الحديث في تناقضات الرواية الإسلامية السائدة للتاريخ العربي طويل ومتشعب جداً.. ومن المؤكد أنه سوف يفضي بنا إلى متاهات حوار لا أول لها ولا آخر، ولكن يمكن اختصار النقد الموجه للرواية الإسلامية للتاريخ على أنها لا تقول الحقيقة إلا من وجهة نظر عصبية دينية، وهذه العصبية تعيد إنتاج الحقائق التاريخية بشكل يتناسب مع العقيدة، بحيث يتم نسف الموضوعية والمنطقية لصالح إعلاء كلمة العقيدة، بغض النظر عن الأمانة التاريخية لمجريات الأحداث.
الأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، فكل التاريخ الذي وصلنا على أيدي كتاب السيرة مثلاً، يعاني من هذا المضمون، الذي يجعل البحث عن حقيقة ما جرى فعلاً أمراً في غاية الصعوبة، يجب استنباطه من بين كمية كبيرة من التشويهات الروائية، والتي اشترك فيها عبر التاريخ عدد كبير ممن يزعم أنهم رواة ثقات، فالرواية التاريخية الإسلامية لا تعتمد على الوثائق المكتوبة أو المحفورة، بقدر ما تعتمد على المشافهات الخبرية المنقولة من فم إلى فم، والقابلة بكل بساطة للدس والحذف، مثل: قال فلان عن علان عن تلان عن بلان.. الخ.. والتي يعتبرها الكثيرون مصدر ثقة انطلاقاً من الروح العصبية، التي لا تغني ولا تسمن عن خطل.
دعونا نضرب مثالاً صغيراً على ذلك:
حفر بئر زمزم كما رواها الازرقي
روى الازرقي من طريق ابن اسحاق عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه يحدث حديث زمزم حين امر عبد المطلب بحفرها ، فقال : ـ
قال عبد المطلب : اني لنائم في الحجر ـ حجر اسماعيل ـ اذ أتاني آت فقال : احفر طيبة ، قال : قلت ، وما طيبة؟ قال : ثم ذهب عني ، فرجعت الى مضجعي ، فنمت فيه ،فجاءني قال : احفر برَّه ، فقال ، قلت : ما بره ؟ قال : ثم ذهب عني ، فلما كان من الغد رجعت الى مضجعي ، فنمت فيه ، فجاءني ، فقال احفر زمزم ، قال ، قلت : ما زمزم ؟ قال : لا تنزف ابداً لا تذم ، تسقي الحجيج الاعظم ، عند قرية النمل ، قال : فلما ابان له شأنها ، ودلَّ على موضعها ، وعرف انه قد صدق ، غدا بمعوله ، معه ابنه الحارث بن عبد المطلب ، ليس له يومئذ ولد غيره ، فحفر ، فلما بدا لعبد المطلب الطيّ ، كبَّر ، فعرفت قريش انه ادرك حاجته فقاموا اليه فقالوا : يا عبد المطلب ، انها بئر اسماعيل ، انَّ لنا فيها حقاً ، فاشركنا معك فيها فقال عبد المطلب : ما انا بفاعل ، ان هذا الامر خُصِصْت به دونكم ، واعطيته من بينكم ، قالوا : فانصفنا ، فانا غير تاركيك حتى نحاكمك فيها ، قال : فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم
احاكمكم اليه ، قالوا : كاهنة بني سعد بني هذيم ، قال : نعم ، وكانت بأشراف الشام .
فركب عبد المطلب ، ومعه نفر من بني عبد مناف ، وركب من كل قبيلة من قريش نفر ، قال : والارض اذ ذاك مفاوز ـ المفازة : الغلاة لا ماء فيها ـ فخرجوا حتى اذا كانوا ببعض المفاوز بين الحجاز والشام ، فني ماء عبد المطلب واصحابه ، فظمئوا ، حتى ايقنوا الهلكة ، واستسقوا ممن معهم من قبائل قريش ، فأبوا عليهم ، وقالوا : ان في المفازة نَخْشَى فيها على انفسنا مثل ما أصابكم .
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم ، وما يتخوَّف على نفسه واصحابه قال : ماذا ترون ؟ قالوا : ما رأينا الا تبع لرأيك ، فامرنا بما شئت ، قال : فاني أرى ان يحفر كل رجل منكم لنفسه بما بكم الان من القوة ، فكلما مات رجل دفعه اصحابه في حفرته ، ثم واروه ، حتى يكون آخركم رجلاً واحداً ، فضيعة رجل ايسر من ضيعة ركب جميعاً أي ضياع رجل واحد ايسر واحسن من ضياع جماعه باسرها ، قالوا : سمعنا ما اردت ، فقام كل رجل منهم بحفر حفرته ، ثم قعدوا ان ينتظرون الموت عطشاً ، ثم ان عبد المطلب ، قال لاصحابه : والله ان إلقاءنا بايدينا العَجْز ، لا نبتغي لانفسنا حيلة ؟ فعسى الله ان يرزقنا ماءً ببعض البلاد ، ارتحلوا ، فارتحلوا ، حتى اذا فرغوا ـ ومن معهم
من قريش ينظرون اليهم ، ما هم فاعلون ـ تقدم عبد المطلب الى راحلته فركبها ، فلما انبعثت به ، انفجرت من تحت خُفّها عين ماء عذب ، فكبر عبد المطلب ، وكبر اصحابه ، ثم نزل فشرب وشربوا ، واستسقوا حتى ملأوا اسقيتهم ، ثم دعا القبائل التي معه من قريش ، فقال : هلمَّ الى الماء ، فقد سقانا الله عز وجل فاشربوا واستسقوا ، فشربوا واستسقوا، فقالت : القبائل التي نازعته : قد والله قضى الله عز وجل لك علينا يا عبد المطلب ، والله لا نخاصمك في زمزم ابداً ، الذي سقاك هو الماء بهذه الفلاة ، وهو الذي سقاك زمزم، فارجع الى سقايتك رشدأ ، فرجع ورجعوا معه ، ولم يمضوا الى الكاهنة ، وخلوا بينه وبين زمزم .
وقال ابن اسحاق : وسمعت ايضاً من يحدث في امر زمزم عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه ، انه قيل لبعد المطلب حين امر بحفر زمزم : ادع بالماء الرواء ، غير الكدر ....... احفر زمزم ، وان حفرتها لم تذم ، وهي تراث ابيك الاعظم ، فلما قيل له ذلك ، قال : واين هي ؟ قال : قيل له : عند قرية النمل ، حيث ينقر الغراب غداً ، قال : فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث ، وليس له يومئذ ولد غيره ، فوجد قرية النمل ، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين : اساف ونائلة ، فجاء بالمعول ، وقام ليحفر حيث امر ، فقامت اليه قريش حين راوا جده ، فقالت : والله لا ندعك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما ، فقال عبد المطلب للحارث : دعني احفر والله لامضينَّ لما امرت به ، فلما عرفوا انه غير نازع ، خلوا بينه وبين الحفر ، وكفوا عنه ، فلم يحفر الا يسيراً حتى بدا له الطي ـ طي البئر ـ فكبر ، وعرف انه قد صدق ، فلما تمادى في الحفر ، وجد فيها غزالين من ذهب وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم حين خرجت من مكة ، ووجد فيها اسيافاً قِلعّية وادراعاً وسلاحاً .
وذكر الصالحي ، نقلا عن اسحاق عن علي رضي الله عنه ، وعن البيهقي ، عن الزهري : فلما رجع عبد المطلب اكمل حفر زمزم ، وجعل عليها حوضاً يملأه ويشرب الحاج منه ، فيكسره اناس من حسدة قريش باليل ، فيصلحه عبد المطلب ، فلما اكثروا افساده ، دعا عبد المطلب ربه ، فاري في المنام فقيل له : قل اللهم اني لا احلها لمغتسل ، ولكن هي لشارب حلٌّ وبلُّ ، ثم كفيتهم ، فقام عبد المطلب فنادى بالذي اري ، ثم انصرف ، فلم يكن يفسد حوضه عليه احد الا رمي في جسده بداء ، حتى تركوا حوضه وسقايته .
المصدر: ملتقى أهل الحديث
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/archive/index.php/t-107891.html
تعج هذه الرواية بتناقضات مستعصية لا سبيل لحلها إلا باعتبارها ملفقة، فعبد المطلب الكافر أو المشرك عابد الوثن، يهبط عليه وحي إلهي بحفر البئر دون غيره، الوحي الذي يهبط على هذا الرجل الذي لم يؤمن بالله قط حتى مماته، هو بإنزال جبريل حتماً، فمن غير المعقول أن يكون وحياً من الشيطان.. ودعي عبد المطلب لأن عمه المطّلب انتزعه من أخواله بعد موت والده، وعامله معاملة العبد على ما يبدو:
جاء في لسان العرب:
(وكان هاشم بن عبدِ مَنافٍ تزوج سَلْمى بنت زيد النَّجَّاريّة بعد أُحَيْحَةَ بن الجُلاح فولدت له شَيْبةَ وتوفي هاشم وشَبَّ الغلام، فقَدِم المطَّلِب بن عبد مناف فرأَى الغلام فانتزعه من أُمِّه وأَرْدَفه راحلته، فلما قدم مكة قال الناس: أَردَفَ المُطَّلِبُ عبدَه، فسمِّي عبدَ المطلب؛ وقالت أُمّه: كنا ذوي ثَمِّهِ ورَمِّه، حتى إذا قام على تَمِّهِ، انتزعوه عَنْوَةً من أُمّهِ، وغلب الأَخوالَ حقُّ عَمِّهِ..
وطَلَبَ الشَّيءَ يَطْلُبه طَلَباً، واطَّلَبه، على افتعله، ومنه عبدُالـمُطَّلِب بن هاشم؛ والـمُطَّلِبُ أَصلهُ: مُتْطَلِب فأُدْغِمَتِ التاء في الطاء، وشُدِّدَت، فقيل: مُطَّلِب، واسمه عامر.).
وما يعيب الرواية أيضاً أن عبد المطلب لا يعرف زمزم، ولا موقعها، بل إن الموقع لم يكن اسمه زمزم بالأصل، ويكبّر وهو الكافر، وأنه يقبل بعدها التحكيم إلى كاهنة وثنية، وأن بني قريش ينسبون أنفسهم إلى إسماعيل وهم لا يعترفون بنبوة إبراهيم كونهم عباد أصنام، وهذا ينفي أسطورة إسماعيل وأمه هاجر وزمزم برمتها.
والغريب أن قريشاً تتنازل لعبد المطلب عن زمزم، ويبقى الجميع على وثنيتهم، رغم أن الله قد فجر نبع ماء في مفازة كادت تهلكهم تحت خف بعير عبد المطلب..
لا بل أنهم عارضوا حفرزمزم لأنها تقع بين أوثانهم..
وبعد.. هل يتبقى للرواية التاريخية الإسلامية موضوعية يمكن للباحث أن يستند إليها؟..
دعونا ندقق في ذكر السيف الذي ذكر فيما اقتبسناه:
قيل في المقتبس عن الأزرقي:
( فلم يحفر الا يسيراً حتى بدا له الطي ـ طي البئر ـ فكبر ، وعرف انه قد صدق ، فلما تمادى في الحفر ، وجد فيها غزالين من ذهب وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم حين خرجت من مكة ، ووجد فيها اسيافاً قِلعّية وادراعاً وسلاحاً .).
ونجد بالبحث عن السيوف ما يلي:
(السيف القلعى: هذا الأسم له علاقة بموضع في سوريا أو الهند بالقرب من الصين.
علماء آخرون يقولون أن الصّفة قلعى تعود إلى الصفيح (أو القصدير) أو الطليعة
البيضاء الذي كان قد استخرج كمعدن من عدة مواقع. هذا السيف أحد الثلاثة سيوف
التي غنِمها من بنو القينقاع (يهود يثرب). كذلك ذُكِرَ أن هذا السيف قد استخرجــه
عبدالمطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم)
المصدر: سيوف الرسول التسعة http://www.ojqji.net/vb_images/qala_1.jpg
وفي نفس الموقع جاء أيضاً:
(
السيف البَتَّار : غنِمه رسول الله محمـد صلى الله عليه واله وسلم من بنو قينقاع (يهود يثرب)
السيف يدعى أيضاً سيف الأنبياء وكتب عليه بالعربي داوود وسليمان وموسى وهارون
ويسع وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد (عليهم الصلاة والسلام). هذا السيف غنِمه داوود
عليه السلام قيل وهو أقل من عشرين سنة. أيضاً به رسم للنبي داوود حين قطع رأس جالوت
الذي كان صاحب السيف الأصلّي. أيضاً بالسيف رسم عُرّف على انه رسم للأنباط
وهم عرب البادية سكان البتّراء قديماً. طول نصل السيف 101سم. هذا السيف محتفظ
به بمتحف توبكابي في مدينة استنبطول ( قديماً القسطنطينية) بتركيـا. بعض المعلومات
تشير أن هذا السيف هو الذي سوف يستخدمه رسول الله عيسى بن مريـم حين يعود
إلى الأرض لقتل عدو الله الأعور الدجّال عدو الإسلام والمسلمين)
المصدر: سيوف الرسول التسعة http://www.ojqji.net/vb_images/batar_1.jpg
هذه الرواية تبين أن هنالك إشكالاً بين السيوف المستخرجة من زمزم، والسيوف المغتنمة من بني قنيقاع.. وهو إن دل فإنما يدل على تناقض الرواية التاريخية الواصلة إلينا، وثبات عيني من النقوش أن أصل السيوف نبطي، وليس جرهمي حميري، وهذا يدل على وجود دور للأنباط في كل من مكة وبئر زمزم، ينفي الرواية التاريخية بكونهم أحفاد نبايوط بن إسماعيل، لأن آلهة مكة وأوثانها بكاملها هي آلهة نبطية بجدارة كما بينت اللقى الأثرية إنطلاقاً من بصرى الشام، مروراً ببتراء الأردن، وحتى مدائن صالح في السعودية، والتي نهى النبي أمته عن المرور بها لأسباب مبهمة.
أنظر: تاريخ دولة الأنباط
http://www.ibtesama.com/vb/showthread-t_32266.html
لا نستطيع أن نعرف بدقة مجريات التاريخ العربي من خلال ما وصلنا من كتب كتبها مسلمون.. إذ أن أكبر تشويه واجهه التاريخ العربي هو الرواية الإسلامية له.
مع كل الاحترام.