المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بين العقل و الظن


فارووق
2015-04-11, 05:27 PM
بين العقل و الظن


من بين النِّعَمِ التي وَهَبَها الله سبحانه و تعالى ذِكْرُه للإنسان نعمتان إذا أحسن توظيفهما قاداه الى الطمأنينة في الدنيا و الخلود في جنة النعيم في الآخرة، و إن أخفق التصرف بهما كانا سبباً لِشقائه في الدنيا و مآله الى نار جهنم في الآخرة، و هاتان النعمتان هما القوة و العقل.

سنرجئ الحديث عن القوة، و التي نعني بها قوة البدن أو السلطان أو المال، الى مقال آخر إن شاء الله، و سنتكلم هنا عن نعمة العقل.

العقل هو إدراك حقيقة واقعٍ ملموسٍ يلمسه الانسان بأحد حواسه الخمس. و إدراك الحقيقة لا يتم إلا بتوفر معلومات لدى الانسان يربطها بالواقع الملموس ربطا صحيحا فيتمكن من تفسيره و فهم حقيقته. و عملية الربط بين الواقع الملموس و المعلومات هي ما نسميه التفكير. فالعقل هو التفكير بواقعٍ لإدراك حقيقته.


إذن الوصول الى حقيقة الشيئ يتطلب القدرة على الإحساس به و لمسه، و توفر معلومات متعلقة بهذا الشيء و محيطة حوله، ثم ربطها به رَبْطاً صحيحا عبر التفكير و التدبر. و قد يسأل سائل أين هو مَوْضِعُ الدماغ من هذا كله، فنقول أن الدماغ هو عُضْوٌ من الجسم تتم فيه عملية الربط بين المعلومات و الواقع المحسوس المنقول إليه عبر الحواس الخمس. فالدماغ ليس العقل و لا التفكير و إنما أداة يستعملها العقل، كما أن الأنف ليس هو الشم و لكنه عضو مهم يُستعمل في عملية الشم، و نفس الشيئ ينطبق على العين و البصر، و الجلد و الحس، و اللسان و الذوق، و اللسان و الكلام، و الأُذنِ و السمع ...

من هذا التعريف للعقل ندرك أهمية وجود المعلومات لإمكانية حدوث تفكير. و قد يتسائل متسائل كيف كان شأن الانسان الاول في هذا الكون، هل وُجِدت المعلومات عنده قبل الفكر أو الفكر قبل المعلومات! ...

من التعريف للعقل الذي ذكرناه نستنج أنه لابد من وجود معلومات أولية أساسية لدى أول إنسان منذ بدايته لكي تتم عملية التفكير و ينتج شيئ إسمه عقل و فكر. فالتفكير و المعلومات متلازمين، فيستحيل وجود واحد دون الآخر أو واحد قبل الآخر، إذ يستحيل وجود فكر من فراغ، اي دون معلومات، .... كما أن وجود معلومات دون تفكير، اي عملية ربط المعلومات بواقع محسوس، لا تُنتج فكر أبدًا ! ...
و إذا كان الامر كذلك، فَمِنْ أين لأول إنسان (آدم) بالمعلومات؟ الجواب على ذلك اخبرنا به الله، خالق الانسان، حيث قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}(سورة البقرة)، و يقول سبحانه: {خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}(سورة الرحمن)، ينقل الطبري في تفسيره عن ابن عباس في قول الله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، قال: علمه اسم كل شيء حتى الهَنة والهُنَيَّة والفسوة والضرطة. و يقول الطبري في {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أن الله علَّم الإنسان ما به الحاجة إليه من أمر دينه ودنياه من الحلال والحرام، والمعايش والمنطق، وغير ذلك مما به الحاجة إليه، لأن الله جلّ ثناؤه لم يخصص بخبره ذلك، أنه علَّمه من البيان بعضا دون بعض، بل عمّ فقال: علَّمه البيان، فهو كما عمّ جلّ ثناؤه (انتهى الاقتباس من الطبري).

و لذلك فنظرية الغرب بأن الانسان كان جاهلا بدائيا لا يفقه شيئا فَعَلَّم نفسه بنفسه عبر تجارب مئات آلاف السنين، كَوَّن عن طريقها معلومات و تَعَلَّم اللغة و الكلام الخ ...، هذه نظرية هُراء لا يقبلها العقل.
فخذ مثلا رضيعا سليما عضويا و جسميا 100٪، دماغه و كل حواسه سليمة، و ضَعْهُ في مكان منعزل انعزالاً تاماًّ عن الناس، لا يتلقى أَيَّة معلومات منهم، و يُكْتَفي بإطعامه في صمت في أوقات محدودة محددة ثم يُترك لحاله (دون الكلام معه بأية كلمة)، ... و انظر الى هذا الانسان و هو يكبر و يترعرع هل لسانه و استقامة هيئة جسمه و دماغه و عموده الفقري الخ...، هل هذه الاعضاء لوحدها ستنتج عنده عقلا و فكرا و عِلْمًا و قدرة على النطق و الحديث و الكلام، ... بل هل سيستطيع الحياة و التناسل و الحفاظ على النوع البشري!؟...

فالمادة لوحدها لا، و لم، و لن تنتج مخلوقا مفكرا مُتَكلِّماً، عاقلا، ... فجسم الإنسان، من دماغ و لسان و أعين الخ...، مادة فقط ، و هذه المادة ليست هي مصدر العلم و المعلومات و لا النطق بكلام مرتب ذي معنى، فأعضاء الجسم وسائل و ليست سَببًا و لا أصلا للكلام و لا العلم و لا التفكير، ... فكَوْن الانسان له لسان و فم و دماغ الخ، لا يعني انه يمكنه بهذه الأعضاء كلها الحياة أصلا! .... و إنما قدرته على التمييز و المعرفة و البحث، اي قدرته على التفكير، لم تكن ممكنة إلا بمنح الله الانسان شيئا مهما و أساسيا و جوهريا، و هو العلم {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}(سورة البقرة)، {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(سورة الرحمن)، و هذا العلم مستقل عن جسم الانسان و ذاته، اي ليس نابعا منه و إنما نابع من الله، ....

هكذا انطلق الانسان في الحياة و هكذا فقط كان بإمكانه الوجود، و ذلك بمنح الله الانسان العقل: معلومات و دماغ و حواس و القدرة على الربط بين المعلومات و الواقع المحسوس لمعرفة ماهية الواقع! و بفضل تلك المعلومات الأولية الاساسية التي منحها الله للإنسان، و بفضل منح الله الانسان القدرة على ربط المعلومات بالواقع الملموس، بدأ الانسان ينتج معلومات جديدة انطلاقا من تلك المعلومات الأولية الاساسية الضرورية، و ذلك عبر عملية التفكير و التدبر! ...

فالمعرفة و العلم اللذان وصلت لهما البشرية بتسلسل منذ بداية آدم و إلى يومنا هذا لم تأتي من الصفر، من العدم، لكن من تلك المعلومات الأولية الاساسية، الضرورية للوجود، التي علَّمَها الله مباشرة لآدم، و علمها آدم بدوره لنسله، و هكذا دواليك و الى يوم الدين، يتعلم كل جيل جديد من البشر عن الجيل الذي قبله، ثم يبني على تلك المعلومات الموروثة و يتوسع فيها و ينقحها لِيُنتج معلومات جديدة يفسر بها أمورا و تفاصيل جديدة من الحياة و الكون، ....

إذاً أصل المعرفة و العلم هو الله، و بالتالي فالإنسان مرتبط بالله ليس كونه خلقه فقط، بل كذلك كونه عَلَّمه {خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(سورة الرحمن)، .... و كما أن الانسان في حاجة مستمرة لخالق بَدَنِه و حواسِّه ليحفظهم له و يديم نعمتهم عليه و يرزقه ...، كذلك هو في حاجة دائمة لله ليلهمه العلم و المعرفة و الهداية الى التفكير الصائب، فما دام الانسان مخلوقا فهو بداهة في حاجة دائمة لخالقه، لأن كل وجوده و صيرورته مرتبطة بالذي خلقه، و متى حاول الانسان الانفصال عن الذي خلقه فَقَدَ توازنه و ضَيَّعَ سر وجوده و فسد حاله! ...

و العقل، كما ذكرنا بداية، هو إدراك حقيقة واقعٍ ملموسٍ يلمسه الانسان بأحد حواسه الخمس. و إدراك الحقيقة لا يتم إلا بتوفر معلومات لدى الانسان يربطها بالواقع الملموس ربطا صحيحا.
فالتوصل الى حقيقة الشيء أو الواقع، اي الحكم عليه حكما صحيحا، يحتاج الى معلومات صحيحة متعلقة بالواقع و محيطة به أو حوله، كما يحتاج الى ربط صحيح و دقيق بين المعلومات و الواقع الملموس!

فيما يخص المعلومات فصحتها تكمن في مصداقية مصدرها و في كيفية تكوينها، و تَوَفُّر المعلومات يتعلق بمدى قدرة الإنسان الحصول عليها ابتداءً، و مدى قدرته انطلاقا من المعلومات الاولى و الأولية لديه، ابتكار معلومات جديدة صحيحة.
لكن وجود معلومات صحيحة و سليمة لا يكفي لإصدار حكم سليم و التوصل الى حقيقةِ الواقع الملموس، بل لابد من ربط صحيح و دقيق بين المعلومات و الواقع!

و قدرة الانسان على الربط الصحيح و الدقيق بين المعلومات و الواقع متعلقة بتأثيرات و عوامل كثيرة جداً، عوامل مرتبطة بطبيعة الانسان و كيفية تأثير محيطه عليه و على عملية التفكير عنده.

و اهم هذه العوامل هي الشهوات، فالإنسان له غرائز تحركه و يسعى دائماً لإشباعها، و نذكر من بين مظاهر تلك الغرائز، على سبيل المثال لا الحصر، حب السلطة و السيادة، حب النساء، حب الأولاد، حب المال، حب التملك، حب الحياة، حب الرفاهية، حب الشهرة، حب المجد و العظمة، ... الخوف من المرض و الموت، كراهية ما يؤذيه جسديا و مشاعريا، الخوف ممن هو اقوى منه الخ ....

كما أن من بين العوامل التي تأثر على تفكير الانسان هي الشبهات، فهناك آراء و أفكار سائدة في المحيط و العالم الذي يعيشه فيه، فتجد الانسان كثيراً ما يحاول ملائمة تفكيره و فهمه للواقع حسب ما ترتضيه الغالبية من الناس أو حسب ما يرضي الأقوياء من الشعوب و الدول، ... و ذلك تجنبا لأذاهم أو طلبا لرضاهم و حبا للتشبه بهم من أجل نيل شرف مقامهم و سمعتهم، ... الى غير ذلك من اسباب كثيرة تدفع الانسان للتمسك بالشبهات بدلا من الحقيقة ...

و حتى نقرب ما نعنيه بتأثير الواقع على تفكير الناس و أفكارهم، خذ مثلا نظرية تطور خلق الانسان من حيوان بسيط الى انسان بالهيئة التي هو عليها اليوم، نظرية تبناها الغرب و قرر على انها حقيقة لا جدال فيها، ليس لانه جاء بأدلة تثبت صحة النظرية، لكن لانه ارتأى -اي الغرب- و ظن أن فيها تفسيرا لوجوده و لكيفية وجوده، لا يحتاج فيها الى الله، أو على الاقل حاجة الله كانت لخلق "المادة الاولى الخام" فقط، فاستقلت المادة بعد ذلك عن خالقها و تطورت حسب قوانين ذاتية مستقله عن الله لِتُنتِج الانسان بعد ملايير السنين، و بالتالي و إذا كانت الكائنات الحية و الانسان و الكون لم يكونوا اصلا بحاجة لله في عملية تطورهم و علوهم، فالأولى أنه لا حاجة للإنسان الى الله لينظم حياته و يبين له الحق من الباطل و الصواب من الخطأ ! ... فبنى الغرب نظرية التطور على شبهات و توصل الى شبهات، ليفصل نفسه عن خالقه، ليفصل حياته عن الله!...
أقول فهذه النظرية، نظرية تطور خلق الانسان من حيوان بسيط الى انسان بالهيئة التي هو عليها اليوم، تبناها الكثير من الناس، حتى المسلمين منهم، لأن النظرية موضة من موضات العصر، تبنيها يجعلك أمام العالم إنسانا متحضرا متمدنا مثقفا متفتحا مسموع الصيت مُقَرَّبًا لأصحاب السلطان و الراي في العالم، ... و الموضة و مقياس التحضر و المدنية و الرقي قلما يحددها الحق و لكن يحددها القوي، تحددها الامم القوية و تفرضها على العالم، ... و الانسان، إذا كان ضعيف الراي و الفكر و الشخصية، انقاد لإرادة القوي و سعى دائماً لإرضائه و تجنب التصادم معه و مع أفكاره، ...
هكذا تتكون الأفكار عند مثل هذا الصنف من الناس، يتبنون أفكاراً ليس لانها بُنِيت على معلومات صحيحة و لا لأنها نتجت عن طريق ربط سليم بين الواقع و المعلومات، و لكن لدوافع ذاتية و خارجية دفعت الانسان للتدليس و لقبول التدليس و الشبهات حتى يصل الى نتيجة كان يسعى اليها ابتداءً لإرضاء هوى غيره قبل هوى نفسه، ... فعملية التفكير هنا ليست للوصول الى الحقيقة كما هي، و لكن لإقرار شبهةٍ و ميولٍ و هوى استقر في النفس! ...

إذًا الانسان له مصالح و شهوات يريد قضاءها و إشباعها، و هو يعيش في محيط يأثر على نوعية المعلومات التي يحصل عليها و يأثر على طريقة تفكيره، اي طريقة ربطه للمعلومات -إن صحت المعلومات- بالواقع، و بالتالي يأثر على الفكر و الحكم الذي يصدره المفكر على الواقع الملموس! ...

فكانت من رحمة الله بالإنسان و تكريمه له، ليس فقط أنه زوده عند خلق آدم بالمعلومات الأولية الاساسية لتمكين الانسان من القدرة على الوجود و الحياةِ حياةً كريمة، و لكن من رحمته سبحانه بنا و فضله علينا و تكريمه لنا أنه استمر في منحنا معلومات و عِلْمٍ من حين الى آخر، و تصويبه لطريقة تفكيرنا و حكمنا على الواقع، و تزويدنا بالهِمَّة و الحِكْمة للقدرة على الوقوف سدا أمام تأثير المحيط على عقولنا، و القدرة على التجرد من الشهوات و الضغوطات حين نفكر و نبحث في واقع لنحكم عليه، فزودنا بما نحتاج اليه من العلم ليكون هو مصدر أفكارنا و حكمنا، .... فكلما اشتد ضلال الناس و جهلهم و ظلمهم لأنفسهم و لغيرهم، بعث الله الانبياء و الرسل ليعلموا الانسان ما لم يعلم أو ما نسيه من علم، و ليعيدوا الناس الى التفكير السليم على أساس معلومات سليمة و علم حق {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)}(سورة الجمعة)،...
و قضى الله بعد بعثة آخر نبي، محمد عليه أفضل الصلوات و أزكى السلام، أن يبعث في الناس من حين لآخر أناساً يفقهوا علم الله المرسل لآخر نبيه، القرآن و السنة، ليجددوا عهد الناس بالعلم الرباني فيحيوا من جديد ما تناساه الناس من الوحي و لإزالة و قلع ما تراكم عند الناس من شبهات و تأويلات باطلة و ما فسد من افكار، ... قال صلى الله عليه و سلم "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها"(رواه أبو داود وغيره)، و التجديد لا يعني الإتيان بجديد غير ما ورد في القرآن و السنة، و لا يعني الإتيان بتفسيرات جديدة باطلة للوحي لا علاقة لها بالمعاني الاصلية للنصوص، و لكن التجديد، كما ذكر محمد شمس الحق العظيم آبادي في كتابه "عون المعبود" لشرح سنن ابي داود، هو: "إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة و الأمر بمقتضاهما، و تبيان السنة من البدعة و إكثار العلم، و نصر أهله و كسر أهل البدعة و ذلهم".

فقد علمنا الله عن طريق وحيه المنقول في القرآن و السنة أن ثمة واقعٍ و أمورٍ يحتاج فيه الانسان لمعلومات من الله ليمكنه الوصول الى حقيقتها عبر ربط المعلومات الإلهية بالواقع المحسوس لدينا. ... فبين لنا الله مثلا أنه ليس بإمكان العقل إدراك حقيقة كيفية إشباع الحاجات التي تحرك شهوتنا و تُنَظَّم على أساسها علاقة الناس، فجاء بأحكام شرعية تنظم علاقة البشر و تنظم كيفية إشباع الشهوات و الحاجات، فجعل البحث في الامور المتعلقة بأفعال العباد يكون مرجعها الى معلوماتٍ من الوحي، من الكتاب و السنة، فمن أراد مثلا الحكم على واقع الخمر هل يجوز تناولها أم لا فانه يرجع الى معلومات من وحي الله ليربطها بواقع الخمر و السكر فيصل الى حكم الله فيها انها حرام، ... و كذلك من أراد البحث في طرق كسب المال و إنفاقه فانه يرجع للوحي ليأخذ منه معلومات عن الطرق التي يجوز كسب المال بها فيصل الى حكم الله أن كسب المال عن طريق الربا مثلا حرام، لكن حلال عن طريق التجارة، .... و ان كسب المال عن طريق التجارة بالخمر و المخدرات حرام لكن كسبه عن طريق التجارة بالخضر و الذهب و الفضة الخ حلال، ...

ثم جاء شرع الله ليبين لنا ان ثمة أمور من دنيانا التفكير و البحث فيها يكون على أساس معلوماتٍ يُكَوِّنها الانسان بنفسه عن طريق التجربة و لا يرجع فيها الى الوحي، فالتفكير مثلا في رفع كمية و جودة ثمار الشجر أو حليب البقر أو لحم المواشي يُرْجَعُ فيه الى معلومات يكونها البشر عبر التجربة، .... و كذلك التفكير في رفع جودة التطبيب و علاج الامراض و تيسير حركة الانسان عبر وسائل النقل المختلفة يرجع فيها الانسان الى معلومات يكونها بنفسه عبر البحث و التجربة، ....

فعملية التفكير واحدة، لكن الاختلاف يكون في نوع الواقع الذي يبحث و يفكر فيه، و في نوع المعلومات و مصدرها التي يرجع اليها للبحث في الواقع، فثمة واقعٍ يرجع الانسان عند التفكر فيه الى معلومات ليست من الواقع و لكن من رب العالمين، من وحي القرآن و السنة، و ثمة واقعٍ آخر يرجع فيه الانسان الى معلومات من الواقع نفسه يكونها الانسان عبر إخضاع الواقع للتجربة و الفحص و التحليل! ....


استنادا للذي تقدم، هل كل الآراء تُعتبر فكرا و عقلاً و تُحترم؟

ذكرنا ان العقل هو إدراك حقيقة الواقع، و أن إدراك الحقيقة لا يتم إلا بتوفر معلومات صحيحة لدى الانسان يربطها بالواقع الملموس ربطا صحيحا.
إذاً الحكم على الآراء متعلق بطريقة التوصل إليها، فإذا انطلق الباحث من فهمٍ صحيح للواقع الذي يبحث فيه، ثم أدرك نوع المعلومات و صحتها التي يمكن ربطها بالواقع، فانه يهتدي الى فكر.
لكن إذا انطلق الباحث من وصف خاطئ للواقع، أو أنزل معلومات خاطئة أو غير منطبقة على الواقع، أو حَرَّفَ مفهوم المعلومات، فإنه سيتوصل الى اراء فاسدة باطلة، يتوصل الى ظن و ليس عقل و فكر.

و سنعطي بعض الأمثلة لتوضيح الأمر:
1) خذ مثلا الديمقراطية، فقد ينطلق البعض من فهم خاطئ للديمقراطية، عن جهالة أو تعمد، فيقول انها تعني حرية اختيار الشعب لحكامه، و بالتالي فهو سيُجيز الديمقراطية و سيقول انها من الاسلام، لان الاسلام أمر باختيار الحاكم عن طريق الشورى! لكن هذا الراي لا يعتبر فكراً بل هو ظن لا قيمة له و مرفوض لانه انطلق من فهم خاطئ لواقع الديمقراطية! فالديمقراطية معناها الاصلي و الاساسي هو وضع الشعب للقوانين، اي حق الشعب في التشريع! ... و بالتالي، و انطلاقا من هذا الفهم الصحيح للديمقراطية يتوصل المسلم الى أن الديمقراطية حرام، لان التشريع في الاسلام لله!

2) و خذ مثلا النصوص القطعية الدلالة في القرآن و السنة، فقد ياتي البعض و يجعلها محل اجتهاد و تأويل، فيعمد الى كلمات و ألفاظ النصوص القطعية الدلالة ليستخرج منها معاني جديدة مستندا لطرق فلسفية جدلية في التعامل مع الكلام أو معللا أن دلالات النصوص الشرعية يجب ان تُراعى فيها الظروف التاريخية و الاجتماعية التي أنزلت فيها، قيقول مثلا أن قطع يد السارق تعني سجنه، أو يقول بوجوب تساوي قسمة الرجل و المراة في الميراث، أو استبدال كثير من الحدود الى عقوبات بالسجن أو غرامة مالية الخ! ....
فآراء من هذا النوع ليست فكراً و لا عقلا، و لا ينبهر بها إلا مراهقي العقول الذين يفرحون لكل تمرد، كما يتحمس المراهق و يميل للعصيان ضد كل سلطةٍ!
فهذه الآراء التي تجتهد في النصوص القطعية الدلالة باطلة و هي ليست عقلا و لا حكمة بل ظن و هوى!
و إن أخطر الظنون هي التي تعتمد على تحريف معاني الكلمات، فهذا التحريف الذي يظنه اهل الهوى فكرا و تجديدا، هو في الحقيقة كذب و تزييف و مكر، فحياة الانسان لا تستقيم إلا عن طريق التواصل بكلمات و جمل يفهم العوام معناها، لذلك حدد الله أسماء الاشياء و المخلوقات و الافعال منذ بداية خلق الانسان حتى تكون له -اي للبشر- لغة واضحة للتواصل فيما بينهم و ليتواصل الله معهم بكلام يفهمون معانيه، فقد قال الله {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}(سورة البقرة)، و قال سبحانه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(سورة يوسف)، و قال {خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(سورة الرحمن)، فأي بيانٍ بقي لِلُغةٍ إذا اصبح كل شخص يعطي معنى جديد لكلماتها؟ و اي اسماء ستبقى و اي أشياء و افعال ستُعْرَف إذا غَيَّر كل شخص مدلولات الاسماء و أعطى اسماءً جديدة للاشياء و الافعال؟ ...
ستنشأ تكتلات بشرية يبحث فيها كُلُّ شَنٍّ على طَبَقَتِه لتفهم ألغاز كلماته! ...
فالآراء التي تنتج على أساس تحريف معنى الكلمات، هذه ليست ظنون فقط، بل لعب أطفال، و لا ينبهر بها إلا الاطفال و اصحاب القلوب المريضة ..! ...

فننتهي بالقول انه ليس كل من فكر و تدبر يصل الى الحق أو يريد الوصول الى الحق، و ليس كل رأي نتج عن تفكر و تدبر يُعتبر فكرا و يُحترم، ...
فإبليس فكر و دبر، لكن لِيُغري آدم و حواء لمعصية الله، فانظر الى تفكير إبليس: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}(سورة الأعراف)، .... و ليضل الناس عن الطريق المستقيم {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِين}(سورة سبأ، الآية 20)، يقول الطبري: [... ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) قال الله: ما كان إلا ظنًّا ظنه، والله لا يصدق كاذبًا ولا يكذب صادقًا.]اهـ

و هاهو الوليد بن المغيرة فكر و قدر لكن ليجحد بالحق و ليس ليؤمن به: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18 ) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28 ) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}(سورة المدثر)


فالله علمنا ان نسمي الاشياء بمسمياتها، فلا نسمي الكذب اجتهادًا و لا علما أو فكرا، بل نسميه ظنا و كذبا و جهلا:
{وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28 ) فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ}(سورة النجم، الآية 30)

{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}(سورة الانعام، الاية 116)

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ۗ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون}(سورة يونس، الاية 66)

{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم ۗ مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون}(سورة الزخرف، الاية 20)

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ{(سورة الانعام، الاية 148 )

و كلمة يَخْرُصون أي يحدسون ويكذبون كما قال القرطبي!


و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ"(رواه البخاري و مسلم و غيرهما)
....