المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العقيدة الاسلامية عقيدة سياسية و سيادية


فارووق
2015-05-05, 12:13 PM
العقيدة الاسلامية عقيدة سياسية و سيادية


>>>> العقيدة بين الدليل العقلي و النقلي:
لاشك أن كلمات العقيدة و العقد وردت في القرآن و السنة، فعن زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "لَا يَعْتَقِدُ قَلْبُ مُسْلِمٍ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، .... : إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، وَالنَّصِيحَةُ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ"(سنن الدارمي). و قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)}(سورة النساء)، {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ (89)}(سورة المائدة)، ....

و العقيدةُ لُغَةً من العقد، أي إحكام الربط، و الإبرام، و التوثق، و الشد بقوة، ...

و العقيدة في الأفكار هي التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك، .. فالإنسان يصدقها تصديقا مُحْكما جازماً ثابتاً لا يدخله أدنى ريب، و قلبه يعقد و يربط عليها عقدا و ربطا محكما لا ينحل و لا ينفصم، فالآية تقول مثلا {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا (256)}(سورة البقرة)، .... و المُعْتَقدُ تطمئن إليه النفس اطمئنانا تامًّا {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان (106)}(سورة النحل)، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}(سورة الرعد)، ....

و الافكار التي يرتفع تصديقها الى درجة الاعتقاد، أي اليقين الجازم الذي لا يقبل شكًّا و لا ظنًّا، يجب أن تكون مبنية على أدلة عقلية قطعية جازمة مطابقة للواقع ، أو مبنية على أدلة نقلية مقطوع بصحتها قطعا جازما!

و الأدلة العقلية محلها في الامور التي يستطيع عقل الانسان إدراكها بأحد حواسه و يستطيع تصوره، و في المسائل التي هو مؤهل بطبعه و صفاته أن يصدر فيه حكما، .... أما الأدلة النقلية فمحلها في كل ما لا قدرة البتة لحواس الإنسان لمسَه و إدراكه، و المعروف بالغيبيات، أو في المسائل و الامور التي ليس الانسان مؤهلا بطبعه و صفاته أن يصدر فيها حُكما مُحْكمًا حَكِيمًا صائبا عادلا كالتشريع المتعلق بالتحريم و التحليل، و ذلك لكون الانسان لا يحيط علما بحقيقة غرائزه و لا بالأبعاد المترتبة على طرق إشباعها و تأثيرها على الفرد و المجتمع، و كونه مكبل بشهواته و شبهاته يستحيل معها الحيادية و القدرة على العدل و الإصابة و الحكمة في الحكم بالحلال و الحرام، ... الخ، .... فيُرجعُ في كل هذه الامور و في المسائل الغيبية الى مَنْ بالنسبة له تلك الامور ليست غيبية بل يدركها و يحيط بها علما مطلقا، فتُنْقَلُ عنه -أي عن المحيط بالغيبيات- الاخبار و المعلومات المتعلقة بالغيب! ... و متى وصلت صحة ثبوت الخبر عن عَلاَّم الغيوب درجة اليقين الجازم صار خبر الغيب معتقدا (على الأقل لفظه إن استعصى فهم و تأويل الخبر)، .... و متى كان للخبر مدلولاً و معنى واحد قطعي صار مدلول و مفهوم الخبر عقيدة!

فالأدلة العقلية للوصول الى علم اليقين، اي العقيدة، تكون مثلا عند البحث في هل للكون و الانسان و الحياة خالق أم لا، و هل القرآن من عند الله أم من تأليف بشر، و هل محمد رسول أم لا!

أما الادلة العقلية على وجود خالق فذلك بالبحث في طبيعة ما يلمسه الانسان من آثار وجود الخالق، أي البحث في مخلوقاته، .... فالبحث يَنْصَبُّ و يقتصر على "هل هناك خالق لنا و لكل ما نلمسه في هذه الحياة أم لا"، أما ذات الخالق فلا يمكن لعقل البشر إدراكها و بالتالي لا يجوز البحث فيها لأنها خارجة عن قدرة الانسان و لا يمكن لحواسه لمسها و إدراكها! .... و من اكبر المتاهات و الضلالات التي وقع فيها كثير من الفلاسفة و الملحدون هو أنهم لم يعرفوا حدود العقل و قدراته و بالتالي أخطئوا خطئا مميتا في تحديد لوازم و حدود الدليل العقلي على إثبات وجود الخالق، ... فهناك من يريد إدراك ذات الله (رؤيته مثلا) حتى يؤمن بوجوده، ... و هناك من يريد تطويع إرادة الخالق و مشيئته في خلقه و سنن الحياة لتكون حسب ما يرضيه هو حتى يؤمن بالخالق، فيستنكر مثلا وجود الامراض و البلاء و المصائب في الحياة الخ، .. و عدم استيعابه للحِكَمِ في ذلك يدفعه للتعنت و الجحد بوجود خالق، .... و هناك من يريد إلزام الخالق بصفات المخلوقات كالظن مثلا بأنه إذا كان للإنسان و الكون خالق فمن خلق الخالق، ..... و هناك من يريد إخضاع الخالق لتجارب في المختبر ليثبت وجوده بها، ....
فالأدلة العقلية محدودة و مقتصرة على وجود الخالق و ذلك بالتدبر في آثار وجوده التي لا تعد و لا تحصى، ... {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36)}(الطور)

و الادلة العقلية على أن القرآن ليس من كلام البشر فيكون بالتدبر في أسلوبه و تركيبة كلامه و بلاغة لغته، و ليس بالحكم على مضمونه إذا وافق الهوى تقبله الانسان و إذا عارض المصالح استنكر أن يكون هذا كلام الله! ... اي البحث يكون منصب على ثبوت القرآن عن الله أم لا و ليس عن محتوى القرآن من أحكام و أوامر و اخبار الخ! ... و الكلام الذي هو من تأليف البشر، شعراً و أدباً و قصصاً الخ ..، كله -و منذ آلاف السنين و الى يومنا هذا- بين يدي البشرية، فكل ذي لب يعلم بالمقارنة بين مؤلفات البشرية و بين القرآن أن كلام القرآن فيه نغمة و تركيبة و بلاغة لا توجد في اي مخطوط و كلام بشري على الاطلاق، ... بل و حتى كل من حاول تقليد اسلوب القرآن و الإتيان بكلام يشبهه فشلوا و انقلبوا خائبين خاسرين، فانظر مثلا الى بعض كلام مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة و حاول الإتيان بكلام يشبه القرآن الذي أُنزل على محمد، حيث قال مسيلمة مثلا: "والشمس و ضحاها، في ضوءها و مجلاها. و الليل إذا عدّاها، يطلبها ليغشاها، أدركها حتى أتاها، و اطفأ نورها فحماها" ، ... و قارن كلام مسيلمة هذا بكلام الله الاصلي: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}(سورة الشمس)، .... فالأول كلام بشر و الثاني كلام خالق البشر!

و أما الادلة على نبوة محمد، فكونه أوتِي كلاماً (القرآن) ليس و لا يمكن أن يكون من كلام البشر بما فيهم محمد نفسه صلى الله عليه و سلم، و قد كان الناس يعلمون حال محمد و حال لسانه قبل بعثته نبيا، و فجأة يخاطبهم محمد بكلام ذي تركيبة و بلاغة و اسلوب لم يعهده أحد من قبل و لا من بعد، و محمد يقول لهم هذا كلام ربي، كلام خالقكم، .... و لما أُقِيمت الحجة بالدليل العقلي على أن القرآن ليس بكلام بشر، بل و فيه تحدي لكل البشر {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)}(يونس)، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14)}(هود)، ... لما كانت الحجة بالدليل العقلي القطعي على أن القرآن ليس بكلام بشر كان هذا دليل قطعي على أن الذي جاء بالقرآن يجب أن يكون نبيا، و هذا أهم و اكبر دليل عقلي على نبوة محمد و كونه أوحِيَ إليه كلامٌ من الله!

أما الادلة النقلية فتكون مثلا في الايمان بالملائكة و الكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن، و في الايمان بالجنة و النار و البعث الخ، فهذه كلها أمور غيبية لا يدركها عقل الانسان و لا تلمسها حواسه فلا يستطيع الإتيان بأدلة عقلية للحكم عليها بل تكون الادلة عليها مما ننقله من وحي الله، قرآناً و سُنَّةً! ... و ما دام ثبت بالأدلة العقلية القطعية أن القرآن من عند الله و أن محمد رسول الله فكل ما ورد في القرآن و كل ما ورد في الاحاديث النبوية التي يُجزم في ثبوتها عن الرسول، كله يصدق تصديقا يقينيا، أي يعتقد فيه!

هذا، بطريقة مختصرة، هو مطلب و مَكْمَن الأدلة العقلية للوصول الى علم اليقين بأن للكون و الانسان و الحياة خالق، و أن القرآن من عند الله، و أن محمدا رسول الله! .... و هذا هو المقصود بأن العقيدة الاسلامية عقيدة عقلية، إذ بالعقل يتوصل الانسان -إذا هداه الله و رأى فيه إرادة حقيقية للرغبة في التعرف على الخالق و التسليم له- .. يتوصل بالعقل الى الايمان بوجود خالق و بأن القرآن كلام الله و محمد رسول الله! .... و ليس المقصود بأن العقيدة الاسلامية عقيدة عقلية أنه وجب إخضاع شريعة الله للعقل فما وافق هوانا قبلناه و ما خالفه رددناه أو بحثنا له على تأويلات توافق العقل، .... و ليس معناها أن شريعة الله لا تتناقض مع العقل و توافقه في كل شيئ، كما يدعي البعض، و كأن الاسلام جاء فقط لِيُقِرَّ أحكام العقل على الاشياء و الأفعال، ... لا أبدا ليس هذا بالإسلام، و لو كان الامر كذلك لما رأينا الأحكام و الآراء العقلية المتناقضة للبشر في المسألة الواحدة! .... فالإسلام هو المقياس الذي يُحتكم اليه و ليس بالذي يُحاكم {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا (114)}(الأنعام)، فقد يرى عقلُ فلانٍ أن هذا الحكم الشرعي أو ذاك ينسجم مع عقله و منطقه، و قد لا يتحقق هذا الانسجام مع عقل انسان آخر، ... إلا أن كلاهما، إذا كانا مُسَلِّمِين لله، يخضعان للحكم الشرعي و يوطدوا النفس على طاعته و الالتزام به! ... فالعقول ليست حَكَمًا و لا مرجعا للتشريع و لكنها وسيلة لاستنباط شرع الله و فهمه ليس إلاَّ، ....


>>>> العقيدة الاسلامية عقيدة سيادية:
فمتى أدرك الانسان بالعقل أن له خالق خلقه و أن القرآن من عند الله و محمد رسول الله، متى تحقق هذا وجب أن يترتب عليه التسليم الكامل لله بدون اي شرط أو قيد، لأن هذا هو مراد الله و مضمون رسالته التي جاء بها رسوله محمد عليه الصلاة و السلام! و من أقر بوجود خالق، بل و أقر أيضاً بمحمد رسولا، لكن لم يقر بوجوب الامتثال لكل أوامر الله و رسوله فإنه لا نصيب له من الايمان بل و لا نصيب له من الاسلام، فالعقيدة الاسلامية عقيدة سيادية أي انها تطلب من معتنقيها الانقياد و الخضوع التام لأوامر الله و نواهيه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ، فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ (85)}(البقرة)، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36)}(الاحزاب)، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}(النور)، {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23)}(الجن)، وقال : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14)}(النساء)، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ (64)}(النساء)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (59)}(النساء)، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}(النساء) ، ... و عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ"(صحيح البخاري)، ....

فالعقيدة الاسلامية لا تقبل أن يكون غيرها -كائنا من كان- هو الآمر و الناهي (اي المُشَرِّع)، بل الآمر و الناهي هو الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (40)}(يوسف)، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}(الأعراف)، ... فالله هو صاحب السيادة المطلقة على كل شؤون الحياة {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (89)}(النحل) ، {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ (38)}(الأنعام)، .... و في الحديث عن سَلْمَان لما قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، فَقَالَ: "أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ"(صحيح مسلم).

و الطبيعة السيادية للعقيدة الاسلامية تتجلى ليس في الأمر و النهي، أي الحلال و الحرام الذي تحدده الشريعة المنبثقة عنها فحسب، بل كذلك - و الأهم - أنها تتجلى في الأساليب و الطرق و المقومات التي بدونها لا يمكن تطبيق الحلال و الحرام، ... التي بدونها لا يمكن للعقيدة الاسلامية أن تسود و تحكم، فكانت من مقومات و طرق تمكين العقيدة الاسلامية من السيادة:

1) إقامة دولةٍ ذي سلطان يكون ولائها لله و رسوله وحدهما، فتكون كل قوانينها منبثقة من العقيدة الاسلامية لا غير، فما فرضه الاسلام تفرضه و ما حرمه الاسلام تحرمه و ما أباحه الاسلام تبيحه! {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}(الحج).
و دولة الاسلام هاته يجب أن تستند على قوة ذاتية للمسلمين و من المسلمين و بالمسلمين لا غير، فيجب عليها أن تصنع بنفسها سلاحها و كل ما تحتاجه من بضائع و آلات و خدمات الخ ... فالله يقول {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ(60)}(الأنفال)، فجاء لفظ "القُوَّةٍ" في الآية عاما ليشمل القوة و القدرة في كل ما هو ضروري في شتى مجالات الحياة الاقتصادية و الصناعية و العسكرية التي بها تتحقق الهيبة و القوة للدولة ترهب بها دول العالم فلا يتجرؤون على المساس ببلاد المسلمين! ... فلا يجوز لدولة العقيدة الاسلامية أن يكون أمانها و أمنُ رعاياها و لا قراراتها و سياساتها -سواء الداخلية أو الخارجية- لا يجوز لكل هذا أن يكون مرتبطا بالكفار و متعلقا بهم، ... فلا يكون لدولة الاسلام سلطان و بالتالي لا تكون سيادةٌ للعقيدة الاسلامية و شريعتها إلا إذا كان للمسلمين دولة مستقلة في قراراتها و مواقفها و قوانينها و تشريعاتها عن كل دول العالم كيفما كان حجم تلك الدول و كيفما كانت قوتها العسكرية أو الاقتصادية! ...

2) و لكي تُحَصَّن دولة الاسلام من التقويض و بالتالي لِيُحافظ على سيادة العقيدة الاسلامية سيادة كاملة نقية غير منقوصة جعل الله الإيمان مرتبط بالولاء، مشاعرياً و عمليا، للأمة الاسلامية و لدولة العقيدة الاسلامية، يقول سبحانه و تعالى في وجوب الولاء للعقيدة الاسلامية و لأهلها: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}(المائدة) ، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71)، ....
و قال رَسُولُ اللَّه: "تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(صحيح البخاري)، و قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "(صحيح البخاري)،

و لكي يكون الولاء للعقيدة الاسلامية و أُمَّتِها ولاءً تاما و تكتمل السيادة للإسلام اكتمالاً قويا زكيا نقيا صافيا أمر الله، مع الولاء للإسلام و أهله، أمر بالبراء في نفس الوقت من كل قوى الكفر و الشرك و حرم مظاهرتهم على المسلمين، فلا يجوز للمؤمن أن يكون له ولائين، و لاء لقوى الكفر و الشرك، و ولاء لسلطان الاسلام و الامة الاسلامية، فيقول الله بهذا الصدد: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26)}(سورة الزخرف) ، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ (4)}(الممتحنة) ، {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}(المجادلة) ، {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)}(آل عمران)، {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)}(النساء) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)}(النساء)، ....

و ليس المجال هنا للتحدث عن تفاصيل مظاهر الولاء و البراء و متى يتحقق الاول و ينتفي الثاني، ... إلا أننا نذكر باختصار أن البراء من الكفر لا يعني عداوة كل كافر و عدم الإحسان للكفار و القسط اليهم و التعامل معهم و العمل معهم الخ، .... فالبراء متعلق فقط بما فيه نصرة عقائدية و عسكرية و مظاهرة لقوى الكفر و سلطانه على الاسلام و المسلمين، لذلك يقول الله سبحانه: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}(الممتحنة) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}(المائدة).

3) و كذلك من مقومات و طرق تمكين العقيدة الاسلامية من السيادة أحكام العقوبات التي فرضها الله من حدود و تعزير لِزَجر الناس عن معصية الله و إلزامهم باحترام و تنفيذ الأحكام الاسلامية! ... فالإسلام ليس دين موعظة و حسب، بل يحتاج الى سلطان و قوة تمكنه من عقاب من يخرج عن أمر الله في المسائل التي تستلزم مخالفتها العقوبة كما بَيَّنَ الله و رسوله!

4) و من مقومات و طرق تمكين العقيدة الاسلامية من السيادة الجهاد في سبيل الله من أجل قلع الحواجز المادية التي تقف أمام الدعوة الى الاسلام، و من أجل صَدِّ أي تعد و محاولة تسلط للكفار على بلاد المسلمين.


>>>> العقيدة الاسلامية عقيدة سياسية:
و سيادة العقيدة الاسلامية بتأسيس دولة ذات سلطان و شوكة ليست سيادة من أجل التسلط على الناس و قهرهم و لا من أجل إخضاعهم لتسلط الحكام عليهم، بل من أجل إقامة شريعة الله التي فيها رحمة للناس {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)}(الانبياء)، و من أجل إخراج الناس من الظلمات الى النور {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}(البقرة)، و من عبادة العباد الى عبادة خالق العبادة، و من أجل تنظيم شهوات الناس و غرائزهم لِتُشْبَعَ بطريقة تجلب السعادة و الطمأنينة و ليس الشقاء و الفتنة! ...

و طاعة الحكام مقيدة تقييدا صارما بطاعة الله، فلا طاعة لهم فيما هو مخالف لأمر الله، قَالَ رسول الله: "عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ"(صحيح مسلم)، ... فإلزام اللهِ الناسَ بأحكامه ليس لِيَشُقَّ عليهم {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2)}(طه)، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}(المائدة)، و لكن لأن شريعة الله هي الأصلح للبشرية لقضاء مصالحهم و إشباع غرائزهم دون إفراط و لا تفريط، و دون فساد و لا إفساد، و دون ظلم و مظالم، و دون غنى أناس على حساب إفقار أناس، و لا راحة أناس على حساب شقاء آخرين، و دون إشباع أناس على حساب جوع آخرين، و دون إطلاق العنان للشهوات لِتَخلق الفتنة و الاضطراب في المجتمع، ....

و من هنا كانت العقيدة الاسلامية عقيدة سياسية إذ جاءت لترعى شؤون الناس، ... فالسياسة هي رعاية شؤون الناس، أي قضاء مصالحهم و حاجاتهم و تمكينهم من حياة كريمة، و لا تتحقق هذه الرعاية بطريقة متوازنة و سليمة تحقق الإشباع و الطمأنينة معا و الحياة الكريمة إلا السياسة الشرعية {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}(الإسراء)، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}(التين) ....

و الحكام في دولة الاسلام مأمورون بممارسة السياسة الشرعية أي رعاية شؤون الناس حسب أوامر الله و نواهيه، ... فالإمام و الخليفة ليس هو صاحب القوة و السلطان الذي يستطيع إخضاع الناس لحكمه و إرغامهم على طاعته، بل الخليفة و الإمام هو الذي يرعى شؤون الناس حسب شرع الله و يهتم بأمورهم و مشاكلهم، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"(صحيح البخاري)، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى (26)}(ص)، {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}(الحج)، {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ (49)}(المائدة)، ... و قال صلى الله عليه و سلم: "مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَ بَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى"(مسند أحمد)، و قال عليه الصلاة و السلام: "أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ ، فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِلْوَارِثِ"(مسند الامام أحمد)، و الضياع هو كل من لا يستطيع النفقة على نفسه و يُخاف عليه من الضياع كالنساء و الاطفال الخ، فالرسول، كرئيسٍ للدولة، هو المسؤول على نفقتهم و رعاية شؤونهم و حفظ أعراضهم و حقوقهم إذا لم يوجد من تجب عليه رعاية شؤونهم و النفقة عليهم و يستطيع ذلك! ... و تُأكد آية {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (6)}(الاحزاب) هذه المسؤولية الموكلة لرسول الله كإمام المسلمين، و على خلفاء رسول الله في الحكم و الإمامة، ... فمن خلف رسول الله في منصب الرئاسة و الإمامة لدولة الاسلام تَحَمَّل مسؤولية رعاية و ولاية مصالح الناس! ...
فلا يجوز في دولة العقيدة الاسلامية أن يكون جائع ليس هناك من يعيله، و لا مريض لا يستطيع عرض نفسه للعلاج، و لا جاهل أو طالب علم لا يستطيع طلب العلم و المعرفة، و لا مظلوم لا ترد له الدولة حقه، و لا مستضعف لا تحميه الدولة، ... و لا يجوز أن يكون في دولة العقيدة الاسلامية أناس يعبرون البحار و يموتون غرقاً من أجل البحث عن حياة كريمة في دول الغرب يأملون منها أن ترعى شؤونهم، .... فشؤونهم كلها من تطبيب و تعليم و سكن و عمل و مأكل و مشرب و أمن و أمان الخ ...، كلها من واجب دولة العقيدة الاسلامية و خليفة المسلمين رعايتها و تحقيقها و ضمانها للناس -مسلمين و غير مسلمين-، و إذا أخفق الامام في تحقيق هذه الرعاية فقد فرط في أمانة الإمامة و الاستخلاف فوجب قلعه و اختيار من هو أولى و أقدر بتأدية أمانة الحكم على وجها الأكمل كما أمر الله و رسوله!

فالخليفة ليس شخصاً مقدساً، و ليست له عصمة و لا حصانة، بل هو خادم الأمة، ترتاح هي و لا يرتاح هو، تنام هي و لا ينام هو، تشبع هي قبل ان يشبع هو، و يجوع هو قبل ان تجوع هي، ... هذه هي أمانة الحكم، و من لم يكن أهلا لذلك و ظن ان منصب الخليفة و الرئاسة مَنْصِب تشريف لا تكليف، يُمْنَع من الرئاسة، فقد قال رسول الله: "يَا أَبَا ذَرٍّ ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَ إِنَّهَا أَمَانَة , وَ إِنَّهَا يَوْم الْقِيَامَة خِزْي وَنَدَامَة إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا"(صحيح مسلم)، و قال صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"(صحيح البخاري)، و قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا*(58)}(النساء)، ......‏

و الخليفة مسؤول أمام الامة تُحاسبه على كل صغيرة و كبيرة،... فهاهو الخليفة عمر بن الخطاب يحاسبه المسلمون على ثَوْبٍ من أين له، فيقوم أحد المسلمين ليقول لعمر: و الله لا نسمع و لا نطيع، .. كيف تلبس ثوبين و تلبسنا ثوباً ثوباً ونسمع ونطيع (المسلمون حصلوا على ثوب من بيت مال المسلمين). فكان على الخليفة عمر تبيان الامر، فأمر ابنه عبد الله ليفسر للناس قصة الثوب الثاني، حيث قال عبد الله بن عمر: هذا ثوبي الذي هو قسمي مع المسلمين أعطيته أبي"، فقال الناس: الآن قُلْ نَسْمَع، و أْمُر نَطِع! ......

هذا هو مفهوم السياسة في الاسلام، فهي ليست سياسة كذب و نفاق و تحايل، و لا سياسة الجباية و نهب أموال الناس و إثقال كاهلهم بالضرائب، ... و ليست سياسة تحقيق مصالح السياسيين و تمرير صفقاتهم هم التجارية و المالية، و لا سياسة تسلط الحكام على الناس و قهرهم و تعذيبهم و تجويعهم و تخويفهم، و لا هي سياسة الصفقات السرية مع أعداء المسلمين من دول الكفر تُباعُ فيها سيادة الامة الاسلامية و سلطانها و خيرات بلدانها، و تُباع فيها أعراض المسلمين و دمائهم و كرامتهم و حريتهم و دينهم، ... بل هي سياسة الحماية و الرعاية، ... سياسة حماية دين المسلمين و عرضهم و كرامتهم و سيادتهم على بلدانهم و خيراتهم، و سياسة الاهتمام بشؤون الناس و مشاكلهم و قضاء حاجاتهم و مصالحهم، ... هي سياسة الرحمة و العدل، هي سياسة العقيدة الاسلامية! ...

أبو عبيدة أمارة
2015-05-05, 10:46 PM
السلام عليكم
كلام جميل ومعبّر

وأحب أن اضيف نقاط وتوضيحات وتسليط الضوء على جوانب مهمة :

1 . أولا فالله تعالى يلخص أوامره وهدف الدين الحنيف ؛ فالله تعالى يقول :

إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا .

فلو درت الآرض جميعا لن تجد من الخير أكثر من الخير الذي يتحقق في أوامر الله ونواهيه .
والحقيقة فإن ميزن الله عظيم دقيق !
قد يظن البعض أن في منفعة عابرة هو كل الخير ! وهذا خطأ وظلم للنفس !
وقد ينغر الناس بقشور عند البعض ويظنها قمة !!! وما هي ألا حضيض مزين بزينة كاذبة تردي الناس والمجتمع ! وتضيع الخير .
فميزان الله فهو كالبسلم الذي لا يدخل معه مرض أو وباء أو خرق أو ظلم أو تعاسة !!!
ونأخذ مثلا صغيرا وهو الحقيقة قد يظهر أنه لا قيمة له ! وقد يستهونه بعض الناس ويستهتر به !!
ونأخذ مثلا غض البصر !!!
قد يقول قائل ما هذا الهراء أو التشدد !!
ولكن في هذا المثل الصغير وهو شيء يسير من الاسلام إلا أنه فيه خير عظيم !
فهل غض البصر ضروري وذو منفعة !! وهل هو علاج لكثير من الآفات والتعاسات ؟؟؟؟
الحقيقة جدا جدا !!!
فلو قلنا أن النظرة سهم من سهام إبليس المسمومة ! فهو عين الصواب ! وهو عين تشخيص بداية الداء !
رجل أو غيره استهان بغض البصر !!وحتى ولو عن صورة أو مشهد حقير !! هل هو وقى نفسه ! هل جلب لنفسه خير ؟؟ هل دفع عن نفسه شر ؟؟؟؟؟
فليتفكر كل شخص وليجيبب .........!
والحقيقة فهو قد فتح باب شر على نفسه وعلى غيره ! وهو بدأ بالأذى لغيره !!!
ثم يبدأ الداء يكبر ويتغلغل !!!
وماذا يجر ؟؟؟ شر عظيم ؟؟؟
هل المجتمع والأمانة وحفظ الخيرات وحقوق الناس تتأذى ؟؟؟؟ حتما نعم !!!!!
فهذا الشخص أولا يهدر وقته وطاقته ويضيع أمانته ونزاهته تحت طائلة الاستهتار بهذا الأمر !
وهو يجر ويلا على الأفراد ثم على المجتمع كافة !
ولو أردت التوسع لقيل الكثير !
ولكنه مثل وللتدليل !! ولبيان الخير في النهي !! وبيان الشر العظيم في الاستهتار والاستهانة والانغرار !!!!!!!!!
وقد يصيب الشخص الناظر وغير غاض البصر الخطر الذي هو لم يمتنع عنه !!!!!!!!!
ويصيبه في مقتل وفي منتصف تحاذقه الأعور !!
2 . فلننظر إلى كلمة العقل !!!
العقل فهو من عقل ! أي ربط وعقد !!!
وهو يتفسر على أجه كثيرة من العقل والربط والعقد !
فأولا فالعقل هو مرك تحليل المحسوس ! وربطه مع المعلومة ! أو استسقاء المعلومة من المحسوس !
فيرط الانسان المدركات والمعلوم معا ويكوّن معلومة ذات مصداقية وواقعية وذات أثر وما هي الفائدة والضرر ! ومذا يجنى ويتثمر من الأمر !!
ثم العقل يقيس ويربط بين الأمر المحسوس والمدرك وبين النواميس الموجودة في الحياة ! هل ينتظم هذا معها أو ينخرم !!!
فإذا العقل ! عقل الأمر وربط جوانبه ربطا صحيحا (وهنا يجب توافر معلومات مفيدة وحكيمة ) ورأى تناسقه وتناغمه وفائدته ! فهو يلتزم ويأخذه على محمل الاعتبار !!
والعقل أيضا فهو جهاز وتتناوبه أمور غير تلك التي يحسها عن طريق حواسه !!! فهو ليس غرائز ورغبات ! وهي تتدافع في داخله ! فياتي دور العقل ! ويقول للرغبات رويدك لا تنجرفي ! ولكل غاية طيبة فهناك وسيلة طيبة !!
والعقل فهو وعندما يبصر الحقيقة والخير فيخبت لهما وتسمو مداركه ويستنير جنانه وتسمو روحه ولا يرضى عندها غير النزاهة والنزيه والحق والعدل ! ويتعلق كيانه ووجدانه بالخالق والذي هو قمة الحكمة والعدل ومعطاء الخير والأمر بكل نافع والدرء عن كل فاسد وشر ومردي .
3 . الاسلام في جوهره فهو خير كله ! وهو نفع وعدل وإنصاف كله !!
والاسلام حقيقة فهو يضع الحلول الطيبة وهو يمنع عن السوء والمنكر ولديه دائما البديل الطيب ولديه الحل البلسم والمُرْضي .
والاسلام بناء كامل متكامل !!!
فهو لا يستهين أن لايصلح الطريق ولو لدابة !!
وهو يستكثر ويستعظم أن يحقر المسلم أخاه المسلم !
وهو يستنكر أن يأكل الشخص حق شخص آخر أو يغمطه .
نتابع إن شاء الله تعالى .