قلت: فأي فائدة في إيماننا هذا؟ وأي لطف يحصل لنا بهذا؟ ثم كيف يجوز أن يكلفنا الله بطاعة شخص، ونحن لا نعلم ما يأمرنا به ولا ما ينهانا عنه، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه؟ وهم من أشد الناس إنكاراً لتكليف ما لا يطاق، فهل يكون في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟!
فقال: إثبات هذا مبني على تلك المقدمات.
قلت: لكن المقصود لنا من تلك المقدمات هو ما يتعلق بنا نحن، وإلا فما علينا مما مضى إذا لم يتعلق بنا منه أمر ولا نهي. وإذا كان كلامنا في تلك المقدمات لا يُحَصِّلُ لنا فائدة ولا لطفاً، ولا يفيدنا إلا تكليف ما لا يُقدر عليه، عُلم أن الإيمان بهذا المنتظر من باب الجهل والضلال، لا من باب المصلحة واللطف.
والذي عند الإمامية من النقل عن الأئمة الموتى: إن كان حقًّا يحصل به سعادتهم فلا حاجة بهم إلى المنتظر. وإن كان باطلاً فهم أيضاً لم ينتفعوا بالمنتظر في رد هذا الباطل. فلم ينتفعوا بالمنتظر [لا] في إثبات: حق، ولا في نفي باطل، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولم يحصل لواحد منهم به شيء من المصلحة واللطف المطلوب من الإمامة.
والجُهَّال الذين يعلِّقون أمورهم بالمجهولات، كرجال الغيب والقطب [والغوث] والخضر ونحو [ذلك، مع جهلهم وضلالهم] وكونهم يثبتون ما لم يحصل لهم به مصلحة ولا لطف ولا منفعة لا في الدين ولا في الدنيا، أقلّ ضلالاً من الرافضة.
فإن الخضر كان موجوداً، وقد ذكره الله في القرآن، وفي قصته عبرة وفوائد. وقد يرى أحدهم شخصاً صالحاً يظنه الخضر فينتفع به وبرؤيته وموعظته، وإن كان غالطاً في اعتقاده أنه الخضر، [فقد يرى أحدهم بعض الجن فيظن أنه الخضر، ولا يخاطبه الجني إلا بما يرى أنه يقبله منه ليربطه على ذلك، فيكون الرجل أُتي من نفسه لا من ذلك المخاطب له. ومنهم من يقول: لكل زمان خضر. ومنهم من يقول: لكل وليٌّ خضر. وللكفار كاليهود مواضع يقولون إنهم يرون الخضر فيها، وقد يُرى الخضر على صور مختلفة وعلى صورة هائلة وأمثال ذلك. وذلك لأن هذا الذي يقول إنه الخضر هو جني، بل هو شيطان يظهر لمن يرى أنه يضله. وفي ذلك حكايات كثيرة يضيق هذا الموضع عن ذكرها].
وعلى كل تقدير فأصناف الشيعة أكثر ضلالاً من هؤلاء. فإن منتظرهم ليس عندهم نقل ثابت عنه، ولا يعتقدون فيمن يرونه أنه المنتظر، ولما دخل السرداب كان عندهم صغيراً لم يبلغ سنَّ التمييز، وهم يقبلون من الأكاذيب أضعاف ما يقبله هؤلاء، ويعرضون عن الاقتداء بالكتاب والسنة أكثر من إعراض هؤلاء ويقدحون في خيار المسلمين قدحاً يعاديهم عليه هؤلاء. فهم أضل عن مصالح الإمامة من جميع طوائف الأمة، فقد فاتهم على قولهم أهم الدين وأشرفه.
الوجه الرابع:
أن يقال: قوله: «التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة» كلام باطل. فإن مجرد معرفة الإنسان إمام وقته وإدراكه بعينه، لا يستحق به الكرامة إن لم يوافق أمره ونهيه. وإلا فليست معرفة إمام الوقت بأعظم من معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عرف أن محمداً رسول الله فلم يؤمن به ولم يطع أمره، لم يحصل له شيء من الكرامة. لو آمن بالنبي وعصاه فضيع الفرائض وتعدى الحدود، كان مستحقاً للوعيد عند الإمامية وسائر طوائف المسلمين، فكيف بمن عرف الإمام وهو مضيع للفرائض متعد للحدود!
وكثير من هؤلاء يقول: حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة. وإن كانت السيئات لا تضر مع حب عليّ، فلا حاجة إلى الإمام المعصوم الذي هو لطف في التكليف، فإنه إذا لم يوجد، إنما توجد سيئات ومعاص. فإن كان حب عليّ كافياً، فسواء وجد الإمام أو لم يوجد.
الوجه الخامس:
قوله: «وهي أحد أركان الإيمان، المستحق بسببه الخلود في الجنان».
فيقال له: من جعل هذا من الإيمان، إلا أهل الجهل والبهتان؟ وسنتكلم إن شاء الله على ما ذكره من ذلك.
والله تعالى وصف المؤمنين وأحوالهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسَّر الإيمان وذكر شعبه، ولم يذكر الله ولا رسوله الإمامة في أركان الإيمان ففي [الحديث] الصحيح حديث جبريل لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان. قال [له]: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت». قال: والإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، [واليوم الآخر]، والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره». ولم يذكر الإمامة. قال: «والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وهذا الحديث متفق على صحته، مُتلقى بالقبول، أجمع أهل العلم بالنقل على صحته وقد أخرجه أصحاب الصحيح من غير وجه، فهو متفق عليه من حديث أبي هريرة، وفي [أفراد] مسلم من حديث عمر.
وهؤلاء وإن كانوا لا يقرون بصحة هذه الأحاديث، فالمصنف [قد] احتج بأحاديث موضوعة كذب باتفاق أهل المعرفة، فإما أن نحتج بما يقوم الدليل على صحته نحن وهم، أو لا نحتج بشيء من ذلك لا نحن ولا هم. فإن تركوا الرواية رأساً أمكن أن نترك الرواية. وأما إذا رووا هم، فلا بد من معارضة الرواية [بالرواية]، والاعتماد على ما تقوم به الحجة. ونحن نبين الدلائل الدالة على كذب ما يعارضون به أهل السنة من الروايات الباطلة، والدلائل الدالة على صحة ما نقله أهل العلم بالحديث وصححوه.
وهب أنَّا لا نحتج بالحديث، فقد قال الله تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ{ [سورة الأنفال: 2-4]، فشهد هؤلاء بالإيمان من غير ذكر للإمامة.
وقال تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{ [سورة الحجرات: 15]، فجعلهم صادقين في الإيمان من غير ذكر للإمامة.
وقال تعالى: }لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{[سورة البقرة: 177] ولم يذكر الإمامة.
وقال تعالى: }الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [سورة البقرة: 1- 5]، فجعلهم مهتدين مفلحين ولم يذكر الإمامة.
وأيضاً: فنحن نعلم بالاضطرار من دين محمد [بن عبد الله] صلى الله عليه وسلم أن الناس كانوا إذا أسلموا لم يَجْعل إيمانهم موقوفاً على معرفة الإمامة، ولم يذكر لهم شيئاً من ذلك. وما كان أحد أركان الإيمان لا بد أن يبينه الرسول لأهل الإيمان ليحصل لهم [به] الإيمان. فإذا عُلم بالاضطرار أن هذا مما لم يكن الرسول يشترطه في الإيمان، عُلم أن اشتراطه في الإيمان من أقوال أهل البهتان.
فإن قيل: قد دخلت في عموم النصوص، أو هي من باب ما لا يتم الواجب إلا به، أو دلّ عليها نص آخر.
قيل: هذا كله لو صح لكان غايته أن تكون من بعض فروع الدين، لا تكون من أركان الإيمان، فإن ركن الإيمان ما لا يحصل الإيمان إلا به كالشهادتين، فلا يكون الرجل مؤمناً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فلو كانت الإمامة ركناً في الإيمان لا يتم إيمان أحد إلا به، لوجب أن يبين ذلك الرسول بياناً عاماً قاطعاً للعذر، كما بين الشهادتين والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر. فكيف ونحن نعلم بالاضطرار من دينه أن الناس الذين دخلوا في دينه أفواجاً، لم يشترط على أحد منهم في الإيمان بالإمامة لا مطلقاً ولا معيناً!؟
الوجه السادس:
قوله: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات مِيتة جاهلية.
يقال له أولاً: من روى هذا الحديث بهذا اللفظ وأين إسناده؟ وكيف يجوز أن يُحتج بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؟ وهذا لو كان مجهول الحال عند أهل العلم بالحديث، فكيف وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يُعرف؟!
إنما الحديث المعروف مثل ما روى مسلم في صحيحه عن نافع، قال: جاء [عبد الله] بن عمرو إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحَرَّة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله. سمعته يقول: «من خلع يدًّا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية».
وهذا حدَّث به [عبد الله] بن عمر لعبد الله بن مطيع [بن الأسود] لما خلعوا طاعة أمير وقتهم يزيد، مع أنه كان فيه من الظلم ما كان. ثم إنه اقتتل هو وهم، وفعل بأهل الْحَرَّة أموراً منكرة.
فعُلم أن هذا الحديث دلّ على ما دلّ عليه سائر الأحاديث الآتية من أنه لا يُخْرَج على ولاة أمور المسلمين بالسيف، وأن من لم يكن مطيعاً لولاة الأمور مات ميتة جاهلية. وهذا ضد قول الرافضة، فإنهم أعظم الناس مخالفة لولاة الأمور، وأبعد الناس عن طاعتهم إلا كرهاً.
ونحن نطالبهم أولاً بصحة النقل، ثم بتقدير أن يكون ناقلة واحداً، فكيف يجوز أن يثبت أصل الإيمان بحبر مثل هذا [الذي] لا يُعرف له ناقل؟! وإن عُرف له ناقل أمكن خطؤه وكذبه، وهل يثبت أصل الإيمان إلا بطريق علمي؟!
الوجه السابع:
أن يقال: إن كان هذا الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فليس فيه حجة لهذا القائل. فإن النبي صلى الله عليه وسلم [قد] قال: «من مات ميتة جاهلية» في أمور ليست من أركان الإيمان التي من تركها كان كافراً.
كما في صحيح مسلم عن جُندب بن عبد الله البجلي – رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قُتل تحت راية عُمِّيَّة يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقِتْلَته جاهلية». وهذا الحديث يتناول من قاتل في العصبية، والرافضة رءوس هؤلاء. ولكن لا يكفر المسلم بالاقتتال في العصبية، كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة، فكيف يكفر بما هو دون ذلك؟!
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية». وهذا حال الرافضة فإنهم يخرجون عن الطاعة ويفارقون الجماعة.
وفي الصحيحين عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية». وفي لفظ: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإن من خرج من السلطان شبراً، مات ميتة جاهلية».
وهذه النصوص مع كونها صريحة في حال الرافضة، فهي وأمثالها المعروفة عند أهل العلم، لا بذلك اللفظ الذي نقله.
الوجه الثامن:
أن هذا الحديث الذي ذكره حجة على الرافضة لأنهم لا يعرفون إمام زمانهم، فإنهم يدَّعون أنه الغائب المنتظر محمد بن الحسن الذي دخل سرداب سامرَّا سنة سِتين ومائتين أو نحوها ولم يميز بعد، بل كان عمره إما سنتين أو ثلاثاً أو خمساً أو نحو ذلك، وله الآن – على قولهم – أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ولم يُر له عين ولا أثر، ولا سُمع له حس ولا خبر. فليس فيهم أحد يعرفه لا بعينه ولا صفته، لكن يقولون إن هذا الشخص الذي لم يره أحد ولم يسمع له خبر هو إمام زمانهم. ومعلوم أن هذا ليس هو معرفة بالإمام.
ونظير هذا أن يكون لرجل قريب من بني عمه في الدنيا ولا يعرف شيئاً من أحواله، فهذا لا يعرف ابن عمه. وكذلك المال المُلْتَقَط إذا عَرف أن له مالكاً ولم يعرف عينه لم يكن عارفاً لصاحب اللقطة. بل هذا أعرف، لأن هذا يمكن ترتيب بعض أحكام الملك والنسب [عليه]، وأما المنتظر فلا يعرف له حال ينتفع به في الإمامة.
فإن معرفة الإمام الذي يُخرِج الإنسان من الجاهلية، هي المعرفة التي يحصل بها طاعة وجماعة، خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية، فإنهم لم يكن لهم إمام يجمعهم ولا جماعة تعصمهم، والله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وهداهم به إلى الطاعة والجماعة. وهذا المنتظر لا يحل بمعرفته طاعة ولا جماعة، فلم يُعرف معرفة تخرج الإنسان من [حال] الجاهلية، بل المنتسبون إليه أعظم الطوائف جاهلية وأشبههم بالجاهلية، وإن لم يدخلوا في طاعة غيرهم – إما طاعة كافر وإما طاعة مسلم هو عندهم من الكفار أو النواصب – لم ينتظم لهم مصلحة، لكثرة اختلافهم وافتراقهم وخروجهم عن الطاعة والجماعة.
وهذا يتبين
بالوجه التاسع:
وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين [المعلومين]، الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلاً. كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتماع والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقاً، بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته، وهذا يبين أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين.
ففي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم». قال: قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من وُلِيّ عليه والٍ، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة».
وفي [صحيح] مسلم عن أم سَلَمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع». قالوا: [يا رسول الله]، أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلُّوا».
وهذا يبين أن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور، وأنه يُكره ويُنكر ما يأتونه من معصية الله، ولا تنزع اليد من طاعتهم، بل يطاعون في طاعة الله، وأن منهم خياراً وشراراً، من يُحَب ويُدعى له ويُحِب الناس ويدعو لهم، ومن يبغض ويدعو على الناس ويبغضونه ويدعون عليه.
وفي الصحيحين [عن أبي هريرة]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر. قالوا: فما تأمر؟ قال: يفُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عمّا استرعاهم». فقد أخبر أن بعده خلفاء كثيرين، وأمر أن يوفي ببيعة الأول فالأول وأن يعطوهم حقهم.
وفي الصحيحين عن [عبد الله] بن مسعود، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون بعدي أََثَرة وأموراً تنكرونها». قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم». وفي لفظ: «ستكون أثرة وأمور تنكرونها». قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم».
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وعلى أَثَرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
وفي الصحيحين عن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».
فإن قال: أنا أردت بقولي: إنها «أهم المطالب في الدين، وأشرف مسائل المسلمين» المطالب التي تنازعت الأمة فيها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي مسألة الإمامة.
قيل له: فلا لفظ فصيح، ولا معنى صحيح. فإن ما ذكرته لا يدل على هذا المعنى، بل مفهوم اللفظ ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مطلقاً، وأشرف مسائل المسلمين مطلقاً.
وبتقدير أن يكون هذا مرادك فهو معنى باطل، فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل أشرف من هذه. وبتقدير أن تكون هي الأشرف، فالذي ذكرته فيها أبطل المذاهب، وأفسد المطالب.
وذلك أن النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة علي – رضي الله عنه – [وأما] على عهد الخلفاء الثلاثة فلم يظهر نزاع إلا ما جرى يوم السقيفة، وما انفصلوا حتى اتفقوا، ومثل هذا لا يُعد نزاعاً. ولو قُدِّر أن النزاع فيها كان عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما تنوزع فيه عقب موته صلى الله عليه وسلم، يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهر طويل.
وإذا كان كذلك، فمعلوم أن مسائل القدر والتعديل والتجوير والتحسين والتقبيح والتوحيد والصفات والإثبات والتنزيه، أهم وأشرف من مسائل الإمامة. ومسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، والعفو والشفاعة والتخليد، أهم من مسائل الإمامة.
ولهذا كل من صنَّف في أصول الدين يذكر مسائل الإمامة في الآخر، حتى الإمامية يذكرون مسائل التوحيد والعدل والنبوة قبل مسائل الإمامة. وكذلك المعتزلة يذكرون أصولهم الخمس: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والخامس هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه تتعلق مسائل الإمامة.
ولهذا كان جماهير الأمة نالوا الخير بدون مقصود الإمامة التي تقولها الرافضة، فإنهم يُقرُّون بأن الإمام الذي هو صاحب الزمان مفقود لا ينتفع به أحد، وأنه دخل السرداب سنة ستين ومائتين أو قريباً من ذلك، وهو الآن غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة، فهم في هذه المدّة لم ينتفعوا بإمامته لا في دين ولا في دنيا، بل يقولون: إن عندهم علماً منقولاً عن غيره.
فإن كانت أهم مسائل الدين، وهم لم ينتفعوا بالمقصود منها، فقد فاتهم من الدين أهمه وأشرفه، وحينئذ فلا ينتفعون بما حصل لهم من التوحيد والعدل، لأنه يكون ناقصاً بالنسبة إلى مقصود الإمامة، فيسحقون العذاب. كيف، وهم يسلِّمون أن مقصود الإمامة إنما هو في الفروع الشرعية، وأما الأصول العقلية فلا يُحتاج فيها إلى الإمام، وتلك هي أهم وأشرف!
ثم بعد هذا كله، فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب، ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة لما فيها من مصلحة الخلق في دينهم ودنياهم، وإمامكم صاحب الوقت لم يحصل لكم من جهته مصلحة لا في الدين ولا في الدنيا، فأي سعي أضل من سعي من يتعب التعب الطويل، ويكثر القال والقيل، ويفارق جماعة المسلمين، ويلعن السابقين والتابعين، ويعاون الكفار والمنافقين، ويحتال بأنواع الحيل، ويسلك ما أمكنه من السبل، ويعتضد بشهود الزور، ويُدلي أتباعه بحبل الغرور، ويفعل ما يطول وصفه، ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ونهيه، ويعرّفه ما يقربه إلى الله [تعالى]؟!
ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ونسبه، لم يظفر بشيء من مطلوبه، ولا وصل إليه [شيء] من تعليمه وإرشاده، ولا أمره ولا نهيه، ولا حصل له من جهته منفعة ولا مصلحة أصلاً، إلا إذهاب نفسه وماله، وقطع الأسفار، وطول الانتظار بالليل والنهار، ومعاداة الجمهور لداخل في سرادب، ليس له عمل ولا خطاب، ولو كان موجوداً بيقين، لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين. فكيف وعقلاء الناس يعلمون، أنه ليس معهم إلا الإفلاس، وأن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ولم يُعْقِبَ، كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري، وعبد الباقي بن قانع، وغيرهما من أهل العلم بالنسب؟!
وهم يقولون إنه دخل السرداب بعد موت أبيه وعمره إما سنتان وإما ثلاث، وإما خمس، وإما نحو ذلك. ومثل هذا بنص القرآن يتيم يجب أن يُحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد، ويحضنه من يستحق حضانته من أقربائه، فإذا صار له سبع سنين أُمر بالطهارة والصلاة. فمن لا توضأ ولا صلى، وهو تحت جحر وليِّه في نفسه وماله بنص القرآن، لو كان موجوداً يشهده العيان، لما جاز أن يكون هو إمام أهل الإيمان، فكيف إذا كان معدوماً أو مفقوداً مع طول هذه الغيبة؟!
والمرأة إذا غاب عنها وليُّها، زوَّجها الحاكم أو الولي الحاضر لئلا تفوت مصلحة المرأة بغيبة الوليِّ المعلوم الموجود، فكيف تضيع مصلحة الأمة مع طول هذه المدَّة، مع هذا الإمام المفقود؟!
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 1 / 75-123).
***************
|