المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظرية تطور خلق الانسان: هل اقتباس المسلمين لها مبني على تدقيق عقلي و ع


فارووق
2015-07-23, 02:19 AM
نظرية تطور خلق الانسان: هل اقتباس المسلمين لها مبني على تدقيق عقلي و علمي مستقل أم هو التقليد و الهوى؟ (الجزء الثاني)


كتبت سابقا في الجزء الاول لهذا المقال أن نظرية تطور المخلوقات انبهر بها بعض المسلمين و آمنوا بها، فاقتبسوا نظرية التطور بكل حدافرها من الغرب! ... و قلنا أن الباحثين الغربيين أنفسهم لم يأتوا حتى يومنا هذا بأي دليل على أن نوعاً من المخلوقات يتطور لِيَلِدَ بعد حين نوعا آخر! فمنذ أول عهد الانسان في الارض، حسب ما وَصَلَنا من معلومات مكتوبة أو منحوتة أو مصورة على الورق أو الجلود أو الحجر، يعلم و يرى الانسان أن الانسان يلد انسان، و القرد يلد قرد، و السمكة تلد سمكة، و القطة تلد قطة ... الخ، و لذلك فنحن لسنا معنيين البتة بالإتيان بأدلة على رفضنا لنظرية التطور، لأن البدهي المحسوس أو الملموس لا يحتاج لدليل، فهو كمن يقول لإنسانٍ برهن لي أنك انسان أو يقول له برهن لي وجود الشمس، ... و بالتالي فالذي يدعي أن نوعا من المخلوقات الحية يتطور لِيَلِدَ بعد حين نوعا آخر من المخلوقات، هو الذي يخرج علينا بشيئ غير موجود و لا نلمسه، يخرج بشيئ لا يقبله العقل إذ يخالف الواقع المحسوس، و بالتالي هو الذي مُطالب بالإتيان بالأدلة على ادعائه، فعليه أن يرينا تحول مخلوق من نوع الى نوع آخر حتى نصدقه! ... و العالَم لازال الى يومنا هذا ينتظر و منذ اكثر من قرن من الزمن دليلا على تطور نوع الى نوع آخر، دون جدوى! أما الاسترسال في توصيف التشابه بين أنواع الحيوانات المختلفة فهذا ليس دليلا على تطورها من بعضها!

فقد صُنِّفت أعداد لا تحصى من الاوراق و الكتب و المقالات و المحاضرات، و أُنفقت أموال طائلة على عديد من الأبحاث، لكن كل هذا لم يأتي بأي دليل على تحول نوع من الحيوان الى نوع آخر، بل كل ما أتوا به هو تفصيل في وصف أنواعٍ مختلفة من الحيوانات و النباتات من ناحية، و هذا في حد ذاته عِلْمٌ معقول و مقبول إذ يصف حال واقعٍ محسوس و هي الخاصيات الفيزيولوجية و الهيكلية و الجينية لأنواع مختلفة من الحيوانات. لكن من الناحية الثانية قدَّمَت تلك الأبحاث و المخطوطات تفصيل نظري لمحاولة تفسير التشابه بين الانواع المختلفة، و هذا التفسير النظري الخيالي هو نفس التفسير الذي يتم اجتراره منذ أكثر من مائة سنة: تطور نوع لاحق من نوع سابق، لكن دون الإتيان بأي دليل على وقوع هذا التحول فعلاً أو إمكانية وقوعه! ...
فالنظرية لا تتحول الى حقيقة بالاسترسال و التفصيل في جزئياتها و تفريعها، فما بُنِيَّ و تفَرَّع عن شبهة أو باطل يكون بداهة شبهة و باطلا! فَمُنَظِّروا نظرية التطور كمُنظِّري النصرانية لثلاثية الإله أو كمنظري الإلحاد لعدم وجود خالق، فكلهم فَصَّلوا و فرَّعوا عن شبهاتهم و ظنونهم عُلوماً و ألفوا كتبا و ألقوا محاضرات لا تحصى، لكن دون الإتيان بأي دليل على شبهاتهم، فبنوا شبهات على شبهات! ... و منظروا نظرية التطور كمنظري فلسفة المتافزيفيقيا الذين امتلأت المكاتب بمخططاتهم و عجَّت الجامعات بمحاضراتهم، و اغترت الجماهير في زمنٍ بتفلسفهم لكن دون أن يثبتوا ادعاءاتهم بأية أجوبة مقنعة مستندة على أدلة!

و نعجب لبعض المسلمين ممن يدعون العلم و العقل كيف يقيمون محاضرات لساعات و ساعات يُرَوِّجون فيها لشبهات نظرية التطور، فينقلون حرفا حرفا و فكرة فكرة ما ألفه منظورا الغرب لنظرية التطور، دون أدنى نسبة من النقد حتى و لو على جزئيات بعض تلك النظرية، ... فما يفعله هؤلاء المسلمون المروجون لنظرية التطور لا يمت البتة بأي صلة الى المنهج العلمي الذي يستدعي اعادة اختبار نظريات و تجارب الآخرين للتأكد من مدى صحتها و التحقق مما يمكن استنتاجه فعلا من نتائج التجارب التي يقدمها الغرب و يزعم أحياناً أنها أدلة على عملية التطور،...! فما يقوم به هؤلاء المرَوِّجون من المسلمين لنظرية التطور هو فقط ترجمة حرفية لتفاصيل و جزئيات نظرية التطور التي ألَّفها أصحابها من الباحثين الغربيين، ثم يقدمون ما ترجموه الى عوام الناس من المسلمين، الذين يستحيل أن يفهموا تلك التفاصيل ناهيك أن يردوا عليها، فيتبختر و يتباهى هؤلاء المروجون للنظرية أمام العوام بقدرتهم على حفظ ما ألَّف غيرهم و تقديمه في محاضرات طويلة، لكنهم لا ينتبهون الى أنهم إنما كالببغاوات فقط، ينقلون نقلا حرفيا ما ألفه أساتذتهم الأوروبيين و الأمريكيين، ينقلونه دون نقد و دون طلبِ الادلة من أساتذتهم المنظرين الغربيين (و لا أظن أن أحدا من الناقلين المسلمين يفقه أصلا نوع الادلة المطلوبة لإثبات صحة نظرية التطور لتتحول من نظرية الى حقيقة!).

و أنا لا اريد هنا الخوض في التفاصيل العلمية لنظرية التطور، كما يفعل غيرنا ممن يتشدقون بالنظرية، و ذلك لسببين: اولا، لأن ما نكتبه موجه للعوام الذين غالبيتهم الساحقة لم يدرسوا علوم الاحياء عامة و لا نظرية التطور خاصة و بالتالي لا يستطيعون فهم و استيعاب تفاصيل و جزئيات النظرية المتعلقة بمقارنة فيزيولوجيا و هيكل و جينات الكائنات الحية، و التي يصعب أحيانا استيعابها حتى على بعض المتخصصين. و ثانيا، لأن التفاصيل التي يسردها المنظرون لنظرية التطور لا تتطرق للب النظرية، فهي لا تُجيب على المطلب الاساسي و المتعلق بالأدلة على تطور نوع من المخلوقات الى نوع آخر! فأدلةٌ من هذا النوع لم يأتي بها أحدٌ الى يومنا هذا، فهم يُسَلِّمون بصحة النظرية، فيقولون مثلا أن النوع الفلاني من الثدييات أو الطيور أو الحشرات تطور الى النوع الفلاني، و يَدَّعُون هذا لا لأدلة على ذلك التطور بعينه و لكن فقط للتشابه بين النوعين، فينكَبُّون بعد ذلك على إجراء أبحاث توصيفية محضة، يصفون فيها تفاصيل الخاصيات الفيزيولوجية و الهيكلية و الجينية لأنواعٍ كثيرة من الحيوانات ، ثم يتَخيَّلوا كيف يمكن مثلا لهذا العضو في النوع الاول من الطير أو الحشرة أن يتحول الى العضو المشابه له في النوع الثاني، و من تم كيف يمكن لهذا النوع من الحيوان أن يتحول الى النوع الآخر، فيضعوا نظرية التطور دون إثبات ذلك علميا و عمليا، بل مجرد تخيل لا غير!

لذلك فلسنا معنيين بالخوض في هذه التخيلات و لا بالخوض في التفاصيل الفيزيولوجية و الهيكلية للأنواع و مقارنتها، إذ هي لا تتطرق للب الموضوع، ألا و هو إثبات تطور نوع الى نوع! فمجرد مقارنة خاصيات انواعٍ معينة من الحيوانات و تبيان تشابهها ليس في حد ذاته، لا من قريب و لا من بعيد، دليلا على أن الانواع المتشابهة تطورت من بعضها! و مجرد العثور و جمع عظامٍ و هياكلَ لمخلوقات ماتت قبل مئات أو آلاف أو مئات آلاف السنين و تحديد عمر تلك الحفريات و مقارنتها مع هياكل الانسان اليوم، مجرد ذلك لا يقدم لا من قريب و لا من بعيد أي دليل على نظرية التطور، ... و لعل تلك الهياكل التي ينسبونها لأشباه بشر (فصيل بين الحيوان و البشر) انحدر منهم الانسان العصري، لعلها هياكل لبشر مثلنا تماماً، ليسوا أقل عقلا و لا أقل حركة أو إنسانية من انسان اليوم، فاختلاف حجم الجماجم أو شكل الفك أو ما شاكل ذلك لا يعني أن عظام الحفريات هي لنوعٍ آخر من المخلوقات يُصنَّف ما بين الانسان و الحيوان، ... فالعظام هي إما بقايا لحيوان كنوع من أنواع القردة أو لإنسان و ليس تمة شيئ بين ذلك! ... و من يظن أن هناك مخلوق بين الحيوان و الانسان و الذي انحدر منه الانسان العصري، نقول له قارِن جماجم و عظام الأجناس البشرية التي تعيش اليوم في افريقيا السوداء و الصين و اوروبا الغربية و الهند و استراليا الخ، فإنك بنظريتك و نظرتك هاته سَتُأوِّل أن بعض الأجناس البشرية التي تعيش اليوم، نظرا لأن جماجمها و فَكّها أقرب أحياناً شبها الى بعض القردة منه الى الانسان الاوروبي الابيض الذي يُتخذ كمعيار لشكل الانسان، .. أقول أنك بنظرتك تلك سَتُأوِّل أن بعض أجناس البشر اليوم ليسوا بشرا و لكن أشباه بشر: مخلوقات بين الانسان و الحيوان! و هذا ما استنتجه فعلا الغرب في زمن ليس ببعيد و لازال البعض منهم متمسك بذلك الاستنتاج الى يومنا هذا! ... فنُذَكِّر هنا مُنظري نظرية التطور، أنه ليس بزمن بعيد (الى غاية أواسط القران العشرين) لما كان كثير من الباحثين الغربيين، و خصوصا في المانيا النازية في عهد هتلر، يعتبرون الافارقة مثلا، نظرا بسبب شكل الجمجمة و الانف و حجمهما الخ ...، يعتبرونهم انهم نوع غير بشري، بل اقرب الى الحيوان منه الى الانسان! فقد خصصت المانيا آنذاك أموالا و انشأت معاهد أبحاث كان دورها القيام بقياس حجم جماجم و أنف البشر الاحياء من مختلف دول العالم، فجعلوا مقاسات الانسان الآري الابيض هي المعيار لتحديد ما اذا كان الشخص إنسانا أو شبه انسان! ..
فنظرية التطور إذاً، الى جانب أنها تبعث على تحريك العنصرية العرقية التي تنفي الانسانية عن أناس لاعتبارات شكلية تتمحور حَوْلَ اللون و شكل الهياكل العظمية، فإنها الى جانب ذاك تحولت الى فقاعة كبيرة تكبر و تكبر لكن داخِلُها يبقى مملوءا بالفراغ، بالهواء! فمن ناحية علمية مادية ليست هناك أية أدلة على صحة النظرية، فهي لم تُبنى أصلا على أدلة محسوسة، و إنما بنيت على أساس نظرة فلسفية عن الحياة و أصلها، و لذلك ردنا سيكون من هذا الباب!


لاشك أن الناظر و المتأمل في الكون و المخلوقات يرى تناسقا و انسجاما ملفتا للنظر بينها كلها، و لاشك أنه يمكن تصنيف و ترتيب الحيوانات و النباتات الى ممالك و فصائل و أجناس و انواع حسب درجة و نوع التشابه فيما بينها {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم، مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}(الأنعام)، و لاشك أن هذا التصنيف نسبي و يُترك لأهل الاختصاص و ما يتفقون عليه من الشروط و الصفات التي يُحَدَّد على أساسها ما يُنْسَب الى هذا النوع أو ذاك، و ما يدخل تحت الجنس الواحد و الفصيل الواحد الخ، ... و لاشك أن دراسة و فهم و مقارنة التفاصيل البيولوجية لكل نوع من الكائنات الحية هام جداً، لإمكانية استخراج منه ما ينفع الانسان في التطبيب أو التصنيع أو الغداء أو غيره من المنافع، ... هذا كله الى حد الآن لا خلاف فيه، بل الإسلام يحفز على ذلك {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)}(الجاثية)، .... {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)}(غافر)، ... {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}(المؤمنون)، ... {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)}(يس)، .... {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}(النحل)، ...
و المسلمون كانوا سباقين الى البحث في تفاصيل الحيوانات و تصنيفها، فأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (المتوفى سنة 255هـ: 868م) ألَّف حوالي 900 سنة قبل عَالِمِ النباتات السويدي كارل لينيوس (Carl Linnaeus، وُلد سنة 1707 و توفي سنة 1778) كتابا شاملا جامعا مفصلا عن كل الحيوانات المكتشفة و المعروفة آنذاك و بالوسائل و الإمكانيات المتاحة آنذاك، و صنفها الى ممالك و أجناس و أسرد تفاصيل عملية عن كل حيوان (راجع كتاب الحيوان لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الطبعة التي حققها و شرحها العالم عبد السلام محمد هارون)!

فمُنَظِّرُوا نظرية التطور، بما فيهم داروين، ليسوا هم من صنفوا الحيوانات و قارنوها، و ليس هم من اكتشف التشابه بين أنواع معينة من الحيوانات، فَعِلْمُ تصنيف الحيوانات و دراسة خاصيات كل نوع منها الفيزيولوجية ليس احتكارا على التطوريين و لا ابتكارهم و لا حرفتهم، ... بل حتى كارل لينيوس (Carl Linnaeus) الذي استعان "التطوريون" بتصنيفاته للحيوانات لم يكن يؤمن بنظرية التطور و كان يعتقد أن الانواع مستقرة لا تتغير!

إذًا المشكلة مع مُنَظِّري نظرية التطور ليس في كون الحيوانات تتشابه فيما بينها و لا في تقسيم و تصنيف الحيوانات الى ممالك و فصائل و أجناس و انواع الخ ...، و لا في إجراء أبحاث مقارنة بين الانواع المختلفة، فكما قلنا المسلمون كانوا سباقين لذلك (مثلا كتاب الحيوان للجاحظ)، و لكن المشكلة هو في التأويل اللاَّعلمي الخيالي الافتراضي للتشابه بين الحيوانات! فعلماء الغرب نفسهم و الى غاية القرن التاسع عشر ميلادي كان سائدًا بينهم الايمان بأن كل نوع من الحيوانات مستقل عن الآخر و مستقر لا يتطور الى نوع آخر، اللهم تحولات شكلية لا تُخرج الحيوان من النوع المعروف المنسوب اليه و لا تفقده القدرة على التناسل مع سلالات نوعه! فمثلا الغنم يتكون من عدة سلالات منها على سبيل المثال لا الحصر: النجدي و النعيمي و الحري و السواكني و البربري و السردي الخ، فإذا نظرت الى هذه السلالات تجد أنها تختلف في اللون و الحجم و القوة، و العطاء من ناحية الحليب و الولادة و الصوف الخ، لكنها يمكنها التناسل فيما بينها و إنجاب سلالة جديدة، لكنها تبقى كلها نوع واحد، تبقى نفس النوع، تبقى غنماً! ... و هذا التنوع الطبيعي داخل النوع الواحد هو ما يُطلق عليه التطور المصغر (microevolution) و ليست له علاقة بنظرية التطور الكبير الذي نحن بصدد نقاشه هنا!
فهذا التنوع داخل النوع الواحد من المخلوقات، و منها الانسان، أسبابه معلومة و ملموسة و يحمل مسبباته كل فرد في جيناته، و اختلاط فصائل مختلفة لنفس الجينات تأتي بمولود ذو صفات مختلفة عن والديه، فمن تم تجد الانسان الابيض و الأسمر و الاسود و الأحمر، و القصير و الطويل، و ذو الجمجمة الكبيرة و الصغيرة، و الوجه المسطح و الدائر الخ! ... فهذا التنوع داخل النوع الواحد يمكن رصده من جيل الى جيل و مقومات التنوع يحملها كل فرد في جيناته فيمكن تحديدها و التأثير فيها و التحكم فيها نسبيا، ... لكن ما يَدَّعُونه بخصوص التطور من نوع الى نوع آخر فلم يستطع أحدٌ الى يومنا هذا رصد أو تحويل نوع الى نوع آخر، و لم يستطيعوا فعل ذلك حتى مع أبسط الكائنات الحية كالباكتيريا التي تتوالد كل عشرين دقيقة، ناهيك عن اكتشاف الجينات التي من المفترض أن تكون متواجدة في كل نوع تحمل معلومات عَمليَّة التطور و تنظمها و تحددها! ... أما الادعاء بأن طفرات في الجينات هي أحد محركات عملية التطور فهذا كلام هراء لا دليل عليه، بل الأبحاث أظهرت أن الطفرات تؤدي الى عدم القدرة على الحياة و من تم الموت، أو تؤدي الى عاهات و أمراض الخ، أو لا تُحْدِث تغييرا جوهريا بالبروتينات التي تحدد نوعها الجينات! فجِينوم (مجموع الجينات) الكائن الحي لا يسمح بالطفرات إلا في إطار جد محدود لا يلمس جوهر وجود الكائن و نوعه، و اي طفرات دون ذلك تؤدي لا محالة الى هلاك الكائن! ... أما قدرة بعض الكائنات الحية كبعض الباكتيريا على اكتساب مناعة ضد المضادات الحيوية بالحصول على جينات تحمل شفرة انتاج تلك المضادات فهذا ليس تطورا و إنما يدخل ضمن القدرات المحدودة التي تتمتع بها بعض الكائنات و التي لا تغير حالها من نوع الى نوع آخر، و يمكن تشبيه ذلك بالمناعة المكتسبة لدى الانسان! .... .

إذاً المشكلة مع "التطوريين" ليست في هذا كله، و إنما في استنتاجهم الخيالي الافتراضي على أن التشابه بين الانواع الحيوانية تدل على تطورها من بعضها البعض: تطور الحيوان الاكثر تعقدا (من ناحية البنية الفيزيولوجية و الهيكلية الخ) من حيوان أقل تعقيدا ! .... فكما قلنا، لم تُبنى نظرية التطور أصلا على أدلة محسوسة، و إنما دوافعها فلسفية عقائدية!

فقد عاشت شعوب أوروبا تجربة تاريخية جد قاسية لمدة قرون خلال فترة ما عُرِف بالعصور الوسطى أو عصر الظلمات، عاش الناس خلالها في ظلمات ثلاث: ظلمات الجهل، و ظلمات الطغيان و الاستبداد، و ظلمات الفقر. و قد كان المتسبب في هذه الظلمات الملوك و رجال الدين (الكنيسة)، و قد نال رجالات العلوم الدنيوية نصيبا كبيرا من بطش الكنيسة، ... إذ كان محجورا على عقولهم و تفكيرهم بإسم الدين، بإسم الإله، .... و ما إن تمكنت شعوب اوروبا من التحرر بالقوة من قبضة و هيمنة الكنيسة ابتداءً من القرن الثامن عشر ميلادي حتى عمَّ التمرد المفرط ضد كل شيئ له علاقة بالدين و ضد كل شيئ مصدره الخالق! ... فسعى الناس في الغرب و على طليعتهم الفلاسفة و المثقفون و الباحثون في العلوم الدنيوية الى التحرر من الدين، التحرر من أي شيئ أصله من عند الإله، ... و التحرر الكامل من الدين لا يتأتى إلا بإيجاد تفسير جديد لأصل الانسان، تفسير لا دَوْر فيه لِخالِقٍ زعمت الكنيسة أن كل شيئ في الحياة من تدبيره، بما في ذلك طبعا و أساساً و أولا خلق الانسان و كل الكائنات في هذا الكون! ...
فظن الغرب أن في نظرية التطور تفسيرا لوجوده و تفسيرا لكيفية وجوده لا يحتاج فيها الى الله، أو على الأقل حاجة الله كانت لخلق المادة الاولى الخام فقط، فاسْتَقلَّت المادة بعد ذلك عن خالقها و تطورت حسب قوانين ذاتية مستقله عن الله لِتُنتِج كل الكائنات الحية بما فيها الانسان، تنتجها عبر التطور من كائنٍ بدائي جد بسيط، .... و بالتالي و إذا كانت الكائنات الحية لم تكن أصلا بحاجة لله في عملية تطورهما، فالأَوْلَى أنه لا حاجة للإنسان الى الله لينظم حياته و يبين له الحق من الباطل و الصواب من الخطأ و يبين له الهدف من وجوده في هذا الكون، إذ وجوده كان أصلا عبر الصدفة، عبر تطورٍ حدَّده تلاقي صُدَفٍ بيئية و معيشية مختلفة! ... فبنى الغرب نظرية التطور على شبهات و توصل الى شبهات، ليفصل نفسه عن خالقه، ليفصل حياته عن الله!... هذه هي الخَلْفية الفلسفية التي كانت دافعا قويا لإعادة إحياء نظرية التطور و الدعاية و الترويج لها ترويجا إعلاميا و سياسيا قويا منذ المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر!

و للأسف كثير من المسلمين تراهم كالعميان يتبعون الغرب و يقلدونه في كثير من الاشياء دون أن يدركوا التباعات الخطيرة التي تترتب على إتباعهم الأعمى للغرب، فصدق رسول الله إذ قال: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، قَالَ : "فَمَنْ"(صحيح البخاري) ....
فبعض المسلمين تبنوا نظرية التطور دون أن يدركوا خلفيتها الفلسفية المتعلقة بعقيدة تفصل المخلوقات عن خالقها، عقيدة تبحث عن بديل لله كخالق و تبحث عن إنكار الله كَمُنظم و مسَيِّرٍ و محدد لمسار كل مخلوقاته، إذ ارتأى الغرب في نظرية التطور عملية تجعل المادة هي نفسها التي تحدد وجودها و صيرورتها، .... فمن ناحية علمية و عملية ليس هناك اي نفع يُنتفع من نظرية التطور إلا هذا الغرض و الهدف في الانفصال عن الخالق، عن الله! ... فسواء كان الانسان و غيره من الانواع المختلفة للكائنات الحية خُلقوا مستقلين عن بعضهم مباشرة على الهيئة التي نراهم عليها، أو خُلقت الكائنات الحية بما فيها الانسان عن طريق التطور من كائن واحد بدائي، فأيًّا كان الأمر، ما الذي ينتفع منه الانسان اليوم ماديا و عمليا من ذلك؟ هل الانسان بحاجة ليعرف هل أصله كان حيوان أو خُلق مباشرة على هيئته، هل هذا ينفعه في قضاء أيٍّ من حاجاته و حاجياته المادية في الحياة من صناعة و تطبيب و غداء الخ؟

فنسأل المسلمين الذين اقتبسوا نظرية التطور، إذا كان الغرب تبنى النظرية بغرض إنكار أي سلطانٍ لله على الخلق و بهدف فصل الحياة عن خالقها، إذا كان هذا هو النفع و الدافع العقائدي الذي حمل الغرب ليؤمنوا بنظريةٍ خيالية، فما هو دافعكم أنتم أيها المسلمون لاقتباس هذه النظرية الخرافية و الايمان بها و الترويج لها؟ هل عندكم مشكلة مع الله ربكم؟ ... سيقول البعض أنهم يؤمنون بنظرية التطور لكن ليس على الوجه الذي يفعله الغرب، إذ يؤمنون بأن الله هو الذي اختار خَلْقَ الكائنات الحية عن طريق التطور و هو الذي حدد قوانين التطور! و هذه التبريرات تُذَكِّرنا بمن اقتبسوا مصطلحات الديمقراطية و الدولة المدنية من الغرب ثم ذهبوا لمراوغات كلامية جدلية و ترقيعات لمحاولة إقناع المسلمين انهم يقصدون ديمقراطية و مدنية غير التي يقصدها الغرب! ... فكلا الحزبين من المسلمين، حزب الدولة المدنية و الديمقراطية، و حزب نظرية التطور، كلاهما يُمَيِّعون و يَمِيعُون لا لشيئ إلا لاستلطاف الغرب و التودد اليه و الإثبات له أنهم متحضرون مثقفون متفتحون عصريون الخ، ...

و سيقول المسلمون المروجون لنظرية التطور أن النظرية لا تخالف القرآن بل و سيأولون بعض الآيات لتتفق مع نظرية التطور، تماماً كما قال الدعاة للديمقراطية و الدولة المدنية أنهما لا يخالفان القرآن، فنقول لهم هل أَشْهَدكم الله كيف خلق مخلوقاته حتى يمكنكم تحديد كيف تَمَّ ذلك {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ (51)}(سورة الكهف)؟ ...

و سيقول المسلمون المروجون لنظرية التطور أن النظرية جذابة و عبقرية و تدل على قدرة الله و عظمته الخ ...، فنقول لهم كذبتم، و ظهرت سطحيتكم و جهلكم، فهل الخلق من لاشيء، من عَدَم، أعظم و أعجب و أذْهل أم تحويل شيئ أو مخلوق الى شيئ أو مخلوق آخر؟ و هل إخراج الحي من الميت، من الجماد الصم، أعظم و أعجب و أذْهل أم إخراج الحي من الحي؟ ما لكم كيف تعقلون؟
فالله يخلق من عدم، يخلق من لاشيء، إذا أراد شيئا يقول له كن فيخرج من لاشيء ليصبح كائناً: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117)}(البقرة)، ... و الله يُخرج الحي من الميت: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ (19)}(المؤمنون)، ... فالله خلق الكائنات الحية و منها الانسان على هيئتها التي نراها اليوم، و هو على ذلك قادر، و هو على كل شيئ قدير، فالله يخلق من العدم و الله يُخرج كائنات حية من مادة ميتة صماء! ... فلأدعياء نظرية التطور من المسلمين نقول: هل عندكم شك في قدرة الله على خلق كل الكائنات الحية على هيئتها التي نراها اليوم؟ فإذا كان عندكم شك في ذلك فأنتم إذاً كالذين لا يصدقون أن الله سيعيد خلق كل الكائنات الحية على هيئتها التي ماتت عليها، بعدما تحولت جثتها الى لاشيء، أم تظنون أن الله سيعيد خلقها يوم القيامة عن طريق عملية التطور؟ و إذا أقررتم أن الله سيعيد خلق الموتى مباشرة على هيأتهم التي ماتوا عليها، فلماذا لا يكون خلقها أول مرة كذلك؟: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ، بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40)}(النحل)، ....{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(سورة الروم)، ..... {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}(يس)! ....

فالذي يخلق من لاشيء هو الذي يسمى خالقاً، و الذي يخلق الحي من الميت هو الذي يسمى خالقاً، و هو المطلق في قدرته فعلا، و هو الله سبحانه و تعالى ذكره! ... أما استخراج شيئ من شيئ موجودٍ، عن طريق الأخذ بالأسباب و المسببات فهذا يقدر عليه الانسان أيضاً و لو نِسْبيا، فالإنسان يصنع و يطور مثلا من المعادن الخام سيارات و طائرات و أسلحة و صواريخ و آلات و غيرها الكثير من الاشياء الدقيقة في هندستها و حركتها و خدمتها، و الانسان يصنع من مواد خام روبوتات تشبه الانسان و تتحدث و تقوم بكثير من الخدمات الخ، ... فإذًا تطوير شيئ من شيئ لا يُعتبر خلقاً و إلا لأصبح الانسان خالقا لكثرة العجائب التي يصنعها و يطورها من مواد خام بسيطة بدائية الشكل! ... فحَصْرُ قدرة الله على تطوير شيئ من شيئ يعني نفي قدرته على الخلق، .... و تطوير شيئ من شيئ يعني وجوب وجود أسباب و مسببات لإنتاج الشيئ المراد، و الأسباب و المسببات يمكن إدراكها ببدل ما يكفي من الجهد و البحث و التنقيب، و بالتالي متى تم إدراكها أصبح بمقدور الانسان الأخذ بتلك الأسباب لتطوير نفس الشيء، ... فمثلا من طوَّر و صنع من المعادن الخام مركبة تطير في الفضاء فإن باقي الناس و إن عجبوا لأمر تلك المركبة الطائرة و استكبروها لكنهم سرعان ما سيدركوا الأسباب التي اتُّبِعت و اتُّخذت لتحويل معادن خام الى شيئ طائر فيتمكنوا من صنع مثلها، و من تم انتهت عظمة و معجزة و جاذبية ذلك الاختراع و التطوير إذ فُهِمَ كيف يتم تطويرها و قُدِرَ عليها! ... لكن بالمقابل إذا أخرج الله مخلوقات من عدم، من لاشيء، فإن عملية الخلق هنا غير متعلقة و لا مرتبطة و محتاجة لأسباب و مسببات مادية محسوسة أو ملموسة، بل خلْقُها و مصدر وجودها هو الله مباشرة، الله الذي لا تُدرَك ذَاتُه، فسبب وجودها إرادةٌ من الله لا غير دون الحاجة لأي شيئ وسيط بين إرادة الله الخالق و بين خروج الكائن من العدم! ... فعملية خلقٍ من هذا القبيل هو فعلا الامر المذهل، الامر العظيم و الجلل، هو الامر الذي يدل فعلا على عظمة الله و قدرته، قدرةٌ على الخلق لا يستطيع كائنا من كان تحدي الله فيها...، فلذلك لا يستطيع الانسان خلق اي شيئ مما خلق الله، ... فإذا كانت مسألة الخلق مرتبطة و متعلقة بتطور نوع الى نوع آخر لاستطاع الانسان إدراك الأسباب و المسببات التي تدفع تحول نوع من المخلوقات الى نوع آخر و لاستطاع الإتيان بمخلوقات جديدة و تحويل نوع من الحيوانات الى نوع آخر قادر على الحياة و التوالد، ... لكن هذا ما لا و لن يستطيع الانسان فعله و لو تعلق الامر بخلق حشرة صغيرة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ (73)}(الحج)، ..... فالإنسان لا يمكنه انتاج اي شيئ مهما صَغُرَ شأنه و سَهُل مبتغاه، لا يمكنه أبداً إنتاجه فقط بقوله "كُنْ"! ... هنا تظهر المعجزة، هنا تظهر القدرة المطلقة التي لا تحتاج الى أسباب مسبقة للإنتاج و الخلق، لا تحتاج لجهد و لا وقت {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون}! .... فإنه من السطحية و السذاجة و قلة التدبر الانبهار بتطور شيئ من شيئ موجود مسبقا تحت فعلِ و تأثير اسباب و قوانين مادية، فالذي يستحق فعلا التعجب و الانبهار و التعظيم الاكبر هو إخراج شيئ من عدم الى الوجود، فهذا الفعل هو العظمة المطلقة و القدرة المطلقة، فسبحان الله عما يصفون ....!

فالله قادر على خلق الكائنات الحية كلها و منها الانسان على هيئتهم التي نراها اليوم، و هو سبحانه على كل شيئ قدير، و من يدعي غير ذلك نقول له: هل عندك شك في قدرة الله على خلق كل الكائنات الحية على هيئتها التي نراها اليوم؟ ألم تتدبروا في القراَن كيف ذكر الله خلقه لكائنات حية مباشرة على هيئتها التي نعلمها، فعيسى عليه السلام كان يصنع قالبا من طين على هيئة طير فيجعله الله مباشرة طيراً: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ (49)}(آل عمران)، فأين عملية التطور في الخلق هنا؟ ...
و ألم تتدبروا في ذكر الله في القرآن أنه أخرج ناقةً من صخر جامد: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ ءايَةً (73)} (سورة الأعراف)، ... {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155)}(الشعراء)، فثمود كانوا قوما ذوي قوة، كانوا يأتون الجبال الصخرية العاصية فيشقونها و ينحتون منها بيوتا، فاغتروا بقدرتهم و قوتهم فطلبوا من نبي الله صالح أن يُخرج لهم من الجبل، من الصخر، ناقة حَيَّة لِيُثبت لهم أنه نبي الله فعلا، و كأنهم يتحدون الله الذي بعث لهم صالحاً نبيا فيقولون له انظر كيف نخرج نحن من الجبال بيوتا فارهة، فهل يستطيع رَبُّك يا صالح أن يُخرج لنا ناقة من هذا الصخر؟ فاخرج لهم الله الناقة من صخرة صماء! فأين عملية التطور في الخلق هنا؟
و ألم تتدبروا في ذكر الله في القرآن أنه أخرج ثُعْباناً حيا من عصا صماء: {فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107)}(الأعراف)! فأين عملية التطور في الخلق هنا؟
و ألم تتدبروا في ذكر الله في القرآن أنه أعاد إخراج كائنات حية من أجزائها الميتة الممزقة المبعثرة المتفرقة قطعها في أماكن مختلفة: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}(البقرة)، فأين عملية التطور في الخلق هنا؟
و ألم تتدبروا في ذكر الله في القرآن أنه يُخرِجُ الحي من الميت: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}(البقرة)، فالله أعاد إحياء الرجل مائة سنة بعد موته، ثم أراه الله كيف يعيد إحياء الحمار بعد موته و تحوله الى تراب، فخلق الله مباشرة العظام ثم كساها لحما و أعاد احياء الحمار على الهيئة التي كان عليها، فأين عملية التطور في الخلق هنا؟

و بالتالي و قياسا على هاته الآيات التي سردناها و التي وصف فيها الله بمعاني قطعية الدلالة كيف خلق تلك الكائنات الحية و أخرجها من مادة جامدة أو ميتة، فإننا حين نقرأ قول الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20)}(المؤمنون)، و قوله سبحانه {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)}(آل عمران)، فلا يسعنا إلا أن نحمل هاته الآيات التي تتكلم عن خلق آدم من تراب على الآيات الاخرى لنفهم بداهة أن الله خلق آدم من تراب ليكون مباشرة إنسانا حيا على هيئته التي نعلمها، دون حاجة لعملية تطور عبر ملاييرًالسنين ابتداء من نوع حيواني بدائي بسيط الى بشر سوي معقد البنية! ... فالله الذي خلق كائنات حية على هيئتها دون عملية تطور، خلقها من خشب (عصى موسى) و من حجر (ناقة صالح) و من تراب (حمار الرجل الذي أحياه الله بعد مائة سنة) و من رُفاتٍ ممزق مشتت مفرق (طير ابراهيم عليه الصلاة و السلام) و من طين (الطين الذي شكله عيسى عليه الصلاة و السلام على هيئة طير)، الخ ....، الله الذي فعل هذا قادر على خلق آدم على هيئته مباشرة من التراب دون المرور عبر عملية تطور!

و إن في خلق الانسان مباشرة على هيئته تكريما له و اصطفاءً له عن باقي المخلوقات يستحق بها حمل رسالة رب العالمين: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ (70)}(الإسراء)، فإن الشرف و المقام يتحقق أيضاً بالأصل الطاهر الراقي الزكي، فكيف بحال الانسان إذا أدرك فجأة أن أصله ليس الانسان المُكرم آدم الذي خُلق في الجنة و كان نبيا عالما مؤمنا، و إنما أصله حيوان، أصله قرد أو ما شابهه!؟ ... فمُنَظِّروا نظرية التطور يُسقطوا الانسان عن درجته التي كرمه الله بها، فيُساوون بين البهيمة و الانسان، بين القِرَدة و الانسان، بين الحيوان و الانسان! ... أي عقول تافهة مريضة هاته التي خولت لكم هذا؟ ...

ثم إن مُنظري نظرية التطور يقولون أن كل شيئ خُلق بالصدفة،*فالمادة الخام الاولى، بِغَضِّ النظر عمن أوجدها -فهذا يتعمدون تجنب البحث فيه-، اسْتَقلَّت بنفسها و تطورت حسب قوانين ذاتية مستقلة عن أي خالقٍ، قوانين تأثر فيها البيئة من ناحية، و يوجهها سعي الكائنات للتأقلم مع البيئة من أجل القدرة على البقاء من ناحية اخرى، ... البقاء على حساب ضياع خاصيات النوع للتحول الى نوع آخر! .. و المحرك لهذه القدرة على التغير و التأقلم هي طفرات جينية كثيرة تنتج بالصدفة فتُنتج أنواعا يُنتقى منها الأقوى و الأقدر و الأصح الذي يستطيع التأقلم أحسن مع الظروف البيئية و القدرة على الحياة و التوالد! ... و نظرا لظهور الانواع المختلفة من الحيوانات عن طريق هذه الطفرات العشوائية، عن طريق هذه العملية العمياء للتطور و الانتقاء، عن طريق هذه العملية الغير مبنية على تصميم و تقدير، فإن النتاج كانت كائنات حية بها عيوب، فتكوين أجسامها ناقص و تركيبة أعضاء الجسم بها عيوب و نقصان و خلل، ... الخ، هكذا يدعي التطوريون! ... فنقول لهؤلاء التطوريين، بل النقصان هو نقصان عقولكم و إدراككم و أفهامكم، و العمى هو عمى قلوبكم، و العيب هو في إنكاركم لفضل الله عليكم إذ خلقكم و صوركم في أحسن صورة و منحكم نِعَمًا لا تُحصى {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)}(غافر)، .... {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)}(التين)، ... {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا (18)}(النحل)! ...

إذا قال كفارٌ أن الخلق كان نتاج عمل عشوائي دون تصميم و تخطيط و تقدير، مما ترتب عليه كائنات بها عيوب و نقصان، إذا قال الكفار هذا فهذا لا يهمنا إذ ليس بعد الكفر ذنب، لكن حين يدعي هذا الادعاء مسلمون فهذا ضلال عظيم و كلام حقير و خلل في الايمان، ... فالله يقول عن نفسه أنه خلق كل شيئ بإحكام و تقدير دقيق و تصميم إلهي لا يستطيع الانسان إدراك إلا القليل جداً من خفاياه و حِكَمِه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}(القمر)، ... {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)}(الفرقان)، ... {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9)}(السجدة)، ....

ثم إن خروج الانسان بالصدفة و الانتقاء العشوائي للوجود، يُبطل بداهة أي غاية و هدف لوجوده، .... و نظرية التطور تعني أيضاً، و يجب أن تعني أيضاً، أن الانسان على هيئته اليوم ما هو إلا مرحلة انتقالية لتطور مستمر للكائنات الحية فسرعان ما سينتهي فجأة النوع البشري بِتحَوُّله الى كائن آخر لا ندري كيف ستكون حاله و قدراته! ... فإذًا تطور الانسان تطور عبثي و وجوده عبثي و الحياة عبثية! ... فمن وُجد صدفة، و على حالة و هيئة معينة لفترة انتقالية فقط، عن طريق عملية تطور عشوائية عمياء عبثية، من وُجد تحت هذه الظروف و بهذه الطريقة لا يحق و لا يجوز أن تكون له اي رسالة أو هدف في الحياة! و هذا يتناقض مع إحساس الانسان الفطري بأن له رسالة في الكون يسعى لتحقيقها، و يتناقض مع قول الله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}(المؤمنون)، ... {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)}(الأنبياء)، ... {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (26)}(سورة ص)، .... {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)}(آل عمران)، ......
....

بل حتى الامراض و العاهات التي تصيب الانسان ليست نتاج فِعلٍ عشوائي ارتجالي أعمى دون تصميم و تدبير، فالامراض و العاهات كلها خلقها الله بتقدير دقيق و إحكام بالغ، تدُل على عظمة الله و قدرته {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور (23)}(سورة الحديد)، {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)}(التغابن)، .... فالأوبئة مثلا التي كانت تحصد ملايين الضحايا كالطاعون الذي كانت تعتبره اوروبا في عصر الظلمات عقاب إلهي و نقمة لا دواء لها، أظهرت الأبحاث العلمية أن كائنات حية صغيرة (بكتيريا اليَرْسينية الطاعونية) لا يراها الانسان إلا تحت المجهر هي التي تسبب مرض الطاعون القاتل، و غالب الأعراض المخيفة التي تظهر عند المصابين بمرض الطاعون كتغير لون الجلد الى السواد القاتم، غالب تلك الأعراض تم اكتشاف سبب حدوثها و تم تحديد البروتيينات التي تفرزها بكتيريا اليَرْسينية الطاعونية و كيف تعمل تلك البروتينات لإحداث تلك الأعراض المرضية! ... و كذالك أمراض السرطان اصبح معلوماً أن طفرات محددة في جينات معينة أو عدوى بفيروسات أو بكتيريا معينة تُحدِثُ أنواعا معينة من السرطانات، ... و الطفرات الجينية نفسها بدأت الأبحاث العلمية و التجارب تبين كيف يمكن وقوعها و ما سبب حصولها، .... فالامراض كلها بدون استثناء و الطفرات الجينية كلها ليست نتاج صدفة و لا عشوائية، و لكن نتاج لأسباب محكمة منظمة، نتاج لنظامٍ كامل متكامل، سبحان من وضعه و أحكمه! ... و متى أدرك الانسان أسباب المرض و نظام حدوثه و تطوره تمكن من معالجته و القضاء عليه، كما فعل الانسان مع كثير من الأوبئة خلال القرن العشرين بتطوير المضادات الحيوية و التلقيح! و لذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"(صحيح مسلم)، ... و في رواية البخاري قال صلى اله عليه و سلم: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً"! ...
فليس تمة شيئ عشوائي في خلق الانسان، لا صحيحا و لا مريضا، لا مُعافا و لا مُعاقاً، لا جميلا *و لا قبيحا، لا قوي البنية و لا ضعيفا، الخ ....، كله بقدرٍ و تصميم من الله، كله بأسباب و قوانين مُحكمة دقيقة فصلها الله و أحكمها! ... فمن يدرس علم الامراض و يبحث في أسباب و كيفية تطورها يدرك أن لكل مرض نظام معين محدد و قوانين ثابتة مُحكمة، و أنها ليست شيئ عشوائي أعمى، ... فليس تمة اي مجال للعشوائية و الصدفة و الارتجالية إلا في عقول من ابتدعوا نظرية التطور الخيالية! ...

أما الغاية من خلق الله للأمراض فهذا يدخل ضمن غاية خلق الانسان و المتمثلة في معرفة الله و طاعته و ذكره و عبادته و شكره، .... ففي الامراض و العاهات الجسمية، كما في القوة و الجمال، كما في الغنى و الفقر، الخ ... في كل ذلك ابتلاء للإنسان و اختبار له ليُمحص عن مدى إيمانه بالله و رِضاه بكل ما قدره عليه، سواء كان خيرا أو شرا ! ... و في البلاء بالأمراض و غيره أبواب خير تُفتح للتوبة و لمحْوِ الخطايا، فليس تمة انسان لا يخطئ و لا يرتكب المعاصي، فخلق الله انواع كثيرة من البلاء و منها الامراض ليمحو بها المسلم خطاياه إن هو صبر على البلاء و احتسبه لله رب العالمين! ...
فورقة الدخول الى جنات الخلود لا يستحقها إلا من أدرك الغاية من خلقه و صبر على البلاء و شكر الله على النِّعم، {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}(البقرة)، ... {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}(الأنبياء)، .....
فالابتلاء بأمراض و غيرها و إن كان ظاهرها شر إلا أن فيها خير كثير للمسلم، فإن كان مسلما صالحا زاده صبره عليها إيمانا و أجرا و درجات في جنات الخلود، و إن كان من اهل المعاصي و الفسق و الظلم ذَكَّره المرض و الضعف بوجود الله و أٓفَاقَه من غفلته عن الموت و يوم الحساب، فإذا توجه الى الله بالتضرع و الاستغفار و التواب رده الله الى الطريق المستقيم و أعانه على ذلك و شرح صدره للايمان و طاعة الله و جعله من اهل الجنة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)}(الأنعام). .... و عن رسول الله قال: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ"(صحيح البخاري)، ... و قال صلى الله عليه وسلم قال: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"(صحيح مسلم)، ... ويقول صلى الله عليه وسلم: "إنَّ عِظمَ الجزاءِ مع عِظمِ البلاءِ ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتَلاهم ، فمَن رَضي فله الرِّضَى ، ومَن سخِط فله السَّخطُ"(صحيح الترمذي)، ... و قال أيضاً عليه الصلاة و السلام: "لا يتمنَّينَّ أحدُكم الموتَ لِضُرٍّ نزل به، فإن كان لابدَّ مُتمنِّيًا فليقُلِ: اللَّهمَّ أحيِني ما كانت الحياةُ خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي"(صحيح البخاري)، وفي روايةٍ : "لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْت، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ"(صحيح البخاري)، و معنى "فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ" أَي: فلعله يَسْتَرْضِيَ، يَعْنِي يَطْلُبُ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ! ...

فنقول للمسلمين الذي يروجون لنظرية التطور و يشغلون المسلمين بضلالات أهل الكفر الذين اقتبس عنهم هؤلاء المسلمين النظرية، نقول لهم أن المسلم لا يجعل غايته في الدنيا البحث في المادة لأجل المادة نفسها، فنظرية التطور الى جانب ما بيَّنا من بطلانها فهي تجعل المادة هي الغاية و تجعل المادة مصدر تفكيرهم، تجعلها هي الأساس بحيث لا يتجاوز تفكيرهم إطار المادة، و لذلك قالوا أن المادة هي التي تحدد تطورها بنفسها و ليست بحاجة لخالق، فعظموا من شأنها و كأنها، اي المادة و المتمثلة في الخلايا و العظام و الأنسجة الخ، و كأنها تفكر و تدبر و تحدد هي بنفسها مصيرها و صيرورتها و تحدد ما تصنعه بالكائن الحي الذي تُكَوِّنُ تركيبته، فتجعل منه حينا حيوانا زاحفا و حينا آخر قردا و حينا إنسانا !، ... لا، المسلم ليس هكذا تعامله مع المادة، إذ يعتبرها مخلوقا لله لا تحدد هي اي شيئ بل الله يسخرها و يحدد كيفية وجودها، ... و المسلم مع إدراكه لضرورة البحث في المادة، من جماد و حيوان و نبات، للانتفاع منها، إلا أنه لا يجعل المادة تحدد غايته في الحياة و لا يمجدها و لا يعظمها، بل يعظم خالقها، فهو -اي المسلم- و إن استعمل المادة للعيش و الأكل و الشرب و التداوي و الطيران الخ ...، إلا أنه لا ينسى أبدا على أن الغاية الأهم و الأعظم من خلق الله لكل ما في الكون، و لخلق الله للأنواع الكثيرة من الحيوانات و النبات و للتشابه بين كثير من انواع تلك الكائنات الحية، ... لا ينسى المسلم أبدا أن كل ذلك إنما هو أولا و قبل كل شيئ آيات تدل على وجود الله الخالق لكل ذلك، و أنها آيات للتفكر في عظمته سبحانه و لحمده على نعمه: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)}(الجاثية)، .... {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)}(يس)، .... {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}(النحل)، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}(البقرة)، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}(آل عمران)، ...

فخلق الله للأنواع الكثيرة من الحيوانات و النبات و التشابه فيما بينها ليس دليلا على تطور الانواع من بعضها، و لكن ذلك آيات على وجود الله و على عظمته و قدرته على الخلق و على تدبير شؤون خَلْقِه مهما تعدد نوعهم و تشابهت أشكالهم: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (22)}(الروم)، .... {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}(غافر)، .... فالعلماء الربانيون الحقيقيون تدفعهم رؤية الألوان و الأشكال المختلفة من الكائنات الحية الى تعظيم الله و معرفة قدرته و خشيته سبحانه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}، أما المتطفلين على العلم و المعرفة فيدفعهم ذلك الى التنطع و اتباع الشبهات و الغرور بالذات! ...
...