فقلتُ: يا نبي الله، ما أجد أحدًا أدعوه، قال: ((ارفعوا طعامكم))، وبقي ثلاثةُ رَهْط يتحدَّثون في البيت، فخرج النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- فانطلق إلى حُجرة عائشة، فقال: ((السلام عليكم- أهلَ البيت- ورحمة الله))، فقالت: وعليكَ السَّلام ورحمة الله، كيف وجدتَ أهلك، بارك الله لك، فتقرَّى حُجَر نسائه كلهنَّ، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلْنَ له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- فإذا ثلاثة من رهط في البيت يتحدَّثون، وكان النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- شديد الحياء، فخرج منطلِقًا نحو حُجْرة عائشة، فما أدري؛ أخبرتُه أو أُخبر أنَّ القوم خرجوا، فرجع، حتى إذا وَضع رجله في أُسْكُفَّة الباب داخلة وأخرى خارجة، أرخى السِّتر بيني وبينه، وأُنزِلَت آية الحجاب"؛ "صحيح البخاري".
وعن عائشة، قالت: "دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على صفيةَ في بيتي، فقالت لي: ترضي رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم- عني، وأجعل يومي لك؟
فعمدتْ إلى خمارها مصبوغةً بالزعفران، فرشَّتْه بالماء ليفوح ريحها، ثم لبسته وقعدت إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إليك يا عائشة، يا عائشة عني، فإنه ليس بيومك .
فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فأخبرته الخبر فرضي عنها"[4]. وبعد:فإنَّ أعظم ما يدهش المتأمِّل لما حبَاه الله لأُمِّ المؤمنين عائشة من نِعَم، هو شدَّة إنصافها، وزُهْدُها في الاستئثار بالثَّناء والتكريم وحْدَها، فكانت لا تألو سائر أُمَّهات المؤمنين- رضي الله تعالى عنهن- ثناءً وذِكْرًا لفضائلهن وفضلهن. حتى إنَّها هي نَفْسها التي رَوَتْ لنا غَيْرتهَا من زوجة رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وحبِّه الأول السيِّدة خديجة- رضي الله تعالى عنها-
كما ذكرَتْ فضائلها ومكانتها عند رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وأنَّه كان له منها ما لم يَكُن له مِن غيرها، بل وتَذْكر وفاءه لِعَهدها، وتعهُّدَه بالخير صديقاتِها، ورفيع مَنْزلتها عند الله- تعالى. فعن السيدة عائشة- رضي الله تعالى عنها وأرضاها-
قالت: "ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ما غرتُ على خديجة، وما رأيتُها، ولكن كان النبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- يُكثِر ذِكْرَها، وربَّما ذبح الشَّاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة،
فربَّما قُلتُ له: كأنَّه لم يكن في الدُّنيا امرأة إلاَّ خديجة، فيقول: ((إنَّها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد))؛ "صحيح البخاري" وفي رواية: "... وأمره ربُّه- عزَّ وجلَّ- أو جبريلُ- عليه السَّلام- أن يُبشِّرها ببيت في الجنة من قصَب"؛ "صحيح البخاري".
فأي قوة نفْسيَّة وإيمانية كانت لَدى أُمِّنا الطاهرة الطيِّبة، حتى تثني كلَّ هذا الثناء على ضرَّتها في مَعْرِض حديثها عن غيرتها منها، وما الذي يجعلها تُحدِّث بما يدور بينها وبين زوجها- صلَّى الله عليه وسلَّم- مما يرفع قَدْر ضرَّتها، ويُصبِح ترجمة خالدة لها يتَناقَلُها المسلمون في كلِّ زمن وجيل؟
إنه- ولا شكَّ- الامتثال لأمر الله- عزَّ وجلَّ- لها ولنساء النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- من أمهات المؤمنين؛ إذْ يَقول- تعالى-: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34]. ولا يَخفى أنه في أمر الله- تعالى- لهنَّ بالرِّواية عن رسوله- صلَّى الله عليه وسلَّم- شهادةٌ مَن الله- عزَّ وجلَّ- بعدالتهنَّ وجَدارتهِنَّ بذلك، وأي شهادة كتلك الشهادة؟
وأي تشريف وأي تكريم يَحُوزه المرء بعد ذلك؟وأمر آخَر أستطيع أن أستنبطه من خلال القراءة في شرائع دين الإسلام الحنيف، ومِن خلال القراءة في تاريخ أُمِّ المؤمنين الطيِّبة المتواضعة لله- عزَّ وجلَّ- عائشة- رضي الله تعالى عنها- ألاَ وهو حُبُّها للسيِّدة خديجة حُبَّ المؤمنة لأختها في الله، ورغبتها في التعريف بفضلها ومآثرها التي لم يَشْهَدها ولم يعرفها الكثيرُ من المسلمين، وقد ماتت السيِّدة خديجة- رضي الله تعالى عنها- قبل الهجرة. وقبل ذلك كان حب المؤمنة لرسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- أكثرَ من نَفْسِها، فكان حبُّها وإقرارها بالفضل لِمَن أحبَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وصدَّقه وواساه، مُتَعالية بذلك عن مشاعر النِّساء وخلجات نفوس البشر. وقريب من ذلك ما رواه أنس بن مالك في قصة إسلام أبي قحافة، قال: "فلما مَدَّ يده يبايعه، بكى أبو بكْر، فقال النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ما يُبكيك؟)) قال: لأَنْ تكون يَدُ عمِّك مكان يَدِه ويُسْلِم ويُقِرّ الله عينك، أحبُّ إلَيَّ مِن أن يكون"؛ إسناده صحيح. بل ولم تكن السيِّدة خديجة- رضي الله تعالى عنها- هي وحْدَها التي حَظِيَت بإنصاف السيِّدة عائشة وطِيب نَفْسها.
فلقد رُوي عن السيدة عائشة تُخبر عن السيِّدة زينب بنت جحش- رضي الله تعالى عنهما- تقول: "وهي التي كانت تُساميني منهنَّ في المَنْزلة عند رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- ولم أرَ امرأة قَطُّ خيرًا في الدِّين من زينب، وأتقى لله، وأصدَقَ حديثًا، وأوصل للرَّحِم، وأعظم صدقة، وأشدَّ ابتِذالاً لِنَفْسها في العمل الذي تصَدَّق به، وتقَرَّبُ به إلى الله تعالى، ما عدا سَوْرةً مِن حَدٍّ كانت فيها، تُسرِع منها الفَيْئة"؛ "صحيح مسلم".
فلم تَجِدِ السيِّدة عائشة في نَفْسها الزَّكية ما يمنعها من الإنصاف وذِكْرِ فضائل زوج النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- التي عاصرَتْها، وكانت في غاية الشَّباب والجمال والتَّقوى والدِّين، مع صلة نسَبِها برسول الله، ومَنْزلتها منه- عليه الصَّلاة والسَّلام. بل وتُثني على أمٍّ أخرى من أُمَّهات المؤمنين، فتقول: "ما رأيتُ امرأة أَحبَّ إليَّ أنْ أَكُون في مِسْلاخها من سَوْدة بنت زمعة، من امرأة فيها حدَّة"؛ "صحيح مسلم".
وعن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: "كانت صفيَّة من الصَّفِي"
|