شبهة ودفعها
ذلك مذهب الجمهور من العلماء ولكن بعض المعتزلة والظاهرية يقولون إن النسخ بغير بدل لا يجوز شرعا وشبهتهم في هذا أن الله تعالى يقول :
.gif)
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها

ووجه اشتباههم أن الآية تفيد أنه لا بد أن يؤتى مكان الحكم المنسوخ بحكم آخر هو خير منه أو مثله ولكنها شبهة مدفوعة بما ذكرنا من النصين السابقين في تقديم الصدقة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم واحتجاجهم بآية :
.gif)
ما ننسخ

على الوجه الذي ذكروه احتجاج داحض لأن الله تعالى إذا نسخ حكم الآية بغير بدل فهمنا بمقتضى حكمته أو رعايته لمصلحة عباده أن عدم الحكم صار خيرا من ذلك الحكم المنسوخ في نفعه للناس وصح أن يقال حينئذ إن الله نسخ حكم الآية السابقة وأتى بخير منها في الدلالة على عدم الحكم الذي بات في وقت النسخ أنفع للناس وخيرا لهم من الحكم المنسوخ ومعنى آية :
.gif)
ما ننسخ

لا يأبى هذا التأويل بل يتناوله كما يتناول سواه والنسخ فيها أعم من نسخ التلاوة والحكم مجتمعين ومنفردين ببدل وبغير بدل والخيرية والمثلية فيها أعم من الخيرية والمثلية في الثواب وفي النفع وقد مر بيان ذلك فيما سبق عند الكلام على أدلة النسخ عقلا
نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل
$ النسخ إلى بدل يتنوع إلى أنواع ثلاثة
أولها النسخ إلى بدل أخف على نفس المكلف من الحكم السابق كنسخ تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم في ليل رمضان بإباحة ذلك إذ قال سبحانه :
.gif)
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر
ثانيها النسخ إلى بدل مساو للحكم الأول في خفته أو ثقله على نفس المكلف كنسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة في قوله سبحانه :
.gif)
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره
وهذان النوعان لا خلاف في جوازهما عقلا ووقوعهما سمعا عند القائلين بالنسخ كافة
ثالثها النسخ إلى بدل أثقل من الحكم المنسوخ وفي هذا النوع يدب الخلاف فجمهور العلماء يذهبون إلى جوازه عقلا وسمعا كالنوعين السابقين ويستدلون على هذا بأمثلة كثيرة تثبت الوقوع السمعي وهو أدل دليل على الجواز العقلي كما علمت من تلك الأمثلة أن الله تعالى نسخ إباحة الخمر بتحريمها ومنها أنه تعالى نسخ ما فرض من مسالمة الكفار المحاربين بما فرض من قتالهم :
.gif)
كتب عليكم القتال وهو كره لكم

ومنها أن حد الزنى كان في فجر الإسلام لا يعدو التعنيف والحبس في البيوت ثم نسخ ذلك بالجلد والنفي في حق البكر وبالرجم في حق الثيب ومنها أن الله تعالى فرض على المسلمين أولا صوم يوم عاشوراء ثم نسخه بفرض صوم شهر رمضان كله مع تخيير الصحيح المقيم بين صيامه والفدية ثم نسخ سبحانه هذا التخيير بتعيين الصوم على هذا الصحيح المقيم إلزاما
شبهات المانعين ودفعها
ذلك ما ارتآه الجمهور ولكن قوما شطوا فمنعوا هذا النوع الثالث عقلا وآخرون أسرفوا فمنعوه سمعا وكلهم محجوجون بما ذكرنا من الأدلة غير أنا لا نكتفي بذلك بل نعرض عليك شبهاتهم ونفندها بين يديك لئلا تنخدع ولا نسمح لأحد أن ينخدع
الشبهة الأولى ودفعها
يقول المانعون لهذا النوع عقلا إن تكليف الله لعباده لا بد أن يكون لمصلحة راجعة إلى العباد لا إليه ومحال أن يكون لغير مصلحة وإلا كان الله سبحانه عابثا ومحال أن يكون لمصلحة تعود على الله لأنه تعالى هو الغني عن خلقه جميعا وإذا كان التكليف راجعا لمصلحة العباد وحدهم فلا بد أن يكون على حالة تدعو إلى امتثالهم وليس في نقل العباد من الأخف إلى الأشد داعية إلى امتثالهم بل هو العكس من ذلك فيه تزهيد لهم في الطاعة وتثبيط لهم عن الواجب وكل ما كان كذلك يمتنع أن يصدر من الله عقلا
وندفع هذه الشبهة أولا بأن هذه سفسطات مفضوحة ومغالطات مكشوفة عمي فيها هؤلاء أو تعاموا عن الحقائق الواقعة في التشريع وهي نقل العباد فعلا من أحكام خفيفة إلى أحكام أشد منها كما مثلنا آنفا
ثانيا أننا نقلب حجة هؤلاء عليهم ونرد كيدهن في نحرهم ونعمل سلاحهم في أعناقهم ونقول لهم إن مصلحة العباد التي هي مقصود الشارع الحكيم الرحيم تقضي أن يكون تكليفه إياهم على حالة تدعو إلى امتثالهم وذلك بأن يتدرج بهم فيمهد ويمهد للتكليف الخفيف بتكليف أخف منه ويمهد للتكليف الثقيل بتكليف خفيف وللتكليف
الأثقل بتكليف ثقيل لأن الناس لو بوغتوا من أول الأمر بالثقيل مثلا لعجزوا ونفروا وانعكس المقصود من هدايتهم ولذلك نشاهد حكماء المربين وساسة الأمم القادرين يبتدئون في تربيتهم وسياستهم بأيسر الأمور ثم بعد ذلك يتدرجون ولا يطفرون
ثالثا أن دليلهم هذا منقوض بما لا يسعهم إنكاره وهو تكليف الله عباده ابتداء ونقلهم من الإباحة المطلقة أو البراءة الأصلية إلى مشقة التكاليف المتنوعة فما يكون جوابا لهم عن هذه يكون جوابا لنا عما منعوه هنا
رابعا أنهم متناقضون فإن مصلحة العباد التي جعلوها مناط شبهتهم تأبى مفاجأة الناس بالأشد من غير تمهيد بالأخف ومذهبهم لا يأبى التكليف من أول الأمر بالأشد دون تمهيد بالأخف
خامسا أننا لا نسلم أن مقصود الشارع من التكاليف هو مجرد مصالح الناس بل تارة يكون المقصد هو المصلحة وتارة يكون المقصد هو الابتلاء والاختبار ليميز الله الخبيث من الطيب حتى لا يكون لأحد بعد تمايز الناس بابتلائه حجة وقد أعلن الله هذا المقصد الثاني في آيات كثيرة منها قوله سبحانه :
.gif)
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم

ومنها قوله عز اسمه :
.gif)
ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون

ومنها قوله جلت حكمته :
.gif)
الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا
وإذن فنسخ الحكم بأشد قد يكون ابتلاء للعباد إن لم يكن مصلحة لهم وتلك حكمة بالغة تلغي عن الله العبث
سادسا أن الحكم الأشد الناسخ قد يكون هو المصلحة للعباد دون الحكم الأخف المنسوخ لأنه على رغم شدته وثقله يشتمل على داعية لامتثاله لا توجد في الحكم الأول وقت النسخ من ترغيب أو ترهيب أو تجلية لمزايا وفوائد من وراء الحكم الجديد في الدنيا أو في الآخرة تأمل آيتي التحريم النهائي للخمر وما انطوتا عليه من هذه الألوان ثم تأمل آيات مشروعية الجهاد وما فيها من ضروب الترغيب والترهيب وتحريك العزائم إلى السخاء بالنفوس والأموال إلى غير ذلك مما تدركه في الأحكام الناسخة بأقل تبصر وإمعان
الشبهة الثالثة ودفعها
يقول المانعون لنسخ الأخف بالأثقل سمعا فقط إن الله تعالى يقول :
.gif)
ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم

ومعنى هذا أن الشدائد التي كانت على من قبلنا رفعها الله عنا ونسخ الأخف بالأشد مخالف لهذا الوعد الصريح فهو ممنوع سمعا
وندفع هذه الشبهة بأن قصارى ما تفيده هذه الآية أن الله تعالى أعفى هذه الأمة المحمدية من أن يكلفها بما يصل في شدته إلى تلك الأحكام القاسية التي فرضها على الأمم الماضية والتي ألزمهم بها إلزاما كأنها أغلال في أعناقهم وهذا لا ينفي أن تكون بعض الأحكام في الشريعة الإسلامية أشد من بعض وأن ينسخ الله فيها حكما اخف بحكم أثقل منه ولكن لا يصل في شدته وصرامته إلى مثل أحكام الماضين في شدتها وصرامتها فوعد الله بالتخفيف على هذه الأمة حق ونسخه حكما بما هو أثقل منه حق
وخلاصة الجواب أن شدة بعض الأحكام الإسلامية إنما هو بالنسبة إلى بعضها الآخر أما بالنسبة إلى أحكام الشرائع الأخرى فهي أخف منها قطعا
الشبهة الثالثة ودفعها
يقول هؤلاء أيضا إن الله تعالى يقول :
.gif)
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر

ويقول :
.gif)
يريد الله أن يخفف عنكم

ولا تيسير ولا تخفيف في نقلنا من الأخف إلى الأثقل
وندفع هذه الشبهة أولا بأن قصارى ما يدل عليه هذان النصان الكريمان هو أن الأحكام الشرعية كلها ميسرة مخففة في ذاتها لا إرهاق فيها للمكلفين وإن كانت فيما بينها متفاوتة فبعضها أثقل أو أخف بالنسبة إلى بعض
ثانيا أنه لو كان مفهوم الآية هو ما فهموا من التيسير والتخفيف المطلقين لانتقض ذلك بأصل التكليف لأن التكليف إلزام ما فيه كلفة
ثالثا أن النص الأول :
.gif)
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر

قد سيق في معرض خاص هو الترخيص للمرضى والمسافرين أن يفطروا ويقضوا عدة من أيام أخر وعلى هذا يكون معناه يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر في ترخيصه للمرضى والمسافرين أن يفطروا رمضان ويقضوا عدة ما افطروا وكذلك النص الثاني ( يريد الله أن يخفف عنكم ) قد سيق في معرض خاص هو إباحة الله لعباده أن يتزوجوا الفتيات المؤمنات من الإماء إذا لم يستطيعوا طولا أن يتزوجوا الحرائر من المحصنات المؤمنات وبشرط أن يخشوا العنت أي يخافوا الوقوع في الزنى
وعلى هذا فالتخفيف المذكور في هذا السياق معناه التخفيف بالترخيص لهؤلاء الفقراء الخائفين من العنت أن يتزوجوا إماء الله المؤمنات
الشبهة الرابعة ودفعها
يقول هؤلاء أيضا إن قوله سبحانه :
.gif)
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها

يفيد أن النسخ لا يكون إلا بالأخف لأنه الخير أو بالمساوي لأنه المثل أما الأثقل فلا
وندفع هذه الشبهة بأن الخيرية والمثلية في الآية الكريمة ليس المراد منهما ما فهموا من الخفة عن الحكم الأول أو المساواة به بل المراد بها الخيرية والمثلية في النفع والثواب على ما مر تفصيله وعلى هذا فما المانع من أن يكون الأثقل الناسخ أكثر فائدة في الدنيا وأعظم أجرا في الآخرة من الأخف المنسوخ أو يكون مساويا له في الثواب ومماثلا له في الأجر
نسخ الطلب قبل التمكن في امتثاله
علماؤنا اتفقوا على أن نسخ الطلب قبل التمكن من العلم به ممتنع كما اتفقوا على أن نسخه بعد تمكن المكلف من امتثاله جائز لم يخالف في ذلك إلا الكرخي فيما روي عنه امتناع النسخ قبل تحقق الامتثال بالفعل أما نسخ الطلب بعد التمكن من العلم وقبل التمكن من الامتثال ففيه اختلاف العلماء ذهب جمهور أهل السنة ومن وافقهم إلى جوازه وذهب جمهور المعتزلة ومن وافقهم إلى منعه مثال ذلك قوله سبحانه :
.gif)
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين

فإن جمهورنا يجوزون نسخ وجوب الوصية المذكور في هذه الآية بعد التمكن من العلم به وقبل أن يحضر الموت أحد المكلفين أما جمهور المعتزلة فيقولون باستحالة نسخ هذا التشريع إلا بعد احتضار أحد المكلفين وتمكنه من الوصية ولا يكتفي الكرخي فيما روي عنه بمجرد تمكن المكلف من الوصية بل لا بد عنده من أن يوصي بالفعل حتى يجوز النسخ بعده