بلوغ الأماني في بيان ما ليس بالأماني

[ناصرالشيبي]

الحمد لله تعالى الذي منَّ علينا بنعمة الإيمان به ، وبرسوله سيدنا محمد صلى الله عليه - الذي هدانا الله به لمعرفة سبل محو ذنوبنا عنا فاطمأنت قلوبنا بمغفرتها وتكفيرها عنا . فطابت بذلك نفوسنا - وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا . أما بعد
فإن البعض قد أخطأت أفهامهم خطأ فادحاً في فهم قوله تعالى ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا )123، النساء ، فساءت تقديراهم للأمر تبعاً لسوء فهمهم للآية الكريمة .
فاستقرت قناعتهم بتساوي المؤمن - بالله تعالى وبخاتم رسله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الحق - مع غير المؤمن بالله ورسوله، في مجازاتهما بما يعملانه من السيئات يوم القيامة . وهذا باطل تماماً لمناقضته للنصوص الشرعية الثابتة . كالذي جعل أحد خطبه بعنوان (الآية المزلزلة " ليس بأمانيكم - - - ") .
ويرجع خطأ هذا وأمثاله إلى أنهم لم يصلوا للإدراك الكلي لمحصلة أعمال العباد و مآلاتها، نظراً لاكتفائهم بفهم ظاهر هذه الآية (123، النساء) فقط .
ولم ينظروا معها للنصوص الشرعية الأخرى المبينة لكيفية المجازاة على أعمال السوء يوم القيامة لكلا الفريقين (المؤمنين ) و(غير المؤمنين) فأدى عدم رجوعهم إلى ما ورد في السنة المشرفة من بيان ما يؤول إليه تأويل هذه الآية إلى وقوعهم في هذا الخطأ الفادح .
ولو أنهم نظروا في كافة النصوص الشرعية نظرة شمولية لعلموا بأن الله تعالى قد هيأ لعباده المؤمنين به وبخاتم رسله عليه الصلاة والسلام أسباباً كثيرة لتكفير سيئات أعمالهم رحمة منه تعالى بهم .
فيخرجهم أخذهم (عملهم) بتلك الأسباب من دائرة آيات الوعيد العامة بمجازاة المسيئين على أعمالهم السيئة في الآخرة . ولذلك فإنه لا يصح اعتقاد التساوي بين المؤمنين ، وبين غيرهم في المجازاة بسيئات أعمالهم .
وبالتالي فإن مصير كل فريق منهما يختلف عن الآخر تماماً. لأن المصير يوم القيامة متوقف على كيفية مجازاة كل منهما على اقترافهم للسيئات ، مع أن مبدأ المجازات بالسيئات لكل الخلق على السواء ثابت لا شك فيه .
وفيما يلي بعض ما جاء في بعض كتب التفسير بشأن آية سورة النساء بالذات . لأن القائلين بمساواة المؤمنين بغيرهم في المجازاة يحتجون بها على حكمهم الخاطئ بتساوي الفريقين .
قال الشيخ سيد طنطاوي في تفسيره المسمى بالوسيط :
الأماني جمع أمنية ، وهي ما يتمناه الإِنسان ويرغب فيه ويشتهيه من أشياء متنوعة . كحصوله على الخير الوفير في الدنيا ، وعلى الجنة في الآخرة . وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية عدة روايات .
منها قول قتادة : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا . فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين . وكتابنا يقضى على الكتب التي سبقته قال تعالى ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) 48 المائدة ، فأنزل الله تعالى ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ) الآية أ.هـ
أما ابن كثير فقد ذهب في تفسيره إلى أن الخطاب فيها لجميع الطوائف فقال " والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال . وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه . ولا كل من قال إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان . ولهذا قال (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب) . أي ليس لكم ، ولا لهم النجاة بمجرد التمني . بل العبرة بطاعة الله - سبحانه- واتباع ما شرعه على ألسنة رسله . ولهذا قال بعده (مَن يَعْمَلْ سوءاً يُجْزَ بِهِ) . كقوله تعالى ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) أ.هـ
ومن المفسرين من رأى أن الخطاب في قوله ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ) للمسلمين . فقد أشار إلى ذلك الزمخشري في الكشاف عن قوله تعالى ( لَّيْسَ) بأنه : ضمير وعد الله أي : ليس ينال ما وعد الله من الثواب {بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا} بأماني أهل الكتاب . والخطاب للمسلمين ، لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به . وكذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان بوعد الله تعالى .
ومن المفسرين من رأى أن الخطاب للمشركين . وقد رجح ذلك ابن جرير الطبري فقال ما ملخصه :
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما قاله مجاهد من أنه عنى بقوله (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) مشركي قريش ، ثم قال: وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) وإنما جرى ذكر أماني نصيب الشيطان المفروض في قوله تعالى قبل ذلك (ولأمنينهم وَلأَمُرَنَّهُمْ ) وقوله ( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) فهو إلحاق .
فقد أخرج الترمذي وبعض أصحاب السنن "عن أبى بكر الصديق رضي الله عنه قال ( كنت عند النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، فقال رسول الله : يا أبا بكر ألا أقرئك أية نزلت عليَّ ؟ فقلت : بلى يا رسول الله ، فأقرأنيها . فلا أعلم إلا أنِّى وجدت انفصاماً في ظهري . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم مالك يا أبا بكر؟ قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله : وأينا لم يعمل السوء ؟ وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أما أنت وأصحابك يا أبا بكر" المؤمنون" فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله تعالى ليس عليكم ذنوب . وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة) أ.هـ
قلت ومع أن بعض العلماء قد ضعف هذا الحديث .إلا أن هناك حديثاً صحيحاً أَخْرَجَه الإمام مُسْلِمٌ في صحيحه بنفس معناه وهو قول أبى هريرة : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ "مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ " الآية 123 سورة النساء . شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَبَلَغَتْ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ . فَشَكُوا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ فِي كُلِّ مَا يُصيِبُ الْمُسْلِمَ كَفَّارَةً ،حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشاكُهَا أَوِ النَّكْبَةَ يُنْكَبُهَا" .
قال الألوسي : والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى . ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والأسقام ومصائب الدنيا ، وهمومها - وإن قلت مشقتها يكفر الله تعالى بها الخطيئات . والأكثرون على أنها أيضا ترفع بها الدرجات . وهو الصحيح المعوَّل عليه. فقد صح في غير ما طريق " ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة . ومحيت عنه بها خطيئة ".
وقوله تعالى ( بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) تأكيد لما قبله من : أن ثواب الله لا ينال إلا بالإيمان والعمل الصالح ، وأن عقابه تعالى سيحل بمن يعمل السوء .
أي : أن من يعمل السوء سيجازى به . ولا يجد هذا المرتكب للسوء أحدا سوى الله - سبحانه - يلي أمره ويحامى عنه . ولا نصيراً ينصره . إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أن مجازاة المؤمنين بسيئاتهم يعجلها الله تعالى له في الدنيا . بما يصيبه من ابتلاءات ، ومشاق ، ومعاناة ، وهموم فيها . بخلاف مجازاة غير المؤمنين فإنها تؤجل وتجمع لهم ليجازوا بها يوم القيامة .
ونظراً لوجود هذا الفارق المهم في كيفية مجازاة (المؤمنين - وغير المؤمنين) على النحو الذي سبق بيانه فإنه لا يصح لمن يعلِّم الناس ، أو يعظهم أن يستدل بالآية (123، من سورة النساء) على تساوي مجازاة الفريقين . جاعلاً دلالتها مسوغاً لتجاهل دلالات النصوص الشرعية الأخرى ، كدلالة قوله تعالى( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ // إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) 38 و39، المدثر. ففي الآية الثانية استثنى سبحانه نفوس أصحاب اليمين من بين عموم النفوس المرهونة بما كسبته . ليس ذلك فحسب .
بل قد اقتصرت آية أخرى على ذكر صفة الإيمان بالله تعالى وحده كسبب لنيل الفضل الكبير من الله تعالى في الآخرة ، ولم تذكر معه العمل الصالح .
لا بقصد التقليل من شأن العمل الصالح . بل لبيان عظم قدر الإيمان به تعالى استقلالاً. ولبيان أنه هو الأساس والأصل في النجاة ، والفوز في الأخرة . وذلك في قوله تعالى (وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا) 47 ، الأحزاب . وأصحاب اليمين منهم دون شك .
فالأصوب والأكمل وما تقتضيه أمانة بيان العلم لمن يتصدى لشرح آية سورة النساء هذه للناس أن يبين لهم مع توضيحه لمضمونها ، ما جاء في الآيات الأخرى من بيان ما ستؤول إليه مجازاة فريق المؤمنين . وفريق غير المؤمنين .
فيبين لهم الفرق في كيفية مجازاة الله تعالى لكل فريق على ما عملوه من أعمال السوء ، في ضوء ما بينته الآيات الأخرى - فالقرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً- وكذلك بما صح في هذا الشأن من أحاديث السنة المشرفة .
وتكمن أهمية إدراك المؤمنين للفارق الكبير الهائل في المجازاة بين الفريقين: أنه يهون عليهم تحمل مصائب الدنيا من الابتلاءات . ويعينهم على الصبر عليها بنفوس راضية . فيقربهم بذلك إلى دينهم . ويزيد من محبتهم لربهم سبحانه وتعالى المتودد لهم بنعمه ، الرحيم بهم رحمة خاصة دون غيرهم . قال تعالى ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) الآية 43 ، الأحزاب .
لذا رأيت ضرورة التنبيه إلى عدم صحة اعتقاد مساواة المؤمنين بغيرهم في مجازاتهم بالسيئات . لبعد فارق مصير عن غيرهم . والحمد لله رب العالمين .

[ايوب نصر]

جزاكم الله خيرا
والذي أميل إليه هو ما ذهب إليه الطبري من أن الخطاب موجه للعرب الذين لم يدخلوا بعد في الاسلام