى أخذها عليهم نقّادٌ آخرون، وهناك أحاديث أخرى لا يطمئن إليها القلب، بل منها ما لا يقتنع به العقل، لكن ذلك قليل بوجه عام، أما صويحبنا فقد غالى فى الرفض مغالاة رهيبة ودعا إلى اطّراح الأحاديث النبوية جملة وتفصيلا. وهذا هو مفترق الطريق بيننا وبينه: فهو إلى سكّة الندامة (سكّة الذى يروح فلا يرجع: غالبا)، أما نحن فنرجو من الله أن تكون سكتنا سكة السلامة! ولا ينبغى أن ننسى ما أمرنا به القرآن الكريم وما يذكّرنا كويتبنا به من اتخاذ رسول الله أسوة حسنة، إذ كيف يكون صلى الله عليه وسلم أسوة لنا ثم ننبذ ما كان يقوله ويفعله؟ ففى أى شىء إذن هو لنا أسوة؟ إن هذه لمعضلة مضحكة! أما الطنطنة التافهة فى كلامه التالى فلا تستحق غير الازدراء والاحتقار. قال: "وبعد هذا التوضيح (يقصد القول بأنه ليس هناك شىء اسمه السنة النبوية، بل القرآن فقط) سيستمر التساؤل: أليست للرسول سنة؟ ويستدرك السائل حين يتذكر عنوان البحث: "سنة الرسول هي القرآن فقط" فيحوّر السؤال: "أليست للرسول سنة خارج القرآن؟". والإجابة في القرآن. يقول تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" (الأحزاب/ 21. ولاحظ أيها القارئ كيف أن هذا العبقرى (الذى يستنكف أن يتطاول إليه جاهل مثلى ويرى أن بطن الأرض حينئذ خير له من ظهرها! يا حرام! ولماذا كل هذه الأذية؟ إن شا الله عَدُوّوك!) يخطئ فى أوليات الإملاء فيكتب "يرجوا" بالألف مع أن الواو هنا ليست واو جماعة. وقد تكرر ذلك منه باطراد تقريبا)، فلم يقل الله تعالى: "قد كان لكم في رسول الله سنة حسنة"، وإنما قال: أسوة حسنة". والله ثم والله إنى لا أستطيع أن أرى فى هذا إلا شغل بهلوانات، وأستغرب أن يكون كاتبه مدرِّسا سابقا فى الجامعة الأزهرية!
لقد كنت متعاطفا مع هذا الرجل حين سمعت به أول مرة فى منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، إذ كان أحد طلابه بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بالدرّاسة (وهو جار لنا فى القرية) فى زيارة لى فى القاهرة فشرّق بنا الكلام وغرّب، وكان من بين ما أخبرنى به أن هناك دكتورا (فى قسم التاريخ فيما أذكر) اسمه كذا واقعًا مع المسؤولين فى الجامعة فى بعض المشاكل، وفهمت منه أن السبب هو حملة الدكتور على من يُسَمَّوْن بــ"الأولياء" وكراماتهم، وأطلعنى فى حينها على مذكِّرتين دراسيتين للدكتور المذكور قلّبتهما سريعا ونحن جالسان، وكان تعليقى أننى لا أستطيع أن أجد فيما سمعتُه ولا فيما فَرَرْتُه من صفحات المذكِّرتين ما يمكن أن يؤاخَذ عليه أستاذه. ثم مرت الأيام لتطلعنى من أمر الرجل على أشياء لا تُطَمْئِنُ ولا تَسُرّ حتى رأيته منذ سنواتٍ تسعٍ تقريبا فى ندوة بجريدة "آفاق عربية" كنا نناقش فيها أنا ود. جابر قميحة ود. يحيى إسماعيل كتابا للأستاذ جمال البنا يدعو فيه إلى تجديد الفقه أو شىء من هذا القبيل حيث فوجئنا بمجموعة من الناس تقتحم علينا الندوة اقتحاما لفت أنظار الجميع وأثار استياءهم، وفهمت من بعض الحاضرين أن هذا د. أحمد صبحى منصور، وهذا فلان، وهذا فلان، وهذا فلان ممن لا أذكر الآن أسماءهم. ثم أبدى د. منصور رغبته فى الكلام على الفور، وبسرعة شرع يتكلم فيما لم يكن له بموضوع الندوة أية صلة (ولعله تكلم عن إنكار السنة الشريفة، وأرجو ألا تكون الذاكرة قد عبثت بى لطول المدة)، واعدًا الحاضرين أن يوجز الكلام وأن يعطيهم فى النهاية فرصة لمناقشة ما يقول. إلا أن الوقت أخذ يمضى وهو منطلق لا يلوى على شىء أو على أحد، ولا يبالى بما نبهه إليه مدير الندوة الأستاذ مجدى عبد اللطيف من وجوب الاختصار حتى يعطى الآخرين الفرصة لقول ما عندهم. وفى النهاية فوجئنا به، وقد انتهى مما أراد الخوض فيه، يترك الندوة هو ومن معه جماعةً كما دخلوها جماعةً، لاحسًا بذلك وعده أن يعطى الحضور الفرصة لمناقشة ما قال. وقد كان من رأيى أن يتركوه ينصرف على راحته ولا يلحّوا عليه بالبقاء ما دام لا يريد. ولم يكن منظره تلك الليلة مما يبعث على الارتياح بنظراته القاسية وملامحه الغليظة. وقد كانت هذه المناسبة وما ظهر فيها من عدم التزامه بآداب الدخول والكلام والانصراف عاملا هاما فى بَلْوَرَة رأيى فيه! وها هو ذا الرجل قد زَجّ بنفسه فى مآزق أحسب أنها ستجر عليه من الوبال والخسران أشد مما جرته عليه حتى الآن، ولسوف يندم يوم لا ينفع الندم حين يمثل أمام الله الديان وليس له من أمريكا عَوْن ولا ناصر، بل لن يكون لأمريكا نفسها عون ولا ناصر. لا أظن الرجل إلا يعرف ما هو مرتكس فيه من باطل وخطيئة، إلا أن النفق الذى دخله لا يسمح له بالرجوع، والتيار الذى يأتى من ورائه يكسحه كسحا إلى الأمام حيث تقبع الهاوية فى آخر النفق فاغرةً فاها لتبتلع من تسوقه الأقدار إليها ابتلاعا! استر علينا يا رب! ومع ذلك، ورغم تصدِّىّ لسخافاته وانحرافاته وضلالاته بكل ما أوتيت من قوة، فإنى والله أتمنى له أن يُفيق ويرجع لما فارقه من الانتماء إلى الإسلام والمسلمين. وما ذلك على الله بعزيز، فهو سبحانه وتعالى لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء. وفى ظن العبد لله أن أمريكا نفسها والغرب كله قد ينقلبون مسلمين فى يوم من الأيام نرجو ألا يكون بعيدا جدا، وقد ننقلب نحن بخيبتنا الثقيلة على الإسلام، وتصبح المعادلة أكثر تعقيدا!
على أننى قبل أن أدخل فى مناقشة ما قال صويحبنا أودّ أن أنبه إلى ثغرة منهجية قاتلة فى كلامه، فهو يهاجم المحدّثين والأحاديث التى يروونها هجوما شديدا لا يُبْقِى ولا يَذَر، لكنه مع ذلك يعتمد عليهم ويصدّق رواياتهم تمام التصديق ويصبح ما يقولونه شهدًا مصفًّى كلما ظن أنه يستطيع توظيفه فى الهجوم عليهم. ومن ذلك قوله: "ويؤكد أن النبى نهى عن كتابة غير القرآن أن الخلفاء الراشدين بعده ساروا على طريقه فنهوا عن كتابة الأحاديث وعن روايتها: فأبو بكر الصدّيق جمع الناس بعد وفاة النبى فقال: "إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه"، وهذا ما يرويه الذهبى فى تذكرة الحفاظ. ويروى ابن عبد البر والبيهقى أن عُمَر الفاروق قال: "إنى كنت أريد أن أكتب السنن، وإنى ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله. وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشىء أبداً. ورواية البيهقى: "لا ألبس كتاب الله بشىء أبداً". وروى ابن عساكر قال: ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق، فقال: ما هذه الأحاديث التى أفشيتم عن رسول الله فى الآفاق؟ أقيموا عندى. لا والله لا تفارقونى ما عشت. فما فارقوه حتى مات". ومنه كذلك قوله: "وعلماء الحديث يتفقون على صحة حديث "من كذب على فليتبوأ مقعده من النار"، وبعضهم يضيف إليه كلمة "متعمداً": "من كذب علىّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار". وهم يجعلون هذا الحديث من المتواتر، وعدد الحديث المتواتر لا يصل إلى بضعة أحاديث عند أكثر المتفائلين، والمهم أنهم بإقرارهم بصحة هذا الحديث إنما يثبتون أن الكذب على النبى بدأ فى حياة النبى نفسه، وإلا ما قال النبى هذا الحديث يحذّر من الكذب عليه". ومنه أيضا قوله: "وأكثر أبو هريرة من الحديث بعد وفاة عمر، إذ أصبح لا يخشى أحداً. وكان أبو هريرة يقول: إنى أحدثكم بأحاديث لو حدّثتُ بها زمن عمر لضربنى بالدِّرّة (وفى رواية: "لَشَجَّ رأسى"). ويروى الزهرى أن أبا هريرة كان يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: "قال رسول الله" حتى قُبِض عمر. ثم يقول أبو هريرة: أفكنتُ محدِّثكم بهذه الأحاديث، وعُمَر حَىّ؟ أما والله إذن لأيقنت أن المخفقة (العصا) ستباشر ظهرى، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن، فإن القرآن كلام الله".
وكويتبنا فى تفسيره للقرآن لا يستطيع أن يقول شيئا ذا بال دون الاستعانة بالحديث. ولنأخذ مثلا ما قاله فى أخلاق النبى عليه السلام إذ وصفه المولى سبحانه بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم"، فقد أضاف كويتبنا أنه صلى الله عليه وسلم "كان خلقه القرآن"، وهذا الكلام لم يرد فى القرآن، بل هو من كلام عائشة رضى الله عنها، وقد أوردته لنا الأحاديث النبوية، وكرره كويتبنا مرتين فى كتابه التافه الذى يريد أن يقلب به الإسلام رأسًا على عقب. ومنه أيضا ما كتبه بشأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة، إذ يقول: "والنبي كان عليه أن ينفذ سُنّة الله، أيْ شرع الله وأوامره، حتى لو كان فيها حرج. وقد نزلت آية: "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له. سُنّةَ الله في الذين خَلَوْا من قبل، وكان أمر الله قدراً مقدورا" في موضوع زيد بن حارثة وزواجه وطلاقه من زوجته...". والسؤال هو: كيف عرف منصور أن الكلام فى الآية عن زينب، وأن زيدا هو زيد بن حارثة، وليس زيدا آخر؟ ذلك أن الآية لم تذكر إلا اسم "زيد" وحده دون اسم أبيه، وكذلك دون اسم زوجته التى أصبحت طليقته. الواقع أن ليس هناك من مصدر لهذا إلا الأحاديث، فكيف أصبحت الأحاديث هنا شيئا موثوقا به بعد أن قال فيها صاحبنا ما قال؟ قد يقول إن القرآن يحدد زيدا بأنه من "أدعيائكم"، لكنْ مرة أخرى: من أين نعرف أن زيدا كان دَعِىّ النبى عليه السلام (أى ابنه بالتَّبَنِّى) إلا من الأحاديث النبوية؟ قد يقول: لكن هذا تاريخ، ونحن نُعْمِل عقولنا فى روايات التاريخ فنقبل ما تطمئن إليه ونرد ما سواه. وهذا هو ما أريد أن أُفْهِمه إياه من البداية: أن نُعْمِل عقولنا فى الأحاديث، لكن بشرط أن نحترم منطق العقل ومنهج العلم وأن نقلّب الأمر على كل وجوهه وأن نتريث قبل إصدار الأحكام وأن ننظر جيدا فيما يقوله الآخرون، وبخاصةٍ من يخالفوننا فى الرأى، وهو ما لم يدخر فيه المحدّثون وسعا، وإن لم يمنع هذا من إضافة المزيد من الجهود فى هذا السبيل. أما نبذ الأحاديث جملة وتفصيلا عن جهل واندفاع فهو عمل لا يُقْدِم عليه إلا أخرق أحمق، وهذا إن كان غير مريب، أما المريب فله عندنا توصيف آخر قد أَفَضْتُ القول فيه مرارا، ولا مانع أن نزيد أمره بيانا حتى يعذرنا العاذرون فى شدتنا عليه وعلى انحرافاته وضلالاته، فهو يرى أن أحاديث رسول الله وتصرفاته إنما هى انعكاس لثقافات عصره وبيئته يمكن ألا تتفق مع القرآن ولا ينبغى أن نُولِيَها أى اعتبار، وهو ما كنت سمعته من مستشرق أمريكى أتى إلى كلية الآداب بجامعة عين شمس منذ سنوات غير قليلة ودار بينى وبينه حوار على الماشى قبل الندوة التى حاضر فيها الطلابَ فى أحد المدرجات. وهذا نص ما قاله منصور: "ونحن، وإن كنا نعتبر القرآن هو المصدر الوحيد لسنة النبى وشريعة الرحمن ودين الله الأعلى، فإننا نضع تلك الروايات الحديثية موضعها الصحيح، وهى أنها تاريخ بشرى للنبى وللمسلمين وصدى لثقافتهم وأفكارهم سواء اتفقت أم لم تتفق مع القرآن". معنى ذلك ببساطة أن كلامه هو التفسير الصحيح للقرآن، ولا يمكن أن يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته والعلاقات المريبة التى يدخل فيها هنا وهناك، أما فهم الرسول للقرآن فمن الممكن ألا يتفق مع كتاب الله لأنه لا يزيد عن أن يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته! الله أكبر! ومن هنا نراه يقول إنه لا ينبغى أن نتأسى بالرسول إلا فى كتاب الله، وكأن الرسول يمكن أن يتصرف أو يقول شيئا يخالف فيه كتاب الله! وهذا نص كلامه: "إن الاقتداء والتأسى يعنى الاتباع، ولا يكون الاقتداء والتأسى على إطلاقه إلا بكتاب الله. والله تعالى كما أمرنا بالتأسى برسول الله محمد في موقف معين فإنه أمر النبي نفسه بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين فقال: "أولئك الذين هدى الله فبهُداهم اقْتَدِهْ" (الأنعام/ 90)، فلم يقل تعالى: "فبهم اقتده"، وإنما قال: "فبهداهم اقتده"".
وهذا مثال آخر على أن منصور نفسه، رغم كل الطنطنات والتطاولات على المحدّثين والأحاديث، لا يستطيع أن يتقدم فِتْرًا فى تفسير القرآن دون الاستعانة بها وبهم، مع أنه يؤكد أننا، فى فهمنا للقرآن، لسنا بحاجة على الإطلاق إلى الاستعانة بالحديث أو بغيره، فقد كتب فى تفسير الآيات 105- 113 من سورة "النساء" ما يلى: "وباعتبار النبي بشراً فقد استطاع بعض المنافقين أن يخدعه. حدث ذلك حين سرق أحدهم درعاً وشاع بين الناس أمره، وأحس أهل اللص بالعار مما ارتكبه ابنهم فتآمروا بالليل على أن يضعوا الدرع المسروق في بيت شخص يهودي برئ، وفى الصباح جاءوا للنبي يبرئون ساحة ابنهم المظلوم. وانخدع النبي وصدّقهم ودافع عن ابنهم، وبذلك أصبح اللص بريئاً، وأصبح البريء لصاًّ. وهى قصة تتكرر في كل زمان ومكان، مُوجَزها أن ينجو المجرم صاحب النفوذ وأن يدخل البريء السجن ظلماً. والقرآن الكريم ذكر القصة وحوّلها من حادثة تاريخية محددة بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية إنسانية عامة تتكرر في كل عصر. وفى البداية عاتب الله تعالى النبي ووجّه نظره إلى أن يحكم بالكتاب وحذّره من أن يكون مدافعاً عن الخائنين: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما"، أي أنزل الكتاب الحق ليحكم بين الناس بما أراه الله في ذلك الكتاب، فالاحتكام للكتاب. ولأنه نسى فقد جاء الأمر بالاستغفار: "واستغفر الله، إن الله كان غفوراً رحيما"، ثم جاءه النهى عن الدفاع عن أولئك الخونة الذين تآمروا لتبرئة المجرم واتهام البريء: "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما* يَسْتَخْفُون من الناس ولا يَسْتَخْفُون من الله وهو معهم، إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول، وكان الله بما يعملون محيطا". والسؤال هو: من أين له بأن الآيات نزلت فى أحد اللصوص، وأن هذا اللص قد سرق درعا، وأن أهله لما أحسوا أن أمره سينفضح ذهبوا فوضعوا الدرع فى بيت يهودى...إلخ؟ ترى هل هناك من مصدر آخر اعتمد عليه كويتبنا هنا عدا الحديث؟ أما قوله إننا فى فهمنا للقرآن الكريم لا نحتاج إلى أى شىء آخر خارج نصوصه فها هو ذا: "كتاب الله هو الكتاب المبين بذاته، وآياته موصوفة بالبينات، أي التي لا تحتاج في تبيينها إلا لمجرد القراءة والتلاوة والتفكر والتدبر فيها. والذي جعل الكتاب مبيناً وجعل آياته بينات هو رب العزة القائل: "بعد ما بيَّنّاه للناس في الكتاب" والقائل عن كتابه: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر" (القمر/ 22)، "فإنما يسَّرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لُدًّا" (مريم/ 97)، "فإنما يسَّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" (الدخان/ 58). ومعروف أن أى نص يحتاج إلى وسائل تعين على فهمه، كالمعرفة باللغة التى ينتمى إليها، والمعرفة بالمعجم الخاص به، والمعرفة بالظروف التى كُتِب أو سُجِّل أو أُوحِىَ فيها، والمعرفة بالمصدر الذى جاء منه...إلخ. والقول بغير هذا هو كلام لا يستحق أن نصغى آذاننا له. ولقد رأينا كيف أن كويتبنا نفسه لم يستطع أن يفهم الآيات القرآنية إلا بالاستعانة بأسباب النزول، وهى جزء من الأحاديث النبوية. وهذا مجرد مثال.
أما الصلاة والزكاة والصيام، وهذه الشعائر مجرد أمثلة أيضا، فإن أحدا لا يستطيع أن يؤديها دون الاستعانة بالسنة النبوية المشرفة. ولعل القراء يذكرون ما فضحتُ به رشاد خليفة (أستاذ صويحبنا فى أشياء كثيرة منها محاولة طمس السنة النبوية بشبهة الغيرة على التوحيد!) حين أشرتُ إلى تحديده نسبة الزكاة فى الإسلام بــ 5. 2%، وبينتُ أن هذا التحديد لم يرد فى القرآن بل فى الأحاديث الشريفة، وإن لم يكن على إطلاقه، بل فى بعض أنواع المال فقط كما هو معلوم. ولعلهم يذكرون أيضا فضحى لسخافة الأستاذ والتلميذ اللذين يزعمان كلاهما أن