فارووق
2015-04-09, 02:05 PM
..
تكاد تنفرد شعوب أوروبا بتجربة تاريخية لم تمر بمثلها باقي شعوب العالم كافة على مَرِّ التاريخ، و هذه التجربة هي ما عُرِف بالعصور الوسطى أو عصر الظلمات، و الذي امتد منذ القرن السادس الميلادي الى حدود القرن الخامس عشر أو السادس عشر. عُرف بعصر الظلمات لان الناس كانوا يعيشون في ظلمات ثلاث: ظلمات الجهل، و ظلمات الطغيان و الاستبداد، و ظلمات الفقر.
و قد كان المتسبب في هذه الظلمات الملوك و رجال الدين (الكنيسة)، حيث أخذوا أموال الناس و استعبدوهم و أفقروهم، و منعوا العلم و حاربوا أهله.
بدأت تدب روح النهضة في اوروبا عبر اتصالها بالمسلمين، و خصوصا عن طريق الاندلس، حيث أخذ فلاسفة اوروبا و مفكروها اسباب النهضة من الأفكار و العلوم التي أنشأها المسلمون في شتى المجالات، فساعدتهم لينطلقوا انطلاقة ثورية نحو التحرر: التحرر من الجهل و من استبداد الملوك و من استبداد الكنيسة.
و لَكَ أن تتصور كيف ستكون ردة فعل شعوب عاشت لأكثر من عشرة قرون من الزمن تحت وطئة الفقر و الجهل و مسلوبة لأبسط الحريات، و من بينها حرية التفكير، حيث اعتبرت الكنيسة العلم سحرا و شعودة، فسجنت و عذبت كثيرا من اهل العلم و التدبر و أنهت حياة البعض على لهيب النار، ... لك أن تتصور كيف تكون ردة فعل من كان هذا حاله على مدى عشرة قرون من الزمن إذا استطاع فجأة التحرر و التخلص من قيود الدين (الدين الكهنوتي المسيحي الذي وضعه رجالات الكنيسة)، و بدأ يشم رائحة الحرية، و يحس بنشوة التفكير و يتنعم بنتائج الفكر و العلم في حياته التي جلبت له الرفاهية و القوة و السلطة على العالم و التحكم فيه، .... لك أن تتصور أن ردة فعل الإنسان الاوروبي ستكون كردة فعلِ طفلٍ دخل فجأة سن المراهقة و بدأ يحس بعضلاته تشتد قوتها و صوته يفقد نغمة الصِّبا و عقله بدأ يحس بالنضج و الحياة، ساعتها تكون ردة فعل المراهق الغرورُ بقدراته الجديدة و التمرد على كل شيئ، على أبويه و معلميه و مجتمعه، تمرد على كل سلطة قيدته طوال طفولته و حددت له ماذا يفعل و يأكل و يشرب و يدرس، .....
هكذا حال الانسان الأوربي الذي عاش مرحلة طفولة إجبارية دامت اكثر من عشرة قرون من الزمن كان محجورا فيها على عقله حجرا تاما، حيث كانت الكنيسة تحدد له كل شيئ في حياته و تحرمه من الكثير الذي يجعل بني آدم إنسانا، فجاء عصر النهضة في اوروبا بكل أحداثه و صراعاته الدموية لينقل فجأة و بعنف الطفل -الانسان- الاوروبي الى مرحلة المراهقة، .... و نظرا لقسوة الطفولة و طولها التي مر بها الانسان في اوروبا، كانت مراهقته ذات ردود عنيفة و شديدة ضد من حَجر على حريته طوال قرون، فكانت مرحلة مراهقته عنيفة أيضاً و طويلة، .... فالناس في اوروبا، و الى حَدٍّ ما الشعوب المنحدرة منهم كشعوب امريكا و استراليا و كندا، لا زالوا يعيشون مرحلة المراهقة، مرحلة تتسم بالتمرد المفرط ضد الدين الذي خنق نَفَسَهم و كبل عقولهم و حريتهم لمدة قرون من الزمن، ... مرحلة تتسم، كما هو حال المراهق، بالإفراط في حب الذات و الغرور بها و حب العضلات، العضلات المادية و العقلية،....
هذا هو حال الغرب، فبعدما كان يقدس رجال الدين و منقاد لهم انقيادا أعمى لمدة قرون، كانت ردة فعله سخط أعمى على الدين و انقياد أعمى للعقل و العلم!
حلت معاهد الأبحاث العلمية في الغرب محل الكنائس، و حل العلم التجريبي محل التوراة و الإنجيل، اصبح الناس يتلقفون اقوال الباحثين في العلوم التجريبية على انها وحْيٌ معصوم من الخطأ، تماماً كما كان يتلقف أجدادهم من قبل اقوال الباباوات على انها كلام الله، ...
هكذا اصبح الناس لا يقبلون إلا بما تقره العلوم التجريبية، فظنوا أن هذه العلوم ستحل لهم كل مشاكلهم و تعطيهم سِرًّا و معنى بديلا للحياة و الوجود، و تجلب لهم السعادة و الطمأنينة، فظنوا انهم ليسوا بحاجة الى الله، .... بل اندثر الايمان بوجود اي خالق اصلا للكون و الإنسان!
العلوم التجريبية أفسدت فطرة الناس التي كانت تهدي عقولهم و قلوبهم بطريقة طبيعية عقلية الى الله، فاصبحوا لا يؤمنون بوجود خالق للكون و الانسان مادامت المختبرات و التجارب لم تثبت ذلك، فكثر الملاحدة في العالم كله! ....
و العجب أن كثيرا من المسلمين تأثروا بمنهج الغرب في التفكير و في التعامل مع شؤون حياتهم و وجودهم، فاصبحوا يتعاملون مع الاحكام الشرعية، و احيانا حتى مع النصوص المتعلقة بالغيب، تعاملا ماديا و ليس إيمانيا، اصبحوا يتلقفون نتائج مختبرات الغرب على انها وحي، و اصبحوا يبحثون عن أدلةٍ لوجود الله من نتائج الأبحاث التجريبية التي يقدمها الغرب، فظنوا أن العلوم التجريبية ستهدي الكافر و الملحد الى الاسلام!
فهل إثبات وجود خالقٍ للكون و الانسان يكون عن طريق العلوم التجريبية أم عن طريق العقل؟
دعوونا اولا نحدد مجال الأبحاث التجريبية و أهدافها. فالأبحاث التجريبية تبحث في مكونات المادة و قوانينها، و المادة تشمل أجسام الكائنات الحية من نبات و حيوان و انسان، كما تشمل الكائنات الأخرى من أرضٍ و سماوات و كواكب و غازات، الخ ... . فالباحث يتعامل مع المادة ليفهم مكوناتها و نظام تكوينها و حركتها و يستخرج منها منافع لنفسه و للبشر، لاغير!
فالأبحاث التجريبية ليس هدفها التوصل لوجود خالق و معرفة عظمته!
ثم إن الله غير موجود في المادة الخاضعة للبحث و لا في اي مادة من الكون، و لا هو جزء منها، فكيف يُتَصور استخراج الله منها أو استخراج دليل وجوده من خلال التجارب فيها؟ و سيقول البعض أن بدراسة المادة و ادراك تفاصيلها المعقدة و المنظمة يدرك الانسان انه لابد من وجود خالق لها و يدرك عظمة هذا الخالق! ... فنقول إن هناك آيات عظيمة لا تعد و لا تحصى تدل على وجود خالقٍ، آيات عظيمة لا تحتاج لتجارب و لا لتأويلٍ لنتائج تلك التجارب، و بالتالي لا تحتاج تلك الآيات العظام الى وسيط لإدراكها، حيث يلمسها كل إنسان و يحسها مباشرة و في كل لحظة من حياته، يلمسها و يحسها في كل رمشة عين، ... يلمسها و يحسها و هو يتحرك، و هو يتنفس، و هو يأكل، و هو ينام، و هو يستيقظ، و هو يُبْصِرْ، و هو يتكلم، و هو يشم، و هو يتذوق، و هو يفكر، و هو يَكْبر و ينمو من جنين في بطن أمه الى ان يصبح إنساناً قويا، ... يلمسها و يحسها و هو يبدأ في الانحدار و الضعف مع كبر السن حيث يصبح كهلا ضعيف الجسم و الذاكرة، ... يلمسها و يحسها و هو يمرض و يتعافى، و هو يعيش لحظات الضعف و القوة في حياته، و لحظات الفشل و النجاح، ...
فالآيات الدالة على وجود خالقٍ و التي يلمسها الانسان مباشرة لا تُعَد و لا تحصى، و اعظمها و أشملها هي آية وجودِه، وجودٌ لا يعود مصدره الى الإنسان نفسه و لا الى قرارٍ و إرادةٍ من الانسان، فهو -اي الانسان- لم يخلق ذاته و نفسه، و لا خلق عقله و بصره، و لا يداه، و لا اي شيئ مما يتمتع به من جسمه و لا خلق اي شيء من الكون، ..... {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}(سورة الطور، الآيات 35-37).
إذَا كانت كل هذه الآيات العظام و الآثار لم تحرك الانسان للتدبر في ان هناك مسببا لها و خالق للكون، فكيف ستدفعه الأبحاث في جزئيات تلك الآيات لفعل ذلك؟ بل بالعكس، فغالب الباحثين في مجال العلوم التجريبية، إذا كانوا لا يؤمنون بوجود خالق، يزيدهم كل اكتشاف جديد لجزئيات المادة و كيفية عملها و نظام حركتها، يزيدهم غرورا بالنفس و استعلاءً، إذ يظنون انهم كلما عرفوا أسرارًا اكبر و اكثر عن المادة و استطاعوا تطويعها كلما اقتربوا هم انفسهم من الالوهية و ظنوا انفسهم أرباباً، .... فلذلك تجد مثلا اكثر الناس تَكبُّراً و غطرسة و غروراً هم الاطباء، إذ يظنون بفهمهم لبعض دقائق الجسم و الامراض و باستطاعتهم معالجة المرضى، يظنون انهم هم من يَهبُ الناس الحياة، ... ثم تجد اهل علم الاقتصاد يظنون انهم هم من يرزق الناس، و تجد اهل الصناعة يظنون انهم هم من يهب الانسان القوة، و تجد اهل الفلسفة يظنون انهم هم من يهب الناس العقل، .... و هكذا دواليك! ...
و في المقابل تجد المؤمن بالله حين يقوم بأبحاث في العلوم التجريبية يزيده كل اكتشاف جديد لنظام جزئيات المادة إيمانا بالله و تعظيما له، ....
إذنْ ليس البحث و العلم التجريبي هو الذي يوصل الى الله، و لكن الايمان بالله هو الذي يجعل الباحث ينظر بأعين مختلفة للمادة و نظامها و دقة تكوينها فيربط كل ذلك بعظمة الله! ... فالإيمان بالله و متعلقات هذا الايمان مكانته فوق العلوم التجريبية و بالتالي ليس نابعا منها، بل الايمان بالله هو الذي يأثر على النظرة للعلوم التجريبية و يلعب دورا في كيفية التعامل معها و في تفسير بعض نتائجها!
فالإنسان الغير المؤمن لما يبحث في المادة غالبا ما يكون بحثه فيها دقيقا و عميقا، لكن نادرا ما يكون مستنيرا، و الاستنارة في البحث و التفكير لا تتحق إلا بربط مادة البحث بما هو خارج عنها و مهم للتوصل الى نظرة شاملة و صحيحة، ... و عملية الربط بين هذا الواقع الملموس و بين ما هو خارج عنه هي عملية ربط عقلية محظة و لا علاقة لها باي تجارب و مختبرات و نتائجها، إذ تحتاج لتصور حقيقةٍٍ يدركها العقل حسب القوانين العقلية و ليس حسب قوانين العلوم التجريبية، إذ تقول قوانين العقل أن ما من أثرٍ إلا و له مسبب، و ما من موجود إلا و هناك من أوجده، بغض النظر عن قدرة العقل إدراك ذات المُحدِث للأثر أم لا. لذلك وجود خالق للكون و الانسان حقيقة عقلية يدركها كل انسان و لا علاقة لها بالدراسات الأكاديمية و العلوم التجريبية، إذ العلوم التجريبية لا تبحث إلا فيما هو مُدرك الذات، ....
فالذي ينظر مثلا الى دراعيه قد تكون نظرته لهما فقط من باب معرفة كيف يمكنه تقويتهما لتكونا له عونا على القيام بأعمال تحتاج الى قوة و شدة يكسب منها رزقه، كالذي يحفر في الارض ينقب عن معادن ثمينة أو كالملاكم الذي يريد الانتصار على خصمه! و كذلك الذي يبحث في الخلية أو الذرة أو الكواكب الخ، فهو يبحث فيها ليستخرج منها ما ينفعه! ... لكن التفكير المستنير و التدبر لا يتحقق عند الذي ينظر الى دراعيه نظرة خارجية سطحية و عند الذي ينظر بعمق في جزئيات المادة من ذرةٍ و خليةٍ، لا يتحقق عند الاثنين و يكون مستنيرا إلا إذا ربط كلاهما الواقع الذي يبحث فيه بما هو خارج عنه، فَحَوَّل بحثه و تفكيره من التفكير و البحث في المادة و نوع المصلحة و المنفعة التي يمكنه استخراجها منها، للانتقال الى بحث عمن أوجد تلك المادة و خلق نظام حركتها!
إذن، رغم أن كل انسان يتفاعل مع المادة و الكون حسب المحيط الذي يعيش فيه و حسب مستوى ثقافته، و بالتالي كلٌّ قد تكون له دوافع و تأثيرات مختلفة تدفعه الى التفكر في سر وجود الانسان و الكون و محدثهما، إلا أنه لابد أولا من وجود إرادة معرفة سر الوجود و أصله، ثم إن التوصل الى حقيقة الوجود و أصله لا يتم إلا عن طريقٍ واحدٍ، و هو طريق العقل و ليس عن طريق التجارب! لأن الخالق لا تُدرك ذاته و بالتالي ليس محله العلوم التجريبية و إنما محله التفكير المجرد من الأدوات و الوسائل الضيقة الأفق و النسبية النتائج، كالعلوم التجريبية التي تقيد الحق و الحقيقة بما تستطيع إدراك ذاته و إخضاعه للتجربة، ...
فالبحث عن الخالق محله التفكير العقلي، الذي يُعتبر الوسيلة الاساسية و اليقينية لإدراك الحقيقة، و يُعتبر الأوسع و الأعمق و الأكثر استنارة من التفكير المبني على الأبحاث التجريبية، إذ بالتفكير العقلي المجرد يدرك العقل ما لا تستطيع التجارب العلمية إدراكه.
من هذا المنطلق يظهر جليا فساد و بطلان المنهج الفلسفي المسمى الوضعية المنطقية و الذي يعتبر كل ما لا يُلْمس ماديا و ذاتيا كذبا، و الذي بنى على أساسه كثير من الملحدين شبهاتهم التي احتجوا بها على عدم وجود خالق، إذ أخذ هذا المنهج الفلسفي التجارب العلمية و ليس العقل أساسا لإدراك الحقيقة!
إذاً فالسؤال هو هو منذ أول إنسان و الى آخره في هذا الكون: من أوجد الانسان و الكون و الحياة؟ و الجواب السليم لا يكون إلا بالاعتماد على العقل، باتباع الفطرة التي تقول أنه كما يربط الانسان كل فعل في حياته بفاعلٍ له، فنفس القاعدة تنطبق على أفعالٍ اكبر و اعظم، كفعل إيجاد الكون و الإنسان و الحياة! فقِلَّة المعرفة بالمادة أو ضخامتها، و توفر المعرفة بتفاصيل مكونات المادة و قوانينها أو انعدام المعرفة بذلك لا يعطي جوابا على من أوجد المادة و الحياة و جعلها على النظام الذي هي عليه! فالجواب على هذا السؤال لا يتوصل اليه الناظر و الباحث إلا إذا وسع مجال رؤيته و تفكره ليربط المادة و الكون و الحياة بفاعلٍ خارج عن كل هذا، فاعل يستند اليه الكون و الانسان في وجودهم، لكن وجوده هو -اي الخالق- و حقيقته و ذاته غير مستندة لكل ما يقع عليه حس الانسان!
و قد يستشهد البعض بآيات قرآنية ليقول أن العلوم التجريبية توصل الى الايمان بالله، و يذكر مثلا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(سورة فصلت، الآية 53)، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(سورة العنكبوت، الآية 20)، فنقول أن الآيات (الأدلة على وجود الله) التي يتكلم عنها القرآن في هذه الآيات و غيرها يلمسها كل انسان، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق التجربة و إخضاع المادة لاختبارات و فحوص، لكن دون الانتقال من البحث في المادة و خاصياتها و تفاصيلها، و ربط المُدرك منها، كيفما كان حجم المُدرك، بما هو خارج و مستقل عنها، الربط الذي لا يكون إلا عن طريق العقل، فإن الانسان لن يتوصل لربطها بخالقٍ لها، مهما تعمق في فهم تفاصيل المادة، لذلك يقول الله سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}(سورة يوسف، الآية 105)، و يقول سبحانه {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}(سورة الروم، الآية 7)، فمهما تعمق الانسان في دراسة و فهم تفاصيل المادة و جزئياتها و قوانينها، فإن معرفته ستبقى سطحية إذا لم يربطها بما هو خارج عنها، إذا لم يربطها بخالقها! ...
فلك أن تسأل مثلا لماذا تأمل هذا في الناقة و أدرك أن هناك من خلقها، لكن آخراً نظر الى نفس الناقة فلم يرى فيها مثلا إلا قدرتها على تحمل العطش فذهب يبحث عن سبب ذلك و اجتهد فاكتشف كيف تتعامل أنسجة و أعضاء جسم الناقة و خلاياها مع الماء ففسر قدرتها على الاستغناء على شرب الماء لمدة طويلة مقارنة مع الانسان، ففرِحَ باكتشافه و اكتفى عنده لانه ظن انه فسر بذلك سراًّ من اسرار الوجود يغنيه عن معرفة محدث الوجود! .... و قس على ذلك كل تدبر في الكون و الانسان، فالتفكير المستنير الذي يوصل الانسان الى ربطها بخالق لها لا يتحقق إلا بإرادة من المتدبر و سعي هادف لمعرفة من خلق الكون و الانسان، كما أن الإرادة و السعي الهادف للتوصل لأصل الخالق (اي من أوجد الكون و الانسان) يجب ان يكون مصحوبا بعملية تفكير و بحث صحيحة، و هي الطريقة العقلية و التي تختلف تماما عن طريقة و هدف التفكير في العلوم التجريبية! ...
فالعلوم التجريبية يستعين بها العقل ليبحث في الملموس، و العلوم التجريبية تعين على إجابة أسئلة عن الكَيْف: اي كيف تتحرك هذه المادة و كيف تعمل و كيف تتطور و كيفية نظام الكون و الأجسام ... الخ، ... لكن العقل وحده، دون وسيط العلوم التجريبية، هو الذي يسأل و يستطيع الاجابة على أسئلة من نوع: "مَنْ أوجد المادة و الكون و الانسان، و لماذا!؟"! ...
و لذلك متى كانت الإرادة متوفرة عند الانسان للوصول الى أصل الخلق، الى الله، أعانه الله ليهتدي للإيمان به، و من لم تتوفر لديه تلك الإرادة و استحوذه التكبر و الجحود أعانه الله على غيه {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(سورة الأنعام، الآية 125)، و من بين معاني "حَرَجاً" شاَكًّا، ... فوجب هنا لفت الانتباه، و خصوصا للذين يظنون أن العقل يغني الانسان عن الحاجة للخالق و يظنون أن قدرة العقل قدرة ذاتية، وجب لفت انتباه هؤلاء الى ان الله هو المسيطر و المهيمن على كل شيئ، فكل شيئ يستند في وجوده و في صيرورته اليه سبحانه، سواء آمن الناس بذلك أم لا، فالملحد الذي ينكر وجود الخالق لا يهتدي اليه -اي الى الله- إلا برحمة و عون من الله إذا كانت للملحد إرادة حقيقية للوصول الى الحقيقة! ... فالرب رب ليس لشهادة البشر له بذلك، و إنما هو رَبٌّ لصفات و حقيقة ذاتية مستقلة تماماً عن مخلوقاته، و هو رب لتعلق وجود كل مخلوقاته به سواء أدرك المخلوق هذه العلاقة أم لا ! ...
إذًا بالعقل و الإرادة يدرك الانسان أنه لابد من خالق لكل ما يقع عليه حسه، و بالعقل يدرك الانسان انه لا يجوز ان تكون لهذا الخالق نفس صفات المادة و الانسان و الكون و إلا لما كان خالقا، فيتوصل الانسان بالعقل الى ان الخالق مطلق في كل صفاته، و ليس كمثله شيئ، و لا يمكن ادراك ذاته، و ليست له بداية و لا نهاية، و مستقل عن مخلوقاته، و غير محتاج لأي شيء و لا لأي أحد، لان الاحتياج من صفات المخلوقات، و لان الاحتياج يعني العجز و ارتباط القدرة و البقاء و الوجود بالغير، و من كان هذا حاله فهو مستند على وجوده الى غيره و بالتالي ليس خالقا و لكن مخلوقا! .. كل هذه الصفات الاساسية التي يجب ان يكون عليها الخالق يدركها الانسان بالعقل و بالتفكير المستنير و ليس بالتجارب!
إذن لما قلنا في بداية هذا المقال كيف يُتَصور استخراج الله أو استخراج دليل وجوده من المادة بإخضاعها للتجارب، فذلك لان الصفات التي من خصائص الخالقِ صفاتٌ غير موجودة في المادة و بالتالي لا تُستنتج إلا بالبحث العقلي و ليس التجربي، فمهما كان حجم العلم الذي توصل اليه الانسان عن المادة فانه يبقى علم بالمادة و لا علاقة له بالبحث في وجود الخالق، فلا ينتقل الانسان الى ادراك ان هناك خالق للمادة إلا إذا بحث عن تفسيرٍ خارج عن المادة يفسر به من وراء وجود المادة و نظامها، و الانتقال لهذا المستوى من البحث و التدبر يحتاج لإرادةٍ و تدبر عقلي!
و لذلك فإنه من الخطأ الظن ان كثرة المعرفة بحقيقة المادة و جزئياتها و تفاصيلها، كما حققته البشرية اليوم، يقود الانسان بداهة لوجود خالق! فكون الانسان اكتفى مثلا بإدراك ان له يد ينتفع بها أو بحث في جزئيات اليد فأدرك تفاصيلها الفيزيولوجية و علاقة الدماغ بحركتها الخ ...، فهذا لا يغير من السؤال المطروح عمن أوجدها و خلقها، و بالتالي ففي كلتا الحالتين، و مهما كان جهل الانسان بتفاصيل اليد أو علمه بها، فانه يرجع الى تفكير عقليٍّ لا يُستنبط من اليد نفسها و تفاصيلها و جزئياتها و انما يرجع فيه الى تفكير يربط اليد أو جزئياتها بما هو خارج عنها لإدراك انه لابد لها من خالق! ... و نفس الشيئ ينطبق على البحث في وجود الكون، فبغض النظر هل أدرك الانسان تفاصيل الكون أم لا، و سواء استطاع الانسان إثبات ان الكون كما نراه اليوم كان نتيجة انفجار عظيم أم لا، ففي الاخير لا يكون التفكير في اصل الوجود مستنيرا إلا إذا ربط الانسان الواقع الُمدرك، كيفما قَلَّ أو كبر حجم إدراكه لتفاصيل الواقع، ربطه بما هو خارج عنه، و هذا الربط بالذي هو خارج عن المادة لا يكون إلا عن طريق العقل، و ليس عن طريق التجارب العلمية التي لا يخضع لفحصها إلا ما هو ملموس ماديا، أما الخالق فغير ملموس، و إنما آثار وجوده هي الملموسة ماديا، و ربط الآثار بخالقها لا يكون إلا عن طريق العقل، و ذلك بربط الملموس ماديا من آثار وجود الخالق بتصور عقلي منضبط يدرك أن المادة الملموسة إنما هو دليل على وجود خالقٍ أحْدَثها، لان فطرة الانسان و عقله يقول له أن الانسان له بداية و نهاية، و الذي ينطبق على الانسان ينطبق على الكون، و بالتالي لا يستند وجود اي منهما -اي الانسان و الكون- الى إرادة و قدرة ذاتية، اي يستحيل ان يخلقا أنفسهما و بالتالي لابد من خالق لهما مستقل عنهما و ذو صفات مطلقة تختلف عن صفات المخلوقات!
فحقيقة وجود الخالق يدركها الانسان بعقله، يدركها بالتدبر في اي شيئ من الكون و الانسان، و التوصل الى وجود خالق لا يحتاج الى ذكاء و لا الى علوم و معارف، فضرورة وجود خالقٍ للكون و الانسان من البديهيات، فوجود الله حقيقة كما يرى الانسان نفسه في المرآة و كما يحرك لسانه، لذلك أثار الله تعالى انتباه عقول الناس لآيات وجوده سبحانه:
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}(سورة الذاريات، الآيات 20-23)،
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}(سورة الطور، الآيات 35-37)،
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}(سورة فصلت، الآية 37)،
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ}(سورة الروم، الآيات 22-25)،
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ، وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون، أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}(سورة النحل، الآيات 3-22)
و لذلك نستغرب حين يهلل و يطبل المسلمون لِكُلِّ ملْحِدٍ آمن بوجود خالقٍ، و يعتبرون أن توصل الملحد لوجود خالق، و خصوصا إذا كان ملحدا مشهورا، يعتبرون ذلك إنجازا فكريا عظيما، و كَأَنَّ توصل الملحد لوجود خالق في حد ذاته دليل على وجود الله فسيشهدون به، كالضجة التي صاحبت مثلا تصريح أحد الملحدين و اسمه أَنْتُوني فْلُو (Antony Flew) بأن هناك خالق! فالرجل عاش ثمانين سنة يشتغل بالفلسفة ليشكك الناس في إيمانهم بوجود الله، و لِيَحْرِفهم عن فطرتهم التي تقول لهم انه لابد من خالق لهذا الكون، ... الرجل - اي أَنْتُوني فْلُو- احتاج ثمانين سنة من عمره فقط ليدرك أن هناك خالق! يا له من عمر ضَائعٍ و حياة تافهة و علم غير نافع، و يا له من غباء أو جحد و عناد، إذا احتاج الانسان العمر كله فقط ليدرك وجود خالق للكون، ... أمثال هؤلاء فعلاً لا يعلمون من الحياة الدنيا الا التافه السطحي، فقد صدق فيهم قول الله سبحانه و تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}(سورة الروم، الآية 7)!
و لَعَمري للأعرابي الأُمِّي الذي سُئِلَ قبل مئات السنين كيف عرَف الله، فأجاب: "الأثر يدل على المسير، والبَعْرَة تدل على البعير، فسماء ذات أبراجٍ وأرض ٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير"، لعمري لهذا الأمي أفقه و أحكم و أنضج فكرياً من ملايين الملحدين مهما كانت درجة علمهم بالعلوم الدنيوية و مهما كانت درجتهم في سلم الألقاب الأكاديمية! فهذا الأعرابي فكره مستنير و فطرته نقية أوصلاه الى الحقيقة التي لم يصل لها الملحدون الذين تعمقوا في البحث في خصائص المادة دون استنتاج ضرورة وجود خالق لها!
فإدراك وجود الله ليس فكراً عظيما و لا ذكاءاً خارقاً، فهذه حقيقة بدهية يدركها كل انسان كما يدرك نطق لسانه حين ينطق بالكلام {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}(سورة الذاريات، الآية 23)، و لا ينكرها إلا المستكبرون المعاندون الفاسدون المفسدون {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(سورة النمل، الآية 14)، و إنما الفكر الراقي و السامي و العظيم هو أن يدرك الانسان وجوب الانقياد لأوامر الخالق و نواهيه و طاعته في كل ما يأمر به، و إلا لما كان لوجود الانسان غاية و هدف، .. ... ثم يزداد الفكر رُقِياًّ و سُمُوًّا و يصل الى قمة العظمة حين يكون الدافع الاول لطاعة الله ليس الطمع في جنته و لا الخوف من عذابه، و إنما حُبًّا في الله و تعظيما لمنزلته و حمداً و شكرًا على نعمة الوجود التي أنعم بها على الانسان، فلولا نعمة الله علينا بأن أوجدنا لما كُنا و لما فكرنا و بحثنا و تمتعنا بالوجود، و لما كتبنا هذه الأسطر عن وجود الله الذي لا حقيقة في الوجود كله إلا هو سبحانه و تعالى ذكره! ... ...
..
تكاد تنفرد شعوب أوروبا بتجربة تاريخية لم تمر بمثلها باقي شعوب العالم كافة على مَرِّ التاريخ، و هذه التجربة هي ما عُرِف بالعصور الوسطى أو عصر الظلمات، و الذي امتد منذ القرن السادس الميلادي الى حدود القرن الخامس عشر أو السادس عشر. عُرف بعصر الظلمات لان الناس كانوا يعيشون في ظلمات ثلاث: ظلمات الجهل، و ظلمات الطغيان و الاستبداد، و ظلمات الفقر.
و قد كان المتسبب في هذه الظلمات الملوك و رجال الدين (الكنيسة)، حيث أخذوا أموال الناس و استعبدوهم و أفقروهم، و منعوا العلم و حاربوا أهله.
بدأت تدب روح النهضة في اوروبا عبر اتصالها بالمسلمين، و خصوصا عن طريق الاندلس، حيث أخذ فلاسفة اوروبا و مفكروها اسباب النهضة من الأفكار و العلوم التي أنشأها المسلمون في شتى المجالات، فساعدتهم لينطلقوا انطلاقة ثورية نحو التحرر: التحرر من الجهل و من استبداد الملوك و من استبداد الكنيسة.
و لَكَ أن تتصور كيف ستكون ردة فعل شعوب عاشت لأكثر من عشرة قرون من الزمن تحت وطئة الفقر و الجهل و مسلوبة لأبسط الحريات، و من بينها حرية التفكير، حيث اعتبرت الكنيسة العلم سحرا و شعودة، فسجنت و عذبت كثيرا من اهل العلم و التدبر و أنهت حياة البعض على لهيب النار، ... لك أن تتصور كيف تكون ردة فعل من كان هذا حاله على مدى عشرة قرون من الزمن إذا استطاع فجأة التحرر و التخلص من قيود الدين (الدين الكهنوتي المسيحي الذي وضعه رجالات الكنيسة)، و بدأ يشم رائحة الحرية، و يحس بنشوة التفكير و يتنعم بنتائج الفكر و العلم في حياته التي جلبت له الرفاهية و القوة و السلطة على العالم و التحكم فيه، .... لك أن تتصور أن ردة فعل الإنسان الاوروبي ستكون كردة فعلِ طفلٍ دخل فجأة سن المراهقة و بدأ يحس بعضلاته تشتد قوتها و صوته يفقد نغمة الصِّبا و عقله بدأ يحس بالنضج و الحياة، ساعتها تكون ردة فعل المراهق الغرورُ بقدراته الجديدة و التمرد على كل شيئ، على أبويه و معلميه و مجتمعه، تمرد على كل سلطة قيدته طوال طفولته و حددت له ماذا يفعل و يأكل و يشرب و يدرس، .....
هكذا حال الانسان الأوربي الذي عاش مرحلة طفولة إجبارية دامت اكثر من عشرة قرون من الزمن كان محجورا فيها على عقله حجرا تاما، حيث كانت الكنيسة تحدد له كل شيئ في حياته و تحرمه من الكثير الذي يجعل بني آدم إنسانا، فجاء عصر النهضة في اوروبا بكل أحداثه و صراعاته الدموية لينقل فجأة و بعنف الطفل -الانسان- الاوروبي الى مرحلة المراهقة، .... و نظرا لقسوة الطفولة و طولها التي مر بها الانسان في اوروبا، كانت مراهقته ذات ردود عنيفة و شديدة ضد من حَجر على حريته طوال قرون، فكانت مرحلة مراهقته عنيفة أيضاً و طويلة، .... فالناس في اوروبا، و الى حَدٍّ ما الشعوب المنحدرة منهم كشعوب امريكا و استراليا و كندا، لا زالوا يعيشون مرحلة المراهقة، مرحلة تتسم بالتمرد المفرط ضد الدين الذي خنق نَفَسَهم و كبل عقولهم و حريتهم لمدة قرون من الزمن، ... مرحلة تتسم، كما هو حال المراهق، بالإفراط في حب الذات و الغرور بها و حب العضلات، العضلات المادية و العقلية،....
هذا هو حال الغرب، فبعدما كان يقدس رجال الدين و منقاد لهم انقيادا أعمى لمدة قرون، كانت ردة فعله سخط أعمى على الدين و انقياد أعمى للعقل و العلم!
حلت معاهد الأبحاث العلمية في الغرب محل الكنائس، و حل العلم التجريبي محل التوراة و الإنجيل، اصبح الناس يتلقفون اقوال الباحثين في العلوم التجريبية على انها وحْيٌ معصوم من الخطأ، تماماً كما كان يتلقف أجدادهم من قبل اقوال الباباوات على انها كلام الله، ...
هكذا اصبح الناس لا يقبلون إلا بما تقره العلوم التجريبية، فظنوا أن هذه العلوم ستحل لهم كل مشاكلهم و تعطيهم سِرًّا و معنى بديلا للحياة و الوجود، و تجلب لهم السعادة و الطمأنينة، فظنوا انهم ليسوا بحاجة الى الله، .... بل اندثر الايمان بوجود اي خالق اصلا للكون و الإنسان!
العلوم التجريبية أفسدت فطرة الناس التي كانت تهدي عقولهم و قلوبهم بطريقة طبيعية عقلية الى الله، فاصبحوا لا يؤمنون بوجود خالق للكون و الانسان مادامت المختبرات و التجارب لم تثبت ذلك، فكثر الملاحدة في العالم كله! ....
و العجب أن كثيرا من المسلمين تأثروا بمنهج الغرب في التفكير و في التعامل مع شؤون حياتهم و وجودهم، فاصبحوا يتعاملون مع الاحكام الشرعية، و احيانا حتى مع النصوص المتعلقة بالغيب، تعاملا ماديا و ليس إيمانيا، اصبحوا يتلقفون نتائج مختبرات الغرب على انها وحي، و اصبحوا يبحثون عن أدلةٍ لوجود الله من نتائج الأبحاث التجريبية التي يقدمها الغرب، فظنوا أن العلوم التجريبية ستهدي الكافر و الملحد الى الاسلام!
فهل إثبات وجود خالقٍ للكون و الانسان يكون عن طريق العلوم التجريبية أم عن طريق العقل؟
دعوونا اولا نحدد مجال الأبحاث التجريبية و أهدافها. فالأبحاث التجريبية تبحث في مكونات المادة و قوانينها، و المادة تشمل أجسام الكائنات الحية من نبات و حيوان و انسان، كما تشمل الكائنات الأخرى من أرضٍ و سماوات و كواكب و غازات، الخ ... . فالباحث يتعامل مع المادة ليفهم مكوناتها و نظام تكوينها و حركتها و يستخرج منها منافع لنفسه و للبشر، لاغير!
فالأبحاث التجريبية ليس هدفها التوصل لوجود خالق و معرفة عظمته!
ثم إن الله غير موجود في المادة الخاضعة للبحث و لا في اي مادة من الكون، و لا هو جزء منها، فكيف يُتَصور استخراج الله منها أو استخراج دليل وجوده من خلال التجارب فيها؟ و سيقول البعض أن بدراسة المادة و ادراك تفاصيلها المعقدة و المنظمة يدرك الانسان انه لابد من وجود خالق لها و يدرك عظمة هذا الخالق! ... فنقول إن هناك آيات عظيمة لا تعد و لا تحصى تدل على وجود خالقٍ، آيات عظيمة لا تحتاج لتجارب و لا لتأويلٍ لنتائج تلك التجارب، و بالتالي لا تحتاج تلك الآيات العظام الى وسيط لإدراكها، حيث يلمسها كل إنسان و يحسها مباشرة و في كل لحظة من حياته، يلمسها و يحسها في كل رمشة عين، ... يلمسها و يحسها و هو يتحرك، و هو يتنفس، و هو يأكل، و هو ينام، و هو يستيقظ، و هو يُبْصِرْ، و هو يتكلم، و هو يشم، و هو يتذوق، و هو يفكر، و هو يَكْبر و ينمو من جنين في بطن أمه الى ان يصبح إنساناً قويا، ... يلمسها و يحسها و هو يبدأ في الانحدار و الضعف مع كبر السن حيث يصبح كهلا ضعيف الجسم و الذاكرة، ... يلمسها و يحسها و هو يمرض و يتعافى، و هو يعيش لحظات الضعف و القوة في حياته، و لحظات الفشل و النجاح، ...
فالآيات الدالة على وجود خالقٍ و التي يلمسها الانسان مباشرة لا تُعَد و لا تحصى، و اعظمها و أشملها هي آية وجودِه، وجودٌ لا يعود مصدره الى الإنسان نفسه و لا الى قرارٍ و إرادةٍ من الانسان، فهو -اي الانسان- لم يخلق ذاته و نفسه، و لا خلق عقله و بصره، و لا يداه، و لا اي شيئ مما يتمتع به من جسمه و لا خلق اي شيء من الكون، ..... {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}(سورة الطور، الآيات 35-37).
إذَا كانت كل هذه الآيات العظام و الآثار لم تحرك الانسان للتدبر في ان هناك مسببا لها و خالق للكون، فكيف ستدفعه الأبحاث في جزئيات تلك الآيات لفعل ذلك؟ بل بالعكس، فغالب الباحثين في مجال العلوم التجريبية، إذا كانوا لا يؤمنون بوجود خالق، يزيدهم كل اكتشاف جديد لجزئيات المادة و كيفية عملها و نظام حركتها، يزيدهم غرورا بالنفس و استعلاءً، إذ يظنون انهم كلما عرفوا أسرارًا اكبر و اكثر عن المادة و استطاعوا تطويعها كلما اقتربوا هم انفسهم من الالوهية و ظنوا انفسهم أرباباً، .... فلذلك تجد مثلا اكثر الناس تَكبُّراً و غطرسة و غروراً هم الاطباء، إذ يظنون بفهمهم لبعض دقائق الجسم و الامراض و باستطاعتهم معالجة المرضى، يظنون انهم هم من يَهبُ الناس الحياة، ... ثم تجد اهل علم الاقتصاد يظنون انهم هم من يرزق الناس، و تجد اهل الصناعة يظنون انهم هم من يهب الانسان القوة، و تجد اهل الفلسفة يظنون انهم هم من يهب الناس العقل، .... و هكذا دواليك! ...
و في المقابل تجد المؤمن بالله حين يقوم بأبحاث في العلوم التجريبية يزيده كل اكتشاف جديد لنظام جزئيات المادة إيمانا بالله و تعظيما له، ....
إذنْ ليس البحث و العلم التجريبي هو الذي يوصل الى الله، و لكن الايمان بالله هو الذي يجعل الباحث ينظر بأعين مختلفة للمادة و نظامها و دقة تكوينها فيربط كل ذلك بعظمة الله! ... فالإيمان بالله و متعلقات هذا الايمان مكانته فوق العلوم التجريبية و بالتالي ليس نابعا منها، بل الايمان بالله هو الذي يأثر على النظرة للعلوم التجريبية و يلعب دورا في كيفية التعامل معها و في تفسير بعض نتائجها!
فالإنسان الغير المؤمن لما يبحث في المادة غالبا ما يكون بحثه فيها دقيقا و عميقا، لكن نادرا ما يكون مستنيرا، و الاستنارة في البحث و التفكير لا تتحق إلا بربط مادة البحث بما هو خارج عنها و مهم للتوصل الى نظرة شاملة و صحيحة، ... و عملية الربط بين هذا الواقع الملموس و بين ما هو خارج عنه هي عملية ربط عقلية محظة و لا علاقة لها باي تجارب و مختبرات و نتائجها، إذ تحتاج لتصور حقيقةٍٍ يدركها العقل حسب القوانين العقلية و ليس حسب قوانين العلوم التجريبية، إذ تقول قوانين العقل أن ما من أثرٍ إلا و له مسبب، و ما من موجود إلا و هناك من أوجده، بغض النظر عن قدرة العقل إدراك ذات المُحدِث للأثر أم لا. لذلك وجود خالق للكون و الانسان حقيقة عقلية يدركها كل انسان و لا علاقة لها بالدراسات الأكاديمية و العلوم التجريبية، إذ العلوم التجريبية لا تبحث إلا فيما هو مُدرك الذات، ....
فالذي ينظر مثلا الى دراعيه قد تكون نظرته لهما فقط من باب معرفة كيف يمكنه تقويتهما لتكونا له عونا على القيام بأعمال تحتاج الى قوة و شدة يكسب منها رزقه، كالذي يحفر في الارض ينقب عن معادن ثمينة أو كالملاكم الذي يريد الانتصار على خصمه! و كذلك الذي يبحث في الخلية أو الذرة أو الكواكب الخ، فهو يبحث فيها ليستخرج منها ما ينفعه! ... لكن التفكير المستنير و التدبر لا يتحقق عند الذي ينظر الى دراعيه نظرة خارجية سطحية و عند الذي ينظر بعمق في جزئيات المادة من ذرةٍ و خليةٍ، لا يتحقق عند الاثنين و يكون مستنيرا إلا إذا ربط كلاهما الواقع الذي يبحث فيه بما هو خارج عنه، فَحَوَّل بحثه و تفكيره من التفكير و البحث في المادة و نوع المصلحة و المنفعة التي يمكنه استخراجها منها، للانتقال الى بحث عمن أوجد تلك المادة و خلق نظام حركتها!
إذن، رغم أن كل انسان يتفاعل مع المادة و الكون حسب المحيط الذي يعيش فيه و حسب مستوى ثقافته، و بالتالي كلٌّ قد تكون له دوافع و تأثيرات مختلفة تدفعه الى التفكر في سر وجود الانسان و الكون و محدثهما، إلا أنه لابد أولا من وجود إرادة معرفة سر الوجود و أصله، ثم إن التوصل الى حقيقة الوجود و أصله لا يتم إلا عن طريقٍ واحدٍ، و هو طريق العقل و ليس عن طريق التجارب! لأن الخالق لا تُدرك ذاته و بالتالي ليس محله العلوم التجريبية و إنما محله التفكير المجرد من الأدوات و الوسائل الضيقة الأفق و النسبية النتائج، كالعلوم التجريبية التي تقيد الحق و الحقيقة بما تستطيع إدراك ذاته و إخضاعه للتجربة، ...
فالبحث عن الخالق محله التفكير العقلي، الذي يُعتبر الوسيلة الاساسية و اليقينية لإدراك الحقيقة، و يُعتبر الأوسع و الأعمق و الأكثر استنارة من التفكير المبني على الأبحاث التجريبية، إذ بالتفكير العقلي المجرد يدرك العقل ما لا تستطيع التجارب العلمية إدراكه.
من هذا المنطلق يظهر جليا فساد و بطلان المنهج الفلسفي المسمى الوضعية المنطقية و الذي يعتبر كل ما لا يُلْمس ماديا و ذاتيا كذبا، و الذي بنى على أساسه كثير من الملحدين شبهاتهم التي احتجوا بها على عدم وجود خالق، إذ أخذ هذا المنهج الفلسفي التجارب العلمية و ليس العقل أساسا لإدراك الحقيقة!
إذاً فالسؤال هو هو منذ أول إنسان و الى آخره في هذا الكون: من أوجد الانسان و الكون و الحياة؟ و الجواب السليم لا يكون إلا بالاعتماد على العقل، باتباع الفطرة التي تقول أنه كما يربط الانسان كل فعل في حياته بفاعلٍ له، فنفس القاعدة تنطبق على أفعالٍ اكبر و اعظم، كفعل إيجاد الكون و الإنسان و الحياة! فقِلَّة المعرفة بالمادة أو ضخامتها، و توفر المعرفة بتفاصيل مكونات المادة و قوانينها أو انعدام المعرفة بذلك لا يعطي جوابا على من أوجد المادة و الحياة و جعلها على النظام الذي هي عليه! فالجواب على هذا السؤال لا يتوصل اليه الناظر و الباحث إلا إذا وسع مجال رؤيته و تفكره ليربط المادة و الكون و الحياة بفاعلٍ خارج عن كل هذا، فاعل يستند اليه الكون و الانسان في وجودهم، لكن وجوده هو -اي الخالق- و حقيقته و ذاته غير مستندة لكل ما يقع عليه حس الانسان!
و قد يستشهد البعض بآيات قرآنية ليقول أن العلوم التجريبية توصل الى الايمان بالله، و يذكر مثلا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(سورة فصلت، الآية 53)، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(سورة العنكبوت، الآية 20)، فنقول أن الآيات (الأدلة على وجود الله) التي يتكلم عنها القرآن في هذه الآيات و غيرها يلمسها كل انسان، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق التجربة و إخضاع المادة لاختبارات و فحوص، لكن دون الانتقال من البحث في المادة و خاصياتها و تفاصيلها، و ربط المُدرك منها، كيفما كان حجم المُدرك، بما هو خارج و مستقل عنها، الربط الذي لا يكون إلا عن طريق العقل، فإن الانسان لن يتوصل لربطها بخالقٍ لها، مهما تعمق في فهم تفاصيل المادة، لذلك يقول الله سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}(سورة يوسف، الآية 105)، و يقول سبحانه {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}(سورة الروم، الآية 7)، فمهما تعمق الانسان في دراسة و فهم تفاصيل المادة و جزئياتها و قوانينها، فإن معرفته ستبقى سطحية إذا لم يربطها بما هو خارج عنها، إذا لم يربطها بخالقها! ...
فلك أن تسأل مثلا لماذا تأمل هذا في الناقة و أدرك أن هناك من خلقها، لكن آخراً نظر الى نفس الناقة فلم يرى فيها مثلا إلا قدرتها على تحمل العطش فذهب يبحث عن سبب ذلك و اجتهد فاكتشف كيف تتعامل أنسجة و أعضاء جسم الناقة و خلاياها مع الماء ففسر قدرتها على الاستغناء على شرب الماء لمدة طويلة مقارنة مع الانسان، ففرِحَ باكتشافه و اكتفى عنده لانه ظن انه فسر بذلك سراًّ من اسرار الوجود يغنيه عن معرفة محدث الوجود! .... و قس على ذلك كل تدبر في الكون و الانسان، فالتفكير المستنير الذي يوصل الانسان الى ربطها بخالق لها لا يتحقق إلا بإرادة من المتدبر و سعي هادف لمعرفة من خلق الكون و الانسان، كما أن الإرادة و السعي الهادف للتوصل لأصل الخالق (اي من أوجد الكون و الانسان) يجب ان يكون مصحوبا بعملية تفكير و بحث صحيحة، و هي الطريقة العقلية و التي تختلف تماما عن طريقة و هدف التفكير في العلوم التجريبية! ...
فالعلوم التجريبية يستعين بها العقل ليبحث في الملموس، و العلوم التجريبية تعين على إجابة أسئلة عن الكَيْف: اي كيف تتحرك هذه المادة و كيف تعمل و كيف تتطور و كيفية نظام الكون و الأجسام ... الخ، ... لكن العقل وحده، دون وسيط العلوم التجريبية، هو الذي يسأل و يستطيع الاجابة على أسئلة من نوع: "مَنْ أوجد المادة و الكون و الانسان، و لماذا!؟"! ...
و لذلك متى كانت الإرادة متوفرة عند الانسان للوصول الى أصل الخلق، الى الله، أعانه الله ليهتدي للإيمان به، و من لم تتوفر لديه تلك الإرادة و استحوذه التكبر و الجحود أعانه الله على غيه {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(سورة الأنعام، الآية 125)، و من بين معاني "حَرَجاً" شاَكًّا، ... فوجب هنا لفت الانتباه، و خصوصا للذين يظنون أن العقل يغني الانسان عن الحاجة للخالق و يظنون أن قدرة العقل قدرة ذاتية، وجب لفت انتباه هؤلاء الى ان الله هو المسيطر و المهيمن على كل شيئ، فكل شيئ يستند في وجوده و في صيرورته اليه سبحانه، سواء آمن الناس بذلك أم لا، فالملحد الذي ينكر وجود الخالق لا يهتدي اليه -اي الى الله- إلا برحمة و عون من الله إذا كانت للملحد إرادة حقيقية للوصول الى الحقيقة! ... فالرب رب ليس لشهادة البشر له بذلك، و إنما هو رَبٌّ لصفات و حقيقة ذاتية مستقلة تماماً عن مخلوقاته، و هو رب لتعلق وجود كل مخلوقاته به سواء أدرك المخلوق هذه العلاقة أم لا ! ...
إذًا بالعقل و الإرادة يدرك الانسان أنه لابد من خالق لكل ما يقع عليه حسه، و بالعقل يدرك الانسان انه لا يجوز ان تكون لهذا الخالق نفس صفات المادة و الانسان و الكون و إلا لما كان خالقا، فيتوصل الانسان بالعقل الى ان الخالق مطلق في كل صفاته، و ليس كمثله شيئ، و لا يمكن ادراك ذاته، و ليست له بداية و لا نهاية، و مستقل عن مخلوقاته، و غير محتاج لأي شيء و لا لأي أحد، لان الاحتياج من صفات المخلوقات، و لان الاحتياج يعني العجز و ارتباط القدرة و البقاء و الوجود بالغير، و من كان هذا حاله فهو مستند على وجوده الى غيره و بالتالي ليس خالقا و لكن مخلوقا! .. كل هذه الصفات الاساسية التي يجب ان يكون عليها الخالق يدركها الانسان بالعقل و بالتفكير المستنير و ليس بالتجارب!
إذن لما قلنا في بداية هذا المقال كيف يُتَصور استخراج الله أو استخراج دليل وجوده من المادة بإخضاعها للتجارب، فذلك لان الصفات التي من خصائص الخالقِ صفاتٌ غير موجودة في المادة و بالتالي لا تُستنتج إلا بالبحث العقلي و ليس التجربي، فمهما كان حجم العلم الذي توصل اليه الانسان عن المادة فانه يبقى علم بالمادة و لا علاقة له بالبحث في وجود الخالق، فلا ينتقل الانسان الى ادراك ان هناك خالق للمادة إلا إذا بحث عن تفسيرٍ خارج عن المادة يفسر به من وراء وجود المادة و نظامها، و الانتقال لهذا المستوى من البحث و التدبر يحتاج لإرادةٍ و تدبر عقلي!
و لذلك فإنه من الخطأ الظن ان كثرة المعرفة بحقيقة المادة و جزئياتها و تفاصيلها، كما حققته البشرية اليوم، يقود الانسان بداهة لوجود خالق! فكون الانسان اكتفى مثلا بإدراك ان له يد ينتفع بها أو بحث في جزئيات اليد فأدرك تفاصيلها الفيزيولوجية و علاقة الدماغ بحركتها الخ ...، فهذا لا يغير من السؤال المطروح عمن أوجدها و خلقها، و بالتالي ففي كلتا الحالتين، و مهما كان جهل الانسان بتفاصيل اليد أو علمه بها، فانه يرجع الى تفكير عقليٍّ لا يُستنبط من اليد نفسها و تفاصيلها و جزئياتها و انما يرجع فيه الى تفكير يربط اليد أو جزئياتها بما هو خارج عنها لإدراك انه لابد لها من خالق! ... و نفس الشيئ ينطبق على البحث في وجود الكون، فبغض النظر هل أدرك الانسان تفاصيل الكون أم لا، و سواء استطاع الانسان إثبات ان الكون كما نراه اليوم كان نتيجة انفجار عظيم أم لا، ففي الاخير لا يكون التفكير في اصل الوجود مستنيرا إلا إذا ربط الانسان الواقع الُمدرك، كيفما قَلَّ أو كبر حجم إدراكه لتفاصيل الواقع، ربطه بما هو خارج عنه، و هذا الربط بالذي هو خارج عن المادة لا يكون إلا عن طريق العقل، و ليس عن طريق التجارب العلمية التي لا يخضع لفحصها إلا ما هو ملموس ماديا، أما الخالق فغير ملموس، و إنما آثار وجوده هي الملموسة ماديا، و ربط الآثار بخالقها لا يكون إلا عن طريق العقل، و ذلك بربط الملموس ماديا من آثار وجود الخالق بتصور عقلي منضبط يدرك أن المادة الملموسة إنما هو دليل على وجود خالقٍ أحْدَثها، لان فطرة الانسان و عقله يقول له أن الانسان له بداية و نهاية، و الذي ينطبق على الانسان ينطبق على الكون، و بالتالي لا يستند وجود اي منهما -اي الانسان و الكون- الى إرادة و قدرة ذاتية، اي يستحيل ان يخلقا أنفسهما و بالتالي لابد من خالق لهما مستقل عنهما و ذو صفات مطلقة تختلف عن صفات المخلوقات!
فحقيقة وجود الخالق يدركها الانسان بعقله، يدركها بالتدبر في اي شيئ من الكون و الانسان، و التوصل الى وجود خالق لا يحتاج الى ذكاء و لا الى علوم و معارف، فضرورة وجود خالقٍ للكون و الانسان من البديهيات، فوجود الله حقيقة كما يرى الانسان نفسه في المرآة و كما يحرك لسانه، لذلك أثار الله تعالى انتباه عقول الناس لآيات وجوده سبحانه:
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}(سورة الذاريات، الآيات 20-23)،
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}(سورة الطور، الآيات 35-37)،
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}(سورة فصلت، الآية 37)،
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ}(سورة الروم، الآيات 22-25)،
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ، وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون، أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}(سورة النحل، الآيات 3-22)
و لذلك نستغرب حين يهلل و يطبل المسلمون لِكُلِّ ملْحِدٍ آمن بوجود خالقٍ، و يعتبرون أن توصل الملحد لوجود خالق، و خصوصا إذا كان ملحدا مشهورا، يعتبرون ذلك إنجازا فكريا عظيما، و كَأَنَّ توصل الملحد لوجود خالق في حد ذاته دليل على وجود الله فسيشهدون به، كالضجة التي صاحبت مثلا تصريح أحد الملحدين و اسمه أَنْتُوني فْلُو (Antony Flew) بأن هناك خالق! فالرجل عاش ثمانين سنة يشتغل بالفلسفة ليشكك الناس في إيمانهم بوجود الله، و لِيَحْرِفهم عن فطرتهم التي تقول لهم انه لابد من خالق لهذا الكون، ... الرجل - اي أَنْتُوني فْلُو- احتاج ثمانين سنة من عمره فقط ليدرك أن هناك خالق! يا له من عمر ضَائعٍ و حياة تافهة و علم غير نافع، و يا له من غباء أو جحد و عناد، إذا احتاج الانسان العمر كله فقط ليدرك وجود خالق للكون، ... أمثال هؤلاء فعلاً لا يعلمون من الحياة الدنيا الا التافه السطحي، فقد صدق فيهم قول الله سبحانه و تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}(سورة الروم، الآية 7)!
و لَعَمري للأعرابي الأُمِّي الذي سُئِلَ قبل مئات السنين كيف عرَف الله، فأجاب: "الأثر يدل على المسير، والبَعْرَة تدل على البعير، فسماء ذات أبراجٍ وأرض ٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير"، لعمري لهذا الأمي أفقه و أحكم و أنضج فكرياً من ملايين الملحدين مهما كانت درجة علمهم بالعلوم الدنيوية و مهما كانت درجتهم في سلم الألقاب الأكاديمية! فهذا الأعرابي فكره مستنير و فطرته نقية أوصلاه الى الحقيقة التي لم يصل لها الملحدون الذين تعمقوا في البحث في خصائص المادة دون استنتاج ضرورة وجود خالق لها!
فإدراك وجود الله ليس فكراً عظيما و لا ذكاءاً خارقاً، فهذه حقيقة بدهية يدركها كل انسان كما يدرك نطق لسانه حين ينطق بالكلام {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}(سورة الذاريات، الآية 23)، و لا ينكرها إلا المستكبرون المعاندون الفاسدون المفسدون {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(سورة النمل، الآية 14)، و إنما الفكر الراقي و السامي و العظيم هو أن يدرك الانسان وجوب الانقياد لأوامر الخالق و نواهيه و طاعته في كل ما يأمر به، و إلا لما كان لوجود الانسان غاية و هدف، .. ... ثم يزداد الفكر رُقِياًّ و سُمُوًّا و يصل الى قمة العظمة حين يكون الدافع الاول لطاعة الله ليس الطمع في جنته و لا الخوف من عذابه، و إنما حُبًّا في الله و تعظيما لمنزلته و حمداً و شكرًا على نعمة الوجود التي أنعم بها على الانسان، فلولا نعمة الله علينا بأن أوجدنا لما كُنا و لما فكرنا و بحثنا و تمتعنا بالوجود، و لما كتبنا هذه الأسطر عن وجود الله الذي لا حقيقة في الوجود كله إلا هو سبحانه و تعالى ذكره! ... ...
..