
السلام على من اتبع هدى الله و رسوله:
{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف : 108]
بداية أشكر الزميلة "سوزان" على ردها, و لقد كتبت هذا التعقيب عليه:
تقول الزميلة "سوزان": "صحيح، عدم ثبوت الشيء علمياً لا يعني نفي وجوده، وهذا لا ينفيه الملحدون، وهذه وجهة نظر العلم فعلاً.. وليست لدي وجهة نظر معاكسة كما تعتقد
إذن ممتاز: نسجل إذن هذه النقطة التي اتفقنا عليها لأننا سنحتاج إليها في حوارنا: "عدم ثبوت الشيء علميا لا ينفي وجوده"
ثم تقول في موضع آخر: "ولكن وجهة نظري المعاكسة لوجهة نظرك هي ما يلي:حينما أفترض أن هنالك قوى خارقة غير محسوسة تتمتع بها الأصنام الثلاث : اللات والعزى ومناة، ثم تأتيني وتقول لي هاتِ برهانك على وجود هذه القوى، وأجيبك: إن عدم قدرتي على إثبات الشيء علمياً لا يعني نفي وجوده.. كما تقول.. فهل يعني هذا أن الغرانيق العلى تتمتع بقوى جبارة فعلاً؟.. وإذا ما قلت لك أثبت أنه لا قوى جبارة خفية لها، فهل تستطيع إثبات ذلك؟.. أنت تستخدم نفس هذه الطريقة في إثبات وجود اللـه تماماً، فإن اعترضت على حديث الغرانيق، فإنما تعترض على إيمانك باللـه".
سأكتفي هنا بتصحيح معلومة بسيطة يعرفها كل من له ثقافة إسلامية بسيطة و هي أن قصة الغرانيق قصة باطلة سندا و متنا. و أتمنى أن لا يخرجنا هذا عن موضوعنا الأساسي لأن الغرض من ذكرك لهذه القصة, قمت بإيضاحه في مقالتك الموالية التي سأتعرض لها بالتعقيب. إنني إذن على عكس ما قلت أؤمن بالله و أعترض بل و أنكر قصة الغرانيق.
تقول "سوزان" (أنار الله بصيرتنا و إياها): "إن افتراض وجود قوى خفية فوق أحاسيسنا ومعارفنا بدون إثبات تجريبي يفتح الباب على مصراعيه لافتراض وجود عدد هائل من شتى أنواع الأوهام والأرواح والقوى المجهولة، والتي لا أساس لوجودها من الصحة"
أقول جميل, هذه نقطة أخرى نتفق فيها معا إذا قمنا بحذف كلمة " إثبات تجريبي" التي قمت باستخدامها (لأنه بإمكاني أن أضرب لك إن شئت مجموعة من الأمثلة عن نظريات علمية افترض العلماء صحتها دون إثباتها تجريبيا, و مع ذلك لم يعترض العلماء على هذه الفرضيات, ثم بعد ذلك مع تطور الأدوات العلمية ثبتت صحتها), و لكننا سنستبدلها بكلمة من كلامك, حيث قلت: "فالعلم لا يفترض أية ظاهرة ما لم يكن هنالك دلائل تسمح بإمكانية الافتراض". و الفرق بين "الإثبات التجريبي" و "إمكانية الإفتراض" كبير, و لا يمكننا أبدا أن نثبت فرضية ما تجريبيا إلا إذا مررنا بطور "إمكانية الإفتراض".
إذن النقطة التي أعتقد أننا نتفق عليها عليها أيضا: " إن افتراض وجود قوى خفية فوق أحاسيسنا ومعارفنا بدون دلائل تسمح بإمكانية الافتراض يفتح الباب على مصراعيه لافتراض وجود عدد هائل من شتى أنواع الأوهام والأرواح والقوى المجهولة، والتي لا أساس لوجودها من الصحة".
أنتقل الآن إلى قولك: " ولكن ما هو مهم أنه تفوتك مسألة مهمة في العلم تنفي محاججتك، فالعلم لا يفترض أية ظاهرة ما لم يكن هنالك دلائل تسمح بإمكانية الافتراض.. مثلاً حينما لاحظ العلماء انحراف أحد الكواكب الشمسية عن مساره، لم يعرفوا ما هو السبب، ولكنهم افترضوا أنه يتعرض لمجال جاذب من مصدر ما، وهذا الافتراض مشروع علمياً لأنه يستند إلى ظاهرة مادية ملحوظة هي الانحراف، وقد تابعوا الدراسات لتفسير الانحراف بفعل مصدر جاذبية، فتبين أنه يجب أن يكون صادراً عن جسم بحجم كوكب، ليس موجوداً في الخارطة الفلكية المعروفة، وبالفعل فقد تم تحديد موقعه اعتماداً على دراسة القوى المؤثرة في الكوكب المنحرف، وتم اكتشافه عينياً بالمجاهر الفلكية.. وإن لم تخني ذاكرتي فهذا الكوكب هو "بلوتو". إذاً فالعلم لا يقبل أي افتراض إن لم يكن له دلائل تسمح به، وبالتالي لا تستطيع افتراض وجود إله، إن لم تكن لديك دلائل تسمح بهذا الافتراض.. لو راجعت ما تملك من دلائل تتوهمها ستجد أنك تملك إيمانك فقط، وهو ليس أكثر من حدس نفسي، لا أساس تجريبي له مثل ظاهرة الانحراف. ولذلك لا يمكن الزعم بأن العلم يسمح بافتراض وجود إله، لأنه لا دلائل تسمح بهذا الافتراض. وجهلنا بالموجودات ليس دليلاً."
زميلتي "سوزان":
أولا أشكرك على المثال الذي قمت بضربه و الذي سأبني افتراضي بالقياس عليه. لقد اعتبرت انحراف الكوكب ظاهرة محيرة سمحت بوضع افتراض مجال الجذب, و قلت بأن هذا الإفتراض مشروع علميا لأنه يستند على ظاهرة مادية ملحوظة هي الإنحراف.
أقول: ألا تعتبرين وجود الكوكب في حد ذاته ظاهرة محيرة تسمح بطرح تساؤلات حول أصل هذا الكوكب؟؟ أليس من حقنا علميا أن نفترض (مجرد افتراض ضمن مجموعة أخرى من الإفتراضات) وجود صانع ماهر(بغض النظر عن ماهية هذا الصانع) لهذا الكوكب؟؟ ألا يستند افتراضنا على ظاهرة مادية و هي "وجود الكوكب".
أرأيت إذا كنت تتجولين يوما في الصحراء و صادفت قصرا بديعا جميلا متقن الصنع: ألن يكون ضمن الإفتراضات التي ستقومين بطرحها وجود صناع لهذا القصر, أليس هذا هو الأمر الطبيعي؟؟ أم أن الأمر الطبيعي هو وجوده و تكونه صدفة عبر سلسلة من العمليات العشوائية؟؟
إعتقد إذن أنه الآن من حقي أن أفترض وجود هذا الصانع البديع و الذي أسميه أنا "الله": وهذا الإفتراض على عكس ما قمت بكتابته لا يستند البتة على حدس نفسي بل على ظاهرة مادية و هي وجود الكوكب. و هذا الإفتراض مطروح ضمن مجموعة من الإفتراضات التي سنخضعها كلها لمجموعة من الإختبارات و غربلتها حتى يبقى لدينا فقط أصح هذه الإفتراضات. وهذا هو المنهج العلمي في دراسة الظواهر و البعيد عن الأهواء و الأحكام المسبقة.
ثم تقول الزميلة (هدانا الله و إياها): " استطعنا الاستدلال على صحة وجود الكوكب من خلال تأثيره على المادة، بدون أن نتحسسه بأحاسيسنا، ودراسة هذا التأثير دراسة علمية حددت كامل خواصه. وتبين أنه مادي. وقد انطبق عليه توصيفي أعلاه: يدرك بالحواس الخمسة, ثبت وجوده علميا، قابل للتجريب و الإحاطة. وقلت في مشاركتي (ما هو الإلحاد): يعتمد الإلحاد على (قاعدة موضوعية) لا توقن بوجود ما لا يتموضع، أي ما لا يكون قابلاً للقياس موضوعياً والبحث بالحواس، أو الأدوات التي تساعد الحواس على كشف ما لا تستطيع كشفه مباشرة.. "
أقول و الله المستعان:
أما قولك: استطعنا الاستدلال على صحة وجود الكوكب من خلال تأثيره على المادة.
فهو خاطىء لسبب علمي بسيط و هو أننا لم نستدل على صحة وجود الكوكب من خلال التأثير على المادة, فهذا التأثير لم يقطع بوجود الكوكب بل افترض وجوده فقط فانتقل وجود هذا الكوكب من الإستحالة إلى الظني. و على غرار هذا الأمر فإنني أستطيع افتراض وجود الله من خلال تأثيره على المادة بإيجادها (لاحظي أنني لم أقطع بعد (في الحوار) بوجود الله (كما فعلت أنت بإنكاره) بل مسايرة للمنهج العلمي أسعى إلى نفي "نفي وجود الله" كمرحلة أولية في النقاش)
و أعود إذن لمسألة الإدراك بالحواس الخمسة التي ذكرتها الزميلة في وصفها للملحدين في المشاركة السابقة و أكدت عليها في هذه المشاركة:
أولا: سرني اعترافك بنقص الحواس الخمسة عن إدراك الحقائق, و استدراكك الأمر في هذه المشاركة بحديثك عن الآلات المساعدة.
ثانيا: هل الآلات المساعدة أيضا كافية لإدراك الحقائق كلها؟؟ سأعطيك مثالا بسيطا:
ألم يفترض العلماء في الأزمنة المتقدمة وجود جزء صغير في المادة قاموا بتسميته "الذرة", و قاموا ببناء نظريات هائلة على نظرية "وجود الذرة" دون أن يروا الذرة أو يتوفروا على الوسائل الضرورية لذلك. بل استنتجوا أيضا وجود الإلكترونات و البروتونات و النوترونات و غيرها دون أن يتمكنوا من رؤيتها. ومع ذلك لم يتهمهم أحد بأنهم يخالفون المنهج العلمي لأن (الذرة و مكوناتها لم يتم إدراكها بالحواس الخمسة و بالآلات المساعدة في ذلك العصر) بل كانت كغيرها فرضية تم وضعها بناء على مشاهدات و ملاحظات, و ظل هذا الأمر لفترة طويلة حتى طور الإنسان الآلات التي مكنته من رؤيتها. تصوري لو أن شخصا قام بمهاجمة هؤلاء العلماء و الإستهزاء بهم لأن الحواس الخمسة و الآت التي تساعدها (في ذلك العصر) كانت عاجزة عن إدراكها؟؟!! كما أن مندلييف عندما وضع جدوله الشهير ترك بعض الخانات فارغة لأنه حدس (علميا) وجود عناصر لم يكتشفها العلم في ذلك الزمن, ثم ثبت فيما بعد صحة فرضيته.
إذن نستنتج إذن: أن عدم إدراكنا لأمر معين بحواسنا و بالآلات التي نتوفر عليها حاليا فإنه لا يعني عدم وجوده و فرضية وجوده تبقى قائمة إلى أن يثبت العكس.
و تضيف الزميلة "سوزان": "
"أما الإله فلم يستطع أحد قط الاستدلال عليه، لأنه لم يثبت تأثيره على المادة (أكرر أن الجهل بالموجودات ليس دليلاً) ولم نستطع قط دراسته دراسة علمية تحدد خواصه ولن نستطيع، وهو ليس قابلاً للقياس موضوعياً، والبحث بالحواس، أو الأدوات التي تساعد الحواس على كشف ما لا تستطيع كشفه مباشرة.. وهذا يعني أنه غيب."
رددت على هذه النقطة في النقط التي تطرقت إليها من قبل و قلت أن تأثيره على المادة هو بإيجادها (التأثير الأولي). و استفضت أيضا بالحديث عن نقص الحواس الخمسة و الآلات المساعدة.
أما قولك فهو غيب, أقول لك نعم هو غيب و أنا أؤمن به:
"آلم, ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يومنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون" البقرة
أما قولك: " وصفات الغيب هذه هي نفسها صفات العدم. لأن العدم لايؤثر على المادة، ولن نستطيع قط دراسة تأثيره لا بالحواس ولا بالأدوات التي تيسر للحواس ذلك"
أقول لك بأنك وقعت هنا في أخطاء علمية بالغة, أصوبها دون أن أتصيدها:
أولا: فيزيائيا العدم موجود: الرابط
إذن قياسك باطل, لأنك إنما تقيسين شيئا تنكرين وجوده (رغم أنني أؤمن به) على شيء ثبت وجوده علميا. و لن أستفيض في الحديث عن هذه النقطة.
و أما قولك: " ونخلص إلى نتيجة نهائية : اللـه = العدم"
فقد أثبتت بطلانه لأنه أصلا قياس باطل (كما سبق و أن بينت) و لأمر آخر له علاقة بالمنطق: و هي أن حكمي على الشيء فرع من تصوره. فإذا افترضت عدم وجود الله, فإن العدم موجود على الأقل نظريا ( مثل مفهوم اللانهاية) فكيف أقيس شيئا غير موجود على شيء موجود.
و إذا قلت بأن الله موجود فكيف تقيسين عليه العدم و أنت جاهلة بماهيته و صفاته(أي الله).
إذن ....
و أما قولك: " وبرأيي أن أكبر خطأ يرتكبه المؤمنون هو محاولاتهم إثبات وجود اللـه بوساطة العلم أو المنطق، لأنه لو صح ذلك فهذا يثبت بأن اللـه مادي، فلا يمكن أن يخضع للإحاطة العلمية أو المنطقية غير المادة"
أعطني دليلا حتى اناقشك في هذا الرأي, لأنك هنا تلقينا الكلام على عواهنه, دون أي دليل. أنتظر إذن دليلك.
لن أناقشك في بقية كلامك, ليس لعدم أهميته و لكنه تلخيص فقط للنقط التي ناقشتك فيها سابقا.
تحياتي و تمنياتي لك بالوصول إلى الحقيقة.
هذا ما تيسر لي كتابته, فإن أصبت فمن الله عز و جل وحده, و إن أخطأت فمن نفسي و من الشيطان الرجيم.
سبحانك اللهم و بحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك و نتوب إليك.
|