وجود الله جل وعلا أمر ثابت في الأنفس، متمكن في الفطر، مزروع في الأذهان، مغروس في الأفئدة، لا يحتاج إلى دليل، ولا يتطلب إثبات، ولا يفتقر إلى تأكيد.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
ولكن بعض ذوي الفطر المنكوسة، والأنفس المريضة، والعقليات المتعنتة قد يجادلون في ذلك مع أنه مغروس في حقيقة ضمائرهم: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ﴾ ... [النمل: 14 ]، وقد ينغَرّ بكلامهم، وينخدع بأضاليلهم بعض عديمي الفهم، وقليلي العلم، فجاء القرآن الكريم مزدهرًا بآيات تنطق بالعظمة، وتشهد بالربوبية، تسُرّ أنفس الواثقين، وتدحض مزاعم المارقين، ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ ... [الطور: 35 ].
وقد تعرّض أنبياء الله وأمناء الوحي وحملة الدعوة ومصابيح الدُجى وأنصار التوحيد، تعرضوا لعدد من المتعنتين عل مرّ العصور مع اختلاف في طبقاتهم، وتباين في تفنّناتهم، إلا أن بعضهم وصل به الأمر أن ادعى أنه رب العالمين، فأيد الله أولياءه بحجج قاهرة، ودلائل باهرة، وأدلة قاصمة، وصواعق مرسلة تدمر أباطيلهم، وتنسف افتراءاتهم، وتزلزل كياناتهم، وتظهر سُخف عقولهِم وقلة فهمهم وانحطاط أمانيهم.
إبـراهيـم يحـاور النمـرود:
أقبل ملك بابل (نمرود بن كنعان) مغرورًا بأبّهة الملك، مخدوعًا بزينة الدنيا، محفوفًا بعمالقة العسكر، أنعم الله عليه بمملكة كبيرة يقال إنها استمرت أربعمائة سنة فلم يشكر النعمة، ولم يقدّر الملك الحق والخالق الأجل، بل طغى وتجبّر، وعتا وتكبّر، وادعى الربوبية من دون المولى جل وعلا. أقبل إلى إبراهيم – عليه السلام – يحاجه في ربه، ويعانده في دعوته، ويريد هزيمته أمام الملأ فاستمع للمحاجة: قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ... [البقرة: 258 ]. فحينما أدلى إبراهيم بالدليل الأول على وجود الله تعالى وربوبيته فقال: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ ﴾ قال النمرود: وأنا أحيي وأميت، أي أنه إذا أتى بالرجلين قد تحتم قتلهما فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحياه وأمات الآخر!! وهذه حجة واهية، ورد سخيف، ولكن الخليل – عليه السلام – تدرّج معه في المحاجة، فأتاه بالضربة القاضية، والحجة الدامغة فقال: ﴿ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾: أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيّرها وقاهرها وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت أنك تحيي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت، وأنت تعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجز وأقل وأذل من أن تخلق بعوضة، أو تتصرف فيها. فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه وبطلان ما سلكه وبجح به عند جهلة قومه، ولم يبق له كلام يجيب الخليل – عليه الصلاة والسلام – به بل انقطعت وسكت، ولهذا قال تعالى: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.
مـوسـى يحـاور فـرعـون: أما نبي الله موسى – عليه السلام – فقد حدث معه الموقف نفسه، والقضية ذاتها، إذ وقف في وجهه فرعون الذي كان يقول: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ ... [النازعات: 24 ]، ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ ... [القصص: 38 ] وقف فرعون في وجه موسى – عليه السلام – مناظرًا ومعاندًا، قال تعالى: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿23﴾ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴿24﴾ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴿25﴾ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿26﴾ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴿27﴾ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ ... [الشعراء: 23–28 ]. فتدرج مع موسى – عليه السلام – في المحاجة والمناظرة وهو لا يرعوي ولا يرتدع، فوجه له سهمًا قاتلا كالسهم الذي وجهه الخليل – عليه السلام – للنمرود فقال: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أي هو الذي جعل المشرق مشرقًا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربًا تغرب فيه الكواكب ثوابتها وسيارتها مع هذا النظام الذي سخرها فيه وقدرها، وهو الله لا إله إلا هو خالق الظلام والضياء رب الأرض والسماء، رب الأولين والآخرين، خالق الشمس والقمر والكواكب السائرة والثوابت الحائرة، خالق الليل بظلامه والنهار بضيائه والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون، وكل في فلك يسبحون، يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون، فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء. فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقًا فليعكس الأمر وليجعل المشرق مغربًا والمغرب مشرقًا، والثابت سائرًا والسائر ثابتًا كما قال تعالى عن الذي حاجَّ إبراهيم في ربه في الآية السابقة. ولما قامت الحجج على فرعون وذهبت شُبَههُ وغُلِبَ، وانقطعت حجته ولم يبق له قول سوى العناد عدل إلى استعمال جاهه وقوته، وسلطانه وسطوته، واعتقد أن ذلك نافعٌ له ونافذ في موسى – عليه الصلاة والسلام – فقال وظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال: ﴿ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ ... [الشعراء: 29 ] إلى آخر ما قص الله عز وجل عنه، حتى قصمه الله تعالى قاصم الجبابرة وأخذه أخذ عزيز مقتدر.
المصطفـى – صلـى الله عليه وآله وسلـم – يحـاور المشـركيـن:أما النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فمحاورته ومحاجته لقومه كثيرة جدًا، حفل بها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وقد آتاه الله بلاغة معجزة، وأسلوبًا أخّاذًا، وكلامًا نفاذًا، يمتلك به قلب الخصم، ويقطع به حجة المعاندة، إلا أن قومه – صلى الله عليه وآله وسلم – لم يكن فيهم من يجحد الخالق، أو يدعي الربوبية، بل هم مقرون بربوبيته جل وعلا، غير أنهم لم يقدروه حق قدره، بل عبدوا معه غيره، واستمع إلى هذه المجادلة بالحسنى، والمناظرة الأسمى، قال تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴿9﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿10﴾ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴿11﴾ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ﴿12﴾ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴿13﴾ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴿14﴾ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ﴾ ... [الزخرف: 9–15 ].واستمـع إلى رائعـة أخـرى مـن المنـاظـرة، قـال تعـالـى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿25﴾ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿26﴾ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿27﴾ مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿28﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿29﴾ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ ... [لقمان: 25–30 ]. وقـال تعـالـى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿40﴾ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴾ ... [الأنعام: 40، 41 ].
الإمـام مـالـك: ومـن الأئمـة الذين جرت معهم بعض المناظرات حول وجود الله تعالى وربوبيته الإمام مالك – رحمه الله – فاكتفى بدليل واحد لإفحام الخصم، وهو آية الله تعالى في خلق الناس واختلاف لغاتهم وأصواتهم ونغماتهم. فاكتفى بهذا الكلام اليسير على وجود القدير، إنه إشارة موجزة، وعبارة خاطفة، ولكنها تحمل معنى عميقًا، وفكرًا وثيقًا، وبعدًا عريقًا، إنها تنم عن فهم ثاقب، وفكرٍ نيّر، وذكاء بعيد، ومعرفة واثقة، وفطرة بالإيمان عابقة. تأمل اختلاف اللغات، تأمل كم لغة على وجه الأرض، لك أن تتأمل في الحج، في يوم عرفة فقط، أكثر من ثلاثمائة لغة تتكلم مع الله، وتدعو الله، وتناجي الله، مع ذلك يعرف لغاتهم، ويدرك أصواتهم، ويعلم حاجاتهم، لا تختلف عليه اللغات، ولا تشتبه عليه الأصوات. انظر إلى تميّز كل إنسان بصوت مختلف ونغمة معينة، لو كان لك ألف صديق وكلموك عن طريق الهاتف لعرفت كلا منهم بلغته، وميّزت كلامه بنغمته، إن اختلاف اللغات وتباين الأصوات وتنوع النغمات من أعظم الشواهد على إبداع رب الأرض والسماوات.
قـال تعـالـى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴾ ... [الروم: 22 ].
الإمـام أبـو حنيفـة:
أما الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – فيُروى أنه أقبل إليه بعض الزنادقة فسألوه عن وجود الله تعالى فقال لهم دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس به أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل. فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع؟ فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.
الإمـام الشـافعـي:
وعـن الشافعـي – رحمه الله تعالى – أنه سئل عن وجود الخالق عز وجل، فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاء والبقر والأنعام فتلقيه بعرًا وروثًا وتأكله الظباء فيخرج منه المسك، وهي شيء واحد.
الإمـام أحمـد بن حنبـل:
وعـن الإمـام أحمـد بن حنبـل – رحمه الله – أنه سئل عن ذلك فقال: ههنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب الإبريز؛ فبينا كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح.
أبـو نـواس: أما أبو نواس – رحمه الله – بالرغم من أنه اشتهر بكثير من الأشعار النابية والقصائد الماجنة فحينما شعر ببعض المترددين والشاكّين في وجود الله تعالى وربوبيته أخذته الغضبة الدينية والحمية الإيمانية، فأفحم الخصم بقطعة بيانية ساحرة قال فيها:
تأمل في رياض الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليـك
عيـون مـن لُجين شاخصـات بأهداب هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجـد شاهـدات بأن الله ليـس له شـريك
ابـن المعتـز: وهـذا شـاعـر آخـر قيل إنه ابن المعتز، وقيل هو أبو العتاهية – رحمهما الله جميعًا – فيقول:
فيا عجًا كيف يُعصى الإلـ ـه أم كيف يجحده الجاحد
ولله فـي كـل تحـريكـة وفي كل تسكينة شـاهـد
وفـي كـل شـيء له آيـة تـدل علـى أنـه واحـد
الأعـرابـي يُسـأل عـن وجـود الله:
بل استمع إلى هذا الأعرابي الذي ما قرأ وما كتب حينما سئل عن دليل على وجود الله قال: “ يا سبحان الله، إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟ “.
خطيـب الحنفـاء قـس بـن سـاعـدة:
ومما يروى من خطب قس بن ساعدة الإيادي وكان على ملة إبراهيم – عليه السلام –: ( أيها الناس، اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، وقولوا وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأحياء وأموات. ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليل وأيام، وبر وآثام. إن في السماء خبرًا، وإن في الأرض عبرًا، يحار فيهن البصر، مهاد موضوع وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تغور، ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس ووزن القسطاس. أقسم قسٌّ قسمًا، لا كاذبًا فيه ولا آثمًا. لئن كان في هذا الأمر رضى ليكونن سخط، ثم قال: أيها الناس إن لله دينًا هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه. وهذا زمانه وأوانه ثم قال: ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تُركوا فناموا “.
وفي بعض ألفاظها قال: “ شرق وغرب، ويتم وحزب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وإناث وذكور، وبرار وبحور، وحب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع وأشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، ويسر وإعدام، ورب وأصنام. لقد ضل الأنام، نُشُوُّ مولود، وَوَأْدٌ مفقود، وتربية محصود، وفقير وغني، ومحسن ومسي، تبًّا لأرباب الغفلة، ليصلحن العامل عمله، وليفقدن الآمل آمله، كلا به هو إله واحد ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والأنثى، رب الآخرة والأولى. أما بعد فيا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد، وأين العليل والعواد، كل له معاد. يقسم قس برب العباد، وساطح المهاد، لتحشرن على الانفراد، في يوم التناد، وإذا نفخ في الصور، ونقر في الناقور، ووعظ الواعظ، فانتبذ القانط، وأبصر اللاحظ.
فويل لمن صدف عن الحق الأشهر، والنور الأزهر، والعرض الأكبر، في يوم الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير وشهد النذير، وبعد النصير، وظهر التقصير، فريق في الجنة وفريق في السعير “ أهـ.
وهي موعظة جليلة، وذكرى بديعة، سواء ثبتت لقس أو لم تثبت، فالعبرة بالمقول لا بالقائل.