فارووق
2015-04-10, 12:09 AM
....
عن عائشة، رضي اللع عنها، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ أَصْوَاتًا فَقَالَ : "مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ ؟" ، فَقَالُوا : النَّخْلُ يَأْبُرُونَهُ ، قَالَ : "لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَصَلُحَ"، قَالَ : فَلَمْ يَأْبُرُوا عَامَئِذٍ فَصَارَ شِيصًا فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : "إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ ، وَإِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ و مُسْلِمٌ). (شيصاً اي الثمر الذي لم يستوي و يكتمل نضجه).
من حكمة الله في تنزيل وحيه، سواء وحي القرآن أو وحي السنة، أنه غالبا ما أُنزلت النصوص الشرعية جوابا و حكما على أحداث و تساؤلات و معاملات الخ، ... فخذ مثلا آية اللعان بين الزوجين و التي يقول فيها الله سبحانه:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَيَدْرَؤا عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ* وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}(سورة النور)، هذه الآية نزلت في عويمر العجلاني مع زوجه خولة بنت عاصم، حيث سئل عويمر العجلاني رسول الله: يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها". فتلى رسول الله الآية و تلاعن عويمر و زوجه كما بين الله في الاية، و الرسول و المؤمنون شهود!
و لعل من بين حِكَم الله في تنزيله لوحيه على هذا المنوال هو جعل المسلمين يتفاعلون مع الوحي تفاعلا علميا و عمليا، و ليس نظريا، تفاعلا يجعلهم يدركون مناط النصوص الشرعية، و تفاعلا يترتب عليه العمل بتلك النصوص، .... فيكون تلقي الآيات و الأحاديث للعمل بها و لإنزالها على وقائع و احداث في الحياة لتنظمها، و ليس قرآناً يُقرأ فقط!
انطلاقا من هذا المنهج في تنزيل الوحي، ما الأسباب التي يمكننا استقراءها في حديث الرسول الذي افتتحنا به المقال و التي استدعت 'صدوره'؟
قد يقول القائل أنه مادام الرسول قال: "إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ" فان على الاقل الجزء الاول من الحديث، الذي نهاهم فيه عن تأبير النخل، ليس وحيا! و قد يقول القائل ما الذي دفع الرسول لنصحهم بعدم التأبير إذا كان هو يعلم أصلا أن هذه من شؤون الدنيا المتعلقة بالتجربة الانسانية و ليس الوحي؟
و الجواب على ذلك، حسب ما نظن، أن الحديث كله وحي من الله ليشرع لنا أحكاماً شرعية بطريقة عملية مربوطة بِحادِثٍ يمس مصالح الناس، و من بين هذه الاحكام:
1) حين ألْهَمَ اللهُ رسوله أن ينصح المسلمين في أَمْرٍ أراد الله أن يجعل تقدير العمل فيه لتجارب الانسان و ابتكاراته، قال الرسول للناس أن لا يأبروا شجر النخيل، فكانت النتيجة ثمراً ذي جودة ضعيفة، ليترتب على ذلك نقاش و حديث بين الرسول و المزارعين، .... فيقول الرسول للمزارعين هذا الامر المتعلق بالزراعة أدليت فيه برأيي الشخصي، و مادام الراي شخصي، يرجع الى التقدير العقلي و التجربة، فلكم ان تأخذوا به أو لا!
هكذا شرع الله للناس أن يجتهدوا بعقولهم على أساس التجربة و البحث و التقدير في مسائل من هذا النوع و التي تشمل الزراعة و الصناعة و التطبيب و غزو الفضاء الخ ...
2) من هذه الحادثة يعلمنا الله أيضاً ألاَّ نلقي اللَّوم على الاسلام إذا فشلنا في شؤون الحياة التي أوكلها الله لعقولنا و تجاربنا و تقديرنا لمنافعها و مضارها، و ليس تمة أحكم و أعظم و أقوى مثال عملي ليلقننا الله كيفية التعامل مع أمور الدنيا المتعلقة بالوحي و الأخرى المتعلقة بالعقل و التجربة، و التفرقة بينهما و عدم إلقاء اللوم على الوحي إذا ما فشلنا في تدبير ما أنيط لعقولنا و تجربتنا، ... أقول ليس تمة أحكم مثال من أن يكون رسول الله نفسه، المُبلِّغ لوحي الله، طرفا في هذا الخلاف بين تحكيم الشرع أو العقل و التجربة، ليقول الله من خلال حادثة تأبير النخل للمسلمين أنه حتى لو كان رسول الله نفسه أفتاكم في مسألة ليست لها علاقة بالشرع و الوحي و أخذتم بها فلا تلوموا الرسول أو الاسلام، و إنما هذا من شؤون دنياكم تعملون فيه بالرأي الاكثر صوابا و نجاعا بناءً على تجارب الانسان و الأخذ بالأسباب و ليس بناءً على الوحي! ...
فَهِمَ المسلمون هذه الرسالة، كما أنه لم تَرِد مثلا أي روايات تَنَطَّعَ فيها بعض المسلمين و لاموا رسول الله في فساد محصول النخل و أصرُّوا على إلصاق التهمة بالاسلام، و لا استغل بعضهم حادثة تأبير النخيل للتشكيك برسول الله و لا لاتهام عجز الاسلام و نقصانه! ...
3) نتعلم من هذه الحادثة أيضاً انه ليس تمة علاقة عكسية تلازمية بين الايمان بالوحي (الاسلام) و بين النجاح و الفلاح في الشؤون الدنيوية المتعلقة بالعقل و التجربة! ... اي كون إنسان أو أمة اعتنقوا الاسلام لا يعني انه سيترتب عن ذلك، على وجه التلازم، الهداية لفهم الامور الدنيوية و الكونية و الخَلْقِية، و النجاح في هذا المجال من الحياة الغير خاضع لتنظيمٍ و أحكامٍ من الوحي، اي المجال الخاضع لأحكام التجارب و التفكير في المادة و البحث فيها و الأخذ بالأسباب لاستخراج ما ينفع منها الناس الخ ... ! ...
و العكس كذلك صحيح، اي الأخذ بالأسباب لفهم الامور الغير خاضعة لأحكام الوحي و إنما لأحكام العقل و التجربة، و الفلاح في استخراج اكبر منفعة منها للبشر، النجاح في هذا المجال و الرقي فيه لا يعني انه سيترتب عليه، على وجه التلازم، الهداية للاسلام و الايمان به! ....
صحيح أن الاسلام يحفز معتنقيه على الأخذ بالأسباب و الاجتهاد و الكد في الحياة للنجاح في تحقيق قوة و رقي في مجالات الزراعة و الصناعة و التطبيب و التسليح الخ ...، إلا أن أدوات إدراك هذا الجانب من شؤون الحياة هي أدوات بشرية، من صنع البشر، تنتج عن طريق التجربة و البحث العلمي في المادة و المخلوقات، ...
فمن فَكَّر مثلا في انتاج آلة تمكنه من الطيران أو دواء يعالجه من مرض معين، فلا يجوز له الالتجاء الى القرآن أو السنة ليبحث عن مقادير و مخططات تلك المنتوجات ليصنعها، .... و من أراد فهم حركة الارض و الأجرام السماوية الخ ... فلا يلجأ لنصوص الوحي لتعطيه حسابات رياضية و فيزيائية لكيفية حركة الكواكب و سرعتها الخ.. ! ...
و بالتالي و لو حفز الاسلام للأخذ بالأسباب في المجالات الدنيوية إلا أن المعلومات و المعرفة اللازمة لإدراك حقيقة المادة و المخلوقات (الناحية الملموسة من المخلوقات) لم يأتي بها الوحي و إنما تركها الله للبشر لِيُنْتِج هو بنفسه هذه المعرفة و المعلومات بالبحث و التجربة و التفكير و التدبر ...
و كذلك شؤون الحياة التي نزل الوحي لينظمها لا يُرْجَعُ فيها إلى الأبحاث و التجارب البشرية و ما نتج عنها من علوم ليُحَلِّل فيها و يحرم، إذ المعرفة و المعلومات الخاصة بهذا الجانب من الحياة تؤخذ من الوحي و من العلوم و الاجتهادات المنبثقة من الوحي! ...
صحيح أنه يُستعان أحيانا بالعلوم التجريبية في مجال التشريع المستنبط من الوحي، إلا أن هذه الاستعانة لا تتجاوز مجال فَهْمِ الواقع الذي يبحث فيه الشرع لمعرفة مناط الحكم، لكن الحكم على الواقع من حيث كونه حلالا أو حراما يكون للشرع، يكون للوحي و ليس للعقل! ...
فمثلا لو اتهم شخص زوجته بالزنا و أن حَمْلَها ليس منه، فيمكن للقاضي الاستعانة بالطب الشرعي لتحديد نسبة الجنين أو الطفل البيولوجية، إلا أن نتائج البحث البيولوجي المعتمِد على مقارنة خارطة الطفل الجينية مع خارطة الأب المدعي يمكن استعمالها كأداة ضغط على الزوجة المتهمة بالزنا لتعترف، لكن إثبات الزنا على الزوجة لا يتحقق بنتائج البحث الطبي، بل يخضع للنص الشرعي الذي لا يُثبِتُ تهمة الزنا بحق شخص إلا إذا اعترف المتهم أو عند شهادة عين لأربعة أشخاص! كما أن أبوة الزوج للطفل من زوجته لا تسقط بسبب النتائج الطبية التي أثبتت عدم أبوته البيولوجية، لقول الرسول: "الولد للفراش و للعاهر الحجر"(رواه البخاري ومسلم)!
إذاً الاحكام الشرعية و علتها لا يحددها العقل و لا العلوم التجريبية، و إنما يحددها الله في نصوص القرآن و السنة، و يستنبطها العلماء و المجتهدون من هذه النصوص! .... و الاستعانة بالعلوم التجريبية و متعلقاتها يكون من باب فهم الواقع فهما صحيحا لإنزال الحكم الشرعي على مناطه المناسب!
بل الشرع المنبثق من الوحي هو الذي يضع ضوابط للأبحاث العقلية و التجريبية. فمثلا الشرع هو الذي يحدد هل يجوز إجراء تجارب على الحيوانات، و تحت اي شروط، ... و الشرع هو الذي يحدد أَيًّا من نتائج العلوم التجريبية يجوز استعمالها، .... فليس كل ما هو ممكن عقلا و تجريبيا يجوز فعله! ...
و كون الوحي هو الذي يضع ضوابط للعقل و للعلوم الدنيوية و ليس العكس، نابع من كون الوحي عِلْمٌ من الله الذي لا حد لعلمه و لا حقيقة فوق حقيقته، لكن العلوم البشرية نتاج عقل محدود لبشر محدود، .... و يستحيل أن يكون النسبي المحدود (و هو البشر) حَكَماً على المطلق اللامحدود (و هو الله)! ...
فمثلا الأبحاث المتعلقة بالجينات و الخلايا الجذعية أفرزت انه بالإمكان استنساخ حيوان من جنسه، دون المرور عبر عملية اللقاح، فيكون للمولود والد واحد، و يكون من الناحية الجينية صورة طبق الاصل للوالد المانح للنواة الام! ...... فكون عملية الاستنساخ ممكنة نسبيا (لا نريد هنا نقاش خطورة المشاكل الصحية و الامراض التي تعرضت لها الحيوانات المستنسخة و لا نسبة نجاح عملية الاستنساخ)، فهل يجوز استعمالها لتمكين الناس من الإنجاب؟ و هل يجوز استعمالها في تربية المواشي لإنتاج اللحوم للأكل؟ .... الذي يحدد الجواز من عدمه هنا هو الشرع و ليس العقل و الأبحاث العلمية.
و هناك نظرة قاصرة و سطحية و خاطئة عند الكثير من الناس حين يتحدثون عن العلوم الشرعية و العلوم التجريبية، فيظنون أن الالتزام بالشرع يعني عدم استخدام العقل و عدم استعمال التفكير و التدبر، و يربطون العقل و الذكاء بالعلوم التجريبية فقط! و هذه نظرة تعبر عن جهلٍ مركب، فالحقيقة البديهية التي يدركها الانسان العاقل هو أن العقل أداة لفهم واقعٍ أو إدراك حقيقة أو استوعاب نص من النصوص الخ...، و هذا ينطبق على الأبحاث الشرعية كما ينطبق على الأبحاث التجريبية على حد السواء! فكلاهما يتعامل مع نصوص و وقائع و يحاول فهمها و إدراكها و إصدار حكم بخصوصها و استنباط احكام منها .... بل نذهب للقول بان الاجتهاد، و خصوصا الاجتهاد المطلق، و الذي يستنبط عن طريقه العالم أو الفقيه الاحكام الشرعية المتعلقة بتنظيم أفعال العباد و تبيان حكم الله في المستجد من الامور، يعتبر أرقى و أعظم جهد عقلي و ذهني يستطيع الانسان القيام به، و يحتاج الى عملية ربط جد دقيقة للمعلومات، و لا يقدر عليه إلا ذو فطنةٍ و ذكاء و إلمام بعلوم شتى، ...
فوجب على المسلمين ألا يخلطوا بين ما مرده لله و رسوله، و ما مرده لتجارب البشر و الأخذ بالأسباب، و ذلك امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه و سلم: "إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ ، وَإِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ"!
فللأسف الكثير من المسلمين انبهروا بالتقدم المادي الذي وصل له الغرب، و بدلا من أن يكون هذا حافزا لهم للأخذ بالأسباب لمواكبة تطور البشرية و تحقيق تقدم في مجالات الصناعة و الفلاحة و الطب و غيرها ...، تجدهم يستعملون تقدم الغرب حجة للطعن في الاسلام و لرفض شرع الله، و للأخذ بتشريعات الغرب، ... لكن الشيئ الذي كان عليهم أخذه من الغرب كالصناعات المختلفة و علوم الكومبيوتر و الطب و البيولوجيا و غزو الفضاء ... الخ، تجدهم هملوه و لم يعنوا انفسهم لتعلمه و استعماله في المجالات الخاصة به في الحياة، ! ... ...
...
عن عائشة، رضي اللع عنها، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ أَصْوَاتًا فَقَالَ : "مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ ؟" ، فَقَالُوا : النَّخْلُ يَأْبُرُونَهُ ، قَالَ : "لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَصَلُحَ"، قَالَ : فَلَمْ يَأْبُرُوا عَامَئِذٍ فَصَارَ شِيصًا فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : "إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ ، وَإِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ و مُسْلِمٌ). (شيصاً اي الثمر الذي لم يستوي و يكتمل نضجه).
من حكمة الله في تنزيل وحيه، سواء وحي القرآن أو وحي السنة، أنه غالبا ما أُنزلت النصوص الشرعية جوابا و حكما على أحداث و تساؤلات و معاملات الخ، ... فخذ مثلا آية اللعان بين الزوجين و التي يقول فيها الله سبحانه:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَيَدْرَؤا عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ* وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}(سورة النور)، هذه الآية نزلت في عويمر العجلاني مع زوجه خولة بنت عاصم، حيث سئل عويمر العجلاني رسول الله: يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها". فتلى رسول الله الآية و تلاعن عويمر و زوجه كما بين الله في الاية، و الرسول و المؤمنون شهود!
و لعل من بين حِكَم الله في تنزيله لوحيه على هذا المنوال هو جعل المسلمين يتفاعلون مع الوحي تفاعلا علميا و عمليا، و ليس نظريا، تفاعلا يجعلهم يدركون مناط النصوص الشرعية، و تفاعلا يترتب عليه العمل بتلك النصوص، .... فيكون تلقي الآيات و الأحاديث للعمل بها و لإنزالها على وقائع و احداث في الحياة لتنظمها، و ليس قرآناً يُقرأ فقط!
انطلاقا من هذا المنهج في تنزيل الوحي، ما الأسباب التي يمكننا استقراءها في حديث الرسول الذي افتتحنا به المقال و التي استدعت 'صدوره'؟
قد يقول القائل أنه مادام الرسول قال: "إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ" فان على الاقل الجزء الاول من الحديث، الذي نهاهم فيه عن تأبير النخل، ليس وحيا! و قد يقول القائل ما الذي دفع الرسول لنصحهم بعدم التأبير إذا كان هو يعلم أصلا أن هذه من شؤون الدنيا المتعلقة بالتجربة الانسانية و ليس الوحي؟
و الجواب على ذلك، حسب ما نظن، أن الحديث كله وحي من الله ليشرع لنا أحكاماً شرعية بطريقة عملية مربوطة بِحادِثٍ يمس مصالح الناس، و من بين هذه الاحكام:
1) حين ألْهَمَ اللهُ رسوله أن ينصح المسلمين في أَمْرٍ أراد الله أن يجعل تقدير العمل فيه لتجارب الانسان و ابتكاراته، قال الرسول للناس أن لا يأبروا شجر النخيل، فكانت النتيجة ثمراً ذي جودة ضعيفة، ليترتب على ذلك نقاش و حديث بين الرسول و المزارعين، .... فيقول الرسول للمزارعين هذا الامر المتعلق بالزراعة أدليت فيه برأيي الشخصي، و مادام الراي شخصي، يرجع الى التقدير العقلي و التجربة، فلكم ان تأخذوا به أو لا!
هكذا شرع الله للناس أن يجتهدوا بعقولهم على أساس التجربة و البحث و التقدير في مسائل من هذا النوع و التي تشمل الزراعة و الصناعة و التطبيب و غزو الفضاء الخ ...
2) من هذه الحادثة يعلمنا الله أيضاً ألاَّ نلقي اللَّوم على الاسلام إذا فشلنا في شؤون الحياة التي أوكلها الله لعقولنا و تجاربنا و تقديرنا لمنافعها و مضارها، و ليس تمة أحكم و أعظم و أقوى مثال عملي ليلقننا الله كيفية التعامل مع أمور الدنيا المتعلقة بالوحي و الأخرى المتعلقة بالعقل و التجربة، و التفرقة بينهما و عدم إلقاء اللوم على الوحي إذا ما فشلنا في تدبير ما أنيط لعقولنا و تجربتنا، ... أقول ليس تمة أحكم مثال من أن يكون رسول الله نفسه، المُبلِّغ لوحي الله، طرفا في هذا الخلاف بين تحكيم الشرع أو العقل و التجربة، ليقول الله من خلال حادثة تأبير النخل للمسلمين أنه حتى لو كان رسول الله نفسه أفتاكم في مسألة ليست لها علاقة بالشرع و الوحي و أخذتم بها فلا تلوموا الرسول أو الاسلام، و إنما هذا من شؤون دنياكم تعملون فيه بالرأي الاكثر صوابا و نجاعا بناءً على تجارب الانسان و الأخذ بالأسباب و ليس بناءً على الوحي! ...
فَهِمَ المسلمون هذه الرسالة، كما أنه لم تَرِد مثلا أي روايات تَنَطَّعَ فيها بعض المسلمين و لاموا رسول الله في فساد محصول النخل و أصرُّوا على إلصاق التهمة بالاسلام، و لا استغل بعضهم حادثة تأبير النخيل للتشكيك برسول الله و لا لاتهام عجز الاسلام و نقصانه! ...
3) نتعلم من هذه الحادثة أيضاً انه ليس تمة علاقة عكسية تلازمية بين الايمان بالوحي (الاسلام) و بين النجاح و الفلاح في الشؤون الدنيوية المتعلقة بالعقل و التجربة! ... اي كون إنسان أو أمة اعتنقوا الاسلام لا يعني انه سيترتب عن ذلك، على وجه التلازم، الهداية لفهم الامور الدنيوية و الكونية و الخَلْقِية، و النجاح في هذا المجال من الحياة الغير خاضع لتنظيمٍ و أحكامٍ من الوحي، اي المجال الخاضع لأحكام التجارب و التفكير في المادة و البحث فيها و الأخذ بالأسباب لاستخراج ما ينفع منها الناس الخ ... ! ...
و العكس كذلك صحيح، اي الأخذ بالأسباب لفهم الامور الغير خاضعة لأحكام الوحي و إنما لأحكام العقل و التجربة، و الفلاح في استخراج اكبر منفعة منها للبشر، النجاح في هذا المجال و الرقي فيه لا يعني انه سيترتب عليه، على وجه التلازم، الهداية للاسلام و الايمان به! ....
صحيح أن الاسلام يحفز معتنقيه على الأخذ بالأسباب و الاجتهاد و الكد في الحياة للنجاح في تحقيق قوة و رقي في مجالات الزراعة و الصناعة و التطبيب و التسليح الخ ...، إلا أن أدوات إدراك هذا الجانب من شؤون الحياة هي أدوات بشرية، من صنع البشر، تنتج عن طريق التجربة و البحث العلمي في المادة و المخلوقات، ...
فمن فَكَّر مثلا في انتاج آلة تمكنه من الطيران أو دواء يعالجه من مرض معين، فلا يجوز له الالتجاء الى القرآن أو السنة ليبحث عن مقادير و مخططات تلك المنتوجات ليصنعها، .... و من أراد فهم حركة الارض و الأجرام السماوية الخ ... فلا يلجأ لنصوص الوحي لتعطيه حسابات رياضية و فيزيائية لكيفية حركة الكواكب و سرعتها الخ.. ! ...
و بالتالي و لو حفز الاسلام للأخذ بالأسباب في المجالات الدنيوية إلا أن المعلومات و المعرفة اللازمة لإدراك حقيقة المادة و المخلوقات (الناحية الملموسة من المخلوقات) لم يأتي بها الوحي و إنما تركها الله للبشر لِيُنْتِج هو بنفسه هذه المعرفة و المعلومات بالبحث و التجربة و التفكير و التدبر ...
و كذلك شؤون الحياة التي نزل الوحي لينظمها لا يُرْجَعُ فيها إلى الأبحاث و التجارب البشرية و ما نتج عنها من علوم ليُحَلِّل فيها و يحرم، إذ المعرفة و المعلومات الخاصة بهذا الجانب من الحياة تؤخذ من الوحي و من العلوم و الاجتهادات المنبثقة من الوحي! ...
صحيح أنه يُستعان أحيانا بالعلوم التجريبية في مجال التشريع المستنبط من الوحي، إلا أن هذه الاستعانة لا تتجاوز مجال فَهْمِ الواقع الذي يبحث فيه الشرع لمعرفة مناط الحكم، لكن الحكم على الواقع من حيث كونه حلالا أو حراما يكون للشرع، يكون للوحي و ليس للعقل! ...
فمثلا لو اتهم شخص زوجته بالزنا و أن حَمْلَها ليس منه، فيمكن للقاضي الاستعانة بالطب الشرعي لتحديد نسبة الجنين أو الطفل البيولوجية، إلا أن نتائج البحث البيولوجي المعتمِد على مقارنة خارطة الطفل الجينية مع خارطة الأب المدعي يمكن استعمالها كأداة ضغط على الزوجة المتهمة بالزنا لتعترف، لكن إثبات الزنا على الزوجة لا يتحقق بنتائج البحث الطبي، بل يخضع للنص الشرعي الذي لا يُثبِتُ تهمة الزنا بحق شخص إلا إذا اعترف المتهم أو عند شهادة عين لأربعة أشخاص! كما أن أبوة الزوج للطفل من زوجته لا تسقط بسبب النتائج الطبية التي أثبتت عدم أبوته البيولوجية، لقول الرسول: "الولد للفراش و للعاهر الحجر"(رواه البخاري ومسلم)!
إذاً الاحكام الشرعية و علتها لا يحددها العقل و لا العلوم التجريبية، و إنما يحددها الله في نصوص القرآن و السنة، و يستنبطها العلماء و المجتهدون من هذه النصوص! .... و الاستعانة بالعلوم التجريبية و متعلقاتها يكون من باب فهم الواقع فهما صحيحا لإنزال الحكم الشرعي على مناطه المناسب!
بل الشرع المنبثق من الوحي هو الذي يضع ضوابط للأبحاث العقلية و التجريبية. فمثلا الشرع هو الذي يحدد هل يجوز إجراء تجارب على الحيوانات، و تحت اي شروط، ... و الشرع هو الذي يحدد أَيًّا من نتائج العلوم التجريبية يجوز استعمالها، .... فليس كل ما هو ممكن عقلا و تجريبيا يجوز فعله! ...
و كون الوحي هو الذي يضع ضوابط للعقل و للعلوم الدنيوية و ليس العكس، نابع من كون الوحي عِلْمٌ من الله الذي لا حد لعلمه و لا حقيقة فوق حقيقته، لكن العلوم البشرية نتاج عقل محدود لبشر محدود، .... و يستحيل أن يكون النسبي المحدود (و هو البشر) حَكَماً على المطلق اللامحدود (و هو الله)! ...
فمثلا الأبحاث المتعلقة بالجينات و الخلايا الجذعية أفرزت انه بالإمكان استنساخ حيوان من جنسه، دون المرور عبر عملية اللقاح، فيكون للمولود والد واحد، و يكون من الناحية الجينية صورة طبق الاصل للوالد المانح للنواة الام! ...... فكون عملية الاستنساخ ممكنة نسبيا (لا نريد هنا نقاش خطورة المشاكل الصحية و الامراض التي تعرضت لها الحيوانات المستنسخة و لا نسبة نجاح عملية الاستنساخ)، فهل يجوز استعمالها لتمكين الناس من الإنجاب؟ و هل يجوز استعمالها في تربية المواشي لإنتاج اللحوم للأكل؟ .... الذي يحدد الجواز من عدمه هنا هو الشرع و ليس العقل و الأبحاث العلمية.
و هناك نظرة قاصرة و سطحية و خاطئة عند الكثير من الناس حين يتحدثون عن العلوم الشرعية و العلوم التجريبية، فيظنون أن الالتزام بالشرع يعني عدم استخدام العقل و عدم استعمال التفكير و التدبر، و يربطون العقل و الذكاء بالعلوم التجريبية فقط! و هذه نظرة تعبر عن جهلٍ مركب، فالحقيقة البديهية التي يدركها الانسان العاقل هو أن العقل أداة لفهم واقعٍ أو إدراك حقيقة أو استوعاب نص من النصوص الخ...، و هذا ينطبق على الأبحاث الشرعية كما ينطبق على الأبحاث التجريبية على حد السواء! فكلاهما يتعامل مع نصوص و وقائع و يحاول فهمها و إدراكها و إصدار حكم بخصوصها و استنباط احكام منها .... بل نذهب للقول بان الاجتهاد، و خصوصا الاجتهاد المطلق، و الذي يستنبط عن طريقه العالم أو الفقيه الاحكام الشرعية المتعلقة بتنظيم أفعال العباد و تبيان حكم الله في المستجد من الامور، يعتبر أرقى و أعظم جهد عقلي و ذهني يستطيع الانسان القيام به، و يحتاج الى عملية ربط جد دقيقة للمعلومات، و لا يقدر عليه إلا ذو فطنةٍ و ذكاء و إلمام بعلوم شتى، ...
فوجب على المسلمين ألا يخلطوا بين ما مرده لله و رسوله، و ما مرده لتجارب البشر و الأخذ بالأسباب، و ذلك امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه و سلم: "إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ ، وَإِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ"!
فللأسف الكثير من المسلمين انبهروا بالتقدم المادي الذي وصل له الغرب، و بدلا من أن يكون هذا حافزا لهم للأخذ بالأسباب لمواكبة تطور البشرية و تحقيق تقدم في مجالات الصناعة و الفلاحة و الطب و غيرها ...، تجدهم يستعملون تقدم الغرب حجة للطعن في الاسلام و لرفض شرع الله، و للأخذ بتشريعات الغرب، ... لكن الشيئ الذي كان عليهم أخذه من الغرب كالصناعات المختلفة و علوم الكومبيوتر و الطب و البيولوجيا و غزو الفضاء ... الخ، تجدهم هملوه و لم يعنوا انفسهم لتعلمه و استعماله في المجالات الخاصة به في الحياة، ! ... ...
...