أما سؤال كويتبنا: "ما علاقة عائشة بذلك كله؟" وجوابه عليه بقوله: "لا شىء. لقد جرّت أم المؤمنين عائشة على نفسها نقمة الكثيرين بسبب دورها فى الفتنة الكبرى وموقعة الجمل. لذا تخصصت طوائف من الشيعة فى الهجوم عليها واتهامها فى شرفها، وكل الأحاديث المفتراة التى تهتك حرمة رسول الله كان النصيب الأكبر فيها لعائشة. ومن يقولون أنهم أهل السنة يدافعون عن تلك الأحاديث ويعتبرون نقدها وتبرئة الرسول وأهل بيته منها إنكاراً للسنة! ويكفينا أن الجميع لا يزالون حتى الآن يربطون عائشة بحديث الإفك منهم تصديقاً لمفتريات ما يسمى بالمصدر الثانى"، فتعليقنا عليه هو أننى رجعت إلى سبعة تفاسير شيعية (هى تفاسير القُمّىّ والطُّوسِىّ والطَّبَرْسِىّ والجنابذىّ والفيض الكاشانىّ والطباطبائىّ ومحمد تقىّ المدرسىّ) لأعرف ماذا يقول الشيعة فى حادثة الإفك، فألفيت بعضهم يذكر أن الكلام فى الآيات عن عائشة، لكن الله قد برّأ أم المؤمنين مما رُمِيَتْ به، ثم يزيد فيؤكد أنه ما كان لنبى أن تخونه زوجته أبدا، وأن النبى عليه السلام لم يشكّ فى عائشة قط. وإلى القارئ كلام الطباطبائى فى هذا: "على أنا نقول إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي ينفر القلوب عنه، فمن الواجب أن يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوْث الزنا والفحشاء، وإلا لَغَتِ الدعوة. وتثبت بهذه الحجة العقلية عفتهن واقعًا لا ظاهرًا فحسب... وبالجملة دلالةُ عامّةِ الروايات على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ريب من أمرها إلى نزول العذر مما لا ريب فيه، وهذا مما يجلّ عنه مقامه صلى الله عليه وآله وسلم. كيف، وهو سبحانه يقول: "لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا: هذا إفك مبين"، فيوبخ المؤمنين والمؤمنات على إساءتهم الظن وعدم ردهم ما سمعوه من الإفك؟ فمن لوازم الايمان حسن الظن بالمؤمنين، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أحق من يتصف بذلك ويتحرز من سوء الظن الذي من الإثم، وله مقام النبوة والعصمة الالهية". وهناك بعض آخر يقول إن المراد هو ما أشاعته عائشة عن مارية القبطية من أنها قد حملت بإبراهيم من خادمها القبطى، وهى رواية لا أساس لها إلا من خيالات هؤلاء وأمثالهم للأسف. وبعض ثالث يقول إن العامة (أى أهل السنة فى مصطلحهم) ترى أن المقصود فى آيات سورة "النور" هى عائشة، أما الخاصة (أى الشيعة) فيرون أنها مارية القبطية. وعلى هذا فالذين يقولون من الشيعة إنها عائشة يبرئونها كما برأها القرآن الكريم، ولا شك أنه فخر لها، وأى فخر، أن تنزل آيات القرآن بتبرئتها من فوق سبع سماوات مثلما كانت تقول، وحق لها أن تقول. أما الذين يقولون إن المقصود بالآيات هى مارية فهم لا يتهمون عائشة فى عرضها، وإن كانوا يتهمونها بالقذف فى حق مارية بُطْلاً، وهذا طبعا شىء آخر يختلف عما نحن بسبيله. أى أن ما قاله منصور عن الشيعة فى هذه القضية هو كلام لا قيمة له على الإطلاق. ومن ثم فالحديث الخاص بقصة الإفك لا مساءة فيه لعائشة فى قليل أو كثير، بل هو بمثابة وسام على صدرها الطاهر الشريف على عكس ما يهرف به جاهلنا الذى يتلظى قلبه على الإسلام وقرآنه وأحاديث رسوله حقدا وضغنا، لكنه يختص الحديث النبوى الآن بالهجوم كخطوة أولى ومؤقتة تعقبها الخطوة الثانية عندما يئين الأوان، ألا وهى الهجوم على القرآن والتطاول على الرسول عِيَانًا بيانًا، وجِهَارًا نهارًا! اللهم افضح من يعمل على الإساءة إليه واهتك ستره، ولو كان فى جوف محارة تائهة فى أعماق البحار جزاء انحيازه لأعدائك وأعداء دينك ورسولك وقرآنك! وحتى لو كان البخارى يريد مسح الأثر الذى لكلام الشيعة فى عائشة حسب تفكير كاهننا المضطرب لكان هذا بدوره مفخرا له، وأى مفخر، على عكس ما يريد أحمد صبحى منصور أن يوهم القراء الفضلاء الذين يظن بهم السذاجة والتخلف، على حين أنه هو الساذج المتخلف كما بيَّنّا بالأدلة الموثقة. وفى النهاية ألفت نظر القارئ الكريم إلى الفرق بين طريقة صاحبنا فى البحث والتأليف وطريقة العبد لله، فهو يخبط فى طريقه على نحو عُمْيانِىّ، ولا يبالى أين يقع كلامه ما دام يوصله إلى الهدف المرسوم له، أما أنا فأتحرى كل كلمة يقولها هو أو أقولها أنا، وأظل وراء البحث والتقصى حتى تتضح الصورة بالحق مؤيَّدًا بالاستشهادات من مصادرها التى يحددها هو. أى أننى أنزل على شَرْطه حتى لا أدع ورائى ما يمكن أن يجادل فيه أى لئيم! وبالمناسبة فقد تعمدت أن تكون استشهاداتى بكتب الشيعة كيلا أترك لجاهلٍ أية ثغرة يمكن أن يهرب من خلالها.
ومن الأحاديث التى أخذ يصيح متهما البخارى بأنه اخترعها بقصد الإساءة على الرسول الكريم حديث أنس: "جاءت امرأة من الأنصار إلى النبى فخلا بها فقال: والله إنكن لأَحَبّ الناسِ إلى"، وهو الحديث الذى علّق عليه قائلا: "والرواية تريد للقارئ أن يتخيل ما حدث فى تلك الخلوة التى انتهت بكلمات الحب تلك. ولكن القارئ الذكى لابد أن يتساءل: إذا كانت تلك الخلوة المزعومة قد حدثت فرضاً فكيف عرف أنس، وهو الراوى، ما قال النبى فيها؟"، وهو تساؤل يشى بما فى قلبه تجاه رجال الحديث، بل تجاه النبى نفسه الذى يسىء هو إليه ثم يدعى أن البخارى يقصد كذا وكذا مما لا يمكن أن يدور فى ذهن البخارى ولا فى ذهن أى إنسانٍ سَوِىٍّ، بله أن يكون هذا الإنسان من أتباع النبى الشريف ويريد أن يجنبه إساءات البخارى وأمثاله! ثم يتمادى كويتبنا فى تأكيد معانيه وإيحاءاته المجرمة قائلا: "وفى نفس الصفحة التى جاء فيها ذلك الحديث يروى البخارى حديثاً آخر ينهى فيه النبى عن الخلوة بالنساء، يقول الحديث: "لا يخلونّ رجل بامرأة إلا مع ذى محرم". وذلك التناقض المقصود فى الصفحة الواحدة فى "صحيح البخارى" يدفع القارئ للاعتقاد بأن النبى كان ينهى عن الشىء ويفعله. يقول للرجال: "لا يخلون رجل بامرأة" ثم يخلو بامرأة يقول لها: "والله إنكن لأحب النساء إلى". هل نصدق أن النبى عليه السلام كان يفعل ذلك؟ نعوذ بالله (راجع البخارى: الجزء السابع ص 48)".
هذا ما قاله الكويتب العبقرى، وإلى القارئ روايات البخارى وغيره من المحدِّثين وما علق به ابن حجر والنووى على ذلك الموضوع. ونسوق أوّلاً ما أورده البخارى فى المواضع المختلفة من "صحيحه"، ونبدأ بالرواية التى اعتمد عليه كويتبنا وتعليق ابن حجر بشأنها: "حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن هشام قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخلا بها فقال: والله إنكن لأحب الناس إلي". ويلاحَظ أنه قد ورد فيها الكلام على النحو التالى: "إنكن..."، وهذه هى الرواية الوحيدة التى استُخْدِم فيها الضمير "كنّ"، على حين أن الروايات الأخرى سواء عند البخارى أو غيره تقول: "إنكم"، أى "إنكم أيها الأنصار"، لكن الكويتب ترك ذلك كله وتمسك بهذه الرواية لغرض فى نفسه مع أنها يمكن أن تكون غلطة مطبعية أو نسخية، وبخاصة أن ابن حجر فى شرحه لها قد أوردها هكذا: "إنكم" على ما سوف يتضح على الفور، إلا أن كاتبنا الذى يهيم فى محبة رسول الله كما يزعم (ثم هو لا يحب إلا من يكره رسولَ الله والدينَ الذى جاء به رسول الله وصحابةَ رسول الله والعلماءَ الذين أنفقوا عمرهم فى خدمة ما وردنا من أحاديث رسول الله، ويظن غباءً منه أنه بهذه الطريقة يستطيع الإساءة إلى رسول الله، ومن ثَمّ تقويض دين الله)، كاتبنا (بل كويتبنا) هذا قد أغمض عينيه عن سائر الروايات وشروحها جميعا، والتصق بهذه الرواية هذا الالتصاق المريب كى يسىء للرسول الكريم، فى الوقت الذى يجأر فيه صُرَاخًا بأنه إنما يعمل على منع "الظلم" عنه عليه السلام بل وعن الله ذاته، وهو تعبير غريب لا أدرى من أى وادٍ من أودية الشياطين أتى به، إذ لم أسمع من قبل ولا أظننى سأسمع من بعد بأن الله يمكن أن "يُظْلَم". وعلى أية حال فهذا التعبير لم يرد فى القرآن، فلماذا استعمله كويتبنا العبقرى الذى لا يكف لحظة عن الضجيج المُصِمّ بأنه لا يقول إلا ما جاء به القرآن؟ وهذا هو نص ما قاله الكويتب المسكين شفاه الله: "بعد قراءة هذا الكتاب ستتضح الحقائق وسيزول الجهل، ويبقى اتخاذ القرار عن عمد وعن علم: إما بالتبرؤ من البخاري وغيره نصرةً لله تعالى ورسوله الكريم، وإما بنصرة البخاري وأئمة الحديث في ظلمهم لله تعالى ورسوله الكريم".
والآن مع شرح ابن حجر للحديث، ثم مع الروايتين الأخريين عنده، فالروايتين اللتين أوردهما مسلم وابن حنبل وشَرْح الإمام النووى لرواية الأول. يقول ابن حجر: "قوله: "عن هشام" هو ابن زيد بن أَنَس، وقد تقدم في "فضائل الأنصار" من طريق بهز بن أسد عن شعبة: "أخبرني هشام بن زيد"، وكذا وقع في رواية مسلم. قوله: "جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم"، زاد في رواية بهز بن أسد: "ومعها صبي لها، فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فخلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أي في بعض الطرق. قال المهلب: لم يُرِدْ أَنَس أنه خلا بها بحيث غاب عن أبصار من كان معه، وإنما خلا بها بحيث لا يسمع من حضر شكواها ولا ما دار بينهما من الكلام، ولهذا سمع أنس آخر الكلام فنقله ولم ينقل ما دار بينهما لأنه لم يسمعه" ا ه. ووقع عند مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أن امرأة كان في عقلها شيء قالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان، انظري أيّ السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك". وأخرج أبو داود نحو هذا السياق من طريق حميد عن أنس، لكن ليس فيه أنه كان في عقلها شيء. قوله: "فقال: والله إنكم لأحب الناس إليّ"، زاد في رواية بهز: "مرتين"، وأخرجه في الأيمان والنذور من طريق وهب بن جرير عن شعبة بلفظ "ثلاث مرات". وفي الحديث منقبة للأنصار، وقد تقدم في فضائل الأنصار توجيه قوله: "أنتم أحب الناس إليّ". وقد تقدم في حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس مثل هذا اللفظ أيضا في حديث آخر، وفيه سعة حلمه وتواضعه صلى الله عليه وسلم وصبره على قضاء حوائج الصغير والكبير، وفيه أن مفاوضة المرأة الأجنبية سرا لا يقدح في الدين عند أمن الفتنة، ولكن الأمر كما قالت عائشة: "وأيكم يملك إربه كما كان صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟".
وبعد الانتهاء من رواية البخارى الأولى ننتقل إلى الرواية الثانية: "حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير حدثنا بهز بن أسد حدثنا شعبة قال: أخبرني هشام بن زيد قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها صبي لها، فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي مرتين"، ثم بعد ذلك إلى الرواية الثالثة عنده رضى الله عنه (ولا رضى عمن يتهمه زُورًا وعدوانًا ووقاحةً بالكذب والتلفيق، ويكفّر المسلمين جميعا، ولا يحب أو يوالى إلا أعداء الإسلام): "حدثنا إسحاق حدثنا وهب بن جرير أخبرنا شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك أن امرأة من الأنصار أتت النبي صلى الله عليه وسلم معها أولاد لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنكم لأحب الناس إليّ. قالها ثلاث مرار". أما رواية مسلم فها هى ذى: "حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار جميعا عن غندر قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن هشام بن زيد: سمعت أنس بن مالك يقول: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فخلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والذي نفسي بيده إنكم لأحب الناس إليّ، ثلاث مرات. وحدثنيه يحيى بن حبيب حدثنا خالد بن الحارث ح و حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا ابن إدريس كلاهما عن شعبة بهذا الإسناد". ثم ها هو ذا أخيرا شرح النووى لحديث مسلم: "قوله: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلا بها" خفيا بحضرة ناس، ولم يكن خلوة مطلقة، وهي الخلوة المنهي عنها". وتبقى رواية الإمام أحمد، ونصها: "قال عفان: أخبرني هشام بن زيد بن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول :جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال عفان: معها ابن لها)، فقال: والذي نفسي بيده. وقال: ابن جعفر قال: فخلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والذي نفسي بيده إنكم لأحبّ الناس إليّ، ثلاث مرات". وبعد هذا التطواف العلمى والتنقير وراء الحقيقة يستطيع القارئ أن يحكم بنفسه على مدى أهلية كويتبنا لتناول مثل هذه الأمور، وكذلك على قيمة المنهج الذى يتبعه، وهل يصلح فى مجال العلم أو لا؟ إن صويحبنا يتصرف بالطريقة التى نسميها فى اللغة العامية إن أحسنّا به الظن: "سَلْق بَيْض"، وهى طريقة لا تصلح أبدا فى ميدان البحث ولا تليق بالباحثين والعلماء. أعاذنا الله من الغباء المتدثر بالكِبْر المضحك الفاضح: المضحك لغيرنا علينا، والفاضح المخزى لنا! ولننظر إلى علمائنا الأفاضل الأفذاذ كيف يقلبون كل شىء على جميع جوانبه ويزنون الكلام بميزان الذهب، وليس بميزان القبابنة اللصوص وزَّانِى البصل!
ومما يورده كويتبنا ويأخذه على البخارى ويتهمه بسببه بالعمل على الإساءة للنبى عليه السلام الحديث التالى الذى اختصره صويحبنا الأمين على هذا النحو: "كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن أبى الصامت، فدخل عليها رسول الله فأطعمته وجعلت تفلى رأسه، فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: وما يضحكك يا رسول الله؟... إلخ". وقد علق كويتبنا عليه قائلا: "فالنبى على هذه الرواية المزعومة تعوَّد الدخول على هذه المرأة المتزوجة، وليس فى مضمون الرواية وجود للزوج، أى تشير الرواية إلى أنه كان يدخل عليها فى غيبة زوجها. ويصور البخارى كيف زالت الكلفة والاحتشام بين النبى وتلك المرأة المزعومة، إذ كان ينام بين يديها وتفلى له رأسه. وبالطبع لابد أن يتخيل القارئ موضع رأس النبى بينما تفليها له تلك المرأة فى هذه الرواية الخيالية، ثم بعد الأكل والنوم يستيقظ النبى من نومه وهو يضحك، ويدور حديث طويل بينه وبين تلك المرأة نعرف منه أن زوجها لم يكن موجودا،ً وإلا شارك فى الحديث. وصيغة الرواية تضمنت الكثير من الإيحاءات والإشارات المقصودة لتجعل القارئ يتشكك فى أخلاق النبى، فتقول الرواية: "كان رسول الله يدخل على أم حرام". ولاحظ اختيار لفظ الدخول على المرأة، ولم يقل: "كان يزور". والدخول على المرأة له مدلول جنسى لا يخفى، والايحاء هنا موظَّف جيدا بهذا الأسلوب المقصودة دلالته. ثم يقول عن المرأة: "وكانت أم حرام تحت عبادة بن أبى الصامت"، فهنا تنبيه على أنها متزوجة، ولكن ليس لزوجها ذكر فى الرواية ليفهم القارئ أنه كان يدخل على تلك المرأة المتزوجة فى غيبة زوجها، وهى عبارة محشورة فى السياق عمدا حيث لا علاقة لها بتفصيلات الرواية. الا أن حشرها هكذا مقصود منه ان النبى كان يدخل على امرأة متزوجة فى غيبة زوجها ويتصرف معها وتتعامل معه كتعامل الزوجين. وحتى يتأكد القارىء ان ذلك حرام وليس حلالا يجعل البخارى اسم المرأة "أم حرام" ليتبادر إلى ذهن القارئ أن ما يفعله النبى حرام وليس حلالاً. ثم يضع الراوى بكل وقاحة أفعالاً ينسبها للنبى عليه السلام لا يمكن أن تصدر من أى إنسان على مستوى متوسط من الأخلاق الحميدة، فكيف بالذى كان على خلق عظيم عليه الصلاة والسلام؟ فيفترى الراوى كيف كانت تلك المرأة تطعمه وتفلى له رأسه وينام عندها ثم يستيقظ ضاحكاً ويتحادثان. نعوذ بالله من الافتراء على رسول الله. وقد كرر البخارى هذه الرواية المزعومة بصور متعددة وأساليب شتى ليستقر معناها فى عقل القارئ (راجع البخارى: الجزء الرابع ص 19، 21، 39، 51 والجزء الثامن ص 78 والجزء التاسع ص 44)".
وقبل أن أقول رأيى فى الحديث ألفت النظر إلى جملة أخطاء سقط فيها الكويتب منصور (اقرأ: "مكسور، منسور، منثور..." كما تحب، فأنت مصيب بإذن الله، وهو مصيبة إن شاء الله!): فقد أكد أن لفظ "الدخول على المرأة له مدلول جنسى لا يخفى، والإيحاء هنا موظف جيدا بهذا الأسلوب المقصودة دلالته"، وهذا كلام فارغ، وسأثبت أنه فارغ من القرآن نفسه الذى يدعى أنه يلتزم به ولا يلتزم بسواه حرصا على نقاوة التوحيد، إذ قال تعالى عن زكريا ومريم عليهما السلام: "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا" (آل عمران/ 37). فهذه واحدة، أما الثانية فهو زعمه أن البخارى قد تعمَّد تسمية المرأة بــ"أم حرام" للإيحاء بأن النبى كان يرتكب حراما، أى أن البخارى كان يتعمد الإساءة إلى النبى تعمدا. وهذا هو العهر الفكرى بقضه وقضيضه، لأن أم حرام ليست شخصية خيالية من بُنَيّات خيال البخارى، بل صحابية معروفة بهذه الكنية، وقد طلبت من الرسول فى هذا الحديث أن يدعو لها بأن تكون مع المجاهدين المسلمين الذين يركبون البحر غازين فى سبيل الله، فاستجاب الله له واشتركت فى غزو قبرص أيام معاوية، وماتت ودُفِنت هناك، وكان قبرها يُعْرَف بــ"قبر المرأة الصالحة"، كما كان الناس يستسقون به. وكانت تُكَنَّى باسم أخيها: "حرام"، كما كانت خالة أنس بن مالك وزوجة الصحابى الجليل عبادة بن الصامت، وهى من بنى النجار أخوال الرسول بالمدينة، ولم يكن النبى يدخل عليها كل حين، بل عندما يذهب لبعض الأمور فى قُباء كما جاء فى الحديث حيث كانت تسكن هى وزوجها. وبطبيعة الحال لم يكن النبى لينتقل من المدينة إلى قباء دون أن يكون معه بعض الصحابة. وكل ذلك متاح لمن يريد الاطلاع عليه فى الحديث الذى نحن بصدده، وفى شرح ابن حجر له وللروايات الأخرى التى وردت فيه، وفى "تحفة الأحوذى فى شرح سنن الترمذى" تعليقا على هذا الحديث ذاته، وفى كتب طبقات الصحابة وغيرها من المظانّ التاريخية، إلا أن الكويتب الأمين جدا جدا والعالم جدا جدا لا يشير إلى شىء منه. لا بل إنه ليعتِّم تعتيما خبيثا على طبيعة الحوار الذى دار بين الرسول وتلك الصحابية بحيث يقع فى رُوع القارئ الذى لا يدرى شيئا عن الموضوع أن الحديث كان حديثا غزليا جنسيا، فى حين أنه كان يدور حول رؤيا رآها الرسول وقتها عن جماعة من أصحابه يركبون البحر ويغزون فى سبيل الله، فطلبت أم حرام منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها كى تكون منهم، ففعل وكان لها ما أرادت حسبما قدمنا. وهذا هو نص ما دار بينهما كما ورد فى البخارى: "حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمعه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت. فدخل يوما فأطعمته فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ يضحك. قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: ناس من أمتي عُرِضوا عليَّ غُزَاةً في سبيل الله يركبون ثَبَج هذا البحر ملوكا على الأسرّة، أو قال: مثل الملوك على الأسرة (شَكَّ إسحاق). قلت: ادع الله أن يجعلني منهم. فدعا ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ يضحك، فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عُرِضُوا عليَّ غُزَاةً في سبيل الله يركبون ثَبَج هذا البحر ملوكا على الأسرّة أو مثل الملوك على الأسرّة. فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت من الأولين. فرَكِبَتِ البحر زمان معاوية فصُرِعَتْ عن دابّتها حين خرجت من البحر فهلكت". فانظر الفرق بين الحديث كما عرضه هذا الشيطان الذى يريد الإساءة إلى النبى والبخارى معا ثم يتظاهر بالبراءة كأنه طفل ساذج غرير، وبين الحديث كما أورده عميد المحدِّثين. أما بالنسبة لطبيعة العلاقة على وجه الدقة بين الصحابية الكريمة التى كانت من بنى النجار أخواله وبين الرسول عليه السلام وهل كانت من محارمه أوْ لا فثَمَّةَ نقاش فى هذه النقطة يجده القارئ فى "فتح البارى". ولو افترضنا بعد ذلك كله أن البخارى هو الذى اخترع الحديث، فهل كان المسلمون ليسكتوا عنه؟ أم ترى كويتبنا يقول إنهم كانوا جميعا ذوى مأرب فى الإساءة إليه صلى الله عليه وسلم جعلهم يغضون الطرْف عن هذه الإساءة بل يبتهجون بها ويفركون أيديهم حبورا وانشراحا؟ ثم إن هناك محدّثين آخرين قد روَوْا هذا الحديث مثلما رواه البخارى، فهل نتهمهم هم أيضا بتعمد الإساءة إلى النبى والعمل على تشويه أخلاقه وعفته؟ فلماذا لم يتوسعوا إذن فى الكلام والخيالات كى تكون الإساءة حقيقية بدلا من الحديث عن الغزو والشهادة فى سبيل الله؟ ومع ذلك كله فمن الممكن ألا يكون الحديث قد وقع على هذا النحو بالضبط، أو ربما غابت بعض تفصيلاته مما بدت بعض أحداثه بسببه مخالفة للمعتاد بعض الشىء.
ويمضى الشيطان فى أذاه للنبى وللبخارى وللسنة النبوية المشرفة قائلا: "ولا تقتنع روايات البخارى بذلك، إذ يروى عن بعضهم حديثاً يقول: "خرجنا مع النبى صلى الله عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط (أى بستان أو حديقة) يقال: له: "الشوط"، حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما، فقال النبى: اجلسوا هاهنا. ودخل وقد أُتِىَ بالجَوْنِيّة فأُنْزِلَتْ فى بيت نخل فى بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل، ومعها دايتها حاضنة لها. فلما دخل عليها النبى صلى الله عليه وسلم قال: هبى نفسك لى. قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ فأهوى بيده عليها لتسكت، فقالت: أعوذ بالله منك" (راجع البخارى الجزء السابع ص 53). وبالتمعن فى هذه الرواية الزائفة نشهد رغبة محمومة من البخارى لاتهام النبى بأنه حاول اغتصاب امرأة أجنبية جىء له بها، وانها رفضته وشتمته باحتقار. فالراوى يجعل النبى يذهب عامداً إلى المكان المتفق عليه وينتظره أصحابه فى الخارج، والمرأة الضحية (واسمها الجونية) قد أحضروها له، ونفهم من القصة أنها مخطوفة جئ بها رغم أنفها. ويدخل النبى فى تلك الرواية المزعومة على تلك المرأة وقد جهزتها حاضنتها أو وصيفتها لذلك اللقاء المرتقب، والمرأة فى تلك الرواية المزعومة لم تكن تحلّ للنبى، لذا يطلب منها أن تهب نفسها له بدون مقابل. وترفض المرأة ذلك بإباء وشمم قائلة: "وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟"، أى تسبّ النبى فى وجهه بزعم البخارى. وبدلا من أن يغضب لهذه الاهانة يصر على أن ينال منها جنسيا ويقترب منها بيده فتتعوذ بالله منه. أى تجعله، فى تلك الرواية الباطلة، شيطاناً تستعيذ بالله منه. ولكن ذلك البناء الدرامى لتلك القصة الوهمية البخارية ينهار فجأة أمام عقل القارئ الواعى. إذا كان الراوى للقصة قد سجل على نفسه أنه انتظر النبى فى الخارج، فكيف تمكن من إيراد الوصف التفصيلى والحوار الذى حدث فى خلوة بين الجدران؟".
يا شيطان، أنا أقول لك كيف عرف، فقد خرج النبى عند ذاك وطلب منهم أن يجهزوها ببعض الثياب ويلحقوها بأهلها معززة مكرمة، إذ رآها لا تصلح لأن تكون زوجة له، فقد كان معقودًا له عليها وجىء بها ليدخل بها لا ليغتصبها يا فاسق يا قليل الأدب، لكن تصرفها دل على أنها لم تكن تصلح له صلى الله عليه وسلم. أما النبى فقد سامحها لأنه أكبر من أن ينزل لمستوى واحدة مثلها تفتقر إلى اللباقة واللياقة ولا تعرف كيف تخاطب رسول الله أو تتعامل مع جلال النبوة. وقد كان بمكنته أن يعاقبها ويُنْزِل بأهلها أقسى ضروب المهانة والترويع والإذلال كما كان أى شخص فى مكانه سيفعل، لكنه رسول الله الذى لم يكن طعّانا ولا لعّانا ولا مفحشا كما وصف نفسه ذات مرة. وقد حجز كويتبنا الخبيث عن القارئ رد فعل الرسول حين استعاذت بالله، إذ قال: لها: لقد عذتِ بمعاذ، أى لا يستطيع أحد أن يمسّك بما لا تَرْضَيْنَ ما دمت قد استعذت بالله! وهذا هو نص الحديث كما ورد كاملا عند البخارى: "حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد الرحمن بن غسيل عن حمزة بن أبي أسيد عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط يقال: له: "الشوط" حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلسوا ها هنا. ودخل، وقد أُتِيَ بالجونية فأُنْزِلَتْ في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل، ومعها دايتها حاضنة لها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: هبي نفسك لي. قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد عذت بمعاذ. ثم خرج علينا فقال: يا أبا أسيد، اكسها رازقيتين وألحقها بأهلها. وقال الحسين بن الوليد النيسابوري عن عبد الرحمن عن عباس بن سهل عن أبيه وأبي أسيد قالا: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أُدْخِلَتْ عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين. حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير حدثنا عبد الرحمن عن حمزة عن أبيه وعن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه بهذا".
ثم هذا هو شرح ابن حجر للحديث: "قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن غسيل" كذا في رواية الأكثر بغير ألف ولام، وفي رواية النسفي: "ابن الغسيل"، وهو أَوْجَه، ولعلها كانت "ابن غسيل الملائكة" فسقط لفظ الملائكة. والألف واللام بدل الإضافة. وعبد الرحمن ينسب إلى جد أبيه، وهو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري. وحنظلة هو غسيل الملائكة، استُشْهِد بأُحُد وهو جُنُب، فغسّلته الملائكة، وقصته مشهورة. ووقع في رواية الجرجاني "عبد الرحيم"، والصواب "عبد الرحمن" كما نبه عليه الجياني . قوله: "إلى حائط يقال: له :الشوط" بفتح المعجمة وسكون الواو، بعدها مهملة، وقيل معجمة: هو بستان في المدينة معروف . قوله: "حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلسوا هاهنا، ودخل، أي إلى الحائط" له رواية لابن سعد عن أبي أسيد قال: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني الجون فأمرني أن آتيه بها فأتيتُه بها فأنزلتُها بالشوط من وراء ذباب في أطم، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج يمشي ونحن معه. و"ذباب" بضم المعجمة وموحَّدتين مخفَّفا: جبل معروف بالمدينة. و"الأُطُم": الحصون، وهو الأُجُم أيضا، والجمع آطام وآجام كعُنُق وأعناق. وفي رواية لابن سعد أن النعمان بن الجون الكندي أتى النبي صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا فقال: ألا أزوّجك أجمل أيّم في العرب؟ فتزوجها وبعث معها أبا أسيد الساعدي. قال أبو أسيد: فأنزلتها في بني ساعدة، فدخل عليها نساء الحي فرحين بها وخرجن فذكرن من جمالها. قوله: "فأُنْزِلَتْ في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل" هو بالتنوين في الكل، و"أميمة" بالرفع: إما بدلا عن الجونية، وإما عطف بيان. وظن بعض الشراح أنه بالإضافة فقال في الكلام على الرواية التي بعدها: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل. ولعل التي نزلت في بيتها بنت أخيها، وهو مردود، فإن مخرج الطريقين واحد، وإنما جاء الوهم من إعادة لفظ "في بيت". وقد رواه أبو بكر بن أبي قتيبة في مسنده عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال: "في بيت في النخل أميمة إلخ"، وجزم هشام بن الكلبي بأنها أسماء بنت النعمان بن شراحيل بن الأسود بن الجون الكندية، وكذا جزم بتسميتها: "أسماء" محمد بن إسحاق ومحمد بن حبيب وغيرهما. فلعل اسمها أسماء، ولقبها أميمة. ووقع في "المغازي" رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق "أسماء بنت كعب الجونية"، فلعل في نسبها مَن اسمه كعب نسبها إليه. وقيل: هي أسماء بنت الأسود بن الحارث بن النعمان. قوله: "ومعها دايتها حاضنة لها": "الداية" بالتحتانية الظئر المرضع، وهي معرَّبة. ولم أقف على تسمية هذه الحاضنة . قوله: "هبي نفسك لي...إلخ": "السُّوقة" بضم السين المهملة يقال للواحد من الرعية والجمع، قيل لهم ذلك لأن الملك يسوقهم فيساقون إليه ويصرفهم على مراده، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقي. قال ابن المنير: هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسُّوقَة عندهم من ليس بملكٍ كائنا من كان، فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك. وكان صلى الله عليه وسلم قد خُيِّر أن يكون ملكا أو نبيا، فاختار أن يكون عبدا نبيا تواضعا منه صلى الله عليه وسلم لربه. ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بكلامها معذرة لها لقرب عهدها بجاهليتها، وقال غيره: يحتمل أنها لم تعرفه صلى الله عليه وسلم فخاطبته بذلك، وسياق القصة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال. نعم سيأتي في أواخر الأشربة من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال: "ذُكِر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد الساعدي أن يرسل إليها فقدمت، فنزلت في أُجُم بني ساعدة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء بها فدخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها قالت: أعوذ بالله منك. قال: لقد أعذتك مني. فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك، قالت: كنت أنا أشقى من ذلك. فإن كانت القصة واحدة فلا يكون قوله في حديث الباب: "ألحقها بأهلها" ولا قوله في حديث عائشة: "الحقي بأهلك" تطليقا، ويتعين أنها لم تعرفه. وإن كانت القصة متعددة، ولا مانع من ذلك، فلعل هذه المرأة هي الكلابية التي وقع فيها الاضطراب. وقد ذكر ابن سعد بسند فيه العزرمي الضعيف عن ابن عمر قال: " كان في نساء النبي صلى الله عليه وسلم سنا بنت سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا أسيد الساعدي يخطب عليه امرأة من بني عامر يقال لها: عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر، قال ابن سعد: اختلف علينا اسم الكلابية، فقيل: فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، وقيل: عمرة بنت يزيد بن عبيد، وقيل: سنا بنت سفيان بن عوف، وقيل: العالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف، فقال بعضهم: هي واحدة اختُلِف في اسمها، وقال بعضهم: بل كن جمعا، ولكن لكل واحدة منهن قصة غير قصة صاحبتها". ثم ترجم الجونية فقال: أسماء بنت النعمان. ثم أخرج من طريق عبد الواحد بن أبي عون قال: "قدم النعمان بن أبي الجون الكندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا فقال: يا رسول الله، ألا أزوِّجك أجمل أيّم في العرب؟ كانت تحت ابن عم لها فتُوُفِّيَ وقد رغبت فيك. قال: نعم. قال: فابعث من يحملها إليك. فبعث معه أبا أسيد الساعدي. قال أبو أسيد: فأقمت ثلاثة أيام ثم تحمَّلَتْ معي في محفة، فأقبلتُ بها حتى قدمت المدينة فأنزلتها في بني ساعدة، ووجَّهْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بني عمرو بن عوف، فأخبرته... الحديث". قال ابن أبي عون: وكان ذلك في ربيع الأول سنة تسع. ثم أخرج من طريق أخرى عن عمر بن الحكم عن أبي أسيد قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجونية فحملتها حتى نزلت بها في أطم بني ساعدة، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج يمشي على رجليه حتى جاءها... الحديث" . ومن طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: اسم الجونية أسماء بنت النعمان بن أبي الجون. قيل لها: استعيذي منه، فإنه أَحْظَى لك عنده، وخُدِعَتْ لما رُئِيَ من جمالها، وذُكِر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ حَمَلَها على ما قالت، فقال: إنهن صواحب يوسف وكيدهن. فهذه تتنزل قصتها على حديث أبي حازم عن سهل بن سعد، وأما القصة التي في حديث الباب من رواية عائشة فيمكن أن تنزل على هذه أيضا، فإنه ليس فيها إلا الاستعاذة، والقصة التي في حديث أبي أسيد فيها أشياء مغايرة لهذه القصة، فيقوى التعدد، ويقوى أن التي في حديث أبي أسيد اسمها: "أميمة"، والتي في حديث سهل اسمها: "أسماء"، والله أعلم. وأميمة كان قد عقد عليها ثم فارقها، وهذه لم يعقد عليها، بل جاء ليخطبها فقط. قوله: "فأهوى بيده"، أي أمالها إليها. ووقع في رواية ابن سعد: "فأهوى إليها ليقبلها، وكان إذا اختلى النساء أقعى". وقيل في رواية لابن سعد: "فدخل عليها داخل من النساء، وكانت من أجمل النساء، فقالت: إنكِ من الملوك، فإن كنت تريدين أن تحَْظَىْ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءك فاستعيذي منه". ووقع عنده عن هشام بن محمد عن عبد الرحمن بن الغسيل بإسناد حديث الباب: "إن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت فمشّطتاها وخضبتاها، وقالت لها إحداهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول: أعوذ بالله منك". قوله: "فقال: قد عُذْتِ بمعاذ"، هو بفتح الميم ما يستعاذ به، أو اسم مكان العَوْذ، والتنوين فيه للتعظيم. وفي رواية ابن سعد: "فقال بكمّه على وجهه وقال: "عذت معاذا" ثلاث مرات". وفي أخرى له: "فقال: آمنٌ عائذ الله". قوله: "ثم خرج علينا فقال: يا أبا أسيد، اكْسُها رازقيين"، بِرَاءٍ ثم زايٍ ثم قافٍ بالتثنية، صفة موصوف محذوف للعلم به، والرازقية: ثياب من كتان بيض طوال. قاله أبو عبيدة، وقال غيره: يكون في داخل بياضها زرقة، والرازقي: الصفيق. قال ابن التين: متَّعها بذلك إما وجوبا وإما تفضلا. قلت: وسيأتي حكم المتعة في كتاب النفقات. قوله: "وألحقها بأهلها": قال ابن بطال: ليس في هذا أنه واجهها بالطلاق. وتعقبه ابن المنير بأن ذلك ثبت في حديث عائشة أول أحاديث الباب، فيُحْمَل على أنه قال لها: الحقي بأهلك، ثم لما خرج إلى أبي أسيد قال: له ألحقها بأهلها، فلا منافاة: فالأول قصد به الطلاق، والثاني أراد به حقيقة اللفظ، وهو أن يعيدها إلى أهلها، لأن أبا أسيد هو الذي كان أحضرها كما ذكرناه. ووقع في رواية لابن سعد عن أبي أسيد قال: "فأمرني فرددتها إلى قومها"، وفي أخرى له: "فلما وصلت بها تصايحوا وقالوا: إنك لغير مباركة، فما دهاك ؟ قالت: خُدِعْتُ. قال: فتوفيت في خلافة عثمان " ر. قال: "وحدثني هشام بن محمد عن أبي خيثمة زهير بن معاوية أنها ماتت كمدا"، ثم روي بسند فيه الكلبي "أن المهاجر بن أبي أمية تزوجها، فأراد عمر معاقبتها فقالت: ما ضُرِبَ عليّ الحجاب، ولا سُمِّيتُ: أم المؤمنين، فكفّ عنها ". وعن الواقدي: سمعت من يقول إن عكرمة بن أبي جهل خلف عليها، قال: وليس ذلك بثبت. ولعل ابن بطال أراد أنه لم يواجها بلفظ الطلاق. وقد أخرج ابن سعد من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن الوليد بن عبد الملك كتب إليه يسأله، فكتب إليه: ما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم كندية إلا أخت بني الجون فملكها، فلما قدمت المدينة نظر إليها فطلقها ولم يَبْنِ بها. فقوله: "فطلقها" يحتمل أن يكون باللفظ المذكور قبل، ويحتمل أن يكون واجهها بلفظ الطلاق. ولعل هذا هو السر في إيراد الترجمة بلفظ الاستفهام دون بتّ الحكم. واعترض بعضهم بأنه لم يتزوجها إذ لم يجر ذكر صورة العقد، وامتنعت أن تهب له نفسها، فكيف يطلّقها؟ والجواب أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يزوج من نفسه بغير إذن المرأة وبغير إذن وليها، فكان مجرد إرساله إليها وإحضارها ورغبته فيها كافيا في ذلك، ويكون قوله: "هبي لي نفسك" تطييبا لخاطرها واستمالة لقلبها، ويؤيده قوله في رواية لابن سعد: "إنه اتفق مع أبيها على مقدار صداقها، وإن أباها قال له : إنها رغبت فيك وخطبت إليك". هذا ما جاء فى البخارى وشرح ابن حجر له، وأنا لا أستبعد أن يكون شياطين المستشرقين والمبشرين قد صنعوا مع منصور (اقرأ: "مكسور") كما كانوا يصنعون مع خليل عبد الكريم، فأمدوه بتلك القصة وغيرها على هذا النحو الملتوى، ثم طلبوا منه أن يفصّل لهم، بالاستعانة بالمادة التى أمدوه بها، كتابا فى هذا الموضوع، ففعل.
ومما يخبط فيه كويتبنا أيضا خبط عشواء كلامه التالى الذى يشير بمنتهى الوضوح إلى أنه لا يعرف كيف يفهم النصوص الواضحة بنفسها حتى ليكاد أن يفهمها الطفل الذى ما زال يبغم، وأنه فى الواقع قد دخل ميدان التأليف خطأً على حين أنه لا يزيد عن أن يكون "كاتب دوبية"، فظن أن كلمة "كاتب" المشتركة بين المهنتين تخوّل له أن يندسّ بين المؤلفين والمفكرين، فظلم نفسه بذلك! مسكين! يقول الكويتب المسكين: "وفى صفحة واحدة حديثان متناقضان: "إذا شرب كلب فى إناء أحدكم فليغسله سبعاً"، وبعده مباشرة حديث: "كانت الكلاب تبول وتُقْبِل وتُدْبِر فى المسجد فى زمان رسول الله فلم يكونوا يرشّون شيئاً من ذلك" (البخارى: الجزء الأول ص 53)". لقد فاته أن الكلام فى كلا الحديثين إنما يدور على أمر مختلف: فالحديث الأول خاص بلعاب الكلاب الذى يصيب الأوانى ويمكن من ثم أن ينتقل إلى جوف الإنسان ويؤذيه بما يكون فيه من مكروبات وجراثيم وفيروسات، أما الثانى فيتعلق بتبولها فى أرض المسجد، ولا خطر فيه على صحة البشر، وإلا فالكلاب تتبول وتتبرز فى الشوارع والحدائق العامة والبيوت، ولا فرق بينها وبين المساجد من الناحية الصحية. وقد رجعتُ إلى موقع "البيطرة العربية" بعد أن كتبت الأسطر السابقة، فوجدت هذه الفقرة عن ذات الموضوع بقلم د. بهيج عمار عضو مجلس إدارة الموقع: "في الحقيقة حسب معلوماتي إن أنواع الميكروبات التي قد تتواجد في لعاب الكلب وتعتبر خطرة للصحة العامة تعتمد على مكان تواجد الكلب مؤخرا قبل أن يتم الكشف عن اللعاب، وهذا بالدرجة الاولة. وفي الحقيقة من أهم الأخطار التي من الممكن أن ينقلها الكلب من امراض عبر اللعاب هو مرض داء الكلب. وهو بسبب فيروس يتواجد في اللعاب. هذا فضلا عن نقله لطفيليات وديدان خطيرة. واحاول أن أعدد لك بعض الميكروبات التي تتواجد في لعاب الكلب والتي يتم اخذ الإجراءات الطبية لمقاومتها عند عظة الكلب. الإصابات ذات الاهمية ناتجة من الإصابة ببكتريا البستوريلا مالتوسيدا وبنسبة تفوق 25% من مجموع الاصابات الأخرى، وكذلك كل من:
Streptococcus
Staphylococcus aureus
Escherichia coli
وكذلك البكتريا الاهوائية مثل :
Bacteroides
Fusobacterium
Peptostreptococcus
فضلا عن الاصابة بـ Capnocytophaga canimorsus
وفي الحقيقة يا دكتور باسِم، كل هذه الإصابات تتمثل خطورتها عند انتقال هذه الميكروبات من اللعاب إلى جسم الانسان عن طريق العض المباشر للكلب خلال فترة الأربع وعشرين ساعة الاولة. وتتمثل الخطورة الحادة في هذه الحالة في تخثر في الأوعية الدموية وكذلك حالة من التسمم و الفشل الكلوي. ومن ناحية اخرى في دراسة حديثة تم الكشف على ان لعاب الكلبة الام التي تقوم بلعق صغارها الجراء يحتوي على مواد خاصة تقوم بقتل وتثبيط نمو البكتريا الضارة على جسم الجراء مثل الإي كولاي وغيرها من الميكروبات. فسبحان الله: جعل من لعابها لصغارها رحمة و لأعدائها والبشر مرض إن لم يتخذ إحتياطه! والله أعلم".
والواقع أن مشكلة منصور التى أوردته حيث هو الآن من مأزقٍ ضَنْكٍ عَسِرٍ لا أدرى كيف يمكن أن يخرج منه إذا فكر أن يخرج وينجو بجلده حتى لا يتعرض لسخط القاهر الجبار، هى شدة إعجابه بنفسه وعقله مع أن عقله وثقافته وإمكاناته اللغوية والفكرية متوسطة بالنسبة للشخص العادى، أما بالنسبة لما ينبغى أن يكون عليه المدرس الجامعى فدون ذلك كما هو ظاهر من ردودى عليه وتبيينى سوآته العقلية واللغوية والمنهجية! الرجل يحتاج إلى علاج طويل على أيدى محللين فى الطب النفسى حازمين يأخذونه بالشدة ويطردون عنه وساوسه القهرية التى تخيل له أنه على شىء، وأن المتنورين فى العالم محتاجون إلى عبقريته! كان الله فى عونه وأخذ بيده وأنعشه من عثار جهله وضلاله! والعبد لله يظن (وبعض الظن إذا كان إثما كما قال القرآن الكريم، فمن الطبيعى ألا يكون بعضه الآخر كذلك) العبد لله يظن أنه من الآن فصاعدا سوف يُضْرَب بصويحبنا المثل فيقال: "أجهل من أحمد صبحى منصور" و"أخزى من أحمد صبحى منصور"، مثلما يقال: "أبخل من مادر"، وأخلف من عرقوب"، و"أخرأ من سِنّوْر"، "وشهاب الدين أضرط من أخيه"... وهلم جرا، اللهم إلا إذا تاب وأقلع عما فيه، وما شىء على الله بعزيز رغم كل ما عندى من تحفظات على ذلك الكائن!
أما التناقض الذى يرى "أبو حالة، فيها استحالة" أنه موجود بين الأحاديث التى تحضّ على التبكير فى الذهاب للمسجد يوم الجمعة وتلك التى تنصح المسلم بألا يهرول عندئذ حتى لو كان متأخرا بعض الشىء، فهو تناقض غير موجود إلا فى مخيلته التى قلنا إنها مملوءة بالوساوس القهرية، والوساوس هذه المرة خاصةٌ بالتهجم على الحديث النبوى، فكلما أبصر حديثا لــ"سيد الأنبياء والمرسلين" ("سيد الأنبياء والمرسلين" رغم أنفه) ركبه ألف جِنّىٍّ يظلون ينخسونه بمهاميزهم فى مخه ولا يتركونه يهدأ أبدا. وإنى لمشفق على من يعاشرونه، فلا شك أنهم يعانون من هذه الحالة عنده أشد المعاناة. لهم الله، لكنْ أرجع فأقول: كله بثوابه! والآن إلى الحديثين المتناقضين فى عقل صويحبنا، الذى كتب فى واحدة من الحالات المشار إليها ما يلى: "وتأتى أحاديث كثيرة تحض على سرعة التبكير بالذهاب لصلاة الجمعة، وتملأ هذه الأحاديث صفحات من البخارى، ثم يتبعها حديث ينقضها جميعاً يقول: "إذا أُقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعَوْن، وأْتُوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا" (البخارى: الجزء الثانى ص 3، 4، 8، 9)". إن المعنى واضح، وهو أفضلية التبكير، لكن ما العمل لو حدث أن تأخر المصلى لسبب أو لآخر فى الذهاب إلى صلاة الجمعة؟ أيجرى فى الشارع فيظن الناس به الظنون كأحمد صبحى منصور، أم يسير فى احترام واطمئنان على النحو الذى يليق بالشعيرة الكريمة؟
وبالمثل لا تعارض بين الحديث الذى يقول إنه عليه السلام كان يتوضأ لكل صلاة والحديث الآخر الذى يقول إنه صلى أكثر من صلاة بوضوء واحد. وقد شرح ابن حجر حديث البخارى التالى: "حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سفيان عن عمرو بن عامر قال: سمعت أنس بن مالك قال: ح. و حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن سفيان قال: حدثني عمرو بن عامر عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يُجْزِئ أحدَنا الوضوءُ ما لم يُحْدِث"، أقول: شرح ابن حجر الحديث على هذا النحو: " قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري. قوله: "وحدثنا مسدد" هو تحويل إلى إسناد ثان قبل ذكر المتن، وإنما ذكره، وإن كان الأول أعلى لتصريح سفيان الثوري فيه بالتحديث. وعمرو بن عامر كوفي أنصاري، وقيل: بجلي. وصحح المزي أن البجلي راوٍ آخر غير هذا الأنصاري، وليس لهذا في البخاري غير ثلاثة أحاديث كلها عن أنس، وليس للبجلي عنده رواية. وقد يلتبس به عمر بن عامر بضم العين (راوٍ آخر بصري سلمي أخرج له مسلم، وليس له في البخاري شيء). قوله: "عند كل صلاة" أي مفروضة. زاد الترمذي من طريق حميد عن أنس "طاهرا أو غير طاهر"، وظاهره أن تلك كانت عادته، لكن حديث سويد المذكور في الباب يدل على أن المراد الغالب. قال: الطحاوي: يحتمل أن ذلك كان واجبا عليه خاصة، ثم نسخ يوم الفتح لحديث بريدة، يعني الذي أخرجه مسلم أنه، صلى الله عليه وسلم، صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، وأن عمر سأله فقال: "عمدًا فعلتُه"، وقال: يحتمل أنه كان يفعله استحبابا، ثم خشي أن يُظَنّ وجوبه فتركه لبيان الجواز. قلت: وهذا أقرب، وعلى تقدير الأول فالنسخ كان قبل الفتح بدليل حديث سويد بن النعمان، فإنه كان في خيبر، وهي قبل الفتح بزمان. قوله: " كيف كنتم": القائل عمرو بن عامر، والمراد الصحابة. وللنسائي من طريق شعبة عن عمرو أنه سأل أَنَسًا: "أكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة؟"، قال: نعم". ولابن ماجه: "وكنا نحن نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد". قوله: "يجزئ" بالضم من "أجزأ" أي يكفي، وللإسماعيلي: يكفي". فهل بقى فى نفس القارئ من التشكيك الذى أثاره كويتبنا بجهلٍ منه وضلالٍ شىءٌ أىّ شىء؟
وإذا كان منصور يزعم أن فى الأحاديث السالفة تناقضا بينها وبين أحاديث أخرى فى ذات الموضوع، فإنه فى الفقرة التالية يدعى وجود تناقض بين بعض الأحاديث وبعض آيات القرآن المجيد. يقول: "عموماً فكل الأحاديث التى رواها البخارى وغيره، وفيها ينسبون للنبى أقاويل عن علامات الساعة وأحداثها والشفاعة وأحوال القيامة، كلها أحاديث تناقض القرآن صراحة، فالقرآن يؤكد فى أكثر من موضع بأن النبى لا يعلم الغيب، ولا يعلم شيئاً عن الساعة وموعدها وتفصيلاتها. وقد عرضنا لذلك فيما سبق، وأتينا بالآيات الكثيرة فى هذا الموضوع، ويكفينا منها قوله تعالى للنبى: "قل: ما كنتُ ِبدْعاً من الرسل، وما أدرى ما يُفْعَل بى ولا بكم. إنْ أتَّبِع إلا ما يُوحَى إلىّ" (الأحقاف/ 9). وإذا كان النبى لا يعلم ماذا سيحدث له أو لغيره، فكيف ننتظر منه أن يتحدث عن أحوال القيامة وشفاعته أو عدم شفاعته؟ ثم ألا يكفينا قوله تعالى فى عدم علم النبى بالغيب: "قل: لا أقول لكم: عندى خزائن الله، ولا أعلم الغيب" (الأنعام/ 50)؟، "قل: لا أملك لنفسى نفعاً ولا ضراًّ إلا ما شاء الله، ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مَسَّنِىَ السوء. إنْ أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون" (الأعراف/ 188)". والحق أنى لا أدرى وجه التناقض بين الحديث والقرآن فى الموضوعات المذكورة: فليس فى الأحاديث أن النبى يعلم الغيب أبدا، وإن كان لله سبحانه متى أراد، ولا راد لإرادته تعالى، أن يكشف ستر الغيب لرسوله لحكمة يعلمها جل شأنه. وقد يكون ذلك فى القرآن كالإخبار بأن الروم ستنتصر على الفرس فى بضع سنين بعد أن لاقت الهزيمة المرة على أيديهم، وكالتنبؤ بأن الجمع سيُهْزَمون ويُوَلُّون الدُّبُر، وهو ما تحقق فى بدر، وكإطلاعه سبحانه نبيه فى غزوة الحديبية على أنه سيدخل مكة هو والمسلمون لأداء العمرة، مما تحقق العام الذى تلا ذلك... فهذه آيات قرآنية لا يستطيع كويتبنا أن يكذّبها البتة، أما فى الأحاديث فهناك نبوءةُ غزوةِ الأحزاب الخاصّةُ بفتح فارس والروم، وهناك النبوءة الخاصة بفتح القسطنطينة، وهناك النبوءة الخاصة بتداعى الأمم على المسلمين كما تتداعى الأَكَلَة إلى قصعتها، لا من قلة، بل من ذلة... وكل هذا قد تحقق كما أنبأ به النبى العظيم. مرة أخرى نحن لا نقول إنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم الغيب، بل نقول إن الله قد يطلعه على بعض أمور ذلك الغيب لحكمة من الحكم، وهو ما ضربنا له الأمثلة لتوِّنا من كتاب الله وسنة رسول الله. وفى القرآن الكريم نقرأ الآيات التالية: "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك" (آل عمران/ 44، ويوسف/ 102)، "وما كان الله لِيُطْلِعكم على الغيب، ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء" (آل عمران/ 179)، "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك. ما كنتَ تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا" (هود/ 49)، "عالم الغيب فلا يُظْهِر على غيبه أحدا* إلا من ارتضى من رسول" (الجن/26)، وهى من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى أى تعليق. وإذن فليس من تناقض بين الأمرين كما يعمل أحمد صبحى منصور على إيهام القراء ليُفْقِدهم الثقة فى أحاديث النبى الكريم! ولقد اتهمنى، فى رده على دراستى السابقة، بأننى أقول بمقدرة النبى على علم الغيب، وهو فى هذا كذّابٌ قرارىٌّ خبيث، أو جاهلٌ غُمْرٌ بلغت به الفَدَامةُ أن يسىء فهم كلامى الواضح "الشفّاف" كالبلور النقىّ الصافى، وليس كــ"شفّاف الشرق الأوسط" إياه!
ويدخل فى هذا الإطار مسألة علامات الساعة، فقد كرر القرآن فى مواضع شتى منه أنه ما من أحد من خلق الله يمكنه أن يعلم أيّان مُرْسَاها، لكنه سبحانه وتعالى قد قال فى القرآن أيضا: "فهل يَنْظُرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتةً؟ فقد جاء أشراطها" (محمد/ 18)، أى علاماتها، وهو ما لا يقع بعيدا عما جاء فى بعض الأحاديث التى ينكرها هذا المارق المتصلّب العقل والرقبة. ومعلوم أن لكل شىء مقدماته التى تؤدى إليه، وإشاراته التى تومئ نحوه، وإن لم يعن هذا أنه لا بد أن يعلم الناس متى يقع بالضبطـ، بل قد يأخذهم رغم ذلك على سبيل البغتة. ومع ذلك فقد تعنى الساعة فى بعض الأحاديث النبوية حدوث انقلاب خطير غير متوقع فى مسيرة أمة من الأمم أو فى حياة فرد من الأفراد، ومن المؤكد أن عددا من الأحاديث الشريفة هى من هذا الضرب مثل حديث البخارى التالى: " كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبى صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة، فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: إن يَعِشْ هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم"، أو ذلك الحديث الآخر الذى يتكلم عن الحفاة العراة رعاة الشاء الذين يتطاولون فى البنيان. المهم أن كويهننا، كما هو واضح من هذه المناقشات والتحليلات، نزِقٌ متسرعٌ غشومٌ قليل البضاعة من العلم والعقل على السواء، وهذا أسوأ ما يُبْتَلَى به كائن! ومع هذا كله فإنه لا يعجبه أن يتطاول إلى مناقشته واحد مثلى. فيا أخا اللوذعية والعبقرية، تعال على نفسك قليلا، وارض بما قسم الله لك تكن أعظم الناس، فمن تواضَعَ لله رفعه! أما الحديث الشريف الذى يشير إلى أنه "لا يبقى على ظهر الأرض بعد مائة سنةٍ نَفْسٌ منفوسة" فقد فسره العلماء فى ضوء ما رواه الإمام مسلم مثلا من حديث أبى سعيد من أنه "لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك سألوه عن الساعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفسُ منفوسةٌ اليوم". يعنى أن أقصى عمر يمكن أن يبلغه أىّ إنسانٍ حىٍّ آنذاك هو مائة عام، لا أن القيامة ستقوم بعد مائة سنة من ذلك الوقت كما فهم صويحبنا وظن أن فيه تناقضا مع واقع التاريخ، إذ لم تأت الساعة حتى الآن. والسبب فى حاجة هذا الحديث وأمثاله إلى التوجيه هو أن الكلام المتبادَل بين المتحاورين غالبا ما يكون مختصرا يقوم أكثر ما يقوم على الإشارة لا على التفصيل والتحديد، لأن الحديث مواجهةً يغنى عن كثير من التفاصيل والشروح وتكفى فيه عادةً اللمحة الدالة، أما بعد تحوله إلى نص مكتوب فإنه يفقد العوامل التى من شأنها أن تساعد على فهمه فهما أدق وأفضل كإشارات الأيدى وتعبيرات الوجه وطبقات الصوت وتمويجاته...، ومن هنا كانت الفجوات التى يعمل العلماء على سدّها اعتمادا على المقابلة بين روايات الأحاديث المختلفة التى يكمل بعضها بعضا، وكذلك اعتمادا على السياق التاريخى والاجتماعى والفكرى والنفسى للمتحدثين، وهذا السياق (فيما يهمنا هنا) يتمثل فى الظروف التى قال فيها عليه السلام ما قال. وخير مثال على ما أقول أحاديث الشيخ الشعراوى التلفازية التى كانت واضحة وضوح الشمس وممتعة حتى لمن لا يشاركون الرجل أفكاره، ومع ذلك فعندما كانت تُنْشَر فى الصحف أو فى الكتب لم تكن تُنْشَر كما هى، بل كان بعض الصحفيين أو المحررين يعيدون صياغتها حتى يفهمها القارئ الذى سيطالعها دون أن يرى الشيخ وهو ينظر إلى هذا وإلى ذاك من حضور درسه، أو يحرك يديه ورأسه بطريقة مساوقة لما يورده من آراء، أو يهمهم دلالة على الرضا أو للفت الانتباه، أو يبتر الجملة تاركا للمستمعين مهمة إكمال الكلام، أو يستطرد إلى موضوع لا علاقة له قوية بالدرس خطر له فجأة أثناء الحديث، أو يوجه سؤاله إلى واحد من الجالسين أمامه...إلى آخر ما كان الشيخ يأتيه فى درسه مما لو غاب لصَعُبَ على القارئ فهم ما يقوله فهما دقيقا، وضاع كثير من المتعة التى كان يجدها فى الاستماع والنظر إليه!
3 ملاحق:
الأول رسالة موجهة إلى د. أحمد صبحى منصور من فتاة مصرية تعيش فى أستراليا، وقد يكون كاتبها هو الدكتور منصور نفسه، والثانى فقرتان من مقالٍ نشره الأستاذ عثمان سلطان ضد منصور فى جريدة "عرب تايمز" بعنوان "رد على مقال الاسناد في الحديث" تبدوان وكأنهما ردٌّ على الدكتور والقارئة المذكورة إذا كان لها وجود حقيقى، والثالث بضع فقرات من مقال لأحمد صبحى منصور نفسه بعنوان "هل فعلا يريد تنكريدو – عضو الكونجرس الأمريكى – ضرب الكعبة ؟؟"، وفيه إشارة إلى اشتغاله مستشارا لإحدى المنظمات التى تدافع عن أمريكا وتسوغ كل ما ترتكبه من جرائم وبلطجة ودمار وتذبيح ضدنا وتساعدها فى محاربة الإسلام والمسلمين. وطبعا هو يشتغل فى هذه الوظيغة زكاةً عن بدنه الذى يشبه (ولا حَسَد!) بدن الثور، وكذلك عن المال الذى يكسبه ابنه بعد أن ترك المدرسة (يا كبدى!) ليعمل وينفق على الأسرة المسكينة التى لا تجد مأوى يسترها، ولا هدمة تدارى عورتها، ولا كسرة خبز تسكت به غول الجوع الذى يفرى أحشاءها. ولا أدرى ما الذى أسكت كوفى عنان حتى الآن فلم يطرح على مجلس الأمن مشروع "الغذاء والكساء، مقابل الهباء فى الهواء" للتصويت عليه إنقاذا للعبقرية الأحمدية الصبحية المنصورية المهلبية من غائلة الجوع والعرى والحفاء. أى أَدِّ له مأوى وطعاما يؤدِّى لك هباء منثورا من كلام البهلوانات العباقرة، على مذهب "ادّى لها مَيّة تدّيك طراوة"! والآن إلى الملاحق الثلاثة:
1- From : taraalsayed@yahoo.com
Sent : Friday, July 22, 2005 11:48 PM
To : arabtimesnewspaper@hotmail.com
Subject : الدكتور المحترم احمد صبحي منصور
بسم الله الرحمن الرحيم
...سيدي
لعلها تكون المرة الثانية التي اكتب لك فيها حيث ان المرة الاولى كانت للثناء على كتاباتك و جرأتك في الحق و لكني في هذه المرة اكتب عنك بعد ان قرأت ردك على مقال جريدة الشعب الذي كان ملؤه التهجم عليك
لست هنا بصدد مناقشة نقاط الخلاف ولكن ما استوقفني هو انك نتيجة لاضطرارك لنفي عنك تهمة
التكسب بقلمك, دفعت -بضم الدال- قسرا للحديث عن خصوصياتك,, ليست كلها ولكن المادية منها.
كنت اتمنى لو انك كنت على الاقل في وضع مادي مشابه لمن هم اقل منك علما و علو كعب ولكن تأبى الدنيا الا تكون عادلة و منصفة بحق من ناضل في سبيل اظهار صحيح الدين كيفما هو انت حيث حوربت و سجنت و هجرت
و لكنها الدنيا التي طالما حاولنا ان نضعها في نهج متسق فإذ بها هي تفاجأنا بآن مثلك قد اضطر لإخراج ابنه من مكانه الطبيعي كي يعمل في سبيل الاسرة
تمنيت ان اكون ذلك الابن الذي يعمل بجوار والده بكل فخر حيث ان ذلك شرف ما بعده شرف .. فلا يعيب الانسان ابدا ضيق العيش ولكن يعيبه ان يبيع مبادئه و قلمه لمن يدفع اكثر وما اكثرهم.. فبوركت لتربيتك الصالحة عسى ان تكون ايام ضيق و تنقضي بإذن الله
و نحمد الله على سلامتك حيث انك الآن بين اناس هم -على ما يكونون- اكثر رحمة بنا من ابناء جلدتنا
و السلام
ابنتك تارا السيد
نيوزيلنده
2- التعريف بـ أحمد صبحي منصور :
من هو أحمد صبحي منصور ؟؟ هو المدير السابق لرواق ابن خلدون والمستشار الإسلامي السابق لمركز ابن خلدون !!
ما هو مركز ابن خلدون ؟؟ هو مركز اقامته المخابرات الاميركية في القاهرة , وتموله بالملايين , ليكون احد المراكز العربية اسما , والتي تدعو الى المشروع الاميركي لاصلاح دين الشرق الاوسط – مشروع الشرق الاوسط الكبير – الذي يريد تخريب الاسلام بدعوى اصلاح الاسلام واصلاح المسلمين، وذلك بالدعوة الى "عقيدة الكهنوت" التى يرفضها الإسلام . ويدعو الازهر الشريف الى مواجهة اعضاء هذا المركز بقوة لأنّ ما يفعلوه (وصمة عار ونكبة يجب أن يتداركها المجتمع والمسلمون) ويطالب بقوة ( بمنع هذه المهاترات ) و (ضرورة ايقاف مركز ابن خلدون لدورها التخريبي فى المجتمع المصري) وأنه ( يجب محاكمته). ويقول الأزهر " ان توصية المركز بتنقية التراث الديني ، لا سيما ما يتعلق بالحديث النبوي والسنة واعتماد النص القرآني مرجعية حاكمة وحيدة هى دعوة صريحة لإغفال مصدر رئيسي فى الاسلام وهو السنة النبوية " .
في شهادة أحمد صبحي منصور , في الجلسة السابعة اثناء محاكمة سامي عمر الحصين في اميركا بتهمة الارهاب ,-- وقد برأته المحكمة من التهمة -- , وقال أحمد صبحي منصور الذي يعمل حاليا دكتور زائر في جامعة هارفرد في شهادته أن انتشار الإسلام قبل 1300 عام عن طريق القتال هو منشأ الاعتقاد السائد بين المسلمين أن اللجوء إلى العنف هو عمل مبرر لنشر الإسلام (!!). وجاءت هذه الشهادة لكي تدعم زعم الحكومة أن سامي كان متأثراً بمعتقدات إسلامية متشددة . وخلال استجواب فريق الدفاع لهذا الشاهد افاد بأن هذا التفسير الذي أورده في شرحه لانتشار الإسلام مخالف لمعتقدات المذاهب الإسلامية .. كما أقر أن هذا التفسير كان سبباً في فصله من الأزهر عام 1978 بعد محاكمته . وأن الأزهر قد صنّفه " معادياً للإسلام ". ويذكر أن منصور قد جاء إلى الولايات المتحدة عام 2001 تفادياً لإلقاء القبض عليه في مصر ومنح اللجوء السياسي عام 2002 , كما يتقاضى أجرأ مقداره 200$ في الساعة جراء تعاونه مع الحكومة ضد قضية سامي .
د.إبراهيم عوض*
ـــــــــ
* الأستاذ بكلية الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة.وبجامعة قطر حالياً 1426هـ
|