ما سبب اختلاف أقل مدة للحمل بين الشرع والطب؟
يعود ذلك إلى اختلاف المقصود بتعريف "أقل مدة الحمل" في نظام الشرع عنه في نظام الطب، ويعود هذا الاختلاف بدوره إلى موافقةِ كل تعريفٍ لغاية النظام نفسه، ويخطئ من لم يدرك هذا الفرق بما يؤول به إلى أحد مسالك الخطأ،
فيزعم الإعجاز في توافق الشرع مع الطب،
أو يغلّب ظنّه أن الطب لن يصل إلى كذا،
أو ثالثة الأثافي أن يزعم وجود التعارض بين الشرع والطب، وقد وقعت الثلاثة جميعًا مع الأسف!إنّ الذي يعني الأطباء هو (تحديد النقطة الفاصلة التي عندها يكون الطفل "قابلًا للحياة" بأن يكون من الممكن أن يعيش خارج رحم الأم
ولو بمساعدةٍ اصطناعية، وتكون عادةً عند سبعة أشهر "28 أسبوعًا" وقد تكون قبل ذلك عند 24 أسبوعًا.) (1)، (ومع التقدم المستمر في العناية المركزة بحديثي الولادة، فإنّ حدّ إمكانية الحياة ينتقل نحو فترةٍ أصغر فأصغر لحمل الجنين، على سبيل المثال: فقد تحقق البقاء بعد 22 أسبوعًا كاملةً من الحمل) (2).وهذه المسألة لها مردودٌ قانونيٌّ، هو محل جدلٍ كبيرٍ وشهيرٍ في الغرب، ألا وهو تحديد وقت الإجهاض في الدول التي تسمح به، ولنأخذ انجلترا على سبيل المثال، ففي قانون حماية حياة الطفل سنة 1929م حُددت فترة الحمل التي يعتبر بعدها الطفل قابلًا للحياة بمدة 28 أسبوعًا، وسار على هذه الحد قانون الإجهاض لسنة 1967م، وتم تعديله في قانون الإخصاب البشري والأجنة لسنة 1990م فصار الحد الأعلى للإجهاض هو 24 أسبوعًا(3)، ثم في عام 2008 اقتُرح تعديل المدة إلى 20 – 22 أسبوعًا ولكنّه رُفض(4)، وبين الحين والآخر تطفو إمكانية مثل هذه التعديلات بتقليل الحد الأعلى للإجهاض(5).
يتضح من ذلك أن "أقل مدة الحمل" في الطب ليست من الثوابت، والمعنى المقصود منها أنّها المدة التي تفرق بين المولود الذي يحيى بوجود المساعدة الطبية الخارجية و المولود الذي لا يحيى رغم المساعدة الطبية، وبتطور الطب يقل هذا السن تدريجيًّا، ويختلف من زمنٍ لزمن، ومن بلدٍ لآخر بحسب التقدم الطبي، وليس لأحدٍ أن يتألى على الغيب، ويفترض أن الطب لن يصل لأقل من ستة أشهر، فقد رُصد ذلك بالفعل في أجنةٍ ولدت بعد 22 أسبوعًا، وقدر الله حياتها بالعناية الطبية المركزة، ومن باب أولى فليس لأحدٍ أن يدعي موافقة الطب للشرع في تحديد أقل مدة الحمل بستة أشهر، كما سيأتي مزيد بيانٍ لذلك.
أما "أقل مدة الحمل" في الشرع، فالمعنى المقصود منها أنّها المدة التي تفرق بين المولود الذي يحيى دون مساعدةٍ طبيةٍ خارجيةٍ والمولود الذي لا يحيى بدون هذه المساعدة كذلك، وثمرة ذلك تظهر في أحكام النسب ولحوق الولد بأبيه من عدمه، قال ابن المنذر رحمه الله (
وأجمعوا على أن المرأة إذا جاءت بولدٍ لأقل من ستة أشهرٍ من يوم عقد نكاحها أن الولد لا يلحق به، وإن جاءت لستة أشهرٍ من يوم نكاحها فالولد له)(6).وقد استنبط الصحابة رضوان الله عليهم هذا التحديد بستة أشهر، من قوله تعالى (
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) [الأحقاف: 15]، فإنّه (
قد استدل عليٌّ رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان "وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ" [لقمان: 14]، وقوله" وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ" [البقرة: 233] ، على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباطٌ قويٌّ صحيح، ووافقه عليه عثمانٌ و جماعةٌ من الصحابة رضي الله عنهم)(7)، وهذه لفتةٌ حكيمةٌ في وصية آية الأحقاف، إذ يتوجه التذكير بمن حملته أمُّه أدنى مدة حملٍ في جنس الإنسان، فخرج يغمره فضل أمه إلى الدنيا يعيش فيها، فيكون الأمر آكد وأبلغ وأوضح لمن حملته أمّه أكثر من ذلك.أرأيت لو قلتُ لك (المواطن الذي يحصل على خمسة جنيهاتٍ سنويًّا سنة 1900م يقع تحت خط الفقر)، وقلتُ لك (المواطن الذي يحصل على ألف جنيهٍ سنويًّا سنة 2000م يقع تحت خط الفقر)، أفكنتَ لتقول إنّ بين الجملتين تعارضًا؟! أم يتبادر إلى ذهنك أن الفرق يعود لاختلاف تعريف "خط الفقر" في الحالين!؟ فكذلك حين نقول (أقل مدة الحمل في الطب 22 أسبوعًا) ونقول (أقل مدة الحمل في الشرع ستة أشهر)، فلا يصح أن ندعي وجود التعارض مادمتَ قد علمتَ أنّ المقصود من "أقل مدة الحمل" في النظامين مختلف،
فأقل مدة الحمل في الشرع هي المدة التي تفرق بين المولود الذي يحيى دون مساعدةٍ طبيةٍ خارجيةٍ والمولود الذي لا يحيى بدون هذه المساعدة كذلك،
بينما أقل مدة الحمل في الطب هي المدة التي تفرق بين المولود الذي يحيى بوجود المساعدة الطبية الخارجية و المولود الذي لا يحيى رغم المساعدة الطبية، كما سبق بيانه وتوثيقه.ولنختم بضرب مثالٍ يوضح تلاقي المفهومين مع عدم اشتباه أحدهما بالآخر، عندما نستفتي أحد الفقهاء في (امرأةٍ تزوجت و بعد خمسة أشهرٍ أتت بمولودٍ مبتسرٍ احتاج دخول الحضانة، هل يلحق الولد بالزوج؟!)، فلا خلاف أنّ جواب الشيخ سيكون (هو ابن الزوج .. لا شيء في ذلك!!)، ولا يرد على ذهنه الإجماع على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنّ هذا الإجماع في المولود التام الذي لا يحتاج إلى عنايةٍ طبيةٍ خارجيةٍ حتى يعيش، والله ولي التوفيق
المصادر:(1) Abortion .. A documentary and reference guide – Melody Rose – P106( Physician and their scientific colleagues have regarded that event with less interest and have tended to focus either upon conception, upon live birth, or upon the interim point at which the fetus becomes “viable,” that is, potentially able to live outside the mother’s womb, albeit with artificial aid. Viability is usually placed at about seven months (28 weeks) but may occur earlier, even at 24 weeks.)(2) Swiss society of neonatology - Recommendations for the care of infants born at the limit of viability (gestational age 22-26 weeks).(With the continuing progress of neonatal intensive care, the limit of viability has continued to shift towards a younger and younger gestational age. For example, survival after only 22 completed weeks of gestation has been described.)(3) House of Commons Science and Technology Committee - Scientific Developments Relating to the Abortion Act 1967 - Twelfth Report of Session 2006–07 - Volume I – p 8,9.(4)
http://news.bbc.co.uk/2/hi/uk_news/p.../7412118.stm(5)
http://www.telegraph.co.uk/news/news...-22-weeks.html(6) الإجماع : 69.(7) تفسير القرآن العظيم.