ما هو الإلحاد
في الحقيقة أنه قد سبق واجبت باقتضاب عن هذا السؤال، في موضوع ما هو الإلحاد للزميل الأنصاري، ولذلك أنطلق من ذلك الجواب مع الاستفاضة والتوسع أكثر.
مبدئياً أميز بين الملحدين من جهة، واللادينيين واللاأدريين والشكاكين وأشباه الملحدين وأنصافهم من جهة أخرى، لأن البعض يخلط بينهما، وهذا يعود إلى وجود إيمان نسبي لدى اللادينيين واللاأدريين باحتمال وجود إله ما، أو قوة عاقلة في الكون.. فهم جميعاً من وجهة نظر الملحدين مؤمنون بدرجات متفاوتة، تبعاً لحالاتهم المعيشية أو النفسية، والتي يمكن أن تتبدل إلى النقيض.
فهنالك كثير من المؤمنين الذي ينتحلون صفة الملحد مؤقتاً لسبب نفسي أو اجتماعي، وسرعان ما يرتدون إلى إيمانهم لدى أول هزيمة، وغالباً لدى بلوغ سن اليأس وبدء الشيخوخة.
في حين أن الملحدين يرفضون الإقرار بوجود أية قوة فوق طبيعة عاقلة في الكون، ما لم يثبت وجودها علمياً، أي بشكل قابل للتجريب والإحاطة.
الإلحاد هو عدم القناعة بالغيب، واليقين بالواقع كمصدر وحيد للمعرفة، وهذا يعني بأن الإيمان عكسه، فهو القناعة بالغيب، وعدم اليقين بالواقع كمصدر وحيد للمعرفة.. ولذلك فالإلحاد مثله مثل الإيمان ليس عقيدة، لأنهما مثل العلم ليسا منحازين لطائفة أو بلد، إنهما طريقتان في النظر إلى الوجود تنطلق لدى الإلحاد من تطابق الفكر مع الواقع، فإن شذ الفكر عن هذا التطابق بات إيماناً وفقد موضوعيته. فكلاهما ليسا عقيدة، بل نظرية رؤية قاعدية في الحياة، يتم على أساسها اعتناق عقيدة، أو عدم اعتناق أية عقيدة.
ويمكن للملحد - وكذلك للمؤمن - أن يعتنق أية عقيدة لا تناقض إلحاده مثل القومية أوالنازية أو الفاشية أو الشيوعية أو الليبرالية أو الإنسانية، لأنه يمتلك نظرة مبدئية إلى الوجود تنطلق من النظر بعين الموضوعية إلى أية ظاهرة فيه.
والملحد لا يوقن ولا يؤمن بغير ما يدركه بوساطة الحواس الخمس، ولا يقبل التفسيرات النفسية لظواهر الوجود، ولا يعترف بالقيمة الاجتماعية لما يخالف الواقع الموضوعي - مثل الدين - ولا يعترف بخلود القيم الأخلاقية الوضعية لأنها متبدلة تبعاً لتوازن القوى الاجتماعية القائمة - مثل ظهور وانقراض العبودية - وأغلب الملحدين يعترفون بالقيم الأخلاقية التي تنادي بتساوي كافة بني البشر، مساواة مطلقة في الحقوق، ويؤمنون بالحرية التي تكفل للبشرية كافة العيش بسلام وكرامة..
ومن شذ عنهم ترجع أسباب شذوذه لنفس الأسباب التي تؤدي إلى شذوذ المؤمنين: الظروف المعيشية الاجتماعية، فالإنسان إبن بيئته، ويتخلق بأخلاقها، فإن شذ عنها كان ذلك بسبب بيئة شاذة، وهو ما يعني بأن البيئة الاجتماعية هي التي تحدد الأخلاق، لا العقيدة التي يعتنقها المرء، بدليل أن العقيدة قد تتغير، ولا تتغير الأخلاق (كإسلام نصراني) أو تتغير الأخلاق ولا تتغير العقيدة (كتشريع العبودية قديماً، ورفضها حديثاً)..
إن العقيدة التي يحملها المرء تأتي دوماً لتعطي أخلاقه بعداً اجتماعياً.. والأخلاق تبحث دوماً عن العقيدة التي تناسبها.. إلا أن كلاهما.. العقيدة والأخلاق تتأسسان على القاعدة الأساسية في النظر إلى الوجود: الإيمان أو الإلحاد، وتلعب المعيشة دوراً أساسياً في شكل تكونها.
إن رفض الملحد للأخلاق السائدة يعود إلى كونها ظاهرة تاريخية متغيرة، ومنحازة في كل عصر لصالح فئة اجتماعية ضد أخرى.. مثلاً يرفض الملحد قوانين الزواج السائدة في البلاد الإسلامية، ويعتبرها قوانين عنصرية لأنها تخل بمساواة المرأة بالرجل، كرفض تشريع الإباحية الجنسية لأي طرف منهما (تعدد الزوجات) والتفرقة في حقوق الوراثة (للذكر حظ أنثيين)، والأحوال الشخصية (شهادة المرأة نصف شهادة الرجل).. وما إلى ذلك.
والإلحاد ظهر متأخراً عن الإيمان، لأن وعي الإنسان القديم بالوجود لم يكن قد تطور علمياً بحيث يمتلك تفسيرات موضوعية لظواهره، فاستعاض عنها بتفسيرات غيبية نشأت عن رغباته وحاجاته، وتبلورت بفضل أوهامه على شكل ديانات.
فعندما وعى الإنسان محنة وجوده وزواله، لم يع ِ أسبابها كضرورة موضوعية لحركة وتغير المادة الخالدة، ولأن علمه بتفسير الظواهر كان محدوداً لعب خياله دور العقل البديل، كون الخيال هو ظاهرة موضوعية أيضاً، أكسبها الجهل بالعلوم وتفسير الوجود شكل الحقيقة، فولدت الآلهة لتسد النقائص المعرفية، وتطورت وتغيرت عبر التاريخ تبعاً لتطور معارف الإنسان.
وهكذا ظهر في البداية منهج الإيمان كطريقة في النظر إلى الوجود، واستند هذا المنهج إلى (عدم الدراية) بالخالق والخلق والمخلوق: (نحن لا نعلم من أين أتى الوجود، فلا بد أن النار أو الصنم أو الله قد خلقه).
فالانطلاق الإيماني من السؤال (من أين أتى الوجود) يشكل قاعدة لكافة الأطروحات الدينية عبر تاريخ البشرية، ويشكل الوجه النقيض للمعرفة، لأنه لا ينطلق من أسس معرفية، بل ينطلق من أسس لغوية بحتة، لأن السؤال (من أين أتى الوجود) ليس سؤالاً موضوعياً، لأنه يسلم ضمناً بأن الوجود مخلوق، وهذه المسلمة لم تثبت قط، لأنها تستند إلى منهج (اللاأدرية)، وتستند إلى مصادرة قبلية هي أن كل موجود مخلوق.. وهذا لم يتم إثباته قط سوى بسفسطة لغوية.
لقد كانت الآلهة المنصوبة على هذه القاعدة (اللاأدرية) تتغير مع تطور العقل البشري من عبادة الطبيعة (النار، البرق..) إلى عبادة تجسيداتها المادية (الحيوانات، والأصنام)، انتهاءً بعبادة تجريداتها (اللـه، الأرواح، قوى ما فوق الطبيعة).. لقد تتبعت الآلهة على الدوام تغير العقل البشري، وتطورت بتطوره، فانتقلت مثله من المادية إلى التجريد، واتخذت على الدوام شكل سدادات معرفية لنواقص العقل البشري، لأنها بالأصل تقوم على قاعدة نقص المعرفة بمنشأ الوجود: "اللاأدرية".
إن اللاأدرية هي جوهر الإيمان، وعلى النقيض من هذا الجوهر، فإن جوهر الإلحاد يتبلور في البحث عن أجوبة موضوعية لأسئلة الوجود، ولم يجب عن بعض هذه الأسئلة بشكل صحيح حتى يومنا هذا سوى العلم، والمنطق.. بالترابط مع بعضهما، حيث طوّر كل منهما الآخر، بحيث تبلور منهج البحث العلمي، الذي شكل نظرية المعرفة الأساسية للإلحاد.
ولذلك يتميز الإيمان بالنزعة العصبية نحو الحقيقة المطلقة التي لا تقبل البحث أو التجريب، في حين يتميز الإلحاد بطبيعة مرنة تراعي أن الحقيقة نسبية دوماً، وأن الإطلاق يفتح الباب على مصادرة الموضوعية من الرؤية والعقل.
وفي الوقت الذي يتميز فيه الإيمان بطابع تعميمي، لا يدقق في بحث الظاهرة (يكور الليل على النهار) بحيث يفتح الباب للتأويل والقال والقيل، ويفلت من شراك النقد بمعجزات افتراضية مطلقة، يعاكسه الإلحاد بالشك والتدقيق والبحث والتجريب، وعدم السماح بأي فلتان عقلي لا تأطيري لأية ظاهرة مادية، إذ تخضع كافة ظواهر الوجود لديه إلى قوانين المادة ولا يفلت منها أية ظاهرة قط، تجنباً للوقوع أسرى الخرافات.
ولهذا ينطبع الإيمان بتاريخية قصصية، ولا ينطبع بصرامة علمية، وينطبع الإيمان بالشك الداخلي لأنه يحيد دوماً عن الحقائق التي تنقضه، ولذلك فإن الإيمان ينزع إلى التطرف لأنه يحيد أصلاً عن موضوعية الواقع.. وهو ما لا يتصف به الإلحاد.
وبينما كان الإيمان قديماً ينتعش ويتضخم تبعاً لتمرس العقل ونقص المعارف، الذي تمخض عن الغيب والأديان، كان الإلحاد يتكون خفية تبعاً لتراكم المعارف العلمية، أي تبعاً لاستبدال الغيوب ببدائل موضوعية، فكل خطوة خطاها تقدم العلوم، سقطت مقابله فكرة غيبية، فسقطت ورقة توت إيمانية، واكتسى الإلحاد عظماً ولحماً، عبر التاريخ، وإرهاصات الملحدين وأشباههم، التي لا تعد ولا تحصى، جوبهت دوماً عبر التاريخ بالحرق والتكفير.
وقد تم عبر التاريخ استغلال الغيب لتمويه ما لم يعقل من استعباد الإنسان للإنسان، فقد شرعت العقائد أول ما شرعت الملكية الفردية، بعد أن كانت المجتمعات القديمة تعيش في مجتمعات مساواة، يتقاسم فيها أفرادها المال والمتاع وفقاً لعرف يتساوى فيه الجميع، فقد أدى تطور العلم والمجتمع والزراعة إلى ظهور الفروقات بين الملكيات، وبالتالي التفارق بين المراتب الاجتماعية، وعندها انقسمت المجتمعات البشرية إلى طبقات متنازعة، تملك أو لا تملك، فاستعبد الإنسان الإنسان، وقامت العقائد والأديان بتبرير هذا الانقسام العابر، بل وخلدته حتى الآخرة.
وقد عاش العلم، والإلحاد من وراءه، حالة فقر شديدة، لأنه لعب على الدوام مصدر أرق للعنصريات التي اعتمدت على نقص المعارف البشرية لتبرر سرقتها حيواة البشرية، وتبريرها بالغيوب، فحورب على الدوام، وتم تكفير العلماء، علماء الطبيعة والمنطق، طيلة التاريخ الذي اتخذ فيه استغلال الإنسان للإنسان شكلاً عينياً (عبودية، إقطاعية)، ولكن نهضة العلم الأخيرة على يد (الرأسمالية) قامت بنقل الغيب العيني إلى غيب آخر هو استغلال الإنسان بشكل مجرد هو تبعيته للإله الجديد: السلعة، وبذلك فقدت الأديان دعم الطبقات المستغِلة التي كانت تحميها قديماً، وحدث العكس، لقد باتت الأديان عقبة في طريق تحرير الرأسمالية للناس من الأخلاقيات القديمة من أجل استغلالهم كسلع، فلم تعد بها حاجة إلى الدين، ولذلك تحارب الرأسمالية اليوم الأديان تحت ذرائع وأكاذيب مختلفة، حقيقتها أن الأديان تقف اليوم في طريق انحلال العلاقات الاجتماعية التي تحول الإنسان إلى سلعة تامة.. بينما يتوهم المؤمنون أنها إنما تحارب عقيدتهم نفسها، في حين أنها تحارب من أجل تغييرها، وإبقاء جوهرها الغيبي، لأنه يخدم مصالحها.
وقد يبدو أن العقائد تلعب دوراً في كبح جنون الإله الجديد: السلعة، لأنها تحارب كهنته الممثلين بالقوى الكبرى، لكنها في الواقع تكبح القوى الاجتماعية التي سيكون لها دور حماية المجتمع البشري من هذا الجنون، عبر تشتيت الانتباه عن العدو الحقيقي للبشرية، فبينما يتم تصويره على أنه يستهدف العقائد وأخلاقياتها، يتم من جهة أخرى التغطية على هدفه الحقيقي: تحويل كامل بني البشر إلى سلع، وبينما تتشدد العقائد لتحمي نفسها، تتشدد ضد بعضها فتشتت قوى البشرية في حروب جانبية لا تخدم إلا الإله الجديد.
ولكن في خضم هذا كله ينمو الوعي البديل، الوعي القاعدي الذي يدرك أن لا عقيدة تنفع البشرية، إلا المساواة، العقيدة البائدة التي ضيعتها المجتمعات البشرية بعد أن كانت موجودة في المجتمعات المشاعية القديمة، وهذه العقيدة لا يمكن أن تقوم على المنهج اللاأدري الديني، لأن هذا المنهج يشرع التفرقة البشرية بالنظر إلى نقائصه الكبيرة: عدم الوعي بالتغير كظاهرة ملازمة للوجود، وعدم الوعي بالتطور كظاهرة ملازمة للمجتمع البشري.. فقد توهم كافة الأنبياء أن الوجود ثابت لأنه مخلوق، وأن المراحل التاريخية العابرة التي عاصروها فردياً خالدة (تخليد العبودية).
واليوم.. أيامنا هذه التي تنبأ بها كل الأنبياء - لأنهم يدركون هذه النقيصة - يبدو البحث عن منهج أكثر منطقية من منهج (اللاأدرية) ضرورياً للمؤمنين كي يواجهوا المطارق العلمية والمنطقية التي تحطم الصنمية الدينية بآخر تطوراتها.
فقد حارب رجال الدين وكفروا بداية كل القائلين بالعلم الطبيعي أو الشكاكين، ولكنهم في النهاية انتقلوا إلى محاولة التوفيق بين الجديد والقديم بعد أن تبين لهم أنه لا سبيل لصرع الأفكار الجديدة، منها مثلاً اعتراف علماء الدين المتأخر بشدة (الرازي 1210م) أن الشمس لا تغطس في عين حمئة، بعد الفتوحات العلمية الفلكية التي لا سبيل لدحضها، وبعد أن بقي الخلاف في غطسها في بركة موحلة، أم ساخنة قائماً لمئات السنين.
فالإلحاد إذاً ظهر نتيجة تقدم العلوم، التي بينت في كل معلومة الأصل الطبيعي لكافة ظواهر الوجود، إذ تمكن العلم من تفسير عدد كبير من الظواهر التي كان يعتقد أنها تحدث بقوى فوق طبيعية، وبين أنها تحدث بقوى المادة الطبيعية دون تدخل خارجي.. وقياساً على ما تم اكتشافه فإن باقي ما يحدث في الوجود حتى الآن دون أن يتم اكتشاف أسبابه يحدث نتيجة الطبيعة المادية له، لا نتيجة توجيه خارجي من قوة مجهولة، ويعني في نفس الوقت بأن الأسئلة التي لم يجب عليها العلم ليست مبرراً لتفسير وترقيع نقص المعارف بالخرافات والغيوب، فبالقياس على ما أجاب عنه العلم يدرك الملحدون بأن لكل ظاهرة مادية مجهولة، تفسير موضوعي ينتظر الكشف إن لم يكن قد تم كشفه.
وعلى هذا الأساس بحث الملحدون دوماً عن أجوبة للتساؤلات البشرية، وعن بدائل موضوعية للأجوبة الغيبية، فصار من المنطقي اليقين بأن كافة ظواهر الوجود تخضع للتفسيرات المادية، بما فيها ظهور الكائنات إلى الوجود، الذي بين العلم أنه يخضع لسلسلة تطورية مثله مثل كافة ظواهر الوجود.
الإلحاد هو من أجل فهم حقيقة الوجود والتعايش معه بدون غيوب معرفية وأخلاقية.. ومسألة سد النواقص التي يعاني منها العلم، النواقص التي كانت دوماً المنهل الذي نهل منه الإيمانيون للحط من شأن الوعي البشري وتمرير وعي الآلهة الغيبي، هي مسألة وقت فقط، مع أن العلم قد أجاب بما يكفي لتفنيد أية مزاعم غيبية تفسر بقايا المجاهيل المادية، بما لا يخضع للبحث والتجربة.
العالم يتجه نحو الإلحاد، ففكرة اللـه تتراجع تحت ضغط التقدم العلمي والاجتماعي مثلما تراجعت الآلهة القديمة إلى الأساطير، تحت ضغط التقدم السابق. وكما أن الآلهة القديمة كانت تناسب المستوى العلمي والفكري للمجتمعات القديمة تهاوت وانقرضت بانقراضها، فإن فكرة اللـه التي مثلت آخر مرحلة من تطور الغيوب، الناتج عن تطور وعي المجتمعات القديمة، تتهاوى الآن ببطء لأنها لم تعد تناسب المستوى العلمي والفكري للمجتمع المعاصر، وبما أن العلم قد غدا سيد الموقف المعاصر فإن تبادل الآلهة التاريخي للكراسي آيل إلى الانقراض مثل آلهته، لأنه مرتبط بنقص المعارف، وهذا النقص نفسه لم يعد متمكناً نتيجة البدائل المعرفية الحديثة، وباتت أيامه التي يتعكز على تناقصها أصحاب العقائد معدودة.
إن تطور العلم أزاح على الدوام الغيوب ليحل محلها الواقعيات، وبالتالي فإن الإلحاد هو ظاهرة طبيعية ملازمة لتطوره، وأن الإيمان هو ظاهرة معاكسة لنفس التطور، وبينما كان المؤمنون ينفقون أوقاتهم في تكفير ومحاربة العلماء، وانتقلوا حديثاً تحت هجمات العلم إلى محاولة التوفيق بين ما لا يمكن التوفيق بينهما: اليقين والإيمان، ينفق الملحدون أوقاتهم في تثبيت أركان المعرفة الإنسانية كمصدر وحيد للمعارف، وقوى الوجود المادية كمصدر وحيد للقوى التي تسير الكون، من خلال العلماء الذين ينفقون وقتهم في محاولة فك أسرارها وكشف غوامضها اعتماداً على قاعدة منهجية تستند إلى المنطق الموضوعي، هذه القاعدة التي يجب أن تزاح بعيداً عند الإيمان، ويستنجد بها عند أزمة المؤمن من ازدواجية إيمانه بالغيوب ويقينه بالوجود.
إن العلم يدعم الإلحاد باستمرار، لأنه يمده بنتائج محسوسة لأسئلة الوجود، لا غيبية، فاعتماد العلم والإلحاد على علم المنطق من تفكير وتعيين وتحليل واختبار وصياغة حقائق يحقق لهما ما لم يستطع الإيمان تحقيقه من يقين موضوعي بإجابات منطقية ومادية للأسئلة الوجودية.
والتناقض بين العلم الذي يشكل قاعدة لتطور الإلحاد، والإيمان يرجع إلى تناقضات لا يمكن حلها إلا بتخطيء أحد الطرفين، لا بالتوفيق بينهما، وما سعي المؤمنين إلى التوفيق بين العلم والإيمان إلا آخر محاولة يائسة للتمسك بالقشة قبل الغرق الكامل في بحر الموضوعية ومادية الوجود واستقلاله عن أية قوى غيبية.. في حين أن الملحدين لا يعانون من هذا التناقض لأن الانسجام بين العلم والإلحاد قائم على تطور كل منهما بفضل الآخر.
هذا التناقض أو التوافق مع العلم ينبع من طبيعة كل من الإيمان والإلحاد، ولا يمكن حله إلا بكون أحدهما على ضلال، يمكن اختصاره في ما يلي:
- اعتماد الإيمان على المسلمات التي لا يمكن الشك بها انطلاقاً من (القاعدة اللاأدرية)، ورفض الإلحاد لأية مسلمات مسبقة، وإخضاعه كل الظواهر أو القواعد للبحث والتجربة والتمحيص.. وهذا أول تناقض مستعص ٍ بين العلم والإيمان، وتوافق العلم مع الإلحاد.
- اعتماد الإيمان على (القاعدة اللاأدرية) للزعم بوجود قوى فوق طبيعية من آلهة وملائكة وأرواح.. الخ، في حين يعتمد الإلحاد على (قاعدة موضوعية) لا توقن بوجود ما لا يتموضع، أي ما لا يكون قابلاً للقياس موضوعياً والبحث بالحواس، أو الأدوات التي تساعد الحواس على كشف ما لا تستطيع كشفه مباشرة، وهذا اتفاق ثان ٍ بين العلم والإلحاد.
- اعتماد الإيمان على الأمل النفسي بالظواهر التي يزعم وجودها، بغض النظر عن إمكانية خضوعها للتجربة، في حين أن الإلحاد يعتمد على اليقين العلمي، ويرفض كما بينت التجارب وجود أي ظاهرة مادية غير قابلة للتجريب والفحص والتقييم، ولا يستثني من هذا كافة الغيوب المزعومة. وهذا اتفاق ثالث بين العلم والإلحاد.
هكذا نجد أن التباين بين الإلحاد والإيمان تباين مستعص ٍ لا يمكن التوفيق فيه بينهما إلا بسقوط أحدهما، ولما كان العلم قد شكل قاعدة للإلحاد، في حين أن (القاعدة اللاأدرية) قد شكلت قاعدة انطلاق الإيمان، فإن مجرى تطور العلم يبين أن الإيمان زائل، وأن الإلحاد خالد.. عكس كل النبوءات العتيقة.
إن النبوءات التي صدقت حتى يومنا هذا كانت تتعلق بتحطم الغيوب على أيدي العلوم.. هذا لأن النبوءات أدركت منذ ولادتها نقصها الجوهري: الموضوعية.
الإلحاد هو اليقين بموضوعية الوجود، والإيمان هو الأمل بموضوعية الغيب.. مع احترامي التام لكل مؤمن، بدءً من عباد النار وانتهاءً بعباد اللـه.
ومع تحياتي.
|