(30) الشبهة: طعوناتهم في أبي بكر رضي الله عنه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قال الرافضي: «.. منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتصم بالوحي، وإن لي شيطاناً يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني. وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟!».
والجواب أن يقال: هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق – رضي الله عنه – وأدلها على أنه لم يكن [يريد علواً في الأرض ولا فساداً، فلم يكن] طالب رياسة، ولا كان ظالماً، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله، فقال لهم: إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها، وإن زغت عنها فقوّموني. كما قال أيضاً: [أيها الناس] أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني آدم؛ فإنه ما من أحد إلا [وقد] وكَّل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن.
والشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد إلا وقد وكَّل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن». قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير».
وفي الصحيح عنه قال: لما مرّ به بعض الأنصار وهو يتحدث مع صفية ليلاً، قال: «على رسلكما، إنها صفية [بنت حيي]». ثم قال: «إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئاً؛ إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».
ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصوماً كالرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا حق.
وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية؟ كلام جاهل بحقيقة الإمامة. فإن الإمام ليس هو ربًّا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله. وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا؛ فلا بد له من إعانتهم، ولا بد لهم من إعانته، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق: إن سلك بهم الطريق اتّبعوه، وإن أخطأ عن الطريق نبّهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه. لكن إذا كان أكملهم علماً وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم.
وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلُّوا بصلاته، وإن سها سبَّحوا به فقوَّموه إذا زاغ.
وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه، وإن غلط قوَّموه.
والناس بعد الرسول لا يتعلمون الدين من الإمام، بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة.
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة، بل قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ{ الآية. [سورة النساء: 59]؛ فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور، وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعاً لطاعة الرسول.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف». وقال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وقال: «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه».
وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟
وارد في كل متعاونَيْن ومتشاركَيْن يحتاج كل منهما إلى الآخر، حتى الشركاء في التجارات والصناعات. وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة؛ فإن المأمومين يحتاجون إليه، وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور، وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقوّمونه، ولو زاغ في الصلاة فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتَّبعوه فيها. ونظائره متعددة.
ثم يُقال: استعانة عليٍّ برعيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر، وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم عليّ لرعيته وطاعتهم له. فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه، كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك، وكانوا إذا أمرهم أطاعوه. وعليّ – رضي الله عنه – لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يُبعن، ثم رأى أن يُبعن، فقال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة.
وكان يقول: اقضوا كما كنتم تقضون؛ فإني أكره الخلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي.
وكانت رعيته كثيرة المعصية له، وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي يخالفهم فيه، ثم يتبين له أن الصواب كان معهم. كما أشار عليه الحسن بأمور، مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة، وأن لا يخرج إلى الكوفة، وأن لا يقاتل بصفِّين، وأشار عليه أن لا يعزل معاوية، وغير ذلك من الأمور.
وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعليّ – رضي الله عنهم -، فإن كان هذا لكمال المتولِّي وكمال الرعية، كانوا هم ورعيتهم أفضل. وإن كان لكمال المتولِّي وحده، فهو أبلغ في فضلهم. وإن كان ذلك لفرط نقص رعية عليٍّ، كان رعية عليّ أنقص من رعية أبي بكر – رضي الله عنه – وعمر وعثمان.
ورعيته هم الذين قاتلوا معه، وأقرُّوا بإمامته، ورعية الثلاثة كانوا مقرِّين بإمامتهم. فإذا كان المقرّون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرّين بإمامة عليّ، لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه.
وأيضاً فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعليّ، فيلزم أن تكون رعية معاوية خيراً من رعية عليّ، ورعية معاوية شيعة عثمان، وفيهم النواصب المبغضون لعليّ، فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة عليّ، فيلزم على كل تقدير: إما أن يكون الثلاثة أفضل من عليّ، وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة عليّ والروافض.
وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة؛ فإنهم يدَّعون أن عليًّا أكمل من الثلاثة، وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة، فضلاً عن أصحاب معاوية.
والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعليّ. فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة – على رأيهم – أعظم اضطراباً وأقل انتظاماً من الإمام الناقص والرعية الناقصة؟ بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم؟
ولم يكن في أصحاب عليّ من العلم والدين والشجاعة والكرم، إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة، فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين، ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من عليّ، فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أَوْلى وأحرى، فعُلم أنهم شر وأنقص من غيرهم.
وهم يقولون: المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلَّفين والمصلحة لهم، فإذا عُلم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة، واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة، عُلم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل.
وتبيَّن حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة، وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر من غيره.
فصل
قال الرافضي: «وقال: أقيلوني فلست بخيركم، وعليٌّ فيكم. فإن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية، وإن كانت باطلة لزم الطعن».
والجواب: أن هذا كذب، ليس في شيء من كتب الحديث، ولا له إسناد معلوم. فإنه لم يقل: «وعليٌّ فيكم» بل الذي ثبت عنه في الصحيح أنه قال يوم السقيفة: بايعوا أحد هذين الرجلين: عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح. فقال له عمر: بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: كنت والله لأن أُقدَّم فتُضرب عنقي، لا يقرّبني ذلك إلى إثم، أحب إليّ من تأمُّري على قوم فيهم أبا بكر.
ثم لو قال: «وعليٌّ فيكم» لاستخلفه مكان عمر؛ فإن أمره كان مطاعاً.
وأما قوله: «إن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية».
فيقال: إن ثبت أنه قال ذلك، فإن كونها حقًّا إما بمعنى كونها جائزة، والجائز يجوز تركه. وإما بمعنى كونها واجبة إذا لم يولّوا غيره ولم يقيلوه. وأما إذا أقالوه وولُّوا غيره لم تكن واجبة عليه.
والإنسان قد يعقد بيعاً أو إجارة، ويكون العقد حقًّا، ثم يطلب الإقالة، وهو لتواضعه وثقل الحمل عليه قد يطلب الإقالة، وإن لم يكن هناك من هو أحق بها منه. وتواضع الإنسان لا يسقط حقه.
فصل
قال الرافضي: «وقال عمر: كانت بيعة أبي بكر فَلْتة وقى الله المسلمين شرّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل، فيلزم تطرق الطعن إلى عُمر. وإن كانت باطلة، لزم الطعن عليهما معًا».
والجواب: أن لفظ الحديث سيأتي. قال فيه: «فلا يغترن امرؤ أن يقول: «إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت. ألا وإنّها قد كانت كذلك، ولكن وقى اللهُ شرَّها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر». ومعناه أن أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار، لكونه كان متعيّناً لهذا الأمر. كما قال عمر: «ليس فيكم من تُقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر».
وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه، وتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم له على سائر الصحابة أمراً ظاهراً معلوماً. فكانت دلالة النصوص على تعيينه تُغني عن مشاورة وانتظار وتريث، بخلاف غيره؛ فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث، فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك.
وهذا قد جاء مفسَّراً في حديث عمر هذا في خطبته المشهورة الثابتة في الصحيح، التي خطب بها مرجعه من الحج في آخر عمره. وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم، وقد رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس، قال: «كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين: منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجّها، إذ رجع إليَّ عبد الرحمن بن عوف، فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت؟ فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. فقال عبد الرحمن: فقتل: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرّها عنك كل مطيِّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول مقالتك متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجّلت بالرواح حين زاغت الشمس، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسًا إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد [بن عمرو بن نفيل]: ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف. فأنكر عليَّ، وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله؟ فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أمّا بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يَدَيْ أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحلّ لأحد أن يكذب عليّ. إن الله بعث محمّداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها. رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: [والله] ما ندد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. والرجم في كتاب الله حق على من زنى [إذا أُحصن] من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف. ثم إنّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: [أن] لا ترغبوا عن آبائكم؛ فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله». ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: والله! لو مات عمر لبايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وَقَى شرَّها، وليس فيكم من تُقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفّى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا عليٌّ والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر. فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار. فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. فقالا: لا عليكم أن [لا] تقربوهم. اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينَّهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة. فإذا رجل مزَمَّل بين ظهرانيهم. فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة. فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك. فلما جلسنا قليلاً تشهّد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أمّا بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط. وقد دفّت دافّة من قومكم، [فإذا هم] يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدّمها بين يّدّيْ أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحدّ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رِسْلِك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر. والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها، حتى سَكَت. فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا. فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أُقَدَّم فتُضرب عنقي لا يقرِّبني ذلك من إثم أحب إليَّ من أن أتأمَّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلاّ أن تسوِّل لي نفسي عند الموت شيئاّ لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جُذَيْلها المُحَكَّك وعُذَيْقها المرجَّب. منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى فَرِقْتُ من الاختلاف. فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر. فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل [منهم]: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد بن عبادة. قال عمر: وإنَّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر؛ خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعةً، أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّه أن يفتلا». قال مالك: وأخبرني ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما: عويمر بن ساعدة ومعن بن عديّ – وهما ممن شهد بدراً – قال ابن شهاب: وأخبرني سعيد بن المسيب: أن الذي قال: أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب: الحُبَابُ بن المنذر.
وفي صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسُّنْح، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وقال عمر: والله ما كان يقع في قلبي إلا ذاك – وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم. فجاء أبو بكر = رضي الله عنه – فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقبّله]، فقال: بأبي وأمي، طبت حيًّا وميتاً، والذي نفسي بيده: لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رِسْلِك. فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. وقال الله تعالى: }إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ{ [سورة الزمر: 30]، وقال: }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ{[سورة آل عمران: 144] قال: فنشج الناس يبكون، واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عُبادة في سقيفة بني ساعدة. فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجرّاح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيّأت كلاماً قد أعجبني، خشيت أن لا يّبْلُغُه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال حُباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا، ولكنّا الأمراء وأنتم الوزراء. هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايعُوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح. فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس. فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة. فقال عمر: قتله الله».
وفي صحيح البخاري عن عائشة في هذه القصة قالت: «ما كان من خطبتهما من خطبة إلاَّ نفع الله بها، لقد خوَّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقاً، فردّهم الله بذلك، ثم لقد بصَّر أبو بكر الناس الهُدَى، وعرَّفهم الحق الذي عليهم».
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك: أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتشهَّد وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبُرَنَا، يريد بذلك أن يكون أخرهم؛ فإن يكن محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به، به هدى الله محمداً، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، وإنه أَوْلى المسلمين بأموركم، فقوموا فبايِعُوه. وكانت طائفة منهم قد بايعوه قيل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر».
وعنه: «قال سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد [المنبر]، فبايعه الناس عامة».
وفي طريق أخرى لهذه الخطبة: «أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله، فخذوا به تهتدوا، لما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم».
فصل
قال الرافضي: "وقال أبو بكر عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق؛ وهذا يدل على أنه في شكٍ من إمامته ولم تقع صواباً».
والجواب: أن هذا كذب على أبي بكر – رضي الله عنه -، وهو لم يذكر له إسناداً. ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل، فلا بد أن يذكر إسناداً تقوم به الحجة. فكيف بمن يطعن في السابقين الأوَّلين بمجرد حكاية لا إسناد لها؟
ثم يقال: هذا يقدح فيما تدّعونه من النص على عليٍّ؛ فإنه لو كان قد نصّ على عليّ لم يكن للأنصار فيه حق، ولم يكن في ذلك شك.
فصل
قال الرافضي: «وقال عند احتضاره: ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت تبنة في لبنة. مع أنهم [قد] نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار».
والجواب: أن تكلّمه بهذا عند الموت غير معروف، بل هو باطل بلا ريب. بل الثابت عنه أنه لم احتُضر، وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر:-
لعُمرك ما يغني الثراءُ عن الفتى
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدرُ
فكشف عن وجهه، وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: }وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ{ [سورة ق: 19].
ولكن نقل عنه أنه قال في صحته: ليت أمي لم تلدني! ونحو هذا قاله خوفاً – إن صح النقل عنه. ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفاً وهيبة من أهوال يوم القيامة، حتى قال بعضهم: لو خُيِّرت بين أن أحاسب وأدخل الجنة، وبين أن أصير تراباً، لاخترت أن أصير تراباً. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال: والله لوددت أني شجرة يعضد. وقد روى أبو نُعيم في «حلية الأولياء» قال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن علي الصائغ، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا السرى بن يحيى. قال: قال عبد الله بن مسعود: «لو وقفت بين الجنة والنار، فقيل لي: اختر في أيهما تكون، أو تكون رماداً؛ لاخترت أن أكون رماداً».
وروى الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن سعيد، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق. قال: قال رجل عند عبد الله بن مسعود: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقرَّبين أحبُّ إلىّ. فقال عبد الله بن مسعود: لكن ها هنا رجل ودَّ أنه إذا مات لم يُبعث، يعني نفسه.
|