الشبهة(20): ادعاؤهم منع أبي بكر فاطمة ميراثها
والجواب من وجوه:
أحدها: أن ما ذكر من قول فاطمة – رضي الله عنها -: أترث أباك ولا أرث أبي؟ لا يُعلم صحته عنها، وإن صحّ فليس فيه حجة، لأن أباها صلوات الله عليه وسلامه لا يُقاس بأحد من البشر، وليس أبو بكر أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم [كأبيها]، ولا هو ممن حرَّم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها، ولا هو أيضاً ممن جعل الله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال، كما جعل أباها كذلك.
والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورِّثوا دنيا، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلَّفوها لورثتهم. وأما أبو الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يُقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوّته عن الشبهة، وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة.
الثاني: أن قوله: «والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها» كذب؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نُورَثُ ما تركنا فهو صدقة» رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد، مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث، فقول القائل: إن أبا بكر انفرد بالرواية، يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب.
الثالث: قوله «وكان هو الغريم [لها]» كذب، فإن أبا بكر – رضي الله عنه – لم يدع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته، وإنما هو صدقة لمستحقها، كما أن المسجد حق للمسلمين. [والعدل] لو شهد على رجل أنه وصَّى بجعل بيته مسجداً، أو بجعل بئره مسبلة، أو أرضه مقبرة، ونحو ذلك، جازت شهادته باتفاق المسلمين، وإن كان هو ممن يجوز له أن يصلي في المسجد، ويشرب من تلك البئر، ويدفن في تلك المقبرة. فإن هذا شهادة لجهة عامة غير محصورة، والشاهد دخل فيها بحكم العموم لا بحكم التعيين، ومثل هذا لا يكون خصماً.
ومثل هذا شهادة المسلم بحق لبيت المال مثل كون هذا الشخص لبيت المال عنده حق، وشهادته بأن هذا ليس له وارث إلا بيت المال، وشهادته على الذميّ بما يوجب نقض عهده وكون ماله فيئاً لبيت المال، ونحو ذلك.
ولو شهد عدل بأن فلاناً وقّف ماله على الفقراء والمساكين قُبلت شهادته، وإن كان [الشاهد] فقيراً.
الرابع: أن الصديق – رضي الله عنه – لم يكن من أهل هذه الصدقة، بل كان مستغنياً عنها، ولا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة؛ فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصَّى بصدقة للفقراء؛ فإن هذه شهادة مقبولة بالاتفاق.
الخامس: أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقُبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة، والمحدِّث إذا حدَّث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قُبلت روايته للحديث، لأن الرواية تتضمن حكماً عاماً يدخل فيه الراوي وغيره. وهذا من باب الخير، كالشهادة برؤية الهلال؛ فإن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم يتناول الراوي وغيره، وكذلك ما نهى عنه، وكذلك ما أباحه.
وهذا الحديث تضمَّن رواية بحكم شرعي، ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة – رضي الله عنها -، وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتِّهابه لذلك منهم، وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة.
السادس: أن قوله: «علي أن ما رووه فالقرآن يخالف ذلك، لأن الله تعالى قال: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [سورة النساء: 11] ولم يجعل الله ذلك خاصًّا بالأُمَّة دونه صلى الله عليه وسلم.
فيقال: أولاً : ليس في عموم لفظ الآية [ما يقتضي] أن النبي صلى الله عليه وسلم يورث، فإن الله تعالى قال: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ{ [سورة النساء: 11]، وفي الآية الأخرى: }وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ{ إلى قوله: }مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ{ [سورة النساء: 12]، وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بها.
و«كاف» الخطاب يتناول من قصده المخاطب، فإن لم يعلم أن المعين مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ، حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقاً لا تقبل التخصيص [فكيف بضمير المخاطب؟] فإنه لا يتناول إلا من قُصد بالخطاب دون من لم يُقصد. ولو قُدِّر أنه عام يقبل التخصيص، فإنه عام للمقصودين بالخطاب، وليس فيها ما يقتضي كون النبي صلى الله عليه وسلم من المخاطبين بهذا.
فإن قيل: هب أن [الضمائر] ضمائر التكلم والخطاب والغيبة لا تدل بنفسها على شيء بعينه، لكن بحسب ما يقترن بها؛ فضمائر الخطاب موضوعة لمن يقصده المخاطِب بالخطاب، وضمائر التكلم لمن يتكلم كائناً من كان. لكن قد عرف أن الخطاب بالقرآن هو للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جميعاً، كقوله تعالى: }كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ{ [سورة البقرة: 183] وقوله: }إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ{ [سورة المائدة: 6] ونحو ذلك. وكذلك قوله تعالى: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [سورة النساء: 11].
قيل: بل «كاف» الجماعة في القرآن تارة تكون للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وتارة تكون لهم دونه. كقوله تعالى: }وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ{ [سورة الحجرات: 7]؛ فإن هذه «الكاف» للأمة دون النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قوله تعالى: }لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ{ [سورة التوبة: 128].
وكذلك قوله تعالى: }أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ{ [سورة محمد:33]، وقوله تعالى: }كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ{ [سورة آل عمران: 31] ونحو ذلك؛ فإن كان الخطاب في هذه المواضع لم يدخل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، بل تناولت من أُرسل إليهم. فلم لا يجوز أن تكون الكاف في قوله تعالى: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ{ [سورة النساء: 11] مثل هذه الكافات، فلا يكون في السنة ما يخالف ظاهر القرآن.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: }وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا{ [سورة النساء: 3 – 4]، فإن الضمير هنا في «خفتم» و«تقسطوا» و«انكحوا» و«طاب لكم» و«ما ملكت أيمانكم» إنما يتناول الأمة دون نبيها صلى الله عليه وسلم، فإن [النبي صلى الله عليه وسلم] له أن يتزوج أكثر من أربع، وله أن يتزوج بلا مهر، كما ثبت ذلك بالنص والإجماع.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الأمثلة فيها ما يقتضي اختصاص الأمة، فإنه لما ذكر ما يجب من طاعة الرسول وخاطبهم بطاعته ومحبته، وذكر بعثه إليهم، عُلم أنه ليس داخلاً في ذلك.
قيل: وكذلك آية الفرائض لما قال: }آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً{ [سورة النساء: 11]، وقال: }مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ{ [سورة النساء: 11]، ثم قال: }تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ{ [سورة النساء: 13- 14]، فلما خاطبهم بعدم الدراية التي لا تناسب حال الرسول، وذكر بعد هذا ما يجب عليهم من طاعته فيما ذكره من مقادير الفرائض، وأنهم إن أطاعوا الله ورسوله في هذه الحدود استحقوا الثواب، وإن خالفوا الله والرسول استحقُّوا العقاب، وذلك بأن يعطوا الوارث أكثر من حقه، أو يمنعوا الوارث ما يستحقه – دلّ ذلك على أن المخاطبين المسلوبين الدراية [لما ذكر]، الموعودين على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، المتوعدين على معصية الله ورسوله وتعدّى حدوده فيما قدره من المواريث وغير ذلك، لم يدخل فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كما لم يدخل في نظائرها.
ولما كان ما ذكره من تحريم تعدّى الحدود عقب ذكر الفرائض المحدودة، دلّ على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على ما قُدِّر له، ودلّ على أنه لا تجوز الوصية لهم، وكان هذا ناسخاً لما أُمر به أولاً من الوصية للوالدين والأقربين.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» رواه أهل السنن كأبي داود وغيره، [ورواه أهل السير]، واتفقت الأمة عليه، حتى ظن بعض الناس أن آية الوصية إنما نُسخت بهذا الخبر، لأنه لم ير بين استحقاق الإرث وبين استحقاق الوصية منافاة، والنسخ لا يكون إلا مع تنافي الناسخ والمنسوخ.
وأما السلف والجمهور فقالوا: الناسخ هو آية الفرائض، لأن الله تعالى قدَّر فرائض محدودة، ومنع من تعدّي حدوده، فإذا أعطى الميت لوارثه أكثر مما حدَّه الله له، فقد تعدّى حدّ الله، فكان ذلك محرّماً، فإن ما زاد على المحدود يستحقه غيره من الورثة أو العصبة، فإذا أخذ حق العاصب فأعطاه لهذا كان ظالماً له.
ولهذا تنازع العلماء فيمن ليس له عاصب: هل يردّ عليه أم لا؟ فمن منع الردّ قال: الميراث حق لبيت المال، فلا يجوز أن يعطاه غيره. ومن جوَّز الرد قال: إنما يوضع المال في بيت المال، لكونه ليس له مستحق خاص، وهؤلاء لهم رحم عام ورحم خاص، كما قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: «ذو السهم أَوْلى ممن لا سهم له».
والمقصود هنا أنه لا يمكنهم إقامة دليل على شمول الآية للرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً.
فإن قيل: فلو مات أحد من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم ورثه، كما ماتت بناته الثلاث في حياته، ومات ابنه إبراهيم؟
قيل: الخطاب في الآية للموروث دون الوارث، فلا يلزم إذا دخل أولاده في كاف الخطاب لكونهم موروثين أن يدخلوا إذا كانوا وارثين.
يوضح ذلك أنه قال: }وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ{ [سورة النساء: 11]، فذكره بضمير الغَيْبة لا بضمير الخطاب، وهو عائد على المخاطب بكاف الخطاب وهو الموروث، فكل من سوى النبي صلى الله عليه وسلم من أولاده وغيرهم موروثون شملهم النص وكان النبي صلى الله عليه وسلم وراثاً لمن خوطب، ولم يخاطب هو بأن يورث أحداً شيئاً، وأولاد النبي صلى الله عليه وسلم ممن شملهم كاف الخطاب فوصَّاهم بأولادهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ففاطمة – رضي الله عنها - وصَّاها الله في أولادها للذكر مثل حظ الأنثيين، ولأبويها لو ماتت في حياتهما لكل واحد منهما السدس.
|