عرض مشاركة واحدة
  #27  
قديم 2008-07-13, 12:14 AM
abu_abdelrahman abu_abdelrahman غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2008-02-26
المشاركات: 779
افتراضي

والكلام في مثل هذا: هل هو مشروع أم لا؟ له موضع آخر. لكن الكلام الصادر عن خوف العبد من الله يدل على إيمانه بالله، وقد غفر الله لمن خافه حين أمر أهله بتحريقه وتذرية نصفه في البر ونصفه في البحر، مع أنه لم يعمل خيراً قط. وقال: والله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذّبه أحداً من العالمين. فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه. وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: من خشيتك يا رب، فغفر له. أخرجاه في الصحيحين.

فإذا كان مع شكه في القدرة والمعاد، إذا فعل ذلك غُفر له بخوفه من الله، عُلم أن الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة للأمور الحقيقية، إذا قُدِّر أنها ذنوب.

فصل

قال الرافضي: «وقال أبو بكر: ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين، فكان هو الأمير وكنت الوزير». قال: «وهو يدل على أنه لم يكن صالحاً يرتضي لنفسه الإمامة».

والجواب: أن هذا إن كان قاله فهو أدلّ دليل على أن عليًّا لم يكن هو الإمام؛ وذلك أن قائل هذا إنما يقوله خوفاً من الله أن يضيع حق الولاية، وأنه وَلَّى غيرَه، وكان وزيراً له، كان أبرأ لذمته. فلو كان عليّ هو الإمام، لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعة للإمامة أيضًا، وكان يكون وزيراً لظالم غيره، وكان قد باع آخرته بدنيا غيره. وهذا لا يفعله من يخاف الله، ويطلب براءة ذمته.

وهذا كما لو كان الميت قد وصَّى بديون، فاعتقد الوارث أن المستحقّ لها شخص، فأرسلها إليه مع رسوله، ثم قال: يا ليتني أرسلتها مع من هو أَدْيَنُ منه؛ خوفاً أن يكون الرسول الأول مقصِّرًا في الوفاء، تفريطاً أو خيانة. وهناك شخص حاضر يدَّعي أنه المستحق للدَّيْن دون ذلك الغائب، فلو علم الوارث أنه المستحق، لكان يعطيه ولا يحتاج إلى الإرسال به إلى ذلك الغائب.

فصل

قال الرافضي: «وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، مرة بعد أخرى، مكرراً لذلك: أنفذوا جيش أسامة، لعن الله المتخلف عن جيش أسامة. وكان الثلاثة معه، ومنع أبو بكر عمر من ذلك».

والجواب: أن هذامن الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة، ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة. وإنما رُوي ذلك في عمر، وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة، وقد استخلفه يصلِّي بالمسلمين مدة مرضه، وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الاثنين، اثني عشر يومًا، ولم يقدِّم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر، ولم تكن الصلاة التي صلاَّها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً ولا صلاتين، ولا صلاة يوم ولا يومين، حتى يُظَنّ ما تدعيه الرافضة من التلبيس، وأن عائشة قدّمته بغير أمره، بل كان يصلِّي بهم مدة مرضه؛ فإن الناس متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِ بهم في مرض موته إلا أبو بكر، وعلى أنه صلّى بهم عدة أيام. وأقل ما قيل: إنه صلّى بهم سبع عشرة صلاة؛ صلَّى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة، وخطب بهم يوم الجمعة. هذا مما تواترت به الأحاديث الصحيحة، ولم يزل يصلّي بهم إلى فجر يوم الاثنين: صلّى بهم صلاة الفجر، وكشف النبي صلّى الله عليه وسلم الستارة، فرآهم يصلّون خلف أبي بكر، فلما رأوه كادوا يفتتنون في صلاتهم، ثُم أرخى الستارة. وكان ذلك آخر عهدهم به، وتوفي يوم الاثنين حين اشتد الضحى قريباً من الزوال.

وقد قيل: إنه صلّى بهم أكثر من ذلك من الجمعة التي قبل؛ فيكون قد صلّى بهم مدة مرضه كلها، لكن خرج النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة لما وجد خفةً في نفسه، فتقدَّم وجعل أبا بكر عن يمينه، فكان أبو بكر يأتمُّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، والناس يأتمُّون بأبي بكر، وقد كَشَف الستارة يوم الاثنين، صلاة الفجر، وهم يصلّون خلف أبي بكر، ووجهه صلى الله عليه وسلم كأنه ورقة مصحف، فَسُرَّ بذلك لمّا رأى اجتماع الناس في الصلاة خلف أبي بكر، ولم يَرَوْه بعدها.

وقد قيل: إن آخر صلاة صلاَّها كانت خلف أبي بكر. وقيل: صلَّى خلفه غيرها.

فكيف يُتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس؟!

وأيضاً فإنه جهَّز جيش أسامة قبل أن يمرض؛ فإنه أمَّره على جيش عامتهم المهاجرون؛ منهم عمر بن الخطاب في آخر عهده صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثة آلاف، وَأَمَرَه أن يغير على أهل مُؤتة، وعلى جانب فلسطين، حيث أصيب أبوه، وجعفر وابن رواحة. فتجهّز أسامة بن زيد للغزو، وخرج في ثقله إلى الجرف، وأقام بها أياماً لشكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فقال: «اغد على بركة الله والنصر والعافية ثم أَغِر حيث أمرتك أن تغير». قال أسامة: يا رسول الله قد أصبحتَ ضعيفاً، وأرجو أن يكون الله قد عافاك، فَأْذَنْ لي فَأَمْكُث حتى يشفِيَك الله، فإني إن خرجت وأنت على هذه خرجت وفي نفسي منك قرحة، وأكره أن أسأل عنك الناس» فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأيام، فلما جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش، غير أنه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة؛ لأنه ذو رأي ناصح للإسلام، فأَذِن له، وسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاب في ذلك العدو مصيبة عظيمة، وغَنِم هو وأصحابه، وقتل قاتل أبيه، وردّهم الله سالمين إلى المدينة.

وإنما أنفذ جيش أسامة أبو بكر الصدّيق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أُحِلُّ رايةً عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأشار عليه غير واحد أن يردَّ الجيش خوفاً عليهم؛ فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فامتنع أبو بكر من ردّ الجيش وأمر بإنفاذه. فلما رآهم الناس يغزون عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم، كان ذلك مما أيَّد الله به الدين، وشدَّ به قلوب المؤمنين، وأذلَّ به الكفار والمنافقين، وكان ذلك من كمال معرفة أبي بكر الصدِّيق وإيمانه ويقينه وتدبيره [ورأيه].

فصل

قال الرافضي: «وأيضاً لم يُوَلِّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر البتة عملاً في وقته، بل ولَّى عليه عمرو ابن العاص تارة وأسامة أخرى. ولما أنفذه بسورة «براءة» ردّه بعد ثلاثة أيام بوحي من الله، وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله لأداء عشر آيات من «براءة؟!».

والجواب: أن هذا من أَبْيَن الكذب؛ فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازي والسير والحديث والفقه وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج عام تسع، وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قبله حج في الإسلام، إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أُمية من مكة؛ فإن مكة فتحت سنة ثمان، وأقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد، الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة، ثم أمّر أبا بكر سنة تسع للحج، بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وفيها أَمَر أبا بكر بالمناداة في الموسم: أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان. ولم يؤمِّر النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر على مثل هذه الولاية؛ فولاية أبي بكر كانت من خصائصه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّر على الحج أحداً كتأمير أبي بكر، ولم يستخلف على الصلاة أحداً كاستخلاف أبي بكر، وكان عليٌّ من رعيته في هذه الحجة؛ فإنه لحقه فقال: أمير أو مأمور؟ فقال عليّ: بل مأمور. وكان عليّ يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية، ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه، ونادى عليٌّ مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر.

وأما ولاية غير أبي بكر فكانت مما يشاركه فيها غيره، كولاية عليّ وغيره؛ فلم يكن لعليّ ولاية إلا ولغيره مثلها، بخلاف ولاية أبي بكر، فإنها من خصائصه، ولم يولِّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر لا أسامة بن زيد ولا عمرو بن العاص.

فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه.

وأما قصة عمرو بن العاص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل عَمْراً في سرية، وهي غزوة ذات السلاسل، وكانت إلى بني عذرة، وهم أخوال عمرو، فأمَّر عمراً ليكون ذلك سبباً لإسلامهم، للقرابة التي له منهم. ثم أردفه بأبي عبيدة، ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين. وقال: «تطاوعا ولا تختلفا» فلما لحق عَمْراً قال: أصلّي بأصحابي وتصلّي بأصحابك. قال: بل أنا أصلّي بكم؛ فإنما أنت مدد لي. فقال له أبو عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أطاوعك، فإن عصيتني أطعتك. قال: فإني أعصيك. فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك، فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل. ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر، فكانوا يصلّون خلف عمرو، مع علم كل أحدٍ أن أبا بكر وعُمَر وأبا عبيدة أفضل من عمرو.

وكان ذلك لفضلهم وصلاحهم؛ لأن عمراً كانت إمارته قد تقدّمت لأجل ما في ذلك من تألّف قومه الذين أُرسل إليهم لكونهم أقاربه. ويجوز تولية المفضول لمصلحة راجحة، كما أُمِّر أسامة بن زيد، ليأخذ بثأر أبيه زيد بن حارثة، لما قُتل في غزوة مؤته. فكيف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّر على أبي بكر أحداً في شيء من الأمور؟!

بل قد علم بالنقل العام المتواتر أنه لم يكن أحد عنده أقرب إليه ولا أخص به، ولا أكثر اجتماعاً به ليلاً ونهارًا، سرًّا وعلانية، من أبي بكر، ولا كان أحد من الصحابة يتكلم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم قبله، فيأمر وينهي، ويخطب ويفتي، ويقرُّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك راضياً بما يفعل.

ولم يكن ذلك تقدماً بين يديه، بل بإذن منه قد عَلِمَه، وكان ذلك معونة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتبليغاً عنه، وتنفيذاً لأمره؛ لأنه كان أعلمهم بالرسول وأحبهم إلى الرسول واتبعهم له.

وأما قول الرافضي: إنه لما أنفذه ببراءة ردّه بعد ثلاثة أيام؛ فهذا من الكذب المعلوم أنه كذب. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمَّر أبا بكر على الحج، ذهب كما أمره، وأقام الحج في ذلك العام، عام تسع، للناس، ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج، وأنفذ فيه ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن المشركين كانوا يحجون البيت، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهود مطلقة، فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان. فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام، وكان عليّ بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر، ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي صلى الله عليه وسلم بعليّ بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود.

قالوا: وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فَبَعث عليًّا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة، لم يبعثه لشيء آخر؛ ولهذا كان عليّ يصلّي خلف أبي بكر، ويدفع بدفعه في الحج، كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم.

وكان هذا بعد غزوة تبوك، واستخلافه له فيها على من تركه بالمدينة، وقوله له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟

ثم بعد هذا أمّر أبا بكر على الموسم، وأردفه بعليّ مأموراً عليه لأبي بكر الصديق – رضي الله عنه. وكان هذا مما دلّ على أن عليُّا لم يكن خليفة له، إلا مدة مغيبه عن المدينة فقط. ثم أمَّر أبا بكر عليه عام تسع. ثم إنه بعد هذا بعث عليًّا وأبا موسى الأشعري ومُعاذًا إلى اليمن، فرجع عليّ وأبو موسى إليه، وهو بمكة في حجة الوداع، وكل منهما قد أهلٌ بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. فأما معاذ فلم يرجع إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، في خلافة أبي بكر الصدّيق – رضي الله عنه -.

فصل

قال الرافضي: «وقطع يسار سارق، ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى».

والجواب: أن قول القائل: إن أبا بكر يجهلُ هذا، من أظهر الكذب. ولو قُدِّر أن أبا بكر كان يجيز ذلك، لكان ذلك قولاً سائغاً؛ لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعيِّن اليمين، لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود: «فاقطعوا أيمانهما» وبذلك مضت السنة. ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه قطع اليسرى؟ وأين الإسناد الثابت بذلك؟ وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك، ولا نقل أهل العلم بالاختلاف ذلك قولاً، مع تعظيمهم لأبي بكر – رضي الله عنه -.

فصل

قال الرافضي: «وأحرق الفجاءة السلمي بالنار، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار».

الجواب: أن الإحراق بالنار عن عليّ أشهر وأظهر منه عن أبي بكر. [وأنه قد ثبت] في الصحيح أن عليًّا أُتِيَ بقوم زنادقة من غلاة الشيعة، فحرَّقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرّقهم بالنار، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعَذَّب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدَّل دينه فاقتلوه».

فبلغ ذلك عليًّا، فقال: ويح ابن أم الفضل ما أسقطه عَلَى الهنات.

فعليّ حرق جماعة بالنار. فإن كان ما فعله أبو بكر منكراً، ففعل عليّ أنكر منه، وإن كان فعل عليّ مما لا يُنكر مثله على الأئمة، فأبو بكر أَوْلى أن لا يُنكر عليه.



فصل

قال الرافضي: «وخَفِيَ عليه أكثر أحكام الشريعة، فلم يعرف حكم الكلالة، وقال: أقول فيها برأيي، فإن يكُ صواباً فمن الله، وإن يكُ خطأ فمني ومن الشيطان. وقضى في الجد بسبعين قضية. وهو يدل على قصوره في العلم».

والجواب: أن هذا من أعظم البهتان. كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة، ولم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من يقضي ويُفتي إلا هو؟! ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأحدٍ من أصحابه منه له ولعمر. ولم يكن أحدٌ أعظم اختصاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم منه ثم عمر.

وقد ذكر غير واحد، مثل منصور بن عبد الجبّار السمعاني وغيره، إجماع أهل العلم على أن الصدِّيق أعلم الأمة. وهذا بيِّنٌ، فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصَّلها هو بعلم يبيِّنه لهم، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة. كما بيَّن لهم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتهم على الإيمان، وقراءته عليهم الآية، ثم بيَّن لهم موضع دفنه، وبيَّن لهم قتال مانعي الزكاة [لما استراب فيه عمر]، وبيَّن لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة، لمّا ظن من ظن أنها تكون في غير قريش.

وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. وعِلْمُ المناسك أدقّ ما في العبادات، ولولا سعة علمه بها لم يستعمله. وكذلك الصلاة استخلفه فيها، ولولا علمه بها لم يستخلفه. ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة.

وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر. وهو أصح ما رُوي فيها، وعليه اعتمد الفقهاء.

وفي الجملة لا يُعرف لأبي بكر مسألة من الشريعة غلط فيها، وقد عُرف لغيره مسائل كثيرة، كما بسط في موضعه.

وقد تنازعت الصحابة بعده في مسائل: مثل الجد والإخوة، ومثل العمريتين، ومثل العَوْل، وغير ذلك من مسائل الفرائض. وتنازعوا في مسألة الحرام، والطلاق الثلاث بكلمة، والخلية، والبرية، والبتّة، وغير ذلك من مسائل الطلاق.

وكذلك تنازعوا في مسائل صارت مسائل نزاع بين الأمة إلى اليوم. وكان تنازعهم في خلافة عمر نزاع اجتهاد محض: كل منهم يقرُّ صاحبه على اجتهاده، كتنازع الفقهاء أهل العلم والدين.

وأما في خلافة عثمان فقوي النزاع في بعض الأمور، حتى صار يحصل كلام غليظ من بعضهم لبعض. ولكن لم يقاتل بعضهم بعضاً باليد ولا بسيف ولا غيره.

وأما في خلافة عليّ فتغلّظ النزاع، حتى تقاتلوا بالسيوف.

وأما في خلافة أبي بكر فلم يُعلم أنه استقر بينهم نزاع في مسألة واحدة من مسائل الدين. وذلك لكمال علم الصدِّيق وعدله ومعرفته بالأدلة التي تزيل النزاع، فلم يكن يقع بينهم نزاع إلا أظهر الصديق من الحجة التي تفصل النزاع ما يزول معها النزاع. وكان عامة الحجج الفاصلة للنزاع يأتي بها الصدِّيق ابتداءً، وقليل من ذلك يقوله عمر أو غيره، فيقرُّه أبو بكر الصديق.

وهذا مما يدلّ على أن الصديق ورعيته أفضل من عمر ورعيته، وعثمان ورعيته، وعليّ ورعيته؛ فإن أبا بكر ورعيته أفضل الأئمة والأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم الأقوال التي خُولف فيها الصدِّيق بعد موته، قوله فيها أرجح من قول من خالفه بعد موته. وطَرْدُ ذلك الجد والإخوة؛ فإن قول الصدِّيق وجمهور الصحابة وأكابرهم أنّه يُسقط الإخوة، وهو قول طوائف من العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كأبي العباس بن سُرَيْج من الشافعية، وأبي حفص البرمكي من الحنابلة، ويُذكر ذلك رواية عن أحمد.

والذين قالوا بتوريث الإخوة مع الجد، كعليّ وزيد وابن مسعود، اختلفوا اختلافاً معروفاً، وكل منهم قال قولاً خالفه فيه الآخر، وانفرد بقوله عن سائر الصحابة. وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع في مصنّف مفرد، وبيّنا أن قول الصدِّيق وجمهور الصحابة هو الصواب، وهو القول الراجح الذي تدلّ عليه الأدلة الشرعية من وجوه كثيرة، [ليس هذا موضع بسطها].

وكذلك ما كان عليه الأمر في زمن صدّيق الأمة – رضي الله عنه – من جواز فسخ الحج إلى العمرة بالتمتع، وأن من طلَّق ثلاثاً بكلمة واحدة لا يلزمه إلا طلقة واحدة هو الراجح، دون من يحرِّم الفسخ ويُلزم بالثلاث؛ فإن الكتاب والسنة إنما يدل على ما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر، دون القول المخالف لذلك.

ومما يدل على كمال حال الصدِّيق، وأنه أفضل من كل من وَلِيَ الأمة، بل وممن وَلِيَ غيرها من الأمم بعد الأنبياء، أنه من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأوَّلين والآخرين، وأفضل من سائر الخلق من جميع العالمين.

وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبيّ خلفه نبيّ، وإنه لا نبيّ بعدي، وسيكون خلفاء ويكثرون». قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: «فوا بيعة الأول فالأول».

ومن المعلوم أنَّه من تولَّى بعد الفاضل إذا كان فيه نقص كثير عن سياسة الأول، ظهر ذلك النقص ظهوراً بيّناً. وهذا معلوم من حال الولاة إذا تولّى ملِك بعد ملك، أو قاضٍ بعد قاضٍ بعد قاض، أو شيخ بعد شيخ، أو غير ذلك؛ فإن الثاني إذا كان ناقص الولاية نقصاً بيِّناً ظهر ذلك فيه، وتغيرت الأمور التي كان الأول قد نظَّمها وألّفها. ثم الصدِّيق تولَّى بعد أكمل الخلق سياسة، فلم يظهر في الإسلام نقص بوجه من الوجوه، بل قاتل المرتدّين حتى عاد الأمر إلى ما كان [عليه]، وأدخل الناس في الباب الذي خرجوا منه، ثم شرع في قتال الكفّار من أهل الكتاب، وعلَّم الأمة ما خفِيَ عليهم، وقوّاهم لمّا ضعفوا، وشجّعهم لما جبنوا، وسار فيهم سيرة توجب صلاح دينهم ودنياهم، فأصلح الله بسببه الأمة في علمهم وقدرتهم ودينهم، وكان ذلك مما حفظ الله به على الأمة دينها، وهذا مما يحقق أنه أحقّ الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما قول الرافضي: «لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه».

فالجواب: أن هذا من أعظم علمه. فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده؛ فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر، وهو من لا ولد له ولا واحد، والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه أجران، كرأي الصدِّيق، فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد.

وقد قال قيس بن عُبَاد لعليّ: أرأيت مسيرك هذا: ألعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم رأي رأيته؟ فقال: بل رأي رأيته. رواه أبي داود وغيره.

فإذا كان مثل هذا الرأي الذي حصله به من سفك الدماء ما حصل، لا يمنع صاحبه أن يكون إماماً، فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه.

وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية، فهذا كذب. وليس هو قول أبي بكر، ولا نُقل هذا عن [أبي بكر]، بل نَقْلُ هذا عن أبي بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم، ولكن نَقَل بعض الناس عن عمر أنه قضى في الجد بسبعين قضية، ومع هذا هو باطل عن عمر؛ فإنه لم يمت في خلافته سبعون جداً كلٌّ منهم كان لابن ابنه إخوة، وكانت تلك الوقائع تحتمل سبعين قولاً مختلفة، بل هذا الاختلاف لا يحتمله كل جد في العالم، فعُلم أن هذا كذب.

وأما مذهب أبي بكر في الجد؛ فإنه جعله أبُّا، وهو قول بضعة عشر من الصحابة، وهو مذهب كثير من الفقهاء [كأبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كأبي حفص البرمكي، ويُذكر رواية عن أحمد] كما تقدم، وهو أظهر القولين في الدليل.

ولهذا يُقال: لا يُعرف لأبي بكر خطأ في الفُتيا، بخلاف غيره من الصحابة؛ فإن قوله في الجد أظهر القولين. والذين ورَّثوا الإخوة مع الجد، وهم عليّ وزيد وابن مسعود وعمر، في إحدى الروايتين عنه، تفرَّقوا في ذلك. وجمهور الفقهاء على قول زيد، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، فالفُقَهَاءُ في الجَدِّ: إما على قول أبي بكر، وإما على قول زيد الذي أمضاه عمر. ولم يذهب أحد من أئمة الفُتيا إلى قول عليّ في الجد. وذلك مما يبين أن الحق لا يخرج عن أبي بكر وعمر؛ فإن زيداً قاضِى عمر، مع أن قول أبي بكر أرجح من قول زيد.

وعمر كان متوقفاً في الجد، وقال: «ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّنهنَّ لنا: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا».

وذلك لأن الله تعالى سمَّى الجد أبًّا في غير موضع من كتابه، كما قال تعالى: )أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ{ [سورة الأعراف: 27]، وقوله: )مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ( [سورة الحج: 78]. وقد قال: )يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ{، )يَا بَنِي آدَمَ( في غير موضع.

وإذا كان ابن الابن ابناً، كان أبو الأب أبًّا، ولأن الجدّ يقوم مَقَام الأَبِ في غير مورد النزاع، فإنه يسقط ولد الأم كالأب، ويقدّم على جميع العصبات سوى البنين كالأب، ويأخذ مع الولد السدس كالأب، ويُجمع له بين الفرض والتعصيب مع البنات كالأب.

وأمَّا في العُمَرِيَّتَين زوج وأبوين، وزوجة وأبوين؛ فإن الأم تأخذ الثلث الباقي، والباقي للأب، ولو كان معها جد لأخذت الثلث كله عند جمهور الصحابة والعلماء، إلا ابن مسعود لأن الأم أقرب من الجد، وإنما الجدّة نظير الجد، والأم تأخذ مع الأب الثلث، والجدّة لا تأخذ مع الجد إلا السدس، وهذا مما يقوى به الجد، ولأن الإخوة مع الجد الأدنى، كالأعمام مع الجد الأعلى.

وقد اتفق المسلمون على أن الجد الأعلى يقدّم على الأعمام، فكذلك الجد الأدنى يقدم على الإخوة، لأن نسبة الإخوة إلى الجد الأدنى، كنسبة الأعمام إلى الجد الأعلى، ولأن الإخوة لو كانوا لكونهم بني الأب يشاركون الجد، لكان بنو الإخوة كذلك، كما يقوم بنو البنين مقام آبائهم. ولما كان بنو الإخوة لا يشاركون الجد، كان آباؤهم الإخوة كذلك، وعكسه البنون: لما كان الجد يفرض له مع البنين، فُرض له مع بني البنين.

وأما الحجة التي تُورى عن عليٍّ وزيد في أن الإخوة يشاركون الجد، حيث شبَّهوا ذلك بأصل شجرة خرج منها فرع، خرج منه غصنان، فأحد الغصنين أقرب إلى الآخر منه إلى الأصل، وبنهرٍ خرج منه نهر آخر، ومنه جدولان، فأحدهما إلى الآخر أقرب من الجدول إلى النهر الأول.

فمضمون هذه الحجة أن الإخوة أقرب إلى الميت من الجد.

ومن تدبّر أصول الشريعة علم أن حجة أبي بكر وجمهور الصحابة لا تعارضها هذه الحجة؛ فإن هذه لو كانت صحيحة لكان بنو الأخ أَوْلى من الجد، ولكان العم أَوْلى من جد الأب. فإن نسبة الإخوة من الأب إلى الجد أبي الأب، كنسبة الأعمام بني الجد إلى الجد الأعلى جد الأب فلما أجمع المسلمون على أن الجد الأعلى أَوْلى من الأعمام، كان الجد الأدنى أَوْلى من الإخوة.

وهذه حجة مستقلة تقتضي ترجيح الجد على الإخوة.

وأيضاً فالقائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متعارضة متناقضة، لا دليل على شيء منها، كما يَعْرف ذلك من يعرف الفرائض، فعُلم أن قول أبي بكر في الجد أصح الأقوال، كما أن قوله دائماً أصح الأقوال.

فصل

قال الرافضي: «فأي نسبة له بمن قال: سًلُوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض، قال أبو البحتري: رأيت عليًّا صعد المنبر بالكوفة وعليه مدرعة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متقلدًا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، متعمماً بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إصبعه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد على المنبر، وكشف عن بطنه، فقال: سلوني [من] قبل أن تفقدوني، فإنما بين الجوانح مني علم جم، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا ما زقَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم زقًّا من غير وحيٍ إليّ، فوالله! لو ثُنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم، حتى يُنطق الله التوراة والإنجيل فتقول: صدق عليّ، قد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون».

والجواب: أما قول عليّ: «سلوني» فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلّمهم العلم والدين؛ فإن غالبهم كانوا جُهَّالاًً لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم. وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر أصاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين تعلّموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والدين، فكانت رعية أبي بكر أعلم الأمة وأَدْيَنها. وأما الذين كان عليّ يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين، وكان كثير منهم من شرار التابعين. ولهذا كان عليّ – رضي الله عنه – يذمّهم ويدعو عليهم، وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرًا منهم.
******************
رد مع اقتباس