عرض مشاركة واحدة
  #27  
قديم 2011-04-02, 10:58 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي

البلاغة فى سورة:


لننظر أمثلة على البلاغة القرأنية فى السورة الواحدة، ولنحمد الله الذى أنزل كتاباً أعجز الجن و الإنس على الإتيان و لو بسورة من مثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيراَ!

ســــورة الفاتحـــــــــــــة
نبدأ بأم الكتاب ، السبع المثانى ، القرأن العظيم ، سورة الفاتحة، التى افترض الله على عباده إقامة الصلاة بها و قسم بها الصلاة بينه جل و علا و بينهم يثنون عليه فيذكرهم، يسألونه فيجيبهم!

** (الحمد لله ب العالمين)
بدأ القرأن بحمد الله لأن أمة الإسلام هم أمة الحمد فالمسلم أول ما يتعلم فى دعاء ربه يقول (الحمد لله رب العالمين) ، و هو يحمد ربه على كل حال كما علمه نبيه الكريم ، و أخردعواه حين دخول الجنة هى حمد لله كذلك (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

- كذلك (الحمد لله) أبلغ من ( الشكر لله) لأن الشكر يكون على الفعل و ليس موجهاً للذات، أما الحمد فيشتمل على شكر النعمة إضافة إلى الثناء على الذات
- كذلك ( الحمد لله) فالحمد أبلغ من المدح لأن الحمد لا يوجه إلا على حى منعم، اما المديح فقد يوجه لعاقل أو غير عاقل حى أو ميت منعم أو غير منعم
- كذلك ( الحمد لله) أبلغ من نحمد الله ، لأن التعبير الأخير يعنى أن الحمد يقع على الله من فعلنا ولا يقع قبل أن نفعل ، أما التعبير الأول فيفيد أن الله له الحمد دائماً و أبداً
- كذلك (الحمد لله) فيها توحيد الألوهية: لأن اسم الله مشتق من الإله، و لأن الإله هو الذى يتوجه له العبد بالدعاء و الثناء والشكرو العبادة و التعظيم
و(رب العالمين) فيها توحيد الربوبية: لأن الرب هو المربى لعباده الخالق الرازق المدبر لأمرهم المحيى المميت لهم

**(الرحمن الرحيم)
- جاءت (الرحمن الرحيم ) بعد (رب العالمين) لأن الرب هو المربى و لما كانت التربية الحسنة تتطلب الرحمة و الرفق أتبعها سبحانه ببيان أنه الرحمن الرحيم
- اذ "الرحمن" لكونه بمعنى الرزاق يلائم جلب المنافع؛ و"الرحيم" لكونه بمعنى الغفار يناسب دفع المضار وهما الاساسان للتربية.

**(مالك يوم الدين)
جاءت هذه الأية ملائمة تماماً للذى قبلها و ذلك من وجوه:
- (الرحمن الرحيم) فيها الدعاء بالأسماء
(مالك يوم الدين) فيها الدعاء بالصفات العلى
- (الرحمن الرحيم) فيها معانى الترغيب
(مالك يوم الدين) فيها معانى الترهيب
- بوصولنا إلى هذه الأية فى أول سور القرأن نجد أن قد إجتمع فيها الإقرار لله بالألوهية ، و الربوبية ، و الملك
و لو ذهبنا إلى أخر سورة فى القرأن لوجدناها أيضاً تقر لله وحده بالألوهية و بالربوبية و الملك
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ)
لأن القرأن واحد و أنزله واحد و يدور حول معنى واحد و هو التوحيد التام لله تعالى
^ و لذلك قال صلى الله عليه و سلم (خير ما قلت أنا و النبيين من قبلى لا إله إلا الله واحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شىء قدير)
فاشتمل هذا الحديث أيضاً على توحيد الألوهية لله و نفيها عن غيره
و اشتمل على الإقرار لله بالملك
و اشتمل على توحيد الربوبية بقوله (و هو على كل شىء قدير) أى أنه الخالق الرازق المحيى المميت المدبر
^ بل و لذلك كان فى نداء التلبية فى الحج ( إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك)
الحمد لك : إقرار الألوهية
النعمة لك: إقرار الربوبية و أنه تعالى الخالق الرازق ولى النعم
و الملك لا شريك لك: إقرار تمام الملك و كماله لله

** (إياك نعبد و إياك نستعين)
- إياك نعبد: فيها توحيد الألوهية و البراءة من الشرك
إياك نستعين: فيها توحيد الربوبية و البراءة من الكبر
و ما وقع الكفر بالله إلا لشرك أو كبر
- كما أن قرن العبادة بالإستعانة لأان العبد لا سبيل له أن يعبد الله إلا بعون الله و حوله و توفيقه
- و الإنتقال فى السياق من الغائب فى بداية الأيات إلى المتكلم فى هذه الأية هو أسلوب بلاغى يسمى " الإلتفات " و له فائدتان:
و فائدة فى العموم: إذ يؤدى إلى تطرية نشاط السامع وتحريك الذهن للإصغاء والانتباه.
و فائدة فى المضمون: تتجلى هذه الفائدة بالنظر إلى السياق الذى ورد فيه، فالأيات السابقة كانت تتكلم عن الله بصيغة الغائب ( الحمد لله رب العالمين*الرحمن الرحيم* مالك يوم) لأن الله تعالى رب محمود رحمن رحيم ملك للملك دائماً و أبداً بصرف النظر عن وجود أحاد العباد
أما التعبير بصيغة المتكلم فى (إياك نعبد و إياك نستعين) لأن الفعل هنا منا نحن فنحن الذين نعبد و نحن الذين نستعين بربنا ، و لما كان قريب مجيب سميع بصير لم يلق أن ندعوه بصيغة الغائب بل بصيغة المتكلم الذى يسمع دعائنا و يبصر حالنا و يعلم سرنا
- كما أن تكرار لفظة ( إياك) من غاية البلاغة إذ فيه من القوة والتوكيد ما يؤصل إخلاص توحيد الألوهية و توحيد الربوبية مع إعطاء كل منهما اهتمامها المستقل، و كذا التكرار يفيد التنصيص على حصر المعبود
- كذلك تقديم المفعول به في " إياك نعبد وإياك نستعين " و عدم تقديمه في " اهدنا الصراط المستقيم "
له حكمة بلاغية، لأن التقديم يفيد الاختصاص، فالعبادة لا تكون إلا لله ومن عبد غير الله واستعان بغيره فقد كفر..ومن هنا تظهر حكمة التقديم لغرض إيماني من خلال هذا الأسلوب البلاغي.
أما عدم تقديمه في " اهدنا الصراط المستقيم " لأن طلب الاختصاص في الهداية لا يصح فالله يهدي من يشاء
فتأمل...

**( إهدنا الصراط المستقيم)
- هنا وقع الدعاء، فالرب يربينا و يعلمنا أدب دعاءه و أن نبدأ بتوحيده و تمجيده، و دعاءه بأسمائه و صفاته رغباً و رهباً قبل أن نتقدم بالطلب و السؤال ،و كل هذا تقرر فيما سبق من الأيات الباهرات كما رأينا
فأتبعنا ذلك الإبتهال بطلب ما نرجو من الرب جل و علا
- كذلك قوله (إهدنا الصراط المستقيم) الدعوة هنا جامعة كاملة معجزة ، لأن طلب الهدى هو غاية المطالب
فهناك الهدى العام: الذى يهدى الله تعالى به عباده الى رزقهم و سكنهم و عملهم و زوجاتهم وسائر أحداث حياتهم و هذا مصداق قوله تعالى ( الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى)
و هناك هدى الإرشاد: أن يوفقنا الله إلى من يرشدنا إلى سبيله و يعلمنا دينه الصحيح و يبلغنا دعوته، و سيد هؤلاء إمام الدعاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ( و إنك لتهدى إلى صراط مستقيم)
و هناك هدى التوفيق: أن يوفقنا الله لفهم ما دعانا إليه رسوله و تقبله ، و تعلم دينه و تفقهه ، و العمل بما تعملنا و الثبات عليه، و أن يهدى قلوبنا فترق ولا تقسو و نفوسنا فتعزم ولا تفتر، و كلما ترقى الإنسان فى مراتب العبادة و الإخلاص و العلم و الصبر على ذلك كلما إزداد هدى على هدى و نور على نور (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ)
و هناك الهدى بعد الموت : و هو أن يقودنا ربنا إلى جنات النعيم (َالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ*سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ*وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)
فبهذه الدعوة الجليلة الموجزة يطلب الإنسان من ربه أن يهديه لكل ما هو مستقيم فى سائر أمور من لحظة ميلاده إلى لحظة دخوله الجنة

** (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و الضالين)
- صنفت هذه الأية الناس بين مؤمن و كافر، و صنفت أمم الكفر صنفين:
المغضوب عليهم : و هم الذين عرفوا الحق و تكبروا عنه و على رأسهم اليهود
الضالين: الذين ضلوا عن الحق و اتبعو الباطل و هم يحسبون انهم يحسنون صنعاً و على رأسهم النصارى
فها هى أصناف البشر أجمعين مرتبة مقسمة أروع تقسيم
- و لما كانت النعمة من الله هنا خير خاص يطال المؤمنين ، فقد نسبت الى المنعم و هو الله لطيبها من جهة و تكريماً للمنعم عليهم باتصالهم المباشر بربهم من جهة ( أنعمت عليهم)
و لما كانت أمتا الغضب و الضلال فى نقمة، فقد بنى الفعل للمجهول تحقيرا لهم و إنكاراً من جهة، و تأدباً مع الله من جهة أخرى بعدم نسبه المكروهات إليه ( غير المغضوب عليهم)
و هذا متكرر فى القرأن التأدب مع الله بنسبة الخير إليه شكراً و تعظيماً، و عدم نسبة الشر إليه أدباً و تواضعاً ، و قد سبق و ضربنا أمثلة على ذلك فتراجع.
فبنى الفعل للمجهول فى الكلام عن إرادة الشر ، و نسبو الفعل للرب فى الكلام عن إرادة الرشد
هذا كله الذى ذكرنا غيض من فيض و إلا فالكلام عن الإبداع اللغوى و التعبيرى و النحوى و التقسيمى فى سورة الفاتحة يطول جداً جدا


ســـــورة العصـــــــــــــر
تدبر سورة العصر، تلك السورة قليلة الكلم كثيرة العلم، حتى قال عنها الإمام الشافعى (لو ما أنزل الله محجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم)، و تتجلى عظمة هذه السورة من وجوه:
أولاً:
- هذه السورة وقعت بين خُسرين الخسر الأول (الذين ألهاهم التكاثر) فى سورة التكاثر قبلها ، والخُسر الآخر (الذي جمع مالاً وعدده) في سورة الهمزة بعدها
- و الخُسر الأول رؤية الجحيم (لترون الجحيم) والخُسر الآخر النبذ في الحطمة (كلا لينبذن في الحطمة) و لاحظ أن هذا هو الترتيب الطبيعي بحسب السبق يعني رؤية الجحيم قبل النبذ فيه
- والأطرف أن سورة التكاثر التي رأُى فيها الجحيم سُبقت بسورة القارعة (التي يكون فيها الناس كالفراش المبثوث) فهذا قبل رؤية الجحيم، وقعت سورة العصر بين خسرين الخسر المذكور وخسر قبلها وخسر بعدها وهذا تناسب غريب

ثانياً:- بالنظر لمتن السورة العجيب نجد الأتى
**(و العصر)
- بدأها سبحانه مقسماً بالعصر، أى الزمن و الدهر، و الله يقسم بمخلوقاته لبيان عظمة شأنها ، و العصر شاهد على الناس أو شاهد لهم، فكم من أعمار إنقضت، و أمم مضت، و أجيال تعاقبت، و الإنسان غافل عن الدهر رأس ماله الحقيقى ، إذ يسير إلى ربه من لحظة مولده، فإن ضاع عمره سدىً ضاع الإنسان معه أبداً و كان الزمن شاهداً عليه ، و إن إستثمره فى مرضاة الله كانت له الحياة الأبدية و كان الزمن شاهداً له !!
- و القسم بالعصر دون أى وقت أخر فيه لطيفة بديعة، إذ أنه أنسب مرحلة للإستشهاد، فالفجر ليس مرحلة للإستشهاد إذ الناس ما زالوا في أول اليوم كناية عن أول الزمن حيث لا شاهد هنالك ، كذلك المغرب، وقت غروب الشمس إشارة إلى غروب الحياة وزوال الدنيا فلا ينفع الإستشهاد، أما العصر يعني مرّ فترة طويلة ، وقيل أنها وقت صلاة العصر و كلاهما صحيح مراد، إذ من معانيها الدهر ومن معانيها وقت صلاة العصر ، فتتصور الحياة كلها كأن إنساناً تأمل أحوال البشر من الصباح إلى المساء ، وقت كافى كما أنه كافي لتعرف حقيقته الناس من أول الدهر إلى زماننا
و قد عبر رسول الله عن الحياة الدنيا من لدن أدم إلى قيام الساعة بأنها يوم بُعث فى زمن العصر منه صلى الله عليه و سلم، ففات منه الكثير بما فيه من الأيات و العبر، و بقى منه القليل ليستعد السامع و يعتبر

**(إن الإنسان لفى خسر)
- هنا بيان خطير لأن الأصل فى الإنسان الهلاك لا النجاة، و جاء الخبر جازماً مؤكداً بإن و اللام معاً ، فليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا
- و لاحظ أن النص القرأنى عندما يعبر عن إبن أدم بلفظ (الإنسان) يقصد به الأدمى على أصل طباعه غير المزكاة بالشرع و الإيمان
فقال تعالى (َولَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ) ( إنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(َخلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ)(وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)(َكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً)(وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ)(فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ)(إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ)(بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)(إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)
و الأيات فى ذلك كثيرة، فهذا هو أصل الإنسان فتنبه لدقة القرأن فى إستعمال الألفاظ!
- كما أنه عبر بالمصدر فلم يقل إن الإنسان خاسر، بل قال إن الإنسان لفي خسر، يعني ساقط في الخسر، الخُسر يستعمل لمطلق الخسارة لأن الكلام هنا عن خسارة الحياة تفريطاً فى جنب الله!

** (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
- هنا يأتى الإستثناء، فالإنسان مع تزكية الوحى يفوز، فالمؤمن فقط الذين يكون له النجاة و هذا مصداق قوله تعالى (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ)
- و ذكر هنا أمرين: تكميل النفس (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وتكميل الغير (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)
و فيها عمل الفرد و عمل الجماعة، و قدم عمل الفرد لأن الإنسان مكلف بنفسه قبل غيره، ولا يمكنه البناء و هو ذاته مهدوم، كما أنه يستعين بالدعوة و التواصى مع الأخرين لتحقيق الثبات لنفسه ..فتأمل
- و الجملة الأولى (الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) إشتملت على عمل القلب و عمل الجوارح، فلا نجاة إلا بالإيمان بالقلب و عمل الصالحات بالجوارح، ولا يقبل عمل إلا بشرطين : الإخلاص لله و متابعة رسول الله ، لذا تقرر فى عقيدة أهل السنة ان الإيمان قول و عمل فتنبه
أما الجملة الثانية( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) فإنتقلت بالمؤمن من إصلاح نفسه إلى إصلاح غيره فيكون صالحاً مصلحاً فينشأ المجتمع الإسلامى المتماسك بهذا
- و قال (تواصوا) و لم يقل (وصوا) لأن التواصى فيه معنى المشاركة فالمؤمنين كلهم ناصح و منصوح ، و لأن الأمر متجدد متكرر فيما بينهم مادامت بهم حياة، كما أنه كرر كلمة تواصوا و لم يقل (تواصوا بالحق و الصبر) لأهمية كا واحد منهما وهذه أعلى الاهتمامات
- ولاحظ مجىء (تواصوا بالصبر) بعد (تواصوا بالحق) لأن التواصي بالحق مر فيحاتج للصبر عليه و على نتائجه، فيصبر المؤمن على الطاعة التى قد تفتر عنها نفسه ، و يصبر عن المعاصى التى تميل لها نفسه، و يصبر على البلاء الذى يُختبر به إيمانه، و على أذى الغير له بسبب تمسكه بدينه
لذلك أطلق الصبر و لم يقل صبر على كذا أو كذا، لتشمل كل أنواع الصبر
فشملت سورة العصر البليغة منهج بناء الأمة بداية من الفرد وصولاً إلى المجتمع، بالعلم و العمل و الدعوة و الصبر فتأمل!


ســـورة الإخــــــــلاص
هذه السورة العظيمة التى تعدل ثلث القرأن،و من اوجه إعجازها:
* مهما تكررت على الألسن و المسامع لا تمل ولا تكل من تردادها ، و هذا من أبرز عجائبها
*هى سورة تتناول العقيدة فلا امر فيها ولا نهى ولا تشريع، و كما أسلفنا فإن القرأن يعلمنا منهج العقيدة فى الله ما بين النفى و الإثبات ، فلا ننفى عن الله شيئاً إلا أثبتنا أخر
و لذلك نجد تقسيمها البديع إذ كانتا أول أيتين فى الإثبات، و أخر أيتين فى النفى!
* و من لطائفها و حسن تقسيمها:
أولا:
- تكرر لفظ الجلالة (الله) مرتين (الله أحد، الله الصمد)
- تكررت كلمة ( أحد) مرتين (الله أحد، كفواً أحد)
- أورد من مشتقات الولادة إثنين (يلد، يولد)
- المقابلة بين (يلد و يولد)
- المقابلة بين( أحد) فى أول السورة و (أحد) فى أخرها
فهو لفظ واحد و مع ذلك لا يقصد فى أول السورة إلا الله، و يقصد فى أخرها أى شىء إلا الله!
ثانياً:
- إشتملت على توحيد الألوهية بقوله (قل هو الله أحد) أى الله سبحانه متفرد بالألوهية سبحانه، إذ لفظ الجلالة (الله) يعنى أيضاُ الإله و هو مشتق منه لفظأ و معنى، فيكون المعنى الله إلهنا الأحد لاشريك له
- و إشتملت توحيد الربوبية بقوله (الله الصمد) أى السيد الذى تصمد إليه الخلائق فهو خالقها و رازقها و مدبر أمرها
- و إشتملت توحيد الأسماء و الصفات بقوله ( لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفواً أحد) فالله موصوف بالأولية و بالنزاهة عن الوالد و الولد و أنه سبحانه ليس كمثله شىء
ثالثاً:
* و قوله ( الله أحد) أي الواحد الوِتر، الذي لا شبيه له، ولا نظير ، فكانت هذه الأية قاعدة، و كل ما بعدها تفصيل لها، فقوله (الله الصمد) وصف بأنه ليس إلاّ محتاجاً إليه، وإذا لم يكن إلاّ محتاجاً إليه فهو غني، و بكونه غنياً فهو غنى عن الولد و الوالد ( لم يلد و لم يولد) ، و مادامت هذه صفاته فلا يضاهيه أحد ولا يعدله سبحانه ( و لم يكن له كفواً احد)
- و لاحظ النكتة البلاغية فى تقديم (لم يلد) على (لم يولد) مع أن الأصل ان يولد الشىء ثم يلد، فخالف الترتيب سبحانه، لأنه ليس كأى شىء فحتى فى حالة النفى لا يخضع لقوانين المخلوقات..فتأمل


ســـــورة الكوثـــــــــــــــر
((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) ))
هى أقصر سور القرأن و تتكون من ثلاث أيات فى سطر واحد، و مع ذلك حوت الكثير من البدائع منها:
* إحتوت هذه السورة العظيمة رغم قصرها على أمرين و بشارتين
- الأمران: ( صل لربك، انحر)
- البشارتان: (إنا أعطيناك الكوثر، إن شانئك هو الأبتر)
فكانتا البشارتان جملتين خبريتين إسميتين، و كانا الأمران جملتين إنشائيتين فعليتين
فانظر أرشدك الله كيف أن التقسيم البديع من خصائص كتاب الله

* و للشيخ أبى عبدالمعز بحثاً قيماً فى إعجاز هذه السورة نلخصه فيما يأتى:
أولا: يظهر العجب بالنظر إلى تريب حروفها عددياً:
1) الآية الأولى مبنية من عشر حروف بدون اعتبار المكرر
ا-ن-ع-ط-ي-ك-ل-و-ث-ر.
2) الآية الثانية مبنية من عشر حروف بدون اعتبار المكرر
ف-ص-ل-ر-ب-ك-و-ا-ن-ح.
3) الآية الأخيرة مبنية من عشر حروف بدون اعتبار المكرر
ا-ن-ش-ك-ه-و-ل-ب-ت-ر.
4) و عدد الحروف التي لم تستعمل إلا مرة واحدة عشرة أيضا
ع-ط-ي-ث-ف-ص-ح-ش-ه-ت.

ثانياً: تتعاقب الجمل في الكلام العربي وفق نظام الوصل والفصل الذى إعتبره علماء المعاني أم البلاغة وقلبها....ويعنينا هنا أن سورة الكوثر قادرة على إعطاء مثالين للمفهومين:
فجملة"انحر" معطوفة بالواو على جارتها" فَصَلِّ لِرَبِّكَ."وهذا الوصل.
وهي منقطعة عن الجملة اللاحقة إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.وهذا الفصل.

ثالثاً: إستوعبت سورة الكوثر كل أنواع الضمير في اللغة العربية دون أن تغفل الأحوال الإعرابية المختلفة وهذا من العجب العجاب لأننا نضع نصب أعيننا دائما أن عدد مفرداتها لا تتجاوز عدد أصابع الإنسان،وتفصيله:
أ- الضمائر بارزة ومستترة:
فمن بارز الضمائر في السورة ما ظهر في فعل "أعطيناك".
ومن مستتره ما كمن في فعل "صل "أو" انحر".
ب-الضمائر متصلة ومنفصلة:
ولك في جملة "أعطيناك" مثال على المتصل من الضمائر.
ولك في جملة هو الأبتر مثال آخر على الضمير المنفصل.
جـ- ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب :
- فضمير المتكلم حاضر في" أعطينا"
- وضمير المخاطب في" أعطيناك" و" ربك" و"شانئك" صريحا،و في"صل" و"انحر"مقدرا.
- وضمير الغائب في "هو" صريحا وفي شانيء مقدرا، فتأمل هذه التناسبات اللطيفة.
د- باعتبار مقولة العدد :
جاء في السورة ضمير المفرد وضمير الجماعة.وقد اجتمعا في كلمة "أعطيناك"
هـ- الضمائر باعتبار محلها من الإعراب:
جاءت الضمائر في السورة متنوعة بحسب المحل الإعرابي:
- ضمير فى محل رفع: (أعطيناك) الضمير الأول فيها فاعل مرفوع.
- ضمير في محل نصب: (أعطيناك) الضمير الثاني فيها مفعول به منصوب.
- ضمير في محل جر: (ربك) الكاف فيها مضاف إليه مجرور.

رابعاً:
ومن لطائف السورة في هذا السياق أن الكلمات الدالة على الرب عز وجل ثلاث هي:
إسم إنّ / فاعل أعطى / رب.
وجاءت على التوالي: منصوب/مرفوع / مجرور.
- وعلى نفس الترتيب الإعرابي جاءت الكلمات التي تدل على الرسول صلى الله عليه وسلم
(كاف) أعطيناك منصوبة/ (صل)الضمير المستتر مرفوع/ (كاف) ربك مجرور.

خامساً: الأفعال في السورة:
لم يأت في السورة من الأفعال إلا ثلاثة: "أعطى"-"صلى"-"نحر".
لكنها على قلتها مثلت من المقولات الصرفية والتركيبية عدداً كبيراً:
أ- الفعل الصحيح:نحر
ب- الفعل المعتل:أعطى.
جـ- الفعل المضعف:صلّى.
د- الفعل المجرد:نحر.
هـ- الفعل المزيد: أعطى.
و- الفعل اللازم:صلّى.
ز- الفعل المتعدي إلى مفعول واحد: نحر.
حـ- الفعل المتعدي إلى أكثر من مفعول: أعطى.

سادساً: بيان التماثل والتقابل:
(1) {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}
* تماثل المطلعان وتقابل المقطعان:
أ- التماثل في أسلوب التوكيد: إِنَّا/ إِنَّ
التقابل الحاد بين موضوعي التوكيد: الكوثر زيادة وفضل/ الأبتر نقص وخسارة.
ب- تماثلت الآيتان - بالنظر إلى كاف الخطاب- في أنهما تحملان بشرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم....
وتقابلتا في نوع البشارة:فالأولى ثبوتية والثانية عدمية.....بمعنى أن الأولى تكفلت بإيصال النفع والثانية تكفلت بإزالة الضرر.
(2){فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
* هنا أمر بعبادتين متماثلتين من وجه ومتقابلتين من وجه:
- التماثل في الأفضلية:
فالصلاة هي أفضل العبادات / والنحر يكون للإبل وهي أفضل أموالهم.....
فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورا بالتقرب إلى ربه بالأفضل.
- أما التقابل فظاهر في نوع العبادة:
فالصلاة عبادة بدنية / والنحر عبادة مالية.
(3) {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
* جاء التوكيد في الآية الأولى من أكثر من جهة:
-من جهة الحرف (إن)
-من جهة الصيغة فوعل (كوثر)
-من جهة ضمير التعظيم (نحن)
-من جهة زمن الفعل الماضي(أعطى) : الماضي يفيد التحقق والانتهاء ، فالعطاء قد ثبت وتحقق...
هذا التوكيد - ماثله في الآية الثانية معنيا الأفضلية والتنويع-
- وهنا لا بد من ملاحظة:
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} نصت على الجزاء.
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} نصت على العبادة.
لكن الجزاء جاء بأسلوب الخبر يفيد الوقوع والتحقق في ما مضى
أما العبادة فجاءت بأسلوب الإنشاء أي يطلب تحقيقها في ما هو آت.
بعبارة أخرى جاء الجزاء قبل العمل على غير العادة.....
فيكون أكرم الأكرمين قد رفع مقام عبودية النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلى المقامات وهو مقام الشكر .
فأية مواساة هذه
فلله درها من سورة

* و كذا للدكتور السامرائى فى تعليقه على هذه السورة العظيمة روائع منها:-
أولا: يظهر التناسق الموضوعى بين هذه السورة و سورة الماعون التى تسبقها
أ- بدأ سورة الماعون بقوله (أرأيت الذي يكذب بيوم الدين) أى لا يصدق بيوم الدين و الجزاء
و بدأ سورة الكوثر بقوله (إنا أعطيناك الكوثر ) و الكوثر نهر في الجنة وهذا تصديق بيوم الدين والجزاء
ب- قال فى سورة الماعون (فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين) أى لا ينفق ولا يتصدق فى سبيل الله
و قال فى سورة الكوثر (فصل لربك وانحر) و النحر نفقة فى سبيل الله ، و للفقراء و المساكين فيها نصيب
جـ- قال فى سورة الماعون (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) فهذا وعيد لمن يسهو عن الصلاة
و قال فى سورة الكوثر ( فصل لربك) فهذا أمر بالحفاظ على الصلاة
د- قال فى سورة الماعون (الذين هم يرآؤون ) وعيد لمن لا يخلص لله فى الصلاة
و قال فى سورة الكوثر (فصل لربك) اللام في (لربك) تفيد الاختصاص ، فهو أمر بالإخلاص لله فى الصلاة
هـ- كل الصفات في سورة الماعون تدل على الأبتر لأنه انقطع الخير عنه فهو الأبتر حقيقة (يكذب بيوم الدين, لا يدع اليتيم، لا يحض على طعام المسكين،)
و قال فى خاتمة الكوثر (إن شانئك هو الأبتر )

ثانياً: تكثر فى سورة الكوثر اللطائف البيانية و منها:-
(إنا أعطيناك الكوثر)
- بدأ سبحانه بجمع ضمير المتكلم "إنا" للتعظيم، إشارة إلى أن العطية كبيرة من معط عظيم و كبير سبحانه
- و التعبير بالماضى ( أعطيناك) أبلغ ذ فيه دلالة على تحقق وقوع الوعد من الملك القدير
- كذلك أكد بـ "إن" ، و قدم الضمير"إنا" على الفعل "أعطيناك" ، فكان التوكيد مشدداً بالتقديم و بإن ، و ذلك يفيد تعظيم العطية ، و يفيد الإختصاص و الإهتمام ، الإختصاص:لأن الله تعالى أعطى نبيه الكوثر اختصاصاً له وليس لأحد سواه، و الإهتمام: لأن الله العظيم إذا أعطى حصراً فلا يمكن لأحد أن ينزع عطية الله !
- و إستعمل كلمة (الكوثر) من صيغ المبالغة (فوعل وفيعل) فدلت على المبالغة المفرطة في العطية،و هو أبلغ من (الكثير) من وجهين، الأول: أن الكوثر قد تكون صفة وقد تكون ذاتاً، أما الكثير فهي صفة فقط، الثانى: الكوثر صفة تدل على الكثرة فى الخير خصوصاً ، أما "كثير" تعنى كثرة قد تكون في الخير وغيره.
- و حدف الموصوف بوقوفه على كلمة (الكوثر) فلم يقل الكوثر فى الماء أو الكوثر فى المال ...، ليشمل كل الخيرات التى أوتيها رسول الله ، سواء كانت حوض الكوثر فى الأخرة، أو رفعة الذكر، أو كثرة الأتباع، أو كثرة النعم عامة، فأطلق الخير كله بهذا الحذف البديع
- وعندما عرف "الكوثر" بأل التعريف دخل في معناها النهر ولو قال "كوثر" لما دخل النهر فيه.

(فصل لربك و انحر)
- جاء سبحانه بفاء السببية بعد أن بشر رسوله صلى الله عليه و سلم بإعطائه الكوثر ليعلمه شكر النعمة ، إذ ينبغي تلقي النعم بالشكر
- و لم يقل له ( فاشكر) لأن الشكر قد يكون قليلاً أو كثيراً فلو قال الحمد لله فقط لكان شاكراً لكن هذا الأمر الكبير والعطاء الكبير يستوجب الحمد الكثير ولذا طلب تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم شيئين، الأول يتعلق بالله تعالى وهو الصلاة أعظم ركن من أركان الإسلام بعد الشهادة ، والثاني يتعلق بالعباد وهو النحر وفيه إعطاء خلق الله والشفقة بخلق الله.
- وقدم الله تعالى الصلاة على النحر لأن الصلاة أهم من النحر وهي ركن من أركان الإسلام، ولا تسقط لأى سبب، أما النحر فيكون مع التمكن المادي فقط
- و قوله (فصل لربك) بعدما قال ( إنا أعطيناك) أسلوب بلاغى جميل، و هو الإلتفات من الحضور إلى الغيبة..
- كذلك قوله ( فصل لربك) و لم يقل فصل لنا أو صلى لله، إذ الرب هو الذى يرزق و يمنح و يخفض و يرفع ، فإرتبط العطاء في القرآن كله بلفظ الربكما قال تعالى
(ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (ولسوف يعطيك ربك فترضى) (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محذورا) (جزاء من ربك عطاء حسابا)
كما أنه إستخدم ضمير التعظيم بقوله تعالى (إنا أعطيناك) فلو قال فصل لنا لربما وهم متوهم أن فيه شرك ، أو انه يمكن استخدام ضمير التعظيم للجمع ، لذلك من لطائف كتاب الله أنه لا يوجد موضع ذكر فيه ضمير التعظيم إلا سبقه أو تبعه إفراد بما يفيد وحدانية الله تعالى كما قال:
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ...إنا لله وإنا إليه راجعون) (كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله) (ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك....وإلى ربك فارغب)
- و إستعمل كلمة (و انحر) و لم يقل (و اذبح) لأن النحر لغة يتعلق بالإبل التى هى من خيار أموال العرب ، فى حين الذبح قد يستعمل فيما هو أدنى كالبقر والطيور والشاة ،وبما أن الله تعالى أعطى رسوله صلى الله عليه وسلم الخير الكثير والكوثر فلا يناسب هذا العطاء الكبير أن يكون الشكر عليه قليلاً لذا اختار الصلاة والنحر وهما أعظم أنواع الشكر.
- كذلك قال (و انحر) و لم يقل (وتصدق) لأن الصدقة تشمل القليل والكثير فلو تصدق احدهم بدرهم أو بطير لكفى المعنى ولكن الله تعالى أراد التصدق بخير الأموال ليتناسب مع العطاء الكثير.
- كذلك ذكر النحر و قرنه بالصلاة هنا جمع بين العبادات البدنية و المالية معاً، و تعريض بالمشركين الذين كانو يعبدون غير الله و ينحرون لغير الله، فجمع بذلك توحيد الألوهية بجانب توحيد الربوبية فى قوله (لربك)
- و من بلاغة الإيجاز فى الأية أنه لم يقل (و انحر لربك) إذ المتعلق الأول لربك كأنما يغني عن المتعلق الثاني وهو ما يسمى بظهور المراد أي يفهم من الآية فصل لربك وانحر لربك .
- و إشتملت كذلك على ترتيب تشريعى إذ تتضمن الأية أفعال يوم عيد الأضحى فتكون الصلاة ثم تكون الأضحية

(إن شانئك هو الأبتر)
- أكد الخبر بـ"إن" و بتعريف كلمة "أبتر" ، كما أن فى ذلك حصر البتر بالشانئ تخصيصاً
- و قوله (شانئك) و لم يقل (عدوك) لأن مجرد الشنئان أى البغض للرسول صلى الله عليه وسلم يوجب الخشارة ولو لم يعلن عداوته علناً
- و لم يذكر إسم شانىء الرسول فى الأية لتناسب ذلك مع قطعه و بتره حتى من مجرد ذكر إسمه، كذلك لتخلد هذه الجملة فى حقه و حق غيره فتكون قاعدة عامة فى كل شانىء لرسول الله صلى الله عليه و سلم
- و قال (الأبتر) و لم يقل (المبتور) إذ الأبتر صفة مشبهة على وزن أفعل تفيد الثبوت مثل الأحمر والأعرج والأسمر والأصلع، أما المبتور صيغة فعول تدل على الحدوث فترة مثل مهموم ومحزون ومسرور ولا تدل على الثبوت بل تتحول.
- كلمة (الأبتر) من جوامع الكلم ، تشمل كل أمر انقطع من الخير أثره ، و ليس فقط من حُرم الذرية الذكور، فالخاسر على وجه العموم هو الأبتر
- وقد ارتبط آخر السورة بأولها ، ففى أولها أعطى سبحانه الكثير من الخير لرسوله الكريم، وفي أخرها بتر سبحانه الخير عن كل شانىء لرسوله الكريم صلى الله عليه و سلم


ســـــــورة العلــــــــــــــق* من روائع هذه السورة نسقها الثلاثي في الخطاب:
1- توجيه الخطاب ثلاث مرات:
-اقرأ.....اقرأ/أرأيت.....أرأيت.......أرأيت /لا تطعه.
2- الزجر ثلاث مرات:
-كَلاإِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى/ كَلا لئن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ/ كَلالَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.
3- النماذج الثلاثة:
- أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى/ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى/ أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى.
4-التهديد ثلاث مرات:
- إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى/ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ/. سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ.
5- العبادات الثلاث المطلوبة من النبي صلى الله عليه وسلم:
- لَا تُطِعْهُ /وَاسْجُدْ /وَاقْتَرِبْ
6-التركيب المرآتي:الاستئناف بتكرار العنصر السابق:
الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ /عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ/ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ.

*إلى جانب ما سبق يلحظ القاري النسق الثلاثي من جهة تكرار العناصر اللغوية المفردة منها:
1-ربك:
-رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ /وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ./ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى.
2-الإنسان:
-خَلَقَ الْإِنسَانَ /عَلَّمَ الْإِنسَانَ / إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى.
3-الذي:
- الَّذِي خَلَقَ/الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ/الَّذِي يَنْهَى.
4- لم:
-مَا لَمْ يَعْلَمْ/ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى/ لَّمْ يَنتَهِ.
5- اللام+المضارع :
- لَيَطْغَى/ لَنَسْفَعا ً/ فَلْيَدْعُ.
6- إن الشديدة:
- إِنَّ الْإِنسَانَ/ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ/ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى.
7- إن الخفيفة المباشرة للفعل:
- أَن رَّآهُ/إِن كَانَ/ إِن كَذَّبَ.
[كتبه الشيخ أبى عبدالمعز]

*و من اللمسات البيانية فى هذه السورة:
- لما بدأت سورة العلق بأول أمر (إقرأ) ناسب أن يرتبط الأمر بالعلم و التبصر بذكر (الرب) لأن الرب هو المربى ، و الله تعالى بدأ ههنا بتربيه نبيه و تعليمه!
- و ثنى بذكر الخلق (ربك الذى خلق) ، لأن الخلق هو أول أفعال الربوبية فناسب أن يذكّر به الإنسان فى أول أيات الرسالة الإلهية
- وبدأ من الخلق بمرحلة أولية صغيرة (خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)، منشأ صغير حقير ليعرف الإنسان قدره و يدرك فضل ربه و كرمه
- ثم أن الرب الخالق كريم رفع هذا العلق إلى إنسان كامل، يعلم فيتعلم(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) فليقبل الإنسان هذا العلم من الله، و يقبل رسالته التى بدأ لتوه يعلمها نبيه صلى الله عليه و سلم
- (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) ولقد كان المتوقع أن يعرف الإنسان هذا الفضل العظيم، وأن يشعر بتلك النقلة البعيدة فى خلقه، ولكن برزت طبيعته الطاغية نسي منشأه وأبطره الغنى!
- فناسب هذا أن يتبعه سبحانه بتعقيب تهديدي سريع ليرد الأمر إلى نصابه و يذكر من تنفعه الذكرى(إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)
انظر أرشدك الله كيف جمع سبحانه فى كلمات حياة الإنسان من لحظة الخلق إلى لحظة الموت و البعث ليعرف حقيقة هذه الدنيا التى يغتبر بها و يتكبر على ربه!
- فلما حقق المراد مضى مبيناً الطغيان الإنساني الذى يتجاوز به الإنسان نفسه ليؤذى به غيره!
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى) و إنها لتبدو أكبر إذا كان هذا العبد على الهدى آمرًا بالتقوى (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى)
- (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) فالتهديد إذن يأتي في إبانه (كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ( هكذا (لَنَسْفَعَ) بذلك اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه.. وأنه لأوقع من مرادفه: لنأخذنه بشدة.
-و( لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ) صورة حسية للأخذ الشديد السريع، ومن أعلى مكان يرفعه الطاغية المتكبر، من مقدم الرأس المتشامخ، إنها ناصية تستحق السفع
- (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) و قد سبق معرفتنا ما فيها من الإعجاز العلمى..
- وإنها للحظة سفع وصرع فقد يخطر له أن يدعو من يعتز بهم من أهله وصحبه (فَلْيَدْعُ نَادِيَه) ، أما ربه فيدعو زبانية جهنم(سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)
وهنا يخيل السياق للسامع صورة معركة بين المدعوين: بين الزبانية وأهل ناديه، وهي معركة تخييلية تشغل الحس والخيال، ولكنها على هذا النحو معروفة المصير، فلتُترك لمصيرها المعروف!
- وليمض صاحب الرسالة في رسالته، غير متأثر بطغيان الطاغي وتكذيبه، (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)
فانظر إلى التقابل العجيب بين من يطغى و من يسجد
و أنظر إلى التناسب بين ذكر السجود و الإقتراب، لأن العبد أقرب ما يكون إلى ربه و هو ساجد!
[منقول بتصرف عن كتاب التصوير الفنى فى القرأن]



تم النقل ولله الحمد
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس